قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والستون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والستون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والستون

وقف أمامه مطأطأ الرأس محرجًا من معروف أخر أسداه إليه لينجي ابنه من الزج به في السجن.
ظل وجهه متجهمًا لأن عائلته دومًا تفتعل المشاجرات وينتهي الأمر بخسائر لكلا الطرفين.
تدخل الحاج طه ليلملم المسألة بداخل غرفة الأمن بالمشفى قبل أن يتفاقم الوضع.
تنحنح مهدي هاتفًا بصوت متحشرج: -أنا هاتكلم معاه، وهافهمه غلطه، بس إنت فاهم الشباب دايمًا متسرع وآآ..

قاطعه طه قائلًا بصوت مزعوج: -مش كل مرة تسلم الجرة يا مهدي، واحنا جبنا أخرنا!
ثم زادت نبرته قسوة وهو يتابع: -ومنذر خلاص معدتش مستحمل، أنا حايشه عن ابنك بالعافية، وإنت عارف كويس لو شيطانه ركبه هايعمل ايه!
ضغط مهدي على شفتيه مرددًا بتفهم: -ايوه
حذره طه قائلًا بلهجة شديدة: -يا ريت نلم الليلة بدل ما نرجع نزعل كلنا! والمرادي هاتكون الأخيرة!
هز رأسه قائلًا بهدوء: -إن شاء الله!

مد يده لمصافحته مضيفًا بامتنان: -وكتر خيرك تاني، سلامو عليكم!
بادله طه المصافحة قائلًا: -وعليكم السلام والرحمة.
تابعه بأنظاره حتى خرج من الباب الجانبي للمشفى ليلحق بابنه المنتظر بالسيارة بالخارج.
دفع منذر باب المرحاض وهو يجفف وجهه بالمناشف الورقية ليحدق في وجه أبيه بنظرات معاتبة.
ألقى ببقايا المناشف في سلة القمامة هاتفًا بامتعاض: -بردك سِبته يا حاج؟!

رد عليه بعبوس: -هو مالوش ذنب، ابنه اللي جايبله الكافية، لكن مهدي زي ما انت شايف
تجهمت قسماته أكثر وهو يرد بانفعال ملحوظ: -أها، وأنا مطلوب مني أفضل استحمل رخامة أمه لحد ما أموته وأخش فيه السجن!
رد عليه طه بجدية: -اهدى يا منذر، هي خلصت
صاح معترضًا بشراسة: -لأ مخلصتش لسه، طول ما فيها ديول مش هتنتهي وهنفضل في الموال ده ليل نهار!
وقف قبالة أبيه لينظر مباشرة في عينيه وهو يكمل بعزم: -بس أنا خلاص خدت قراري!

ضاقت نظرات والده وهو يسأله بتوجس: -ناوي على ايه؟
أجابه بغموض هاديء: -على كل خير. اطمن!
تشكل على ثغره ابتسامة باهتة وهو يضيف بحسم: -وكله هيتحل بالهداوة والعقل!
ضغط على ذلك الورم البائن أسفل فكه يتحسسه بحذر وهو ينظر إليه عبر انعكاس المرآة الأمامية بالسيارة.
حدق فيه أخيه الأصغر بتعجب، ثم لوى ثغره مرددًا بنبرة تحمل السخرية: -هو علم عليك!

ضاقت نظرات مجد للغاية، واكفهر وجهه وهو يجيبه بصوت مغتاظ: -متخلقش لسه اللي يعلم عليا
ضحك مازن متهكمًا وهو يرد بنظرات ذات مغزى: -قديمة، ماهو باين على وشك!
احتدت نظراته للغاية، وهتف بصوت متحشرج مهدد: -وليه الغلط يا ابن أبويا؟ متخليش الجنونة تطلع عليك وآآ..
قاطعه مازن قائلًا بفتور: -وعلى ايه يا سيدي! الطيب أحسن.

تابع مجد تهديده الساخط هاتفًا وهو يشير بيده: -وبدل ما بؤك يتفتح عليا كنت اتشطر على حتة حُرمة خليتك زي الخرقة، بتُهر قدامها!
استشاط مازن من رده الوقح، وصاح منفعلًا: -يووه، مكانتش خدمة عملتهالي، مش حكاية يعني!
كان أخاه على وشك الرد لكن منعه صوت والده الصادح بعصبية: -فوضت الأمر لله!

التفت مجد بأنظاره نحوه ليطالعه بنظرات نارية. ثم كز على أسنانه هاتفًا بحنق: -روحت بوست رجله يا أبا، وذلتنا أكتر عشان يسامحنا وننول الرضا والسماح!
فتح مهدي الباب الجانبي للسيارة ليجلس بالمقعد الخلفي، ثم صفقه بعنف وهو يرد بحدة:
-الذل انت اللي جايبهولي بعمايلك السودة، ده بدل ما تحمد ربنا إن الدور اتلم!

نفخ بعصبية قبل أن يتابع بغضب ضاغطًا على كتف ابنه الأصغر بإصبعيه: -اطلع من هنا خلينا نتكلم في حتة تانية!
رد عليه مجد بوعيد شرس: -مات الكلام يا أبا!
مسحت على جبينها برفق وهي تتنهد بعمق، لم تكن لتتحمل فاجعة أخرى تصيب ابنة أخيها. يكفيها ما لاقته من مآسي متعاقبة في فترة زمنية قليلة.
جلست على المقعد الملاصق لفراشها الطبي، وهمست بتضرع: -هون عليها يا رب.

نظرت لها نيرمين بأعين حمراء هاتفة بتبرم ساخط: -ايه يا ماما؟ هاتسيبي أختي وتقعدي جمب دي!
عنفتها عواطف بحدة: -دي تبقى بنت خالك، مش واحدة من الشارع، يا رب تفهمي ده بقى!
اعترضت على دفاعها الدائم عنها وكأنها ملاك منزه عن الأخطاء مبررة بتهكم: -بس مش كده، كل شوية تعمل نفسها مغمى عليها، ومش قادرة وتلمكم حواليها، خلاص باخت العملية أوي!
صاحت بها أمها بعبوس: -هو اللي شافته قليل! ارحمي عشان ربنا يرحمك!

تجهمت قسمات وجهها أكثر، وهتفت بغيظ حانق: -ما أنا شوفت أكتر منها بكتير، وواقفة أهوو على حيلي، لا حد بيجي يلحقني، ولا حد هووب يشلني!
رمقتها عواطف بنظرات مزدرية وهي ترد باقتضاب: -كل واحد وقدرته!
وقف على عتبة باب غرفتها مترددًا في الدخول بعد أن عرف رقمها من الاستقبال الملحق بالمشفى.
أراد أن يطمئن عليها بنفسه بعد حديث والده الغير مجدي بسبب اشتباكه المحتد مع عدوه الدنيء.

سمع أصواتًا تأتي من الداخل، فضغط على شفتيه بقوة.
لا بديل عن التراجع الآن، هو قد جاء، ولن يضيع الوقت في تفكير عقيم ومتردد.
أخذ نفسًا عميقًا لفظه دفعة واحدة، ثم دق على الباب بخفة وهو يهتف بصوت آجش: -احم. سلامو عليكم
أخفض نظراته حرجًا، وانتظر بهدوء الرد عليه.
انتبهت نيرمين إلى صوته الذي تنتظره بتلهف، فتهللت أساريرها حينما رأته على عتبة الباب، وبلا تردد اتجهت إليه وهي تهدهد رضيعتها النائمة.

تسارعت أنفاسها من فرط الحماس العجيب، وهتفت صائحة بدلال مفتعل: -سي منذر!
تحاشى النظر إليها متساءلًا بحذر: -ايه الأخبار؟
توهجت عيناها بوميض فرح، وزادت ابتسامتها السخيفة اتساعًا وهي ترد بنعومة: -أنا تمام وبخير! تسلم على سؤالك يا سي منذر.
عبس بوجهه مصححًا بجمود قاسي: -مش قصدي انتي، أنا بأتكلم على بنت خالك. أسيف!

وكأنه صفعها بقوة مباغتة لتبهت ابتسامتها فورًا، وتظلم نظراتها. حل الوجوم على تعابيرها وهي ترد بازدراء:
-كويسة!
تحركت عواطف لتقف إلى جوار ابنتها، وهتفت مرحبة بود: -اتفضل يا بني!
ابتسم قائلًا بهدوء: -متشكر، أنا بس جاي أطمن عليها وأشوفها بعد اللي حصل!
ردت عليه عواطف بامتنان: -فيك الخير. ربنا يباركلك!
سألها منذر باهتمام: -الدكتور قال ايه؟

أجابته بسجيتها وهي تبتسم: -اهوو حاجة كده في نفسيتها، بس هاتفوق وتبقى كويسة
هز رأسه قائًلا بجدية: -إن شاء الله، عمومًا أنا هاروح أبص عليه واسأله بنفسي
انزعجت نيرمين من اهتمامه الزائد بها، وشعرت بنيران الغيرة تآكلها حية، فهتفت بتبرم ساخط:
-ماتتعبش نفسك يا سي منذر، دي تمثلية كل شوية تعملها، واحنا خدنا على كده! أكيد انت فاهم!

نظر لها شزرًا وهو يرد بجفاء: -استغفر الله يا رب، ماتشوفيلي كده كوباية مياه باردة أشربها لأحسن ريقي ناشف!
هتفت نيرمين بتلهف أعجب: -من عينيا، ده انت تؤمر يا سي منذر وأنا أنفذ على طول وأنا مغمضة!
رد عليها بخشونة: -متشكر
مدت ذراعيها برضيعتها الغافية لوالدتها قائلة بجدية: -خلي يا ماما البت معاكي عقبال ما أجيب لسي منذر أحلى مياه!

بدت عواطف منزعجة من تصرفاتها المبالغة فيها، واستشعرت الحرج من أسلوبها معه، ومع ذلك لم ترغب في احراجها أمامه، لذلك تناولتها منها بحذر مرددة بوجه خالٍ من التعابير:
-طيب!
رمشت نيرمين بعينيها وهي تسبلهما نحوه، ثم همست بنعومة: -عن اذنك يا سي منذر!
فرك طرف ذقنه بكفه دون أن يعقب، وأبعد نظراته عنها نافخًا بتبرم.
استنشق أنف عواطف رائحة مزعجة صادرة عن الرضيعة، فاستشفت أنها بحاجة إلى تبديل حفاضها الداخلي.

ابتسمت قائلة بهدوء: -هستأذنك يا ابني هاروح أغير للبت، انت عارف العيال وعمايلهم!
أومأ برأسه قائلًا: -ولا يهمك. اتفضلي!
تنفس منذر الصعداء لحصوله على فرصة للانفراد معها بعد ذلك الحصار المهلك لها.
تابع عواطف بأنظار مترقبة حتى اختفت في الرواق، فوراب الباب قليلًا، ثم دنا من فراشها بخطوات متمهلة.

عاود منذر التحديق في أسيف ليطالعها تلك المرة بنظرات مختلفة عن ذي قبل؛ بنظرات تحمل التلهف والشوق، الاهتمام والرغبة، وكذلك الخوف والاطمئنان.
اقترب منها أكثر ليمعن في تفاصيلها، في تعبيرات وجهها الساكنة.
رغم كل شيء فهي لا تزال متماسكة، صلبة، تقاوم بشراسة. آهٍ من تلك اللمحة الحزينة التي تكسو تعابيرها فتوخز صدره أكثر تجاهها.
جذب انتباهه شيء ما، فدقق النظر في جفنيها اللذين كانا يتحركان بعصبية.

رأى عبراتها تنساب ببطء لتبلل وجنتيها، ففغر فمه مدهوشًا، وتسأل بين جنبات نفسه عن سبب ذلك، زاد تعجبه وهو يردد بتوجس قلق:
-هي بتعيط؟!
كانت تصارع الأمواج العاتية بوهن كبير، وكلما نجت من واحدة، قذفتها الأخرى إلى مسافة أعمق في بحر أكثر ظلمة.
كانت تصرخ لكن صوتها ظل حبيس صدرها، فقط شهقات مكتومة تكافح للصعود.

اختنقت أنفاسها أكثر، وأوشكت على الغرق، فرأت ذلك البريق اللامع مسلطًا على أعينها، فأصاب رؤيتها المشوشة بعمى مؤقت.
لكن كان فيه نجاتها حينما لمحت تلك الأطياف تمد أذرعها نحو لتنتشلها منه. فبكت من أعماق قلبها، وامتزجت عبراتها ببقايا المياه العالقة بوجهها.
رأت وجهًا مألوفًا يهتف باسمها بنبرة دافئة في ظل ذلك البرود القاسي، فلمست قلبها وتغلغلت فيه.
مدت يدها نحوه علها تصل إليه.

كادت أن تفشل في مسعاها، لكنه بلغها بإصراره.
بدأت صورته تتضح تدريجيًا رغم تشوش الرؤية. شعرت بلمسة رقيقة من أنامله على وجهها فأصابتها برجفة بسيطة.
أمعنت النظر في ملامحه الجادة، لقد عرفته. إنه هو..
تهدجت أنفاسها اللاهثة وهي تهمس بصعوبة: -م. منذر!
انحنى على رأسها مستندًا بذراعه على حافة الفراش، ومد يده الأخرى نحو وجنتها محاولًا مسح تلك العبرات التي شقت طريقها في وجهها.

شعر بانتفاضة جسدها بمجرد أن أزاحها رغم حرصه الشديد على عدم إزعاجها.
رأى جفنيها وهما يفتحان بصعوبة، لقد بدأت أسيف في استعادة وعيها مرة أخرى.
التقطت أذناه ما لفظته شفتيها رغم صوتها الذي بالكاد يمكنك أن تسمعه، لكنه عرف طريقه إليه. فخفق قلبه بقوة وتسارعت دقاته.
لمحت طيفًا ما يسيطر على الأجواء من حولها، كان قريبًا للغاية، شعرت بأنفاسه تلفح وجهها.

في البداية لم تتمكن من رؤيته بوضوح حتى اعتادت على قوة الضوء، فعرفته. إنه نفس الطيف الذي لازمها في حلمها.
همست باسمه بلا وعي: -منذر!
سمع اسمه ينطق مرتين مجردًا من أي ألقاب، يُلفظ عفويًا فرفع نسبة الأدرينالين المتحمس بدمائه.
اضطرب لوهلة، وتوقف عن التنفس مجمدًا أنظاره عليها.
تسمرت نيرمين على عتبة الغرفة شاخصة أبصارها غير مصدقة ذلك المشهد الدائر بينهما.

منذر يداعب وجنتها، وتلك البائسة همست بشيء ما له فجعله يرتبك بحرج.
كانت كالبلهاء وهي محدقة في وجهيهما.
سريعًا ما تداركت نفسها، وأفاقت من شرودها فيهما ليسيطر عليها الغضب المتعصب.
تعمدت إرخاء أصابعها عن الكوب الزجاجي الذي تحمله في يدها ليسقط منها متهشمًا إلى أجزاء صغيرة، فانتبه كلاهما لوجودها.
تحول وجه أسيف لكتلة من الدماء الخجلة رغم عدم وجود ما يشينها، لكنها تعلم نوايا ابنة عمتها السيئة.

اعتدل منذر في وقفته ببطء، وتنحنح بصوت خشن.
ولجت نيرمين إلى داخل الغرفة بخطى عصبية صائحة بانفعال: -في ايه اللي بيحصل هنا؟
أجابها ببرود وهو يدس كفيه في جيبي بنطاله: -ولا حاجة!
ثم أشار لها بعينيه متساءلًا بنبرة جافة: -فين المياه؟
ردت بغيظ: -وقعت مني لما شوفتكم آآ..
قاطعها بصرامة قبل أن تكمل عبارتها: -مش تاخدي بالك أحسن بدل ما تركزي في حاجات هتتعب أعصابك كتير!

شعرت أسيف بثقل في رأسها، فوضعت يدها على جبينها تتحسسه هامسة بصوت واهن: -أنا. أنا عاوزة أمشي من هنا
رد عليها منذر بجدية صلبة: -مش قبل ما نطمن عليكي!
تذكرت ما حدث قبل إغماءتها الأخيرة، إنها تلك المكالمة التي انتزعت أخر ما تبقى من ذكرى والديها.
حرق قلبها بكلماته، وأشعل روحها بشماتته.
توترت أنفاسها، وسيطر الحزن على تعابير وجهها الذابل، بدا صوتها مختنقًا وهي تصر على النهوض قائلة:.

-أنا لازم أسافر البلد. بيتنا. ب. بيتنا مش آآ..
حاولت إزاحة الغطاء عنها، وإنزال ساقيها لكن وقف منذر قبالتها مهددًا بكف يده: -مش هتتحركي من هنا!
رفعت عيناها نحوه لترمقه بنظرات معاندة وهي ترد بإصرار كبير: -هو. هو بيكدب، أنا عرفاه، أنا لازم أسافر وأشوف بيت بابا!
باتت لهجته ونظراته أكثر تهديدًا وهو يقول: -مش هايحصل
استشعرت القوة في نبرته، فارتجفت منه.

تنفس منذر بعمق ليحافظ على هدوئه معها، فأي تهور أو تجاوز معها قد يؤدي إلى نتائج عكسية.
حاول أن يبرر لها رفضه لذهابها قائلًا بإنزعاج: -إنتي ناسية اللي عمله فيكي قبل كده؟
علقت غصة في حلقها وقد تذكرت قسوته العنيفة معها حينما توفت والدتها. لم يكن بقلبه أي شفقة.
أخفضت رأسها متخاذلة لتهمس بنبرة مختنقة: -بس ده بيتنا، يعني حياتي كلها، إنت. إنت مش فاهم حاجة!

نفخت نيرمين بحنق، فقد بغضت استغلال ابنة خالها لقناع البؤس والشفقة لتستعطف الأخرين نحوها وخاصة هو.
فهمست من بين شفتيها بسخط: -خشي عليه باسطوانة الهم بتاعة كل مرة!
تفاجأت أسيف بيده تلامس طرف ذقنها برفق لترفع وجهها نحوه.
حدقت فيه مدهوشة من تلك الحركة المباغتة، بينما شهقت نيرمين مصدومة من فعلته.

رد عليها منذر بجدية وهو مسلط أنظاره المزعوجة عليها: -إنتي مش مقدرة الموقف كويس، سفرك لوحدك هناك معناه إنك بتديله فرصة يعمل اللي عاوزه معاكي من غير ما يكون في حماية ليكي! خالك فتحي مش سهل، وألاعيبه كتير، وانتي بنفسك جربتيه بدل المرة اتنين!
تراجعت أسيف برأسها للخلف لتحرر ذقنها من ملمس يده الذي أصابها بالتوتر.

حاولت أن تبدو صلبة وهي ترد بعِند: -لو بتفكر تمنعني مش هاتعرف، ده مش الدكان عشان تشتريه، ده بيتي، يعني ملكي، فيه ذكرياتي، وعمري كله وآآ..
قاطعها قائلًا بغموض: -اديني فرصة أشرحلك اللي أنا عاوزه
كانت تقف على فوهة بركان يثور بحممه الملتهبة، هي كمن لا وجود له وسطهما.
يتلامسان بالأصابع، يتبادلان النظرات والعبرات وهي كالمشاهد الصامت.

شعرت بدمائها المغلية تحرق روحها من الداخل، فهتفت بانفعال ثائر: -ما يولع البيت ولا يتحرق على اللي فيه، احنا مالنا، انتي جاية وجايبة الخراب معاكي، ومش هترتاحي إلا لما تخلصي علينا كلنا بمصايب اللي ما بتخلصش!
عجزت أسيف للحظات عن الرد عليها بسبب طريقها الهجومية والغير مراعية لمشاعرها.
وقبل أن تضيف المزيد، كانت والدتها قد عادت إلى الغرفة، فنظرت إلى ابنتها باستغراب.

كان صوتها صادحًا بالخارج، لكنها لم تفهم سبب ثورتها، وحينما دققت النظر ورأت أسيف في وعيها، انفرجت شفتاها عن بسمة راضية هاتفة بعدم تصديق:
-بنتي، الحمدلله إنك فوقتي وبقيتي أحسن!
مدت ذراعيها بحفيدتها نحو ابنتها، واقتربت من ابنة أخيها لتحتضنها وتقبلها من رأسها.
دلكت ظهرها برفق بكفها، وربتت على كتفها قائلة بود: -ربنا يبعد عنك أي شر!
ردت عليها أسيف بامتعاض: -يا رب.

تفرست عواطف في وجهها، ومررت أنظارها على أوجه البقية، فلاحظت توتر الأجواء وشحونها من صمتهم المريب.
توجست خيفة أن يكون خطب ما قد حدث أثناء غيابها، لذلك تساءلت بقلق: -هو. هو حصل حاجة تانية؟
أجابها منذر بهدوء حذر: -هيحصل لو ما اتصرفناش صح!
نظرت له بغرابة وهي تسأله بحيرة: -أنا مش فهماك يا بني؟ انت بتكلم عن ايه؟

شرح لها ببساطة عن إصرار ابنة أخيها على الذهاب بمفردها إلى بلدتها الريفية للتحري عن ذلك النبأ المؤسف الخاص باحتراق منزل والديها الراحلين، ورفضها تصديق خطورة الموقف.
انزعجت عواطف من عنادها، وهتفت معارضة: -لا يا بنتي، مش هانسيبك تروحي لوحدك!
بكت أسيف بقهر لعجزها عن تفسير مشاعرها عن أهمية ذلك المنزل لها، وضرورة ذهابها المُلح إلى هناك.

أشفقت عليها عواطف هاتفة بتوسل: -يا بنتي اهدي واسمعيني، قريبك ده راجل شراني، والله ما هيسيبك في حالك، تلاقيه مدبرلك على نية سودة!
ردت عليها بصوتها المنتحب وهي تكفكف عبراتها بكفها: -ده بيت بابا يا عمتي، انتو مش فاهمين هو بالنسبالي ايه، لازم أروح أشوفه، هو بيكدب عليا، بيكدب!
مسحت عواطف وجهها براحتيها قائلة برجاء: -طيب اهدي يا بنتي، وبطلي عياط!

نفخ منذر مستاءً من عنادها الأحمق. وضع يده على مؤخرة رأسه ليحكها بعصبية، ثم هتف من بين شفتيه بجدية:
-ماشي، وأنا معاكي انه بيكدب، والبيت زي ما هو! وإنه قال بس كده عشان يجر رجلك لهناك!
نظرت له بأعينها الدامعة دون أن تنبس ببنت شفة.
اقترب منها أكثر، ثم أخرج زفيرًا مزعوجًا من صدره وهو يضيف بغموض مقلق: -طيب مفكرتيش للحظة إنه ممكن يكون فخ عامله ليكي؟
تخبطت أفكارها من كلماته المريبة تلك.

ربما يكون محقًا في أغلبها، لكن رغبتها في الذهاب أقوى من أي خوف.
ظل منذر محدقًا في عينيها دون أن يطرف له جفن، ثم تابع محذرًا بجمود: -الراجل ده معتبر إن ليه تار عندنا، وصدقيني مش هايعديه بالساهل، فأكيد بيدبرلك حاجة!
تابعت نيرمين ما يدور بينهما بتجهم كبير ظاهر على محياها، وعلى قدر المستطاع جاهدت ألا تثور من جديد كي لا تخسر ما تبقى لها من فرص أمام منذر.

تمتمت مع نفسها بازدراء: -يا ريته كان طخك عيارين وموتي وريحتينا كلنا!
ظلت أسيف صامتة لبرهة معيدة تفكيرها فيما قاله، لكن مشاعرها لا تزال هي المحرك الأساسي لها، فهتفت بصوتها المبحوح:
-اطمن على بيتنا الأول وبعد كده يحصل اللي يحصل، المهم بيتنا يكون بخير ومش حصله حاجة!
ود لو استطاع خنقها بيديه بسبب حماقتها الهوجاء، هي لا تقدر خطورة الموقف. تتصرف وفق أهوائها حتى وإن كانت مضللة.

رفع كفيه في الهواء هاتفًا بسخط: -اها. يعني مش فارق معاكي لو حبسك، ولا حتى خطفك وجوزك لأي كلب يعرفه!
ابتلعت ريقها بتوجس، وأصرت قائلة: -ده. ده بيتنا!
أطلق منذر لفظًا نابيًا من بين شفتيه ولكن بصوت خفيض معبرًا عن سخطه الكبير من حمقها.
رمشت بجفنيها ممتعضة من كلمته الفجة، لكنها لم تعقب عليه.
أوشك على فقدان أعصابه أكثر، فهتف باقتضاب: -أنا طالع برا شوية!
ثم تحرك بخطى متعجلة إلى خارج الغرفة ليضبط انفعالاته.

لم يبتعد كثيرًا، بل استند بظهره على الحائط القريب.
أغمض عيناه، وأخفض رأسه قليلًا هامسًا لنفسه بغيظ محتقن: -غبية!
استشاطت نيرمين أكثر مما تفعله خاصة في حضور منذر، خاصة لأنها تنجح في الاستحواذ على اهتمامه بطريقتها تلك.
تأججت بداخلها شحنة غاضبة، فقاومت رغبتها في إفراغها فيها، وبتريث أسندت رضيعتها على الأريكة مانعة نفسها من الخروج عن شعورها كي لا يظهر وجهها الحقيقي في وجوده.

هي لا تريد إفساد الأمر على أهون سبب.
أرادت عواطف أن تثني ابنة أخيها عن رأيها، فاقترحت قائلة بهدوء: -طيب بصي أنا عندي فكرة احنا نطمن على بسمة الأول وبعدها نروح نشوفه!
ردت عليها نيرمين باستخفاف وهي تستدير نحوها: -يا عالم بسمة هاتقوم من اللي هي فيه امتى!
ثم رمقت أسيف بنظرات احتقارية وهي تضيف بحنق: -والهانم مش صابرة، إياكش الناس تموت والدنيا تولع من حواليها، بس المهم هي والمخروب بتاعها!

اصطبغ وجه الأخيرة بحمرة غاضبة من كلماتها المهينة والمسيئة إليها، ولم تستطع تحمل إهانتها أكثر من هذا، فهدرت فيها بعصبية وهي تشير بيدها:
-ماتتكلميش عن بيتنا كده! محدش نصبك قاضي عليا، كل مصيبة تحصل تقولي أنا اللي وراها، لأ أنا السبب فيها، إنتي مجربتيش تخسري حاجة واحدة من اللي أنا خسرتها.

ردت عليها نيرمين بشراسة: -وانتي معشتيش لحظة من اللي عشتها، كل اللي بتعمليه سهوكة ومحن ودموع تماسيح عشان تتمحكي في غيرك يمكن يحنو عليكي!
التقطت أذناه بالخارج صوتها المرتفع، فانتبهت حواسه بالكامل لطريقتها الفجة في الحديث.
حدق أمامه بثبات وهو يصغي إلى باقي هجومها الكلامي العنيف.

التوى ثغر نيرمين للجانب وهي تواصل حديثها بنبرة عدائية: -جايز تقدري توقعي واحد فيكي بلؤم الفلاحين بتاعك، بس أنا كشفاكي من زمان، وفهمت حركاتك دي من أول يوم جيتي فيه هنا، واللي بترسمي عليه في مخك، وحطاه في دماغك عشان يقع في دباديبك مش هايحصل، سمعاني، مش هايحصل لأني غصب عنك هاخده منك! هو بتاعي وبس!
نظرت أسيف مدهوشة من حديثها الأكثر فحشًا على الإطلاق، هي تطعنها في سمعتها علنًا وبوقاحة شرسة.

وزعت عواطف أنظارها المستنكرة بين الاثنتين هاتفة بعدم تصديق: -والله عيب اللي بيتقال ده! ميصحش كده! إنتو عاوزين الراجل يقول علينا ايه؟
ردت عليها نيرمين بعدم اكتراث: -خليه يعرف الأشكال اللي مديها قيمة على حقيقتها، وهي ماتسواش جزمة قديمة في رجلي!

دنت أكثر منها مواصلة حديثها بنبرة مهددة: -بس انتي متعرفنيش يا يا. بنت رياض خورشيد، أنا مش بأرحم اللي يفكر بس ياخد حاجة مني، افتكري ده كويس، أنا والطوفان من بعدي!
لم يتخيل منذر مطلقًا أنه يتعامل مع شخصية حقودة مثلها، وتعجب أكثر لجحود قلبها نحو الأقرب إليها.
وجهًا أخرًا كشف إليه منها، فضاقت نظراته بسخط جلي، مُحال أن تربطهما صلة دم وود ومحبة كما تزعم وهي تضمر نوايا سيئة تجاهها.

أسلوبها الهجومي يعكس جزءًا من حقيقتها البشعة.
لم يكن رأيه فيها من فراغ.
هي لا تصلح له حتى لو كانت أخر النساء على الأرض، ربما والدته مخدوعة في طيبتها الزائفة بسبب رغبتها الغريزية في الحصول على حفيد من صلبه من امرأة قادرة على الإنجاب، لكن بات الأمر محسومًا بل الأصح مقضيًا بالنسبة إليه..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة