قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والثلاثون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والثلاثون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والثلاثون

خرجت من المخفر وهي تسير بغير هدى محاولة التفكير في طريقة تفتح بها قفل الدكان الصدأ، خاصة أن ما معها من أموال لا يكفي بالكاد إلا أجرة حرفي صغير.
هداها عقلها إلى سؤال أحد المارة عن ورشة قريبة للنجارة حتى تستعين بأحد الصبيان العاملين بها لإتمام تلك المهمة بما معها من أموال.
تلفتت حولها متأملة أوجه الناس بشرود.
ترددت في فعل هذا، فقد كان العبوس واضحاً على أغلبهم.

تنهدت بحيرة، وحركت أنظارها في الإتجاه الأخر، وقعت عيناها على أحد كبار السن الجالسين أمام محل بقالته، فعقدت العزم على سؤاله هو.
اتجهت نحوه، وسألته بإرتباك يشوب نبرتها: -سلامو عليكم يا حاج، متعرفش محل نجار قريب من هنا
تفرس الرجل في وجهها بنظرات دقيقة، ثم أجابها بصوت متحشرج من أثر التدخين وهو يشير بيده:
-وعليكم السلام، في بعد شارعين ورشة الحاج زقزوق!
نظرت إلى حيث أشار، وردت عليه ممتنة: -شكراً يا حاج!

أسرعت في خطاها وهي متحمسة لإنجاز ذلك الأمر.
ركضت مهرولة إلى داخل غرفة نومها باحثة عن هاتفها المحمول لتتصل بزوجها فتخبره بتلك الكارثة الوشيكة.
كانت كالمغيبة وهي تحاول تذكر أين أسندته.
صاحت لنفسها بقلق كبير وهي تزيل الوسادة لتنظر خلفها: -راح فين الزفت ده؟ ما أنا بأسيبه هنا على طول!
لم يخطر ببالها أن صغيرتها قد أخذته – دون علمها - من غرفتها لتلهو بأحد الألعاب المحفوظة عليه في شرفة حجرتها الخاصة.

جلست أروى بإسترخاء على المقعد، وقامت بتشغيل تلك اللعبة قائلة بحماس: -أما أقفل الليفل ده كمان وأخد الجايزة!
كمم فمها بقبضته محاولاً منعها من الصراخ ولفت الأنظار إليه. فقد أراد أن يتلذذ بإختطاف لمسات محرمة منها – رغماً عنها - قبل أن يُكشف أمره.
اتسعت حدقتي بسمة بفزع كبير حينما أدركت حجم الخطر الوشيك المحاوط بها.

استجمعت كل قوتها لدفعه والنجاة بنفسها من براثن ذلك الشاب الوضيع، لكنه كانت تحت تأثير المخدر، فبات أكثر إندفاعاً وقوة وشهوانية حيوانية.
وأثناء مقاومتها له مزق جزءاً من ثيابها، فاستمتع أكثر بما يفعله.
حالة من الهياج والعصبية سيطرت عليها، فلن تكون فريسة سهلة المنال لذلك المغيب عن الوعي.
استخدمت أظافرها في خدشه، ودفعه عنها، لكنه كان يثبط محاولاتها على الدوام.

نزع عنها حجاب رأسها كاشفاً عن شعرها، فزاد هلعها منه.
لم تتمكن إلا من الصراخ بصوت مكتوم
انتبهت والدة ذلك الشاب الغير مدرك لأفعاله العابثة لصوت صراخ يأتي من الخارج، فأنهت صلاتها على الفور، ونهضت بجسدها المترهل عن مصليتها لتتجه نحو الباب.
فتحته على مصرعيه لتتفاجيء بذلك المشهد المخزي.
شهقت مفزوعة لاطمة على صدرها، ومرددة بصدمة: -يا نصيبتي، بتعمل ايه موكوس!

لم يعبأ الشاب بتعنيف والدته وظهورها أمامه، فقد كان في حالة منتشية للغاية بفعل المخدر الذي تعاطاه وجعله يبلغ ذروة مجونه العابث.
نظرت بسمة لأمه محاولة استجدائها لإنقاذها تواً منه، لكنها كانت كمن ضربت رأسه بصاعقة مباغتة، فتحولت نظراتها للإستنكار والذهول حينما سمعتها تقول:
-ناوي تفضحنا في العمارة، اوعى كده خليني أتصرف! هو أنا ناقصة جُرس!
رد عليها ابنها بنبرة ثقيلة: -مش قادر!

كزت الأم على أسنانها قائلة بحنق: -داهية تاخدك، حاسب كده!
وبصعوبة بالغة تمكنت من ابعاد جسده نسبياً عن بسمة لتتمكن هي من الإمساك به التي تجمدت أنظارها عليها.
صاحت الأم في ابنها موبخة إياه: -ابعد شوية، مش عارفة أمسكها عدل!
نظر لها الشاب بتأفف مردداً بنبرة غير واضحة: -أنا عاوزها الأول، جرى آآ.
قاطعته الأم قائلة بإشمئزاز بارز على محياها: -جتك نيلة، مش هنا يا مفضوح! ابعد انت وسيبني أشوف شغلي!

استنكر الشاب إصرار والدته على إفساد مخططه قائلاً بترنح: -كده بردك يامه
خبت قوة بسمة نسبياً من هول المفاجأة، لقد فهمت مقصد تلك السيدة، هي تريد إدارة الدفة نحوها، وتحويل المسألة إلى كونها أمسكت بفتاة ساقطة تعبث مع ابنها في منزله بدون علم أهله.
شهقت بصراخ مكتوم عندما وجدتها تغرز أصابعها في فروة رأسها لتهزها بعنف منها وهي تقول بصوت هادر:
-تعالوا يا ناس اتفرجوا!

تأوهت بأنين أكبر وهي تقاوم اعتداء الاثنين عليها خاصة ذلك القذر الذي يحاول تلمس جسدها.
أكملت الأم إدعاءاتها الباطلة مرددة: -مش عيب عليكي يا بنت ال، تيجي بيوت الناس المحترمة! اللي زيك مالهومش غير ضرب الجزم!
ثم انحنت لتنزع حذائها عن قدمها لتنهال به على أجزاء متفرقة من جسدها.
في نفس اللحظة انتبه ثلاثتهم لصوت صفق باب ما بقوة، فواصلت الأم صراخها الحاد حتى لا تثير الشبهات حول ابنها الماجن:.

-انتي مالكيش أهل، ولا زابط ولا رابط يربوكي، أنا هوديكي القسم يلموكي يا لمامة يا..
نزل دياب عن الدرج وهو في أوج قمة غضبه مستمعاً بغير اهتمام لصوت الأم الهادر.
ضاقت نظراته على ثلاثتهم وهو يدنو منهم، لكن سريعاً ما اتسعت مقلتاه بصدمة كبيرة حينما رأى بسمة محاصرة بين ذلك الشاب اللاهي وأمه السليطة تتعرض للضرب المبرح منهما.

على الجانب الأخر بكت بسمة بقهر حينما رأته أمامها. لم تكن تتخيل نفسها أبداً في موقف مهين كهذا.
هي دوماً في موقف القوة والدفاع عن النفس، لا تقبل أن يمسها أي شخص، واليوم هي ذليلة، محط إتهام زائف، ولكنه ليس كأي اتهام.
إنه متعلق بالشرف والسمعة.
شيئان إن خسرتهما أي فتاة فمن الصعب أن تستعيدهما مجدداً.
شعرت بالإنكسار والخزي، بمهانة من الصعب محوها من الذاكرة.
صاح بهما دياب بعنف: -انتو بتعملوا ايه؟

تراجع الشاب مبتعداً عنها خطوة محاولاً استيعاب الموقف، بينما انتفضت الأم على صوته الهادر قائلة بتلعثم:
-أنا مسكت البت دي وهي بتلاغي ابني وآآ..
اصطبغت عيناه بحمرة شديدة، وقاطعها قائلاً بشراسة وهو يقترب منهما: -اخرسي! ولا كلمة!
نزع دياب يدها عن بسمة فتفاجيء بها ممزقة الثياب، فزادت شراسته أضعافاً مضاعفة.
همست هي له بصوت مختنق مقهور ومتقطع ناظرة نحوه بنظرات مشوشة مستعطفة إياه أن يصدقها:.

-أنا معملتش حاجة! أنا. كنت. جيالكم!
شعر دياب بوخز كبير في صدره حينما رأها تحاول تغطية جسدها المنكشف بيديها المرتعشتين.
وبلا تفكير مد ذراعه نحوها ليسحبها إليه صارخاً فيها بصوت آمر: -اطلعي فوق!
أدركت الأم أنها وقعت في مأزق كبير حينما ادعت بالكذب على تلك الشابة ذات الصلة بدياب حرب.
شل تفكيرها تماماً، ولم تجد ما تبرر به موقفها فقد ألجمتها المفاجأة وعقدت لسانها.

ابتلعت ريقها بتوجس خطير، وبدا وجهها شاحباً للغاية..
شعر دياب برجفة جسد بسمة وهو يدفعها نحو الدرج.
نظرت هي مباشرة في عينيه قائلة بصوتها المنتحب وهي تحاول استجماع ما حدث وسرده بإيجاز:
-هما. هو آآ. مسكني و. وأنا كنت بأدافع عن نفسي، بس هي ضربتني وقالت عني آآ.
قاطعها قائلاً بصوت آمر ومخيف وقد بلغ القمة في بركان غضبه الهائج: -قولتلك اطلعي فوق!
دفعها بعنف متابعاً بغلظة: -يالا!

اعتقدت أنه لم يصدقها، وأنه أساء الظن بها، فجرجرت ساقيها المنهارتين نحو الدرج.
أمسكت بقبضتها المرتعشة بالدرابزون، وغطت بالأخرى جسدها المنكشف من أسفل ثيابها الممزقة، وأكملت قائلة بنشيج:
-أنا معملتش حاجة!
استشاطت نظراته أكثر، هو في حالة غير طبيعية الآن، وما يحدث حوله يأجج من نيرانه المستعرة ويزيدها حدة.
سمع هو صوتاً يأتيه من خلفه قائلاً بثقل: -أنا مخلصتش آآ..

التفت دياب نحوه ليحدجه بنظرات مميتة قبل أن يمسك به من تلابيبه ليقول بعنف: -اتشاهد على روحك!
لم ينتظر لأكثر من ثانية فقد انقض عليه، وأفرغ فيه شحنة غضبه الفائرة بلا أي رحمة.
كال له في وجهه اللكمات القوية الموجعة، وسدد الضربات العنيفة في كل جزء من جسده الذي تهاوى في لحظات على الأرضية الصلبة.
صرخت الأم بشهقة كبيرة وهي تستجديه بهلع: -ارحمه يا سي دياب! ابني معملش حاجة!

رد عليها بصياح محتد وهو يركله بشراسة: -هو أنا مش عارفه النجس ده!
واصل ضربه بعنف أكبر وأشد حتى نزف الأخير الدماء بغزارة من أجزاء متفرقة من جسده.
ومع ذلك لم يهدأ غضبه، وأصر على الفتك به.
تجمع الجيران على إثر الضرب والصراخ، ولم يتدخل أحد في المشاجرة. اكتفوا بالمتابعة والتهامس فيما بينهم.

أزاحهم دياب من طريقه بسحبه لذلك الشاب العابث من عنقه خانقاً إياه بشراسة، ثم ألقاه بعنف عن الدرج لتتحطم ضلوع صدره من إثر السقطة القوية.
تعالت الصيحات المشدوهة، وتجمعوا خلفه محاولين رؤية ما سيحدث بعد ذلك.
لم يتركه دياب، بل واصل تكرار قذفه له عن الدرج بأكمله حتى وصل به للطابق الأرضي فصاح بهياج في حارس البناية الذي هب واقفاً من نومته المريحة على المقعد الخارجي:.

-هاتلي حبل ويتربط به الكلب ده على باب العمارة!
رد عليه الحارس بإنصياع تام: -أوامر يا سي دياب!
لحقت به الأم باكية بحرقة على ابنها الذي يسحل ويهان قائلة بتوسل: -سامحه يا سي دياب هو مش في وعيه!
نظر إليها بقسوة، ثم رد عليها من بين شفتيه بصوت متشنج: -ده حظه الاسود انه مش في وعيه، أنا بقى هافوقهولك!
لطمت الأم على صدغيها بهلع قائلة: -يا لهوي يا ناس، يا نصيبتي، ابني راح فيها خلاص!

أمسك حارس البناية بالشاب المتهالك من إثر الضرب، وقام بتقييده إلى باب البناية بمعاونة اثنين من أولاده الصغار.
صعد دياب إلى الأعلى ليحضر عكاز أبيه الأخر ليجلده به، فحينما يرتبط الأمر بالتطاول على أنثى بالإكراه وجبراً، يكن العقاب أشد ضراوة وعنفاً.
وصلت إلى ورشة النجارة التي استدلت عليها. تنهدت بصوت لاهث وهي تقرأ اسمها بصوت خفيض:
-الحاج زقزوق لأعمال النجارة!

عضت على شفتها السفلى مبتسمة بإبتسامة خفيفة، ثمت حركت بخطوات متمهلة نحوها.
ولجت للداخل باحثة بعينيها عمن تحدثه، جاءها صوت من الخلف يسألها: -عاوزة حاجة يا ست؟
التفتت نحو صاحب الصوت الذكوري لتجد رجلاً كبيراً يطالعها بنظرات عادية، فردت عليه بتلعثم:
-أنا. انا كنت. قصدي باب الدكان بتاعي مش بيفتح، وآآ. يعني القفل بايظ وآآ.
هز رأسه بإيماءة جادة: -أها فهمتك.

تابعت أسيف حديثها بحرج: -فيعني لو ينفع حد يفتحهولي، هو قريب من هنا على فكرة، بس ممكن تقولي هاتكلف كام الحكاية دي؟
رد عليها الحاج زقزوق قائلاً: -خليها علينا خالص!
توردت وجنتيها خجلاً من مجاملته، وأكملت بحياء قليل: -شكراً، أنا بس مش معايا إلا دول
نظر إلى النقود التي بحوزتها، ومط فمه ليقول: -ممممم. مش مشكلة، دول يكفوا وزيادة!
ثم استدار برأسه للجانب ليصيح عالياً: -واد يا حسن.

حضر إليه أحد الصبيان هاتفاً: -نعم يا حاج!
رد عليه الحاج زقزوق بصوت آمر: -روح مع الأستاذة وشوف طلباتها ايه
-ماشي!
-هاتوا العصيان والجنازير والشوم وحصلوني!
صاح منذر بتلك العبارة بصوته الجهوري في عمال الوكالة لينفذوا سريعاً و بدون نقاش أمره الصارم.
فقبلها بلحظات تلقى أباه اتصالاً هاتفياً من المحامي الخاص بالعائلة يبلغه فيه بمعرفة دياب لهوية زوج طليقته السابقة.

وما إن عرف الأخير بأنه مازن أبو النجا حتى أدرك تبعات الموقف الخطير.
أخبر ابنه بالأمر، فانتفض منذر من مقعده ساحباً إحدى العصي الغليظة من خلف مكتبه، وجمع رجاله حوله ليتجهوا جميعاً نحو المطعم.
أشار هو لعدد من رجاله الأشداء بإصبعه مردداً بصرامة: -تاخدوا الجبان ده على المخازن بتاعتنا! سامعين!
رد عليه أحدهم بجدية: -ماشي يا ريس.

ركض أحد العاملين بالمطعم لداخل مكتب الحاج مهدي قائلاً بنبرة مرتجفة بعد أن رأى ذلك التجمع المقلق لابن عائلة حرب يقترب منهم ووجوههم تنبيء بخطر جسيم:
-الحق يا حاج، الريس منذر وأبوه الحاج طه جايين بالرجالة علينا، شكلهم ناويين على مضاربة!
هب مهدي مفزوعاً من مكانه، وهتف بخوف: -يا ساتر يا رب، طب لم الرجالة بتوعنا بسرعة
رد عليه العامل بنبرة مرتبكة: -معظمهم مش موجودين يا حاج!

وضع مهدي يده على رأسه هاتفاً بخوف: -كمان! يادي الحظ!
انتفض مازن هو الأخر من مكانه قائلاً بتوجس: -الظاهر إنهم عرفوا!
رمقه مهدي بنظرات مزدرية هاتفاً بقلق كبير: -الظاهر! ده اكيد يا فلحوس، أومال جايين هنا ليه؟!
اضطربت أنفاسه وهو يتابع متوجساً: -ربنا يعديها على خير، الخراب جاي على ايدك!
حاول مازن أن يبدو صلباً أمام أبيه، فأردف قائلاً بجمود زائف: -متقلقش يا حاج، أنا أدها وإدود!

نظر له مهدي شزراً وهو يرد بسخط متهكم: -يا اخي اتلهي على عينك!
استمع الاثنان لصوت منذر الصائح بقوة تهتز لها الأركان من الخارج: -اطلعلي برا يا ابن أبو النجا بدل ما أدخل أجيبك من جوا!
هربت الدماء من وجه الحاج مهدي خوفاً على حياة ابنه، فهو يعرف أن في تلك المشاجرات العصيبة تحدث خسائر فادحة.
تمتم بصعوبة وهو يدفع ابنه للخلف: -خليك هنا لحد ما أشوف في ايه.

رد عليه مازن بحنق: -أنا مش هاستخبى زي النسوان يا أبا، أنا طالعله!
حذره أباه قائلاً بتخوف: -انت مش اده يا بني!
اغتاظ مازن من استخفاف أبيه بقدراته، فرد عليه بحدة: -لأ أده وأد عشرة من عينته!
تابع مهدي قائلاً بتهكم: -بلاش تاخدك الجلالة أوي، ده كف واحد منه يكومك!
ضاقت نظراته وأصبحت أكثر قسوة وهو يقول بتوعد: -انت ليه بتستقلني، طب وربنا ما هاسيبه إلا وأنا جايب كرشه!

ثم اندفع بغضب إلى الخارج دافعاً بقبضته المتكورة الباب بعنف.
صدم حينما رأى أغلب العاملين بمطعمه مقيدين وجاثين على ركابهم في وضع مذل على أرضية الإسفلت أمام مطعمه.
كز على أسنانه بقوة، ثم وقف شامخاً بجسده أمام منذر، ورمقه بنظرات حادة، مردداً بشراسة قوية:
-عاوز ايه يا منذر؟
رد عليه منذر بصوت قاتم: -المرة اللي فاتت لما غلطتوا وخدتوا بنتنا عدينها بمزاجنا، المرادي بقى فيها رقابتكم كلكم!

لحق مهدي بإبنه، ووقف أمامه بجسده محاولاً تشكيل حاجزاً بينهما وهو يهتف بتوجس: -صلوا على النبي يا رجالة!
لم يلتفت نحوه منذر، بل تحرك للجانب قليلاً قائلاً بعدم اكترث به: -متدخلش يا حاج مهدي، كلامي مع ابنك النتن ده!
هدر فيه مازن بنبرة مستشاطة بعد أن سمع سبابه بأذنه: -مين اللي آآآ..
استدار أباه للخلف واضعاً يده على فمه مكمماً إياه قبل أن ينطق صائحاً بحدة: -اخرس وارجع لورا!

عاود النظر إلى منذر ليضيف برجاء ملحوظ: -معلش يا منذر اسمعني أنا، وأنا هانفذلك اللي عاوزه على طول!
رفع منذر ذراعه عالياً، وأشار بكفه لرجاله المرابطين بالخلف ليأمرهم بقسوة: -كتفولي البأف ده وخدوه على الوكالة لحد ما أجيله!
شخصت أبصار كلاً من مهدي وابنه، وقبل أن يتحرك أحدهما خطوة ما، كان رجال منذر قد انقضوا على الأخير، وقيدوا حركته تماماً.

بالطبع لم يكن ليأخذوه إلى هناك، ولكنها كلمة متفق عليها ليخدعوا بها الجميع فإن تجرأ أحدهم وأبلغ عنهم رجال الشرطة، وأتوا إليهم فلن يجدوه بها.
صاح فيهم مازن بمقاومة كبيرة: -حاسب انتو وهو!
لف أحدهم حول فمه قطعة قماش قديمة ليكمم بها فمه مانعاً إياه من الصراخ أو الاستغاثة، وأكمل باقي الرجال جره بعيداً عن أبيه الذي كان عاجزاً عن التصرف وإنقاذه.

توسل لمنذر قائلاً برجاء أكبر: -بالراحة يا بني بس واهدى وأنا آآآ..
قاطعه منذر بصوت أكثر قسوة وهو يشير بسبابته: -انتو لتاني مرة تغلطوا معانا!
مسح مهدي على صدره مردداً بخنوع: -حقك عليا أنا!
رمق منذر الأخير بنظرات خالية من أي إشفاق أو تأثر، وأردف قائلاً بجمود: -بص يا حاج مهدي، إحنا مش بنمانع في حلال ربنا، طالما الموضوع في النور، وقدام الناس دي كلها،.

ثم قست نبرته وهو يضيف بإهانة: -ابنك ال، ده اتجوز طليقة أخويا، وقولنا ماله مش عيب، يشبعوا بعض، ولا تفرق معانا!
شعر الحاج مهدي بقلة الحيلة، وبدا في موقف صعب وهو يحاول إصلاح الأمور التي أفسدها ابنه.
فتح فمه لينطق لكن منعه منذر عن التفوه بحرف وهو يتابع بتهديد: -بس تاخدوا ابننا يحيى وتخطفوه مننا، كده انتو جبتوا الناهية معانا!
هتف مهدي مستنكراً: -محدش جه جمبه يا منذر!

رد عليه الأخير بغلظة وقد ثارت دماؤه: -انت هاتستعبط يا حاج؟
ضغط مهدي على شفتيه متمتماً بضيق: -الله يسامحك، مقبولة منك! أنا قصدي ابنكم عندكم!
صاح به منذر هادراً: -محصلش، فين يحيى؟
ارتجف جسد مهدي من نبرته العنيفة، وأجابه بتردد: -هو. هو مش مع أمه
رد عليه منذر بشراسة وقد ضاقت نظراته: -ابنك عارف فين يحيى، تجيبوه هنرجعلك المحروس، عدى النهار ومجاش، يبقى مايغلاش على اللي خلقه!

فغر مهدى شفتيه مصدوماً من تهديده الصريح قائلاً: -ايييييه!
تابع منذر حديثه العدائي: -مات الكلام يا حاج!
أولاه ظهره، وأشار لعماله بيده مردداً بصوت آمر
-يالا يا رجالة!
ظل الحاج مهدي متسمراً في مكانه مردداً بحسرة: -منك لله يا مازن، خربتها وأعدت على تلها!
ضرب كفاً بالأخر متابعاً بحنق كبير: -أكيد أمها الشر دي ورا البلوى اللي حصلت!

سارت أسيف بجوار الصبي حسن الذي استأجرته من ورشة النجارة في اتجاه دكانها، ثم التفتت نحوه قائلة بحرج قليل:
-معلش هاتعبك
رد عليها حسن بنبرة عادية وهو يهز كتفيه: -ولا يهمك، دي حاجة بسيطة بنعملها كل يوم!
اكتفت بالإبتسام، وواصلت السير لكن لفت أنظارها ذلك الرجل المقيد الذي يقتاده أخرين بطريقة مهينة متعمدين إذلاله والتحقير من شأنه..
تساءلت عفوياً بنبرة مزعوجة مما يحدث: -هو في ايه؟ ومين دول؟

نظر الصبي إلى حيث هي محدقة، وأجابها بحماس مفاجيء: -أوبا، ده ابن الحاج مهدي مجرور زي الشوال، شكله وقع مع الريس منذر
خفق قلبها بتوتر كبير، وتحفزت حواسها بالكامل بعد سماعها لإسمه.
تساءلت بنبرة مضطربة وهي تحاول ضبط انفعالاتها: -هو. هو انت تعرفه؟
رد عليها حسن بثقة: -مين ميعرفش الريس منذر حرب، دول رجالته، وهما لما بيمسكوا حد بالشكل ده يبقى عمل جناية، وهايتعلق وش!

ارتفع حاجباها بخوف، وهتفت بتوجس: -طب ما تبلغوا البوليس، انتو هاتسيبوه كده
رد عليها الصبي حسن غير مهتم: -مالناش فيه، دي أمور الكبار!
بدت أكثر إنزعاجاً وتخوفاً عن ذي قبل بسبب تخيلها لبطش منذر وما يمكن أن يفعله معها إن علم بتحريرها لمحضر سرقة وإتهامه شخصياً.
ندمت نوعاً ما على تهورها، وأحست أنها تسرعت في تلك الخطوة. ابتلعت ريقها بقلق، وأكملت سيرها بشرود مذعور.

صعد دياب على الدرج بخطوات قافزة ليصل إلى طابقه، لكن قبل أن يبلغ وجهته تسمرت في مكانه حينما رأى بسمة متكورة على نفسها في الجانب وفاقدة لوعيها.
أسرع نحوها، وجثى على ركبته أمامها، ثم مد ذراعه نحوها ليرفع رأسها عن الدرج وهو يهتف بصوت لاهث شبه خائف:
-بسمة! فوقي!
كانت غير مدركة لما يحدث حولها، فقد تهاوت قدماها، وانهارت مصدومة وهي معتقدة أنها باتت مذنبة في نظر الجميع.

ضرب هو برفق على وجنتها محاولاً إفاقتها قائلاً بتوجس: -ردي عليا يا بسمة، إنتي سمعاني!
لم تصدر عنها أي إشارة حيوية سوى فقط بقايا عبراتها المبللة لوجنتيها.
أسند رأسها على صدره، وقام بحملها بين ذراعيه، ثم اعتدل في وقفته، واتجه بها نحو باب منزله ليدقه بعنف.
نظر إليها دياب بإنزعاج كبير، اعتقد في نفسه أنه إشفاقاً على وضعها، لكنه يتخطى هذا الأمر بمراحل أكبر.

بدا وجهه متشنجاً، وعضلاته مشدودة للغاية خاصة حينما وقعت أنظاره على ثيابها الممزقة، وتلك الخدوش والسجحات البارزة في جسدها.
أبعد عيناه بصعوبة عنها، وكز على أسنانه بقوة محاولاً تهدئة نوبته الغاضبة قليلاً.
هو متأكد من براءتها، وأنها لم ولن ترتكب أبداً مثل تلك الأفعال، وعلى يقين تام من بطلان إدعاء الأم.
فتحت جليلة الباب ناظرة إليه بذهول، أخفضت بصرها نحو تلك التي يحملها، وشهقت متساءلة بخوف:
-انت عملت ايه؟

أمعنت النظر جيداً فيها، فعرفت هويتها فوراً، ثم هتفت بنزق وهي تلطم على صدرها:
-بسمة! لأحسن تكون ضربتها هي بدل اللي ما تتسمى!
نظر لها مغتاظاً من ردودها الساذجة، وهتف بنفاذ صبر: -وسعي يامه شوية، مش وقت سين وجيم!
تنحت جانباً، وأفسحت له المجال للمرور وهي تردد من خلفه: -لا حول ولا قوة إلا بالله!
وضعها دياب على أقرب أريكة، فوقفت والدته جواره ممررة أنظارها على جسدها، شهقت مذعورة:.

-يا كبدي ياني، دي متبهدلة خالص!
وكأنها بكلماتها العفوية تزيد من لهيب غضبه الفائر.
رفع رأسه نحوها، وهتف بصوت متشنج: -خليني أنزل أخلص على النصيبة المتسابة تحت!
فغرت فمها متساءلة بتخوف: -نصيبة ايه تاني! هي عين وصابتنا!
حاولت اللحاق بإبنها، وأمسكت به من ذراعه متساءلة: -طب قولي حصلها ايه؟
أزاح قبضتها عنه هاتفاً بحدة: -مش وقته، شوفلها بس حاجة من عندك تسترها، وكلمي الدكتور يجي يكشف عليها!

ألحت جليلة بفضول عليه: -طب فهمني الأول
هتف فيها بصوته المحتد: -أنا جبت جاز يا أمي، فسيبني أولع في اللي تحت!
هتف بجملته، وتحرك خارج المنزل ليفتك بذبيحته الموثوقة بالأسفل.
فركت جليلة طرف ذقنها مرددة بحيرة: -استر يا رب من اللي جاي، احنا هنلاحق على ايه ولا ايه..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة