قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والستون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والستون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والستون

اعتدل في جلسته بعد أن سجد للمرة الأخيرة ليشرع فيما تبقى من صلاته قبل أن يفرغ منها تمامًا.
ارتخى قليلًا وهو يعاود ثني ساقيه أسفله، ثم أمسك بمسبحته يحركها ببطء شديد متمتمًا بأدعية من الذكر.
تنهد الحاج إسماعيل بعمق وظل يهز رأسه بثبات وهو يتضرع للمولى عزوجل أن يتجاوز عن سيئاته.
في نفس التوقيت ولج إلى المسجد أحد الشباب وهو يلهث بتوتر شديد.
جاب بأنظاره المكان من الداخل باحثًا عن شخص بعينه.

شعر بارتياح كبير حينما لمحه بجوار أحد الأعمدة، فأسرع في خطواته قاصدًا إياه.
هتف الشاب بصوت متقطع: -ح. حاج إسماعيل!
رفع الأخير رأسه نحوه متفرسًا في وجهه بنظرات غريبة وهو يرد: -بلال! خير يا ابني؟
جثى بلال على ركبتيه هاتفًا بصوت خفيض ولكنه حذر للغاية: -حاج إسماعيل، أنا. أنا كنت عاوزك في حاجة كده، فاضي شوية؟
أومأ برأسه قائلًا: -ايوه، في حاجة حصلت؟

أجابه بارتباك ملحوظ: -أنا مش عارف إن كنت صح ولا غلط، بس. بس أنا بقالي يومين محتار
تعقدت تعابير وجه إسماعيل نوعًا ما متساءلًا بجمود: -ما تتكلم يا بلال على طول، عاوز تقول ايه؟
ازدرد بلال ريقه وهو يجيبه بتلعثم: -هو يا حاج لو. لو الواحد شاف حاجة و. آآ. وسكت عنها يبقى كده كتم شهادة حق؟!

رد عليه الأخير بحكمة: -ده يعتمد على اللي شافه، إن كان خير ولا شر، إن كان في مصلحة غيره ولا هيضره، بس في كل الأحوال مش لازم نكتم الشهادة، لأن ممكن يكون فيها نجاة لحد بريء!
آمال بلال برأسه للأمام، وهمس بغموض حذر: -أصل أنا. آآ. بصراحة مش عارف إن كان ده ليه علاقة بدار خورشيد ولا لأ!
بدا الاهتمام على تعابير وجه إسماعيل عقب جملته المريبة تلك، فسأله مستفهمًا: -وضح كلامك أكتر! تقصد ايه؟

أجابه بتريث خافت: -أنا كنت معدي ناحية الغيط اللي في البر الغربي، وشوفت واحد جاي من ناحية الدار!
عقد الحاج إسماعيل ما بين حاجبيه مرددًا بهدوء: -ما جايز كان معدي من الطريق اللي هناك!
هتف بلال معترضًا بانزعاج: -لالالا يا حاج إسماعيل مش كده!
ثم أخففض نبرته ليكمل بتوتر: -ده زي ما يكون كان خارج من جوا الدار، وطلع يجري وسط الزراعية زي ما يكون هربان من حاجة، وبعدها بشوية عرفنا بالولعة اللي مسكت في الدار!

اتسعت حدقتي الأخير باندهاش كبير وهو يسأله بجدية: -إنت متأكد من الكلام ده؟
هز رأسه بالإيجاب وهو يرد: -اه يا حاج، زي ما بأكلمك كده!
صمت الحاج إسماعيل لبرهة ليفكر مليًا فيما قاله، ثم أردف متساءلًا: -طب الجدع اللي شوفته حد نعرفه، من البلد يعني ولا آآ.؟
حرك رأسه نافيًا وهو يجيبه: -لأ يا حاج إسماعيل، أنا مشوفتوش أوي، بس. بس شكله غريب عن هنا!

توقف الحاج إسماعيل عن تحريك حبات مسبحته، وأشار له بسبابته مضيفًا بهدوء جاد: -بس ده مش معناه إنه عمل الحكاية دي!
فرك بلال ذقنه هاتفًا بنبرة شبه مقتنعة: -ايوه، جايز بردك.!
ثم صمت للحظات قبل أن يهتف بتلهف وكأنه قد تذكر شيئًا ما: -بس أنا لمحت نفس الراجل واقف مع الحاج فتحي!
ارتفع حاجبي الحاج إسماعيل بذهول مصدوم وهو يهتف من بين شفتيه بعدم تصديق: -الحاج فتحي!
أومأ برأسه قائلًا بتأكيد: -اه.

لم يبدو الأخير مقتنعًا بتورط رفيقه في مسألة إحراق الدار، فهتف مدافعًا عنه بهدوء:
-طب ازاي انت بتقول شكله غريب عن هنا، وواقف مع الحاج فتحي؟!
أجابه دون تردد: -أنا كنت سايق الماكنة وطالع على الجمعية الزراعية أجيب تقاوي، فشوفت نفس الراجل بنفس الهدوم واقف معاه يكلمه!
أثار الموضوع شكوكه بصورة مبالغة، فربما لم ينسَ الحاج فتحي بعد ما حدث مع ابنة رياض، وأراد الانتقام منها دون أن يدري أحد بهذا.

همس لنفسه بتوجس كبير: -شكل الموضوع فيه إن. وإن كبيرة أوي!
تفرس بلال في وجهه محاولًا تخمين ما يفكر فيه، خاصة بعد أن طال صمته.
استطرد الحاج إسماعيل حديثه متساءلًا: -طيب في حد يعرف بالكلام ده غيري؟
هز رأسه نافيًا بجدية: -لأ يا حاج!
مط فمه ليقول بهدوء رزين: -ماشي يا بلال.
تساءل الأخير بحيرة واضحة عليه: -طب هاعمل ايه يا حاج؟ يعني قولي أتصرف ازاي؟

أشار له بسبابته مرددًا بنبرة عقلانية: -استنى أما أشوف الحاج فتحي الأول وبعد كده هاقولك تعمل ايه، بس لحد ما أعمل ده ماتجبش سيرة باللي قولته لحد!
-ماشي!
تنفس الحاج إسماعيل بإنهاك وهو يضيف لنفسه بقلق: -ليه كده بس يا فتحي، شكلك ورطت نفسك في بلوى، ومش هتخلص منها أبدًا!
اكتشف جزءًا دنيئًا من شخصها الحقير، جزءًا لا يعرف إلا القسوة والجحود.

هي برعت في ارتداء قناع البراءة وخدعت به من هم على سجيتهم، لكنها لم تتمكن أبدًا من إقناعه بحيلها.
لم يرد إظهار معرفته بما يضمره قلبها، فتعمد رفع نبرة صوته ليحذر قاصدًا من وجوده بالرواق:
-ماشي يا دكتور، ولو في حاجة بلغني!
انتبهت نيرمين لصوته الصادح، فتراجعت نحو للأريكة لتجلس إلى جوار رضيعتها.
رسمت على ملامحها تعابير جامدة، وكأنها كالحمل الوديع.

طعنات أخرى تلقتها أسيف من الأقرب إليها، وهي التي لم تعامل أي منهم بالسوء، ذنبها الكبير، بل جريمتها الفادحة أنها أرادت فقط أن تحظى بعائلة أكبر، وفي مقابل هذا خسرت ما بقي من كرامتها ناهيك عن الإساءة إلى سمعتها.
ابتلعت مرارة الإهانة بقهر عاجز، وكسى الحزن وجهها.
نظرت إليها عواطف بقلة حيلة، فهي لا تستطيع صد ابنتها عن الاستمرار في أسلوبها الفج معها، دومًا تحبطها بكلماتها اللاذعة أو تعنفها بفظاظة موجعة.

ولج منذر إلى داخل الغرفة، وسلط أنظاره على أسيف التي كانت في حالة تحسد عليها.
لم يبعد بأنظاره عنها، وظل محدقًا بها مطولًا بقصد إغاظة تلك السمجة التي تجلس خلفه.
كم ود أن يلقنها درسًا قاسيًا لوقاحتها الشرسة معها، لكن من الكلمات ما يُقتل، ولهذا أراد أن يذيقها من حدته الجافة. استطرد حديثه قائلًا بصلابة:
-عاوز تسمعي كلامي للأخر، و تبقي متأكدة إن الموضوع ده لمصلحتك مش لحاجة تانية!

طالعته أسيف بنظرات حائرة، فقد بدا حديثه غامضًا بالنسبة لها، لكنه كان مقلقًا لنيرمين التي كانت تحترق بغيرتها من خلفه.
تساءلت عواطف بفضول: -مصلحة ايه دي؟
أضافت أسيف بتوتر: -أنا مش فهماك
دنا منها لتتقلص المسافات أكثر بينهما، وتشتعل ألسنة الحقد بداخل نيرمين
وقف قبالتها، وأسبل عينيه نحوها وهو يجيبها بنبرة هادئة لا يعكر صفوها شيء: -انتي عاوزة تشوفي بيت أبوكي، صح؟

أومأت برأسها إيجابًا دون أن تلفظ بكلمة واحدة، فتابع بجدية مريبة: -وعشان تخشي البلد عندكم لازم تبقى راسك مرفوعة، محدش كاسر عينك بحاجة، مظبوط؟
ردت بصوت خفيض يشوبه الارتباك: -أيوه
زادت نبرته غموضًا وهو يقول: -وخصوصًا لو قريبك فتحي ده حب يفرد عضلاته عليكي
هزت رأسها بإيماءات متتالية مرددة بقلق: -أها
صمت لثوانٍ لتُشحن الأجواء أكثر، ثم تابع بجدية تامة دون أن يطرف له جفن
-خلاص يبقى أخطبك رسمي!

فغرت أسيف شفتيها مشدوهة من اقتراحه الغير متوقع، وظلت تنظر له ببلاهة محاولة استيعاب ما قاله توًا.
عقدت المفاجأة لسانها وجعلتها تصمت مجبرة.
وكأنه في نفس الوقت قد ألقى بقذيفة (أر بي جي) في وجه نيرمين ليفتك بها في الحال، فصرخت شاهقة بلا وعي وهي تلطم على صدرها:
-يا نصيبتي! تخطبها!
التفت منذر برأسه نحوها لينظر لها ببرود مستمتعًا بردة فعلها. ثم أجابها بشماتة متعمدًا استفزازها:.

-أه، ومن أمك. الست عواطف! ها عندك مانع؟
اتسعت حدقتيها على الأخير حتى كادتا تخرجان عن محجريهما، فابتسم لها ابتسامة متشفية.
هي نالت ما تستحقه عن جدارة. يكفيه رؤية تلك الحسرة في عينيها ليشعرها بقيمتها الحقيقية.
للحظات شعرت بارتخاء ساقيها وعجزها عن الوقوف من قوة تأثير الصدمة.
طارت أحلامها الوردية وذهبت في مهب الريح، وتبخرت مخططاتها المستقبلية في ثوانٍ معدودة.

هتفت عواطف متساءلة باندهاش عجيب لتخرجه من شروده السريع: -بس ايه الفايدة من إنك تخطبها يا ابني، وآآ..؟
استدار ناحيتها ليجيبها بجدية صلبة: -لأن اللي زي قريبها وغيره هايتكاتروا عليها، وهي جربت ده قبل كده معاه!
كان محقًا في هذا، فرفعت أسيف عفويًا يدها نحو وجنتها لتتحسسها متذكرة تلك الصفعة العنيفة التي تلقتها منه في أصعب أوقاتها.
ألمه رؤيتها تفعل هذا، فقد كان شاهدًا على شراسته معها،.

أضاف بامتعاض محاولًا تمرير تلك الذكرى المزعجة عن باله: -الحريم عندهم مالهومش قيمة، وهيستفردوا بيها، ومش بعيد يطردوها كمان ويبهدلوها!
حدقت فيه أسيف بوجه خالٍ من التعابير، كلماته كانت كحد السيف، أغلبها صائب. فهي قد رأت الجانب الأخر من حقيقة الحاج فتحي.

بدت نبرته أكثر خشونة وهو يكمل بنبرة صارمة: -لكن لما تروح وهي في حماية راجل هما عارفين يقدر يعمل ايه كويس هيفكروا ألف مرة قبل ما يتعرضولها ولا حتى يمسوها بشعرة!
كانت رافضة وبشدة لذلك الاقتراح، هي لا تريد الدفع بنفسها في أمر لا تضمن عواقبه، لذلك اعترضت هاتفة بتوتر:
-بس. بس أنا مش عاوزة أتخطب ولا أتجوز حد!

أرادت نيرمين إفساد الأمر بعد أن استشعرت خطورة الموقف، لقد تخطى أبعاده ما خططت له، لذلك عمدت إلى ذكر مسألة الدكان، لعلها تنجح في إحداث مشاحنة جديدة بينهما.
هتفت هي بنبرة مزدرية: -وماله، وأهوو بالمرة تمسك الدكان كله! برافو يا سي منذر!
استشاطت نظراته نحوها بعد جملتها تلك. لكنه ضبط انفعالاته ليفكر سريعًا في حل لتلك المعضلة قبل أن ترفض أسيف اقتراحه بسبب نزق تلك الحقودة الأهوج.

لوهلة تناست أسيف مسألة دكانها العتيق، فتجمدت نظراتها على نقطة ما بالفراغ، وقبل أن يعبث شيطان رأسها أكثر بأفكارها، أخرجها منذر من شرودها صائحًا بجمود وهو يفرقع بإصبعيه أمام وجهها:
-انتي لسه ما سمعتيش كلامي للأخر!
انتبهت له، وضاقت نظراتها نحوه وهي ترد بحدة خفيفة: -حاجة غير الدكان؟
أجابها بجدية: -لو عقلك مصورلك إني بأعمل ده عشان خاطر الدكان تبقي غلطانة، دكانك هرجعهولك لو وافقتي على الخطوبة!

اندهشت من كلماته الأخيرة، وهمست غير مصدقة تطور الأمور معها: -ايه؟
تابع منذر موضحًا بثبات: -اعتبريه مهرك، هاعملك تنازل عن حصتي فيه!
شهقت نيرمين مصدومة وهي تتساءل: -انت بتكلم بجد؟
رمقها بنظرات نارية مجيبًا إياها بقسوة: -أكيد مش بأهزر، وبعدين ده كلام بيني وبينها، وأمك وبس، فبلاش تتحشري في اللي ملكيش فيه!

لم تتحمل أكثر من هذا، فنهضت من على الأريكة مواصلة صراخها المصدوم: -بقى إنت يا سي منذر عاوز تخطب دي، لييييه؟ واشمعنى هي بالذات!
تجاهل الرد عليها بعد أن نظر لها باحتقار، ثم استدار برأسه ليحدق في أسيف التي كانت محدقة بنيرمين، فردة فعلها حقًا كانت مبالغة فيها حتى وإن كان احتجاجها الرافض يثير بداخلها تساؤلات كثيرة.
هي مصدومة من تصريحه، لكنها لا تقارن بصراخ نيرمين المتواصل.

هتفت أسيف معترضة: -يعني عشان أشوف بيتنا أتخطبلك، ده اسمه جنان رسمي، استحالة أوافق على ده!
رد عليها بهدوء جاد: -بصي على النص التاني من الموضوع، هايرجعلك الدكان!
أصرت على رفضها قائلة بثبات: -لأ، مش موافقة!

ضغط على شفتيه مغتاظًا من عنادها الأحمق، هو مُصر على الارتباط الرسمي بها ومتمسك بتنفيذه لأبعد الحدود، ولن يتنازل عن هذا الأمر مهما حدث، ليس الأمر بسبب تلك الأسباب الظاهرية التي أعلن عنها، وإنما لأسباب أخرى تخصه لا تدري هي عنها أي شيء. لكن حينما يحين الوقت المناسب ستعرفها..
تابع قائلًا بنبرة عقلانية متريثة: -خدي وقتك وفكري كويس!

أوشكت على فتح شفتيها لتقول شيء ما، لكنه وضع سبابته على فمها في حركة جريئة ومفاجئة منه مكملًا بتحذير:
-ويا ريت تنسي أي خلافات بينا، وتبصي لمصلحتك الأول!
جحظت نيرمين بعينيها غير مصدقة ما تراه الآن، هو يتعمد استثارة انفعالاتها أكثر بتصرفاته المتجاوزة معها.
احتدت ثروتها المكتومة بداخلها، واصطبغ وجهها بحمرة مبالغة.
سحب منذر إصبعه للخلف مضيفًا بابتسامة عذبة: -أنا مش مستعجل ردك، بس احسبيها صح يا بنت رياض!

شعرت نيرمين أن الأمر يفوق قدرتها على الاحتمال، فأصاب رأسها دوار كبير، وترنح جسدها على إثر قوته التي كادت تفتك بها.
لاحظت عواطف ما أصاب ابنتها، فهتفت بذعر: -نيرمين!
تسارعت أنفاسها فخرج صوتها لاهثًا وهي تقول بصعوبة: -الحقوني، آآه! دماغي هتنفجر!
هوى جسدها المنهك نفسيًا على الأريكة، فأسرعت والدتها نحوها لتتفقدها هاتفة بفزع: -بنتي، مالك يا نيرمين؟ ايه اللي حصلك؟

تسمر منذر في مكانه غير مكترث بما آلم بها، بينما بقيت أسيف في مكانها جالسة على طرف الفراش شاردة في عالم أخر.
التفت بأعينه نحوها، وطالعها بنظرات أكثر عمقًا.
تمنى لو تركت مشاحناتهما جانبًا وفكرت بتعقل في اقتراحه.
ربما يكون هو أول دربه الصحيح معها لتكتشف بتأنٍ ما يكنه من مشاعر لها.
-اللي قالك كده كداب، وابن ستين..!

هدر الحاج فتحي بتلك العبارة مستنكرًا اتهام رفيقه الحاج إسماعيل بتدبير حادث إحراق منزل رياض خورشيد.
نظر له الأخير قائلًا بجمود: -وهو هيفتري عليك بالباطل، أكيد لأ يا فتحي!
رد عليه محتجًا بانفعال: -وانت صدقته على طول، ده شكله واحد من اللي بيكرهوني وعاوز يلبسني في نصيبة!
اعترض الحاج إسماعيل على هجومه قائلًا بتريث: -هو مش من دول!، أنا واثق فيه!
صاح فيه بغضب: -لأ يا حاج إسماعيل، أنا عاتب عليك!

دقق الأخير النظر في وجهه، بدا غير مقتنع بعصبيته الزائدة، فبلال مشهود عنه بنيته الطيبة، وصدق أقاويله.
هو لا يدعي بالباطل على أي شخص، لكنه كان أمينًا فيما رأه.
أردف الحاج إسماعيل قائلًا بتمهل: -عمومًا لا عتاب ولا لوم، الحكاية في ايد المركز وهما هيتصرفوا!
رد عليه بتهكم: -يا ريت، عشان الحق يبان!
تساءل إسماعيل باهتمام: -على كده بنت المرحوم رياض عرفت باللي حصل في دارهم.

التوى ثغره للجانب وهو يرد على مضض: -أيوه، أنا قولتلها
سأله مهتمًا بمعرفة ردة فعلها: -أها. وقالت ايه؟
تهدل كتفيه للأسفل قائلًا بنبرة غير مبالية: -معرفش، ومايفرقش معايا!
اقتضب الحاج إسماعيل في حديثه معه بعد حصوله على ما يريد، فهتف قائلًا: -طيب. فوتك بعافية!
توجس فتحي خيفة أن يكون أمره قد كُشف، فهتفت بتوتر بائن عليه: -إنت كنت جاي في ايه وماشي على طول؟!

أجابه بهدوء جاد: -جيت أفهم منك اللي حصل، وطالما إنت ملكش دعوة خلاص هاخلي اللي بلغني يقول اللي يعرفه للمركز، وهما آآ..
صاح فتحي مقاطعًا بانفعال: -إنت عاوز تورطني وخلاص يا حاج إسماعيل؟
رفع يده أمام وجهه قائلًا بعبوس: -لأ، بس مقدرش أسكت عن الحق، ودي كتم شهادة مهمة جايز تفيدهم
ارتبك فتحي أكثر من إصراره على المضي قدمًا في إبلاغ الشرطة بما رأه ذلك الشخص الغامض، فهتف مهددًا بتهور:
-انت كده بتخسرني يا حاج!

تيقن الحاج إسماعيل وجود خطب ما من توتره الزائد عن الحد، فسأله بجدية: -وإنت خايف من ايه؟
ابتلع ريقه مرددًا بحذر: -مش خايف، بس هاتعمل شوشرة مالهاش داعي حواليا، وإنت عارف الناس في البلد هنا مابتصدق
رد عليه إسماعيل بجمود: -صاحب الحق مابيخفش يا حاج فتحي!
ثم ابتسم بثقة قبل أن يودعه قائلًا: -سلامو عليكم يا حاج فتحي!

لم يبادله السلام، بل ظل محدقًا فيه وهو يبتعد بنظرات قاتمة، لقد حدث خطأ غير مقصود في مخططه سيودي به إلى التهلكة.
همس من بين شفتيه بحنق: -آآآخ، طلعلي منين الكلب ده؟
كور قبضة يده ضاغطًا على أصابعه بقوة وهو يضيف بنبرة متوعدة: -بس لو أعرف هو مين.!
أصدرت أنينًا خافتًا وهي ترتشف القليل من كوب الماء الذي تمسك به والدتها.
وضعت يدها الأخرى على جبينها تتحسسه برفق، ثم حركت رأسها للجانبين ناظرة حولها بأعين زائغة.

وجدت نفسها ممددة على الأريكة بنفس الغرفة.
تأوهت مجددًا، ثم ابتلعت ريقها وهي تتساءل بنبرة ثقيلة واهنة: -أومال. أومال سي منذر فين؟
أجابتها عواطف بتنهيدة ارتياح: -خضتيني عليكي!
ردت عليها نيرمين بإلحاح: -هو. هو مشى؟
أسندت عواطف الكوب على الطاولة القريبة، ثم أجابتها بإيماءة مؤكدة برأسها: -أيوه!
فركت نيرمين جبينها بأصابع يدها متساءلة بفضول: -طب. طب ايه اللي حصل؟

ردت عليها أمها ببساطة: -وقعتي من طولك واحنا بنتكلم!
للحظة ظنت أنه اهتم بها حينما فقدت وعيها، وربما يكون قد حملها مثلما فعل مع البائسة أسيف، فهتفت متساءلة بتلهف:
-وسي منذر عمل ايه؟
ردت عليها عواطف بفتور: -ولا حاجة!
تشكلت علامات الانزعاج على وجهها، خاب ظنها تماماً، .
حاولت أن تضبط أعصابها، فسحبت نفسًا عميقًا، ثم زفرته على مهل وهي تضيف متساءلة بتجهم:
-طب. طب مين شالني؟

هزت عواطف كتفيها قائلة بسجيتها: -محدش، انتي وقعتي على الكنبة، وأنا فردت جسمك عليها، وفضلت جمبك لحد ما منذر نده للدكتورة تشوفك
كادت تصاب بالشلل من تبخر أبسط ما تمنته، فكزت على أسنانها متابعة بامتعاض جلي: -كمان، طب وبعدين؟ يعني هو مثلًا اتخض عليا وآآ.
قاطعتها قائلة بجفاء: -لأ، سابك ومشى يشوف اللي وراه!

عجزت عن الرد عليها من قوة تأثير الصدمة عليها، فكل ما فكرت فيه وهي فاقدة للوعي صار هباءً منثورًا، وكأنه لم يكن من الأساس.
لم يهتم بها، ولم يعبأ بإحساس الغيرة بداخلها. بل الأسوأ أنه لم يشعر بوجودها.
سيطرت عليها الحسرة وهي تتمتم بازدراء ساخط: -ايييه! مشى، يادي أم النحس اللي أنا فيه، حتى في دي فقر..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة