قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والثلاثون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والثلاثون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والثلاثون

ألغى كافة الإرتباطات الخاصة به بعد لقائهما الحاد، لم يستطع التفكير بذهنٍ صاف، فظن أنه من الحكمة حالياً أن يبتعد عن ضغط العمل حتى يستعيد هدوئه.
جلس على مقعده مسترخياً معتزلاً ما حوله.
أسند أمامه أحد صبيان المقهى الشعبي قهوته الخاصة أمامه، وانصرف مبتعداً دون أن ينبس بكلمة خاصة بعد أن لاحظ الوجوم المسيطر عليه.

كذلك تجنب كافة العمال بالوكالة الاقتراب منه أو السؤال عن أي شيء يخص العمل، وتركوه بمفرده مختلياً بنفسه، وجلسوا هم بالخارج يثرثرون كعادتهم قبل انصرافهم.
شبك منذر كفيه خلف رأسه وهو يحرك مقعده بحركة ثابتة.
حدق أمامه بنظرات فارغة متذكراً ما مر به معها منذ لقائهما الأول.
التوى فمه للجانب مبتسماً بسخرية مريرة.

أخذ نفساً عميقاً حبسه في صدره، ثم لفظه دفعة واحدة وهو يوميء برأسه معاتباً نفسه على اعتقاده الخاطيء.
يا لسخرية القدر!
هو ظن يوم أن إلتقاها صدفة أنها متسولة تخدع الناس ببراءتها المصطنعة ودهائها الماكر، فتسرق أموالهم برضائهم، واليوم هي عاملته بنفس ظنه السيء بها.
تمتم مع نفسه بتنهيدة مطولة: -واحدة بواحدة!
اعتدل في جلسته، وأرخى ساعديه متابعاً بنبرة غامضة: -بس مش خالصين يا بنت رياض!

هب واقفاً من مكانه ملتقطاً هاتفه المحمول باحثاً عن رقم شخص ما ليحدثه.
تحرك نحو الخارج فانتفض العمال من أماكنهم فور رؤيتهم إياه.
مرر أنظاره عليه قائلاً بصرامة: -اقفلوا الوكالة وروحوا على بيتكم
رد عليه رئيس عماله بجدية: -تمام يا ريس!
وضع الهاتف على أذنه قائلاً بهدوء مريب: -سلامو عليكم يا باشا، معلش هازعجك شوية!
صمت للحظة قبل أن يتابع بجدية: -في مشكلة تخص حد قريبي، وعاوز سيادتك تدخل فيها وتحلها!

صمت ليصغي للحظة للطرف الأخر قبل أن ينطق نافياً: -لأ مش حاجة رسمي، بس يهمني أعرف مين اللي عمل كده
أوصدت باب الغرفة خلفها حابسة نفسها بعد مواجهتها الشرسة معها.
كانت تدافع عن نفسها، ترد الإساءة المهينة لها.
لم تتخيل أنها ستعتدي بالضرب على من ترتبط بهن بصلة الدم.
هي كانت كالقطة المسالمة، ضد العنف ونابذة لصكافة صوره. والآن أصبحت شخصاً أخراً.

انهارت قدماها وجلست مستندة بظهرها خلف الباب، ثم ثنيت ركبتيها إلى صدرها لتتكور على نفسها أكثر.
نظرت إلى راحة يدها المرتجفة والمصطبغة بالحمرة الساخنة بخوف كبير غير مصدقة أنها صفعت ابنة عمتها بها.
تراقصت العبرات في مقلتيها، ثم وضعت يدها على فمها كاتمة صوت شهقاتها المرتجفة.
بكت بحرقة شديدة وهي تهز رأسها بإستنكار.

ما مرت به ليس بالهين. هي وحدها. لا سند لها في تلك الحياة القاسية، فإن لم تكن بالقوة الكافية للدفاع عن نفسها ستلوكها الأفواه الشرسة بشراهة تاركة إياها عظاماً بلا لحم.
دفنت وجهها بين ركبتيها مجبرة عقلها على عدم التفكير في أي شيء، يكفيها ما نالته من استفزاز متواصل أنهك قواها على الأخير.

ظلت على تلك الوضعية لفترة من الزمن. لا تدري إلى متى، بقيت منطوية على حالة، وآسفة على تفكيرها المتهور الذي أجبرها على فعل ما تبغضه.
لكن لم يتركها عقلها تهنأ كثيراً، حيث أضاء ذاكرتها بصورة منذر، ذلك الوجه الصلب المتبلد.
رجف جسدها، وشحب لون بشرتها نوعاً ما.
فتحت عيناها المتورمتين، ورفعت رأسها للأعلى وهي تتنفس بتوتر..
مر ببالها مقتطفات سريعة من صدامهما الحامي، وندمت على إندفاعها الغير مدروس.

فربما وطأت بقدميها معركة أخطر لن تتمكن من الظفر بها.
هزت رأسها مستنكرة حماقتها، ثم دقت بها الباب بضربات خفيفة.
تساءلت مع نفسها بحيرة كبيرة: -ليه بس كده؟ ليه؟
فكرت في ترك المنزل بمن فيه، لكنها عجزت عن تنفيذ تلك الحماقة فعلياً، فهي عاجزة لا تملك من المال شيئاً، نوعاً ما مديونة لغيرها، والأهم من هذا كله لا تزال القيم والمباديء المغروسة في نفسها مسيطرة عليها.
فلن تتهور وتسيء إلى سمعة عائلتها بعد رحيلهم.

أغمضت عيناها بإحباط، وهمست لنفسها مستسلمة بيأس: -ماليش مكان تاني أروحه، غصب عني لازم أفضل هنا!
أخرجت تنهيدة مليئة بالكثير وهي تتوسل لله متضرعة: -يا رب خليك معايا وعيني، يا رب أنا لوحدي! إنت سندي يا رب!
ذرعت نيرمين الغرفة ذهاباً وإياباً ولسان حالها لم يتوقف عن السب والشتائم الغير لائقة.
نظرت لها بسمة شزراً، وردت بفتور: -هتستفادي ايه من الدوخة دي، كفاية بقى!

صاحت فيه بنبرة صارخة تحمل الحقد: -اسكتي، مش عاوزة أسمع حاجة، بنت ال، خدتني على خوانة!
كزت على أسنانها متابعة بأعين تطلق شرراً مستطراً: -اللي هايجلطني أمك واقفة في صفها، تقولش هي بنتها وأنا لأ!
كركرت بسمة ضاحكة من طريقتها المحتقنة، وردت عليها بجمود: -ده العادي، قلبها رهيف!
اغتاظت نيرمين من أسلوبها الغير مكترث بحالتها، وعدم تدعيمها لها كما كانت تتمنى، فصاحت بها معنفة إياها بغلظة:.

-بسمة، أنا مش ناقصة تنكيت، أنا والعة وعاوزة أحرق الزفتة اللي برا! وإنتي ولا على بالك!
نفخت بسمة دون أن تعلق عليها، بينما تابعت أختها بنبرة عدائية: -وايدها اللي اتمدت عليا دي هاقطعهالها!
اتجهت نحو باب الغرفة، وضيقت نظراتها لتقول بشراسة وهي تضربه بقبضتها المتكورة: -هاين عليا أطلع أطردها دلوقتي وأرميها في الشارع!
لوحت لها بسمة بكف يدها قائلة: -اتفضلي. حد حاشك
التفتت نيرمين نحوها محذرة بحنق: -ماتسخنيش!

ردت عليها بسمة بجمود مستفز: -ما انتي بتقولي كلام غريب برضوه
صاحت فيها نيرمين بإنفعال: -انتي معاها ولا معايا؟
أجابتها وهي تهز كتفيها غير مبالية: -لا معاكي ولا معاها، اخبطوا دماغكم في بعض!
حاولت نيرمين دفعها للانتقام منها، فهتفت من بين أسنانها بحدة: -يا شيخة دي أخدت اوضتك من أول يوم جيتي فيه، وكنتي هاتتجنني!
ردت عليها بسمة بثقة هادئة: -وأنا هاخد أوضتي، وبطريقتي!

ثم اتجهت نحو أختها لتقف قبالتها وهي تستأنف حديثها: -بس انتي مش بتشوفي نفسك لما لسانك بيطول
رمقتها نيرمين بنظرات مشتعلة وهي ترد: -أنا كده ومابتغيرش!
-طيب كل واحد أدرى بعيوبه!
قالتها بسمة بتأفف وهي توليها ظهرها متجهة نحو الفراش لتلقي بجسدها المنهك عليه.

بقيت نيرمين في مكانها تشتعل حقداً وغلاً مما تلقته من ابنة خالها. حاولت التمسك ببقايا عقلها لكنها فشلت، فغضبها الأعمى يدفعها لإرتكاب المزيد من الأمور الطائشة..
عجزت عواطف عن النوم بسلام بعد أن تأزمت الأمور، اعتدلت في نومتها وجلست القرفصاء مستندة برأسها على مرفق يدها.
حركت رأسها بإيماءات ثابتة مستنكرة ذلك المأزق الذي باتت فيه.

هي على وشك خسارة دعم عائلة حرب، واكتساب عداوتهم، بالإضافة على صعوبة التفاهم مع ابنة أخيها، والأسوأ من ذلك احساسها بمشاعر البغض والكره التي تكنها ابنتيها لها.
اختنق صدرها، ولمعت عيناها بالعبرات.
تمتمت مع نفسها متساءلة بحسرة: -اتصرف ازاي وأنا حاسة إني متكتفة من كل حتة؟
ضربت بيدها على جبينها بحركة خفيفة قائلة: -طب أحلها ازاي؟ دبرها يا رب من عندك!

نفضت جليلة جلباب زوجها وطوته برفق لتسنده على حافة الفراش، ثم استطردت حديثها قائلة بإمتنان:
-الحمدلله إنك لحقته، تسلم يا حاج لو مكونتش رديت عليا كنت بقيت في حوسة، ده أنا مخي بقى يودي ويجيب!
صمتت للحظة لتلتقط أنفاسها، ثم أضافت بحدة: -ربنا ينتقم منها زي ما هي حرقة قلب ابني ومدوخاه!
رد عليها طه بإمتعاض: -سيبك من الكلام ده! المهم أشوف هاعمل ايه مع دياب!

أخفض نبرة صوته ليضيف بضجر: -ربنا سترها، البت لو كانت وقعت في ايده، ولا حتى شافها مكونتش عارف إيه اللي ممكن يجرى!
هتفت جليلة قائلة بعاطفة أمومية غريزية: -أنا هاروح أطيب خاطره بكلمتين!
رفع كفه أمام وجهها قائلاً بصرامة: -سيبه لوحده، ماتكبسيش عليه كل شوية
هزت رأسها قائلة بإستياء: -على عيني والله! بس قلبي واكلني عليه، وأنا مش قادرة أعمله حاجة.

ثم هتفت متساءلة بعبوس: -والمحروسة طبعاً قافلة تلفوناتها و ماردتش عليه؟
أجابها بإرهاق: -لأ. مش عارفين نوصلها
تابعت جليلة بإزدراء: -قليلة الشرف والرباية، عملت عملتها وهربت! ربنا يوريها غلب الدنيا زي ما هي عاملة في ابني وابنه!
رد عليها طه بنبرة متوعدة: -هي مش هاتستخبى على طول، مسيرها تظهر، والواد هنجيبه منها!
هتفت قائلة بتجهم: -اللي مطمني شوية إنها أمه، يعني مش هتأذيه!

رد عليها طه بصوت غليظ: -ولا تقدر تمس شعراية منه، الدور والباقي على الحرباية أمها، هي اللي ورا كل مصيبة!
سألته جليلة بفضول: -على كده مين المنيل اللي اتجوزته؟
ضغط على شفتيه مردداً: -مش عارفين لسه، بس هيبان
على الجانب الأخر، فرك دياب وجهه بغل وهو يدور بداخل غرفة ابنه بحيرة شديدة.
كان يقذف بعصبية كل ما تطاله يده، جاهد لضبط انفعالاته العصبية لكنه لم يستطع. فالمخطوف هو قطعة غالية منه.

خشيت أروى أن تقترب منه، وبقيت تتابعه من خلف باب الغرفة الموارب وهي تبكي حزناً. فهي تحب يحيى كثيراً. واستاءت حينما علمت بأمر اختفائه.
استمع هو لصوت نحيب ما مكتوم، فاتجه نحو الباب وفتحه فجأة.
شهقت أروى مذعورة، وتراجعت بخوف للخلف.
تنفس دياب بعمق ليسيطر على اندفاعه، وأردف قائلاً بصوت شبه متحشرج وهو يشير بيده لها:
-تعالي يا أروى متخافيش!
ترددت في الاقتراب منه، ووضعت أناملها على فمها بإرتباك.

ابتسم بود مصطنع لها متابعاً: -تعالي يا بت
ردت عليه متساءلة بصوتٍ باكي: -هو. هو يحيى مش جاي تاني؟
شعر بوخزة حادة في صدره من جملتها تلك، ودنا منها قائلاً بصوت مختنق: -هايرجع يا أروى، مش هايبعد عننا!
ثم وضع يده على كتفها ليجذبها نحوه، وضمها إلى صدره قائلاً بنبرة مختنقة للغاية:
-ابني هيرجع لحضني تاني!
في صباح اليوم التالي،
انتظر على أحر من الجمر ذلك الإتصال الهاتفي من ضابط الشرطة الذي تواصل معه سراً.

جفاه النوم ليلاً رغم عودته للمنزل في ساعة متأخرة جداً، فلم يعرف بالمشاكل الدائرة مع أخيه.
كان الإرهاق واضحاً أسفل جفنيه، وبدا مشتت التفكير طوال الوقت، كما اشتبك مع أغلب العمال بالوكالة على توافه الأمور.
تحاشى معظمهم الحديث معه، وأثروا إرسال رئيس العمال لإبلاغه فقط بالهام.
جاء إليه والده متساءلاً بإستغراب وهو يضرب بعكازه الأرضية: -بتخانق دبان وشك ليه على الصبح؟
رد عليه بتجهم موجز: -مافيش يا حاج!

أومأ بعينيه قائلاً بصوت آمر وهو يجلس خلف مكتبه: -طب اقعد كده عاوزين نشوف حل في موضوع أخوك!
عقد منذر ما بين حاجبيه متساءلاً بتعجب: -ليه ماله؟
أجابه والده بغموض: -مادرتش بمصيبة طليقته!
تساءل منذر بإهتمام كبير وقد ارتسم على تعابير وجهه علامات الإنزعاج: -هي عملت ايه؟
رمقه والده بنظرات معاتبة وهو يرد قائلاً: -مش بأقولك عقلك مش فيك!
استنكر منذر تعنيف أبيه له، فصاح بنفاذ صبر: -ما تقول يا حاج إيه اللي حصل؟

أجابه طه بعبوس: -البت اتجوزت وعملت نقل حضانة لأمها وخدت الود وهربوا!
انفرج فمه مردداً بصدمة وقد ارتفع حاجباه للأعلى: -ايه! وأنا كنت فين من ده كله؟
رد عليه والده بإمتعاض: -اسأل نفسك!
أدرك منذر أنه كان مشغول البال بموضوع أسيف، فلم يهتم بما يدور من حوله، وبات منصب التفكير عليها فقط. فاعتذر لأبيه قائلاً بجدية:
-معلش يا حاج، أنا هاتصرف وهاعرف هي ودته فين، ليا لي سكتي!

تنهد طه قائلاً بضيق: -شوف هاتعمل ايه لأحسن حايش أخوك بالعافية عنها! ده ممكن يرتكب جناية فيها وفي أمها وعيلتها كلها!
تساءل منذر بجدية: -ودياب فين دلوقتي؟
أجابه بإبتسامة ساخرة: -أمك عاملة عليه كماشة في البيت، مش عايزة تسيبه ينزل!
أشار منذر بسبابته قائلاً بحسم: -خلاص يا حاج الموضوع بقى عندي، وانا هاتصرف معاهم، وهاكلم المحامي كمان
هز طه رأسه متفهماً: -شوف هاتعمل ايه
-حاضر.

وقفت مرتبكة أمام مخفر الشرطة مترددة في الدخول إليه، فلم تذهب إليه مطلقاً، لكنها كانت مضطرة لهذا.
فركت أصابع كفيها القابضين على حقيبتها بتوتر.
هي قضت ليلتها تفكر في وسيلة للدفاع عن نفسها، فصدى كلمات منذر لم يفارق أذنيها.
خافت أن يسلبها مالا تستطيع رده، خاصة أن وضعها المادي بات سيئاً. هي تكاد تكون شبه مفلسة.
وبعد تفكير مضني هداها عقلها لفعل ذلك.

لم تبلغ عمتها بنيتها في تقديم شكوى واتهام منذر رسمياً بأنه سارق نقودها حتى لا تمنعها عن هذا، وإدعت أنها ذاهبة لترى الدكان في وضح النهار.
أرادت أسيف أن تتبع الإجراءات القانونية كي تحمي نفسها من بطشه إن فكر في التجرؤ عليها.
استدلت على طريق المخفر من بعض المواطنين، ووصلت إليه بيسر.
ابتلعت ريقها بخوف، واستجمعت شجاعتها الفارة لتتحرك بخطوات متمهلة نحو الداخل.

سألت أول فرد شرطة قابلته بنبرة مرتجفة: -لو. لو سمحت أنا. أنا فلوسي اتسرقت و. آآ. وعاوزة أبلغ عن اللي سرقهم!
رد عليها العسكري بجمود وهو يوميء بعينيه: -خشي جوا عند الصول نظيم!
هزت رأسها بإيماءة مترددة وهي تتجه إلى حيث أشار.
ازدردت ريقها بتوتر أكبر، واقتربت من حافة المكتب الرخامي المرتفع متساءلة بصوت مرتبك:
-أنا. أنا عاوزة أعمل محضر في واحد سرقني.

رمقها الصول بنظرات مزدرية ممرراً عيناه عليها ليتفحص هيئتها بدقة، ثم سألها بنبرة رسمية:
-واتسرقتي فين ان شاء الله؟
أجابته بصوت متوتر وهي ترمش بعينيها: -في. في اللوكاندة! كنت أعدة فيها أنا وماما الله يرحمها، وهو جابلي الشنط بس ملاقتش الفلوس فيها وآآ.
قاطعها قائلاً بجدية: -لأ بالراحة كده، ومن الأول!
ثم فرد كفه أمامها متابعاً بصوت آمر: -بس هاتيلي بطاقتك الأول خليني أخد بياناتك!

حركت رأسها عدة مرات مرددة بإمتثال: -ماشي.
دست يدها في حقيبتها باحثة عن بطاقة هويتها بها، ثم أعطتها له.
تناولها منه محدقاً فيها للحظة قبل أن يمط فمه هاتفاً: -مممم. انتي مش من هنا بقى؟
هزت رأسها نافية وهي تجيبه: -لأ!
ظلت أسيف باقية بالمخفر تدلي بأقوالها في شكواها الرسمية معطية الصول كافة التفاصيل التي وردت إلى عقلها وأجابت على أغلب تساؤلاته الدقيقة.

دون هو ما قالته في المحضر، وما إن انتهى حتى هتف قائلاً: -امضي هنا!
أمسكت بقلم الحبري، ووقعت بجوار إصبعه، ثم تركته متساءلة بإرتباك: -كده انتو هاتقبضوا عليه؟
ضحك الصول ساخراً: -مش بسرعة كده، احنا هنستدعيه الأول ونحقق معاه ونشوف هايقول ايه!
عضت على شفتها السفلى متمتمة بخفوت: -طيب
سألها بنبرة جادة وهو يدون بعض العبارات الختامية في تلك الأوراق: -في حاجة تانية عاوزة تكتبيها؟
هزت رأسها نافية وهي تقول: -لأ.

رفع بصره نحوها متابعاً بإقتضاب: -ماشي، تقدري تمشي!
ابتسم بتكلف قائلة: -شكراً يا شاويش!
تناولت هويتها منه، وأعادت وضعها بحقيبتها ثم أسرعت في خطاها خارجة منه مرددة لنفسها بإرتياح قليل:
-كده أحسن، أنا ماضمنش هو ممكن يعمل ايه!
اتسعت حدقتاه بشدة بعد احتقانهما حينما سمع تلك العبارة التي أججت ثورة غضبه بداخله من محاميه الخاص:
-عرفت هي اتجوزت مين يا أستاذ دياب!

صرخ فيه بنفاذ صبر وقد برزت عروق دمائه المغلولة: -انطق مين؟
سمع صوته المرتبك يجيبه بتلعثم: -م. مازن أبو النجا
جحظت عيناه بذهول، وصاح مصدوماً: -بتقول مين؟
أعاد المحامي على مسامعه اسم الزوج الحالي لطليقته السابقة: -مازن مهدي أبو النجا!
أطلق دياب سبة لاذعة وهو يضرب بقبضته المتكورة بعنف على ضلفة خزانة ملابسه: -ابن ال..!
وواصل سبابه السيء والمهين دون إعطاء اكتراث بمن يمكن أن يسمعه ممن متواجد معه بالمنزل.

خلعت الضلفة قليلاً على إثر قوة الضربة العنيفة محدثة صوتاً مزعجاً.
توجس المحامي خيفة مما قد يحدث لاحقاً من قبل موكله، لكنه كان مضطراً لإبلاغه بما عرفه.
وتابع بحذر: -تم توثيق الجواز رسمي بعد ما كان عرفي!
وكأن الصدمات تتوالى على رأسه تبعاً، فصرخ متساءلاً بجنون غير مصدق: -اييييه؟ يعني كانوا متجوزين عرفي الأول؟
أجابه المحامي بإختصار: -اه! ده اللي عرفته!

لم يستطع تبين ما يردده موكله بوضوح، ووجد صعوبة في التواصل معه، فهتف بقلق: -ألو. أستاذ دياب؟ انت معايا؟ ألووو!
ألقى دياب بالهاتف على الأرضية ليتحطم إلى أجزاء صغيرة، ثم اندفع خارج غرفته ووجهه ينذر بكارثة وشيكة.
رأته جليلة على تلك الحالة المخيفة، فإنقبض قلبها بخوف بائن، وأسرعت تلحق به.
اعترضت طريقه واضعة يديها على ذراعيه، ونظرت له بنظرات زائغة ساءلة إياه بتوتر كبير:
-رايح فين يا بني؟

أزاح قبضتيها عنه هاتفاً بصوت محتد: -اوعي يا أمي من وشي السعادي، بدل ما ارتكب جناية هنا!
قفز قلبها في قدميها، وتسارعت أنفاسها وهي تضيف بخوف: -استنى يا دياب وفهمني بس في آآ..
دفعها بقوة للجانب ليتمكن من المرور مردداً بإحتقان: -حاسبي الله يكرمك!
صرخت فيه متوسلة إياه أن يتراجع عما ينتوي فعله: -دياب، يا دياب!

في نفس التوقيت وصلت بسمة إلى مدخل البناية القاطنة بها عائلة حرب. فهي أرادت استغلال فرصة عطلتها العرضية للإنتهاء من إعطاء الصغيرين درسهما الخصوصي.
تأوهت بأنين خافت وهي تحدث نفسها بصوت لاهث: -آآه يا مفاصلي، أنا عارفة مش بيركبوا أسانسير ليه في العمارات دي!
رفعت أنظارها للأعلى لتتابع بتبرم: -ده الدور هنا بدورين! والبهوات ناقص يسكنوا على السطح!

أكملت صعودها على الدرج وهي تتذمر بكلمات مبهمة، لكنها شهقت مذعورة حينما رأت ذلك الطيف المظلم في زاوية الطابق التالي:
-يا ساتر يا رب، مين ده؟
تجمدت في مكانها محاولة تبين هوية ذلك الشخص.
لم تتمكن من رؤيته بوضوح، فتحركت بحذر للأعلى، ودققت النظر فيه.
كان المتواجد هو شاب مرتدياً ثياباً داكنة، موليها ظهره، ومن الوهلة الأولى تظن أنه مصاب بشيء ما، فهو غير متزن، ويترنح بجسده بصورة مقلقة.

كان يسد عليها الطريق للمرور، فقد كان منحنياً أمام باب منزله محاولاً فتحه.
تنحنحت بخفوت قائلة بنبرة حرجة وهي مخفضة لنظراتها: -سكة لو سمحت!
التفت الشاب نحوها، ورمقها بنظرات غير مريحة أزعجتها، ثم أردف قائلاً بصوت ثقيل:
-الله! مزة!
انتاب جسدها قشعريرة ما من طريقته المريبة، وتراجعت خطوة للخلف مرددة بصوت حاد لكنه مرتعش:
-في ايه يا جدع انت ما تقف على بعضك كده وتحاسب!

دنا منها بخطى بطيئة قائلاً بعبث: -ماتيجي آآآ..
حدجته بنظرات حادة وهي تردد بتوجس: -أجي؟!
أجابها بنبرة ماجنة رامقاً جسدها بنظرات شهوانية: -اه تيجي ونجيب مليجي، ده أنا أعجبك أوي!
خفق قلبها بخوف، ووضعت يدها على فمها مصدومة من عبارته الجريئة فقد فهمت مقصده القذر. خاصة أن نظراته كانت توحي بالكثير.
صاحت فيه بصوت متشنج وهي تهدده بيدها: -يا لهوي، انت بتقول ايه؟
تنهد الشاب متابعاً بعبث أخطر: -أنا بأحبك!

بدا وكأن لعابه المقزز يسيل من فمه وهو يشير لها بعينيه بنظرات وضيعة للغاية.
تيقنت بسمة أن ذلك الشاب تحت تأثير مخدر ما، فهو ليس في وعيه، وتصرفاته مريبة للغاية، بل منذرة بالأسوأ.
حدجته بنظرات إحتقارية، وتراجعت مبتعدة أكثر وهي تهتف مصدومة: -يخربيتك، ده انت شارب!
فتح الشاب ذراعيه قائلاً: -تعالي في حضني يا مزة.

لم تجادله كثيراً، بل حسمت أمرها، وأولته ظهرها محاولة الفرار منه بعد أن أدركت حجم الخطر المحدق بها.
باغتها هو بالهجوم عليها من الخلف، فانتفضت فزعاً، وألقت عفوياً متعلقاتها الشخصية على الأرضية.
تمكن الشاب من محاصرتها في ركن الطابق، وأحاطها بذراعيه، ثم كبل رسغيها بقوته المستمدة من تأثير المخدر. ومال عليها برأسه محاولاً تقبيلها عنوة.

تلوت بجسدها محاولة تخليص نفسها من براثن ذئب بشري صارخة بأعلى نبرتها مستغيثة بهلع كبير:
-الحقوووني..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة