قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع عشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع عشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع عشر

وافقت بسمة على مضض بقبول ذلك العرض السخي وإعطاء حفيد وابنة عائلة حرب درساً خصوصياً.
كان هذا من الناحية الظاهرية، لكنها في قرارة نفسها أرادت أن توصل رسالة شديدة اللهجة لدياب لكي لا يتدخل مجدداً في أمور حياتها. هي ليست ضعيفة لتستعين بالغير للدفاع عنها أو حمايتها واستعادة حقها المسلوب، فهي كفيلة بفعل هذا بمفردها وبكفاءة.

استعدت للذهاب إلى منزلهم القريب من بناية عائلتها، وعمدت إلى إرتداء أبهى ما تمتلكه لتبدو أنيقة غير عابئة بالمال أو غيره.
رأتها والدتها قبل أن تخرج فهتفت بسعادة: -ربنا يكرمك يا بسمة ويصلح حالك ويحبب فيكي خلقه!
التفتت برأسها نصف التفاتة لترد بجمود: -متشكرين على الدعوة!
أضافت عواطف مشجعة إياها على بذل الجهد: -ارفعي راسنا يا حبيبتي، شرفينا عند الجماعة!

ضاقت نظرات بسمة، وصارتا أكثر حدة، ثم هتفت مستنكرة توصيتها تلك: -هي أول مرة أدي درس، جرى ايه؟!
رفعت والدتها كفها أمام وجهها قائلة بحذر: -خلاص، مش هانشد على بعض، اتوكلي على الله وشوفي حالك
تمتمت بسمة بخفوت وهي تلج للخارج: -يكون أحسن بردك!
تنهدت عواطف بعدها بعنق، واتجهت للمطبخ لتحضر أدوات التنظيف لترتيب المنزل وتنظفه.
في نفس الوقت بالداخل،
وضعت نيرمين يدها على جبهة رضيعتها ( رنا ) فوجدتها ملتهبة للغاية.

جذع قلبها خوفاً عليها، وتحسست باقي جسدها الصغير لتتأكد من ظنونها.
كانت الحرارة تبعثت منها بطريقة مقلقة للغاية، فأسرعت بلفها بالغطاء الخاص بها، وحملتها بين ذراعيها، ثم هتفت بنبرة خائفة:
-ماما، الحقيني!
ركضت إلى خارج الغرفة ضامة إياها إلى صدرها ومحنية عليها برأسها تقبلها بتلهف.
أقبلت عليها عواطف متساءلة بتوجس: -في ايه يا نيرمين؟
أجابتها نيرمين بفزع: -البت سخنة أوي، وأنا مش عارفة أعمل ايه.

هتفت عواطف بتلهف وهي تدنو منها: -وريني كده
ثم وضعت يدها على جبينها لتتحسسه، واتسعت حدقتيها مصدومة حينما شعرت بتلك السخونية المنبعثة منها، فهتفت بهلع هي الأخرى:
-يا نصيبتي، دي مولعة على الأخر!
فزعت نيرمين أكثر، وتساءلت بخوف: -طب والعمل؟ أنا اديتها مخفض بس مش جايب نتيجة معاها
رددت والدتها بجدية وهي تشير بيدها: -احنا نطلع بيها دلوقتي على الوحدة!

وافقتها نيرمين الرأي قائلة: -أنا بأقول كده بردك، الدكاترة يشوفوها ويكشفوا عليها، ويعرفوا مالها!
حركت عواطف رأسها بإيماءة قوية وهي تضيف بصوت آمر: -ايوه، البسي عبايتك بسرعة وأنا هادخل أحط العباية والطرحة عليا وأحصلك!
استدارت نيرمين بظهرها مرددة بتلهف: -ماشي
لم تصدق ولاء أذنيها حينما أخبرتها أمها بما فعلته مع الحاج مهدي وما أجبرته على فعله من أي مصلحة ابنتها.

ارتفع حاجبها للأعلى في حماس كبير، وهتفت مندهشة وقد تهللت أساريرها: -بجد يا ماما؟ قولتي لأبوه مهدي؟!
أجابتها شادية بثقة وهي تبتسم لها بغطرسة: -طبعاً، هو أنا رايحة أهزر معاه!
سألتها ولاء بتلهف وقد تمكن الفضول منها: -وهو قالك ايه؟
تنهدت شادية ببطء، ونظرت إلى طلاء أظافرها بتفاخر، ثم أجابتها بتريث: -هايجيب ابنه وهايعمل الصح!

زادت ابتسامتها إشراقاً، فقد أوشكت على تحقيق خطوة هامة في حياتها، لكن سريعاً ما تلاشت تلك البسمة وحل بديلاً عنها القلق والوجوم وهي تردد بتلعثم:
-بس. بس دياب آآ..
تجمدت تعابير وجه شادية للغاية، وانعقد ما بين حاجبيها بوضوح، ثم قاطعتها قائلة بجدية متحدية:.

-دياب أخره معاكي يرفع قضية ضم لابنه لو عرف بجوازك، ومش هايعرف ياخده أصلاً، لأني هاقف قصاده، وفي الأخر الحضانة هاتروح ليا، يعني القانون في صفنا يا ولاء!
نظرت ولاء لأمها بإندهاش، فلم تتوقع أن تحسب الأمور من منظور قانوني مختلف كان غائباً عنها.
عاتبت نفسها على تفكيرها محدود الأفق مرددة: -إزاي مافكرتش في الحكاية دي
رمقتها والدتها بنظرات مستخفة وهي تجيبها بإهانة: -عشانك عبيطة، باصة تحت رجلك وبس.

زمت ابنتها شفتيها، وزفرت بضيق، فرغم كل شيء أمها محقة، هي دوماً تنظر للأمور من الناحية المادية فقد، ولا تضع مخططات بعيدة المدى بما يخدمها في المستقبل.
أضاف شادية قائلة بمكر: -لازم تفكري كويس وتحسبيها صح وتستفيدي من الكل!
-أها.

ثم تابعت بخبث لئيم وقد برقت عيناها بوميض شيطاني: -طول ما يحيى معانا انتي هاتقدري تاخدي اللي عاوزاه من دياب، وفي نفس الوقت هاتضمني فلوس وأملاك مازن في جيبك وخصوصاً لما تجيبي عيل منه!
كزت ولاء على أسنانها مرددة بغيظ: -ده أنا كنت غبية أوي، خوفي من دياب عاميني عن حاجات كتير!
لوت شادية ثغرها بإبتسامة عابثة وهي تضيف: -طبعاً، اللي برا الحكاية غير اللي جواها!

احتضنت ولاء أمها بقوة، وشكرتها ممتنة لذكائها ودهائها: -ربنا يخليكي ليا يا ماما، دايما في ضهري ومسنداني!
ربتت شادية على ظهرت ابنتها برفق مرددة بجدية: -المهم انتي تركزي الأيام الجاية وتثبتي!
ثم أبعدتها عنها لتحدق مباشرة في عينيها، وأضافت محذرة: -اوعي تباني ضعيفة أو مهزوزة قصادهم! فاهمة!
هزت رأسها بالإيجاب وهي تقول: -حاضر، هاعمل كل اللي تقوليلي عليه بالحرف!

استقبلت الحاجة جليلة بسمة التي حضرت إليها بترحاب كبير.
مسحت على ظهرها بنعومة مرددة بنبرة سعيدة ومهللة: -يا مرحب بالأبلة، نورتي بيتنا يا حبيبتي
ابتسمت لها بسمة بتصنع، وولجت إلى الداخل وهي تجوب المكان من حولها بنظرات سريعة وعامة.
مجيئها إلى هذا المنزل كان تحت ضغط كبير، لكنها مضطرة لهذا لغرض في نفسها.

ربتت جليلة على ظهرها وهي تتابع بحماس: -تعالي يا بنتي أوضة المذاكرة من هناك، هما غاوين يذاكروا في السفرة على التربيذة، واحنا بنسيبهالهم
ردت عليها بسمة بجدية: -اوكي، بس أنا هادي كل واحد لوحده، المنهج مختلف عن بعض!
اتسعت ابتسامة جليلة، ورحبت بالأمر قائلة: -أه وماله، الصح اعمليه، وأنا معاكي فيه!
تساءلت بسمة بإهتمام: -شكراً، بس السفرة مقفولة ولا لأ..؟!

أجابتها جليلة بنبرة عادية وهي تشير بذراعها: -هو محدش بيقعد فيها إلا ساعة الغدا، ولو في ضيوف ممكن تقعدي في أوضة من أوض العيال
-طيب
وفجأة صاحت جليلة عالياً وهي محدقة أمامها: -بت يا أروى، تعالي الأبلة بتاعتك جت، ونادي يحيى خليه يجي يسلم عليها!
ثم التفتت برأسها نحو بسمة التي كانت مصدومة من تصرفاتها، وتابعت قائلة بأريحية:
-إن شاء الله هاتتبسطي معانا، ده زي بيتك!
مطت بسمة فمها لترد بإقتضاب: -إن شاء الله.

سألتها جليلة وهي تبتسم لها ابتسامة عريضة: -ها تحبي تشربي ايه؟ ولا أقولك نجيب أكل الأول؟
هزت بسمة كلاً من يدها ورأسها نافية وهي تهتف معترضة بشدة على ما قالته: -لالالا. أنا جاية أشتغل وبس، مش عاوزة حاجة!
استغربت جليلة من ردة فعلها المبالغة قائلة بعتاب خفيف: -عيب عليكي، ده احنا بيت كرم، ولا عاوزاني أزعل!
ردت عليها بسمة بإصرار: -لأ، شكراً، أنا واكلة وشاربة كويس!

يئست جليلة من إقناعها بتناول الطعام قبل الشروع في درسها، وهتفت متساءلة بحذر: -طيب، أعملك شوية شاي حلوين؟ ها ايه رأيك؟
ردت عليها على مضض مستسلمة لعروضها الملحة: -ماشي!
حافظت جليلة على ابتسامتها المرحبة وتابعت مشجعة إياها على التحرك: -طيب يا حبيبتي، اتفضلي. اتفضلي
لم تتمكن بسمة من رؤية دياب رغم محاولتها اختلاس النظرات، فظنت أنه ربما يكون غير متواجد بالمنزل.

نفضت مؤقتاً فكرة البحث عنه، واتجهت نحو غرفة الطعام لتبدأ مهمتها في الاستذكار مع أبناء عائلة حرب..
وبخ الحاج مهدي ابنه مازن بشدة لخروجه عن المألوف والمتبع وزواجه بطليقة دياب سراً. وظل يكيل له بالكلمات اللاذعة والإهانات الموجعة.
اغتاظ مازن من تحامل والده عليه، وهتف محتجاً وقد اكفهرت قسماته: -جرى ايه يا حاج مهدي، هو أنا أذنبت يعني؟ انا راجل وقادر أتجوز.

صاح به مهدي بغضب: -ايوه بس في النور مش من ورانا كلنا
رد عليه غير مكترث: -اللي حصل بقى!
استشاط مهدي غضباً من برود ابنه المستفز، وعدم اهتمامه بتبعات أفعاله التي دوماً تزج به في المصائب.
هدر به بصوت محتقن: -تصدق انت معندكش دم!
رد عليه مازن بنبرة جامدة: -انت مكبر الموضوع ليه يا حاج، عادي يعني، واحدة زي أي واحدة!
انفجر فيه مهدي بصوت جهوري متشنج: -لأ مش زيهم، ده كفاية أمها الفقر!

نفخ مازن مردداً بنفاذ صبر وهو يشيح بذراعه في الهواء: -يووه!
أضاف والده قائلاً بصرامة: -لازم تتصرف وتصلح الموضوع ده على طول، ومن غير فضايح
ضيق مازن نظراته نحوه، ورد عليه بفتور: -مش فاهم يعني!
أوضح له مقصده بجدية: -هاتجوزها رسمي، ومافيش حد هايخد خبر بده!
تقوس فم مازن بسخرية قائلاً بعدم مبالاة: -قصدك المحروس دياب.

رد عليه مهدي بصوت متصلب وقد اشتعلت نظراته: -أه هو، أنا مش عاوز عداوة معاه ولا مع عيلته، أنا مصدقت إننا خدنا هدنة واتصالحنا
انزعج مازن من أسلوب والده المكبر للأمور، فأردف قائلاً ببرود متعمداً الإساءة إليهم:
-يا حاج انت عاملهم قيمة، وهما مايجوش جزم في رجلنا!
لكزه أباه في كتفه بقسوة محذراً: -خليك إنت كده بتفكر بمخك التخين ده لحد ما تخرب، يا أهبل بص لقدام، مصالحنا كلها معاهم!

رد عليه غير مكترث وقد حل الوجوم عليه: -بناقص منها إن كانت من وشهم!
ثم تابع قائلاً بشراسة: -ده بدل ما ناخد بتار مجد أخويا المحبوس ده!
رد عليه والده بضيق: -بكرة اخوك يخرج من حبسه، فمش لازم تحصله إنت كمان!
صمت مازن وظل محدقاً أمامه في الفراغ بنظرات غامضة يفكر في شيء ما.
راقبه والده عن كثب، ثم دار حوله ليقف قبالته، وسأله بجدية: -ها، هاتعمل ايه؟
رد بإمتعاض: -هاشوف.

صاح به أباه بجدية وهو يشير بسبابته محذراً إياه من التهاون في المسألة: -انجز في الليلة دي، مش عاوز رطرطة كلام فيها! سامعني!
ضغط مازن على شفتيه قائلاً على مضض: -طيب!
حمدت أسيف الله في نفسها أن المسافة من الفندق للمنطقة الشعبية لم تكن بعيدة. وبالتالي لم تحتاج كلتاهما لإستئجار سيارة خاصة لتوصلهما إليها.
استمرت هي في دفع مقعد والدتها عبر الطرقات الجانبية حتى وصلت إلى المكان المنشود.

ومع أول خطوات وطأتها بداخله تسارعت دقات قلبها، وزادت الحماسة بداخلها.
حاولت قدر المستطاع أن تختطف نظرات شمولية عن المكان من حولها لتحفرها في ذاكرتها، فربما لن تتكرر الزيارة مرة أخرى.
زادت حماستها، وتشجعت لسؤال والدتها بتلهف: -هو ده المكان صح يا ماما؟
على عكسها تماماً كانت حنان تعيش في أجواء قلقة ممزوجة بالتوتر.

خفق قلبها برهبة وهي تجوب بأنظارها المكان لترى انعكاس الماضي على جدران تلك البنايات القديمة، واضطربت أنفاسها بدرجة ملحوظة مقاومة تدفق سيل الذكريات القاسية.
نعم فقد عانت الأمرين مع زوجها في صراعهما ضد زوجة الحاج خورشيد، تلك السيدة التي كانت تعتبر التجسيد الحقيقي لمصطلح ( جبروت امرأة )
أعادت أسيف تكرار سؤالها حينما تجاهلت أمها الرد عليها قائلة: -سمعاني يا ماما، ده المكان اللي عايشة فيه عمتي؟

أجابتها حنان بحذر وهي تبتلع ريقها: -ايوه!
ابتسمت عفوياً، واستمتعت بإهتمام بالأجواء من حولها.
تساءلت مجدداً وهي تسلط أنظارها على المحال الشعبية المتجاورة: -أومال هي ساكنة فين؟
احتارت حنان في تحديد البناية التي كانت تقطن بها عزيزة زوجة الحاج خورشيد، فقد مر زمن منذ أن حضرت إلى هنا.
بدت جميع البنايات متشابهة بدرجة كبيرة، فزادت حيرتها أكثر وتخبطت أفكارها.

هزت كتفيها قائلة بإستياء بعد أن عجزت عن تحديد وجهتها: -مش فاكرة يا بنتي
تفهمت أسيف صعوبة الأمر على والدتها، وأردفت قائلة برقة: -مش مشكلة يا ماما، اللي يسأل مايتوهش، هي اسمها عواطف خورشيد، أكيد في حد هايعرفها هنا، صح
ردت عليها حنان بفتور: -جايز!

وقعت عيناي أسيف على محل الجزارة، فظنت أنه ربما يتمكن من مساعدتهما في الوصول إليها، فعلى الأغلب هو يعرف معظم القاطنين بالمكان بسبب تعاملهم معه وشراءهم للحم من عنده.
أشارت بعينيها نحوه بعد أن مالت على والدتها مرددة بجدية: -أنا هاروح أسأل الجزار اللي هناك ده، ممكن يكون عارف بيتها
هتفت حنان قائلة بتأكيد: -احتمال كبير!

أكملت أسيف دفعها لمقعد والدتها المتحرك حتى وقفت بها عند الرصيف، ثم تركتها واتجهت نحو ذلك الرجل الجالس أمام محله.
أشاحت بيدها ذلك الذباب المتطاير أمام وجهها، وابتسمت بود وهي تسأله بنبرة حرجة:
-لو سمحت!
انتبه لها الجزار الذي كان ينفث دخان أرجيلته بشراهة، ورمقها بنظرات مطولة جريئة أشعرتها بالحرج منه.
تابع تأمله لها وهو يرد بصوت متحشرج: -خير يا أبلة؟

ضغطت على شفتيها لتقول بإرتباك قليل وبأدب واضح: -حضرتك متعرفش بيت الست عواطف خورشيد؟
تجهمت تعابير وجهه بدرجة ملحوظة، وأخفض أرجيلته للأسفل ليسندها إلى جواره.
ثم نفخ بضجر، وبدا النفور واضحاً على نظراته وفي نبرته وهو يجيبها بخشونة: -أعوذو بالله من العيلة الفقر دي!
انزعجت من أسلوبه الفظ والوقح في الإساءة إلى عمتها، وعفوياً كورت قبضة يدها وهي تهتف بإمتعاض:
-أنا بسألك عن بيت عمتي، عارف ولا لأ؟

رد عليها بتهكم أثار سخطها للغاية: -هي عمتك، اتلم المتعوس على خايب الرجا!
اصطبغ وجهها بحمرة قوية من إهانته الوقحة، وضغطت على شفتيها محاولة كتم غيظها منه.
هي لم ترغب في إثارة القلق، خاصة في وجود والدتها، حتى لا تفسد الزيارة وتُلتغى قبل أن تبدأ.
عمدت إلى الحفاظ على هدوء أعصابها وهي تعيد سؤاله بقوة زائفة: -عارف بيتها ولا لأ؟

أجابها بتأفف وهو يشير بإصبعيه نحو بناية ما: -البيت الكحيان اللي هناك ده، هتلاقيهم ساكنين فيه!
التفتت أسيف إلى حيث أشار فتجمدت نظراتها على تلك البناية القديمة للحظات.
خفق قلبها بتوتر رهيب، وإنتابتها أحاسيس كثيرة متحرقة فيها شوقاً لمقابلة فرد جديد اكتشفت وجوده مؤخراً من عائلتها.
أفاقت من جمودها المؤقت، وعاودت النظر إلى الجزار بإشمئزاز، ثم تركته وانصرفت دون حتى أن تشكره على تقديمه للعون.

رمقها هو بنظرات مستخفة، وأمسك بأرجيلته ليدخنها بإنزعاج من تجاهلها له، وتمتم بغيظ من بين أسنانه لاعناً إياها:
-هي هاتجيبه من برا يعني، كلهم عيلة، في قلب بعض!
رجعت أسيف عند والدتها وهي ترسم إبتسامة مصطنعة على وجهها، ثم استطردت حديثها مرددة بهدوء:
-خلاص يا ماما عرفت مكان البيت، هو اللي هناك ده!
حركت حنان مقعدها للأمام، وتبعتها أسيف بخطوات متمهلة لكن روحها كانت في حالة حماسة رهيبة.

بعد عدة لحظات كانت كلتاهما تقف أمام مدخل البناية.
بالطبع لم يخلو المكان من هؤلاء الصغار الذين يتراشقون الكرة وهم يلعبون بعنف وصراخ لعل أحدهم يحقق الفوز في مباراتهم الحيوية الهامة.
ابتسمت لهم أسيف بود، ثم استدارت بأنظارها في اتجاه المدخل.
حدقت فيه بنظرات مطولة مدققة في تفاصيل المكان، فكل شيء كان يشير إلى قدمه ؛ الطلاء الباهت، الألوان المطفية، الدرج الخشبي العتيق، والكراكيب المتراصة على الجانبين.

نعم تكاد تشم رائحة عبق الزمن وأن تطأ بقدمين المكان.
اختلف إحساس حنان كلياً عن ابنتها، هي زارت تلك البناية من قبل، منذ سنوات طويلة مضت.
مرت الأيام وتكرر المشهد من جديد
فقد كانت جالسة على مقعدها المتحرك عند هذا المدخل، وتركها زوجها رياض بمفردها هنا ليصعد إلى زوجة أبيه. تلك القاسية الجاحدة التي لا تعرف أي شفقة.

انتاب قلبها الرعب حينما سمعت صراخهما المحتد، وفزعت نظراتها وهي تراه مقبلاً عليها حاسماً أمره بعدم العودة إلى هنا مرة أخرى.
ازدردت ريقها بخوف، وتمنت في قرارة نفسها ألا يتكرر الأمر مجدداً مع ابنتها، فهي لا تزال قعيدة عاجزة حتى عن الدفاع عن نفسها، فماذا عن ابنتها؟

أخفضت أسيف نظراتها لتحدق في والدتها الشاردة، وظنت أنها تفكر في طريقة للصعود للأعلى بمقعدها هذا، والاثنتان بمفردهما، وبالتالي لن تتحمل هي عبء دفعها.
عضت على شفتها بحرج، وتنهدت بعمق، ثم مالت على أمها لتهمس لها: -أنا هاطلع أسأل حد من الجيران عن بيتهم، وأعرف هما ساكنين في أنهو دور وأنزلك يا ماما
هزت حنان رأسها إيجاباً وهي تقول بحذر: -طيب، بس خلي بالك من نفسك
-حاضر.

قالتها أسيف وهي تتجه نحو الدرابزون لتصعد بتريث عليه.
تعلقت أنظار حنان بإبنتها، وخفق قلبها بدقات متتالية.
دعت الله في نفسها بتيسير الأمور عليها.
وصلت هي بعد لحظات إلى الطابق الأول، وسلطت أنظارها على أول باب وقعت عيناها عليه.
ابتلعت ريقها بتوتر بادي عليها، واستجمعت شجاعتها لتقرع الجرس.
عاودت النظر للأسفل لتطمئن على والدتها القابعة عند المدخل.

فتحت إحدى الجارات الباب، وتفرست في أسيف بنظرات حادة مدققة، وسألتها بجمود: -ايوه؟ عاوزة مين يا شابة؟
استدارت أسيف برأسها نحوها، ورسمت ابتسامة مهذبة على شفتيها ساءلة إياها بحرج: -أومال الست عواطف خورشيد ساكنة في أنهو دور؟
أجابتها الجارة بجدية وهي تشير بعينيها للأعلى: -فوقينا بدورين، الباب اللي زي ده
ضغطت أسيف على شفتيها – مع احتفاظها بإبتسامتها الرقيقة – مرددة بإمتنان: -شكراً.

نزلت مسرعة على الدرج لتعود إلى والدتها، ثم وقفت قبالتها، وهتفت بصوت شبه لاهث ومتحمس:
-خلاص عرفت البيت يا ماما، أنا طالعة عندها، وهاعرفها إنك تحت!
مدت حنان يدها إلى ابنتها، وأمسكت بكفها، ثم رمقتها بنظرات جادة قبل أن تنطق محذرة:
-متتأخريش فوق، انزلي على طول، ماشي يا أسيف
أومأت ابنتها برأسها مرددة بطاعة: -حاضر يا ماما، اطمني!

أولتها ظهرها، واتجهت للدرج لتصعد إلى عمتها والحماس الممزوج بالتلهف والفضول يقتادها للأعلى.
ضمت حنان كفي يدها معاً، وضغطت عليهما بقلق واضح رغم تعابير وجهها الجامدة.
هي تخشى ألا تصير المقابلة على ما يرام. وتصدم ابنتها في عمتها الوحيدة.
عاتبت نفسها على تركها بمفردها لتقوم بهذا الأمر دون وجودها لدعمها.
أخذت تدعو الله في نفسها أن يمر اللقاء على الخير وتقابل بحفاوة وترحيب.

أسرعت أسيف في خطواتها لتصل إلى الطابق المنشود.
كانت متوترة بصورة بائنة، ولما لا؟ فتلك هي المرة الأولى التي سترى فيها عمتها الوحيدة.
قبضت بأصابعها على الدرابزون وهي تكمل صعودها.
شعرت أن حلقها قد جف من فرط التوتر أو الحماس، لا تعرف أيهما تحديداً هو المتحكم بها الآن. لكنها متشوقة لرؤيتها.
وقفت أمام باب منزلها، وتلاحقت أنفاسها بصورة سريعة.
سحبت نفساً عميقاً وحبسته لثانية داخل صدرها لتضبط انفعالاتها.

تمتمت لنفسها بتشجيع: -اهدي يا أسيف، واضربي الجرس، إن شاء الله خير
وبالفعل مدت يدها لتقرع الجرس، وانتظرت بترقب فتح الباب لها.
كورت قبضتي يدها ورمشت بعينيها عدة مرات.
لا جديد يحدث، الوضع كما هو. الصمت هو سيد الموقف.
حدثت نفسها مبررة: -يمكن ماسمعتش الجرس!
قرعت الجرس مجدداً، وانتظرت بشغف أن تفتح عمتها الباب وتستقبلها.
طال انتظارها أمامه.
تملكها الإحباط سريعاً، وتشكلت علامات اليأس على محياها.

خبا بريق عينيها، وتهدل كتفيها بضيق.
عللت لنفسها عدم الرد عليها: -جايز. جايز محدش موجود!
زفرت بعمق، واستدارت لتعود من حيث أتت ولكن بخطوات متخاذلة وبطيئة نسبياً وهي تتجه للدرج.
في نفس التوقيت، وصلت عواطف ومعها ابنتها نيرمين ورضيعتها إلى مدخل المنطقة الشعبية بعد أن فحصها الطبيب وأعطاها الدواء المناسب لحالتها.
تهادت عواطف في خطواتها متمتمة بتعب: -كويس إنها جت على أد كده، إحمدي ربنا.

ردت عليها بتنهيدة مطولة: -الحمدلله، البت لسه بتسنن وزورها مقفول!
أضافت عواطف قائلة بصوت هاديء: -خدي من ده كتير، شوية تسخن وشوية حركتها تتقل، يعني من هنا لحد ما سنانها كلها تطلع
ردت عليها نيرمين بجدية: -ربنا يسهل، أنا هاديها الدوا في مواعيده
أكدت عليها عواطف أهمية ذلك الأمر محذرة: -اه لازم، وربنا الشافي
-يا رب
ثم أكملتا سيرهما نحو البناية القريبة.
في نفس ذات الآن،.

بقيت أنظار حنان المتوجسة معلقة بالدرج، وشفتاها تتمتمان بكلمات خافتة للغاية ومبهمة.
الفضول يقتلها لمعرفة نتائج المقابلة الأولى.
وفجأة التفتت برأسها للخلف على صوت صراخ أحد الصغار بحدة: -شوط يا عم، مستني إيه!
تجمدت عيناها على تلك الكرة التي قذفها الأخر بكل ما أوتي من قوة فتحولت لقذيفة موجهة ارتطمت بعنف بألواح الخشب وكراكيب الأثاث المتواجدة على مقربة منها.

اختل توازن تلك الأشياء بفعل الضربة القوية، وبدأت في التهاوي، ولكن عليها.
شخصت أبصارها بهلع كبير حينما رأت تلك الكومة الهائلة تتساقط عليها، فرفعت كفيها أمام وجهها لتحميه، وصدرت عنها – عفوياً – صرخة هائلة ومخيفة..
قفز قلب أسيف برعب جلي في قدميها على إثر ذلك الصوت المألوف الذي تعرفه جيداً.
تجمدت في مكانها لوهلة محاولة إستيعاب تلك الصدمة المباغتة.

كما اتسعت حدقتيها بفزع وهي تستمع إلى صوت إرتطام متتالي ومدوي.
صاحت لا إرادياً بفزع: -ماما!
أفاقت من حالة الشلل المؤقتة التي أصابتها، وهبطت مسرعة على الدرجة محاولة الوصول إلى والدتها.
رأى الصغار ما حدث نتيجة لعبهم الطائش، وصاحوا بخوف كبير بعد سقوط الألواح الخشبية والأثاث على تلك القعيدة محدثين فوضى بالمكان.
تحول المدخل إلى حالة من الهرج والمرج، وواصل الصغار صياحهم المذعور.

تجمع بعض الجيران والمارة عند المدخل لتفقد الأمر.
وصلت أسيف إلى مقدمة الدرج فرأت تلك الكومة الهائلة تغطي أمها.
وضعت يديها على فمها لتكتم شهقة على وشك الخروج منها.
وجحظت عيناها أكثر وهي تلمح جزء من مقعد أمها المتحرك أسفل الأخشاب.
زاد خفقان قلبها، وتلاحقت أنفاسها بصورة مخيفة، ثم أخرجت صرخة هائلة من صدرها:
-ماما. ماما!

ركضت نحوها محاولة إزاحة تلك الأثقال عنها، لكنها فشلت بمفردها، وبقيت عالقة في مكانها، عاجزة عن الوصول إليها.
وكأنها أصيب بحالة هيسترية فواصلت صراخها الهلع والمرعب ليزداد على إثره تجمع الجيران وأهالي المنطقة.
لمحت عواطف من على بعد تلك الحشود التي تقف على مقربة من بنايتهم وتسد المدخل، فتساءلت بإستغراب:
-هو الناس ملمومة هناك كده ليه؟
ردت عليها نيرمين بحيرة وهي تهدهد صغيرتها: -مش عارفة!

ركض أحدهم في اتجاههما، فسألته عواطف بسجية: -في ايه اللي بيحصل؟
أجابها الرجل بصوت لاهث وقلق: -بيقولوا العفش اللي كان في حوش العمارة وقع على واحدة ست!
ارتعد قلب نيرمين، وشهقت مصدومة: -يا ساتر يا رب!
بينما غمغمت عواطف بفزع وقد اضطربت نبضات قلبها: -الطف بينا يا كريم!

وقف منذر على عتبة باب وكالته يوقع على أحد أوراق توصيل إحدى الطلبيات العاجلة لأحد العملاء. ثم أعطى الإيصال إلى عامل لديه، ووجه حديث للسائق الواقف قبالته مردداً بصوت آمر:
-توصلهم عند المعرض على طول، هما مستنين، مش عاوز تأخير، وخد بالك، البضاعة فرز أول!
هز السائق رأسه بالإيجاب: -تمام يا ريسنا!
تابع منذر أوامره مردداً بصوت آجش: -وتاخد منهم إيصال الاستلام، مفهوم!
-اطمن يا ريس!

هتف بتلك العبارة السائق ثم اتجه لشاحنته لينطلق بها.
لاحظ منذر حالة التوتر والإرتباك الحادثة في المنطقة، فنظر بغرابة في أوجه الجميع الذين بدوا وكأنهم يسيرون نحو وجهة معينة.
تحرك عدة خطوات للأمام، ودقق النظر أمامه، ثم وضع كفي يده على منتصف خصره، وتساءل بفضول مع نفسه:
-هو في ايه؟
انتبه لصوت صراخ متتابع، وصياحات عالية، فزاد فضوله أكثر لمعرفة السبب.

ركض ناحيته أحد العمال التابعين للوكالة، وهلل قائلاً بخوف: -ريس منذر، يا ريس منذر
سلط منذر أنظاره عليه، وسأله بجمود وقد قست تعابير وجهه: -في ايه؟
أجابه العامل بصوت لاهث ومتقطع وهو يجاهد لإلتقاط أنفاسه: -عاوزين نطلب يا باشا الاسعاف ولا البوليس يجوا يغتونا!
ضاقت نظرات منذر أكثر، وسأله بجدية: -ليه؟ في ايه؟

انحنى العامل للأمام ليلتقط أنفاسه، وأجابه بصعوبة مشيراً بيده: -بيقولوا في عفش وقع على ولية كبيرة عند بيت خورشيد!
تبدلت تعابير وجه منذر للقلق، وردد بإندهاش وقد إرتخى أحد كفيه عن خصره: -عفش! وحصل للست ايه؟
رد عليه العامل بصوت مرتبك: -مش عارفين إن كانت عايشة ولا ميتة، الجدعان هناك بيشيلوا الخشب من عليها!
أشار منذر بإصبعه للخلف مردداً بجدية: -طب خش اطلبهم من جوا، وأنا هاروح أشوف بنفسي!

حرك العامل رأسه بالإيجاب قائلاً: -ماشي يا ريسنا
مرر منذر يده على رأسه، وهتف لنفسه بصوت جاد لكنه منزعج: -ربنا يعديها على خير!
ثم سار بخطوات متمهلة نحو البناية ليتابع هو الأخر ما يدور.
تسابق الرجال في حمل الكتل الخشبية لإنقاذ تلك السيدة.
وبالطبع صراخ أسيف جعل جميع الجيران يلتفون حولها – وخاصة الجارات – لمواستها والوقوف إلى جوارها، ومنعها من التحرك.
هتفت إحداهن بتفاؤل: -إن شاء الله هيلحقوها.

وأضافت أخرى بضجر محملة اللوم على أصحاب الأثاث: -غلطانين انهم سايبن العفش كده من غير ما يربطوه، ولا آآ..
قاطعتها ثالثة مرددة بجدية: -مش وقته، خلونا في المصيبة دي!
عاد إلى ذاكرة أسيف تلك اللحظات الموجعة و الحزينة - والتي لم تكن بعيدة عنها - حينما فقدت والدها الحبيب.
نفس الحشد، نفس الأصوات المواسية، نفس الوجوه العابسة، مع اختلاف المشهد. فمن تعاني الآن هي أغلى ما تبقى لديها، هي والدتها ونبض فؤادها..

تراقصت العبرات في عينيها، وتعالت شهقاتها مع تذكرها لمشهد وداع أبيها.
حاولت الافلات منهن للوصول إلى أمها والمساعدة في انقاذها، لكنها لم تنجح، فأياديهن كانت محكمة حولها.
واصلت صراخها مرددة ببكاء حارق: -ماما، سمعاني، سيبوني، عاوزة أنقذها، ماما، أنا هنا!
أشفق الجميع على حالها، فحياة أمها على المحك، والكل يتسابق على انقاذها.
وصل منذر إلى المدخل، وبدأ في إختراق الجمع المرابط أمامه ليرى بوضوح ما يحدث.

أثار حواسه الصراخ المفجوع الصادر من الداخل، وبحث بعينين مترقبتين عن صاحبته.
تمكن من بلوغ المقدمة، وأصبح قاب قوسين وأدنى من رؤية السيدة الملاقاة أسفل الأخشاب.
مال بجسده للجانب ليتفادى قطعة أثاث يتناقلها الرجال فيما بينهم ليخرجوها فيفسحوا المجال للمرور.
سقطت أنظاره تلقائياً على ساق مكشوفة ترتعش بحركات عصبية متتالية، فانتفض قلبه بخوف.

صرخة أخرى مكلومة أخرجتها أسيف من صدرها صائحة بهلع أكبر وجسد أمها المتهالك يتكشف من أسفل الحطام:
-ماما، ماما!
رفع منذر عيناه نحو صاحبة الصراخ، فتجمدت نظراته عليها، واتسعت حدقتيه في ذهول عجيب. كما انفرجت شفتاه بصدمة أكبر.
لقد كانت هي. نعم لم يكن لينسى ذلك الوجه البائس للحظة.
و..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة