قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخامس عشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخامس عشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخامس عشر

حاولت عواطف وابنتها المرور بين جموع الأفراد المرابطين أمام مدخل البناية لرؤية الحادث، لكن تعذر عليهم هذا بسبب الحشد الغفير الذي يسد المدخل، فبقيت كلتاهما بالخلفية.
وصل إلى مسامعهما تفاصيل مختلفة عن ملابسات الحادث، ولكن العامل الأساسي المشترك في كافة الروايات التي قيلت أن أثاث نيرمين الموجود بالمدخل كان السبب الرئيسي في إصابة تلك المسكينة تعيسة الحظ.

تأسفت عواطف على ما حدث لها، ومصمصت شفتيها مرددة بحزن مصطنع: -قدرها الغلبانة دي، ربنا ما يورينا مكروه في عيالنا
تساءلت نيرمين بتوجس: -طب يا ترى مين اللي حصلها كده؟
ثم زاد توترها، وضاقت نظراتها أكثر وهي تضيف بخوف: -لأحسن نكون هانروح في داهية، ده. ده العفش بتاعي!
ردت عليها عواطف بقلق عقب جملتها تلك: -ربك يسترها، واحنا ذنبنا ايه، ده نصيبها، مكتوبلها تشوف ده!

هتفت نيرمين بصوت خفيض وهي توميء بعينيها: -لازم نتصرف، الموضوع ممكن يقلب بنيابة وبوليس!
صمتت عواطف لتفكر للحظة في شيء ما.
دار بخلدها حديث دياب السابق عن كون عائلة حرب من كبار عائلات المنطقة، وأنهم المتكفلون دوماً بحل أي مشكلات تواجه قاطنيها، لذا رددت بلا تأخير:
-مافيش غيره، هو الحاج طه، وعلى رأي المثل اللي مالوش كبير بيشتريله كبير!

تعجبت نيرمين من تلك الحالة التي أصابت والدتها وجعلتها تحدث نفسها بكلمات ليست واضحة، وما زاد من غرابتها أكثر هو هرولتها مبتعدة عن المدخل، فلحقت بها هاتفة بتساؤل:
-رايحة فين؟
أجابتها بغموض أثار ريبتها: -هاروح على كبيرنا!
خفقان قوي شعرت به في قلبها حينما بدأ جسد والدتها في الظهور من أسفل تلك الحطام.
وخزات حادة طعنت صدرها بقساوة بالغة وهي تقف مكتوفة الأيدي عاجزة حتى عن إنقاذها.

استشعرت بحواسها كاملة أنينها المكتوم رغم صمتها أمامها.
صرخت بوجع أكبر مستغيثة بمن حولها لعلهم يلبون نداءها المفجوع: -ساعدوها، هاتموت، ماما، سيبوني أنقذها
لا إرادياً تحرك منذر نحو تلك الممددة بلا وعي محاولاً التدخل وإنقاذها.
جثى على ركبتيه، وأزاح بكل قوته ما علق فوقها من أثقال خشبية.
تكالب الرجال فوقه وجذبوا البقية بسرعة ودقة.

ظهرت بقعة من الدماء كانت كافية لتزيد من صراخ أسيف الفزع عليها، ولما لا تفعل، فالمنظر مروع بكافة تفاصيله الحاضرة.
آزرها الجميع في ردة فعلها الطبيعية،
نعم فالمشهد مؤسف ومؤلم في ذات الآن.
كُشف أيضاً عن مقعدها المتحرك، والذي تلقى صدمة كبيرة فطوي عنوة وانكسرت أجزائه.

تمكنت أسيف بصعوبة من التحرر من الأيادي المحيطة بها، فهرولت نحو والدتها، وألقت بجسدها على الأرضية لتجثو هي الأخرى أمام جسدها الذي برز بالكامل من أسفل الحطام.
حدق فيها منذر بنظرات مصدومة، ولكن تلك المرة عن قرب شديد. فقد كانت جاثية إلى جواره
هي نفس التعابير المذعورة، نفس النظرات المرتعدة، ونفس شحوب الموتى المخيف البادي على وجهها.
تشكلت خيوط الدماء الغزيرة حول وجه حنان فاصبغ كلياً بحمرة مقلقة.

احتضنت أسيف جسد أمها، ورفعته إلى صدرها صارخة ببكاء مختنق: -ماما، ردي عليا، ماما!
ضمتها إليها أكثر، وأزاحت بكفها المرتعش الدماء عن عينيها المغمضتين متابعة بصوت أكثر إنتحاباً:
-أنا هنا يا ماما!
انحنت على رأسها لتقبلها وهي تكمل بأنين يقطع نياط القلوب: -ماتسبنيش يا ماما، ماليش حد إلا انتي!
مسحت على وجنتها برفق، وهمست بإستعطاف مختنق: -ماما، سمعاني! ردي عليا وقوليلي إنك كويسة، ماما!

راقبها منذر بصمت إجباري، لم يكن ليتخيل أن يلتقي بها مجدداً في ظرف مؤلم كهذا.
تناسى سريعاً غضبه المبرر منها، فحياة إحداهن على المحك، وأي عتاب أو لوم في هذا التوقيت لن يكون لائقاً على الإطلاق.
أفاق من جموده الإجباري، وانتبه أكثر لمن توشك على خسارة حياتها.
استدار برأسه للخلف وهدر بصوت صارم: -اطلبوا الاسعاف بسرعة، وفضوا السكة!
رد عليه أحدهم من الخلف: -طلبناه من بدري يا ريس وقالوا جايين.

أضاف أحد أخر مردداً بتهكم: -هو في اسعاف بيجي في وقته أصلاً؟!
برزت عروق منذر المتشنجة نوعاً ما من عنقه، وتصلب وجهه أكثر بعد تلك العبارة الأخيرة، وحسم أمره قائلاً بصوت هادر:
-وسعولي المكان، أنا هاوديها بنفسي
وبالفعل اندفع بجسده للأمام نحو أسيف وأمها، حدقت هي فيه بنظرات زائغة، فالعبرات قد شكلت غشاوة على عينيها فلم تتعرف إلى وجهه بوضوح.
دفعها عنوة للخلف محاولاً تخليص قبضتيها عن والدتها ليتمكن من حملها.

رفضت أسيف التخلي عن أمها، وعلق بذهنها ما فعلوه بها حينما كان يوارى أبيها الراحل الثرى، فصرخت وهي تتشبث بها أكثر:
-مش هاسيبكم تاخدوها مني زي ما عملتوا مع بابا، دي هي اللي فضلالي!
وضمتها أكثر إلى صدرها دافعة بقبضتها المرتعشة يد منذر الممتدة نحوها.
حدق هو فيها بذهول كبير متعجباً من عنادها القوي، ومن طريقة تمسكها بأمها.
تجهم وجهه بدرجة واضحة، وصاح بها بصوت خشن وصارم: -سيبها! خليني أعرف ألحقها.

وكأنها لم تكن ترى أو تسمع سوى صوت نفسها.
سيطر على عقلها ذكرى صدى صوت نواح النساء فكاد يصم أذنيها.
أغمضت عيناها بقوة، وواصلت صراخها المختنق ببكائها: -انتو كدابين، ابعدوا عننا بقى!
مالت عليها برأسها، وألصقت ذقنها بجبين أمها الملطخ بالدماء مضيفة بأنين متوسل و موجع:
-ماما فوقي وقوليلهم انك كويسة!

ضاق منذر ذرعاً من تصرفاتها الهيسترية، وحدجها بنظرات حادة للغاية. وقبل أن ينفذ صبره حاول قدر المستطاع ضبط أعصابه للسيطرة على نفسه في تلك المواقف، لذا حسم أمره قائلاً بغلظة:
-كده مش هانخلص النهاردة! اوعي شوية!
مد قبضتيه ليمسك برسغيها، ثم أزاح بإصرار يديها عن أمها، فإهتاجت أسيف أكثر، وصرخت بجنون:
-لأ!
تلوت بمعصميها محاولة تحريرهما من قبضتيه المحكمتين حولهما، وحدقت فيه بنظرات مظلمة:
-ابعد عني، سيبني!

تجاهلها عمداً، ووجه أنظاره للخلف ليصيح بصرامة: -انتو هتتفرجوا علينا، حد ياخدها ويبعدها، يالا!
تحرك على إثر أمره عدداً من الجيران ليمسكوا بها، وتمكنوا بالفعل من إبعادها عن والدتها.
فزاد صراخها الهيستري، وتحركت بجسدها بإهتياج في كل الاتجاهات محاولة التخلص منهم..
استطاع منذر أن يحمل حنان بين ذراعيه، وعاونه اثنين من الرجال في رفع جسدها وتثبيته.

انتبه الجميع لصوت صافرة سيارة الإسعاف التي حضرت إلى المنطقة، فأفسحوا لها المجال، وتسابق البعض في إرشاد المسعفين ليصلوا إلى مدخل البناية..
كان منذر قد سبقهم بالخروج بالسيدة حنان، فاقتربوا هم منه ومعهم الناقلة الطبية.
وبحذر شديد حملوها عنه، وأسندوها عليها.
هتف أحدهم بنبرة جادة: -من فضلكم وسعوا خلونا نشوف شغلنا
رد عليه منذر بصوت غاضب: -وهو احنا كنا بنلعب جوا؟!

هتف المسعف معللاً ببرود: -أي حركة غلط على المصابة ممكن تعرض حياتها للخطر
هدر به منذر بعصبية وقد برزت شراسة نظراته: -هو انتو هترغوا، ماتشوفوا شغلكم!
رد عليه المسعف بسخط: -أومال احنا جايين هنا ليه؟
كان منذر على وشك الاشتباك مع ذلك المسعف بسبب أسلوبه المستفز، لكنه تغاضى عن الأمر عمداً حينما انتبه لصوتها المهتاج، فاستدار برأسه ناحيتها، ورأى تلك البائسة وهي تركض صارخة بهياج نحو سيارة الإسعاف مرددة:.

-ماما. أنا هنا يا ماما، انتي رايحة فين؟
حاول أحدهم منعها من الصعود قائلاً: -يا آنسة ماينفعش!
احتجت عليه قائلة بإنفعال باكي وعبراتها تنهمر بغزارة: -مش هاسيبها، أنا هاركب معاها!
أضاف أحد المسعفين قائلاً بجدية: -خلوها معاها، محتاجين نعرف بيانات المصابة!
نظر لها المسعف الأخر شزراً، ثم أشار لها بيده لتصعد مردداً بإقتضاب: -اطلعي
وبالفعل صعدت على متن السيارة، وجلست ملتصقة بالناقلة الطبية.

ضمت كفي والدتها بين راحتي يدها، ومالت برأسها عليه لتقبله وهي تبكي بحرقة شديدة.
راقبها منذر بإهتمام، لا يدري إن كان مخطئاً في سوء ظنه بها، أم أن الموقف برمته أجبرها أن تظهر بتلك الطريقة الهوجاء.
لكن ما شغل باله حقاً هي تلك الصدفة الغريبة التي جمعته بها مرة أخرى، وما أثار فضوله هو سبب مجيئها إلى منطقته.
ظل في مكانه متسمراً للحظات معلقاً أنظاره على الاثنتين بشرود.

قطع تأمله نحوها صوت أحد عماله قائلاً بصوت لاهث: -العربية يا ريس!
التفت برأسه نحوه، وحدق فيه بنظرات غامضة، فتعجب الرجل من نظراته إليه، وأعاد جملته مردداً باستغراب:
-مش انت يا ريس طلبتها؟
أخفض منذر نظراته ليحدق في سلسلة المفاتيح الخاصة به، ثم رفع رأسه ليحدق في سيارة الاسعاف التي بدأت بالتحرك.

تردد للحظات في تقرير ما يريد فعله الآن. وفي الأخير حسم أمره باللحاق بتلك البائسة ليعرف الإجابات الملحة التي تدور في عقله.
جذب منه المفاتيح، واتجه إلى سيارته، ثم أدارها، وانطلق مسرعاً خلف أثرهم.
وصلت عواطف إلى الوكالة، وولجت إلى الداخل وهي تجاهد لإلتقاط أنفاسها.
جابت بعينيها المكان باحثة عن صاحبه، وتساءلت بصوت لاهث وهي تقترب من أحد العمال:
-الحاج طه فين؟
أجابها العامل بهدوء: -في الحمام!

تنفست بعمق وتابعت قائلة: -طب الله يكرمك بلغه إني عاوزة أكلمه ضروري
رد عليها العامل وهو يوميء برأسه: -حاضر، أول ما يخرج هاقوله
ثم أشار بيده لتجلس على المقعد قائلاً: -اقعدي يا ست
-متشكرة
قالتها عواطف بصوت متقطع وهي تجلس على أقرب مقعد.
ولجت نيرمين هي الأخرى خلف والدتها، وسألتها بصوت متقطع: -ها يا ماما؟ عملتي ايه؟

أجابتها عواطف بإستنكار وهي ترمقها بنظرات حادة: -هو أنا لحقت، ما أنا داخلة قدامك، لسه أما أشوف الحاج طه وأتكلم معاه!
هزت رأسها قائلة بخفوت: -طيب
ضرب الحاج طه بعكازه الغليظ على الأرضية قائلاً بصوت خشن: -سلامو عليكم!
انتبهت لصوته كلتاهما، بينما أكمل متساءلاً مستغرباً تواجد الاثنتين في وكالته: -خير يا عواطف؟ في حاجة؟

هبت واقفة من مكانها مرددة بصوت فزع ومشيرة بكفي يدها: -الحقنا يا حاج طه، احنا واقعين في عرضك!
نظر لها بغرابة أكبر، وتحرك في اتجاهها متساءلاً بهدوء رزين: -يا ساتر يا رب، في ايه اللي حصل؟
أجابته بصوت منزعج وقد بدت ملامحها متوترة للغاية: -مصيبة، وربنا المعبود ما لينا يد فيها!
انعقد ما بين حاجبيه مهتماً، وسألها مستفسراً: -مصيبة ايه دي؟
لم تترك أسيف يد والدتها طوال الطريق، وبقيت تبكيها حسرة وحزناً.

مسحت بيدها على وجهها مزيحة تلك الدماء الملطخة له، تهدج صدرها علواً وهبوطاً وهي تتوسلها بصوت مبحوح:
-خليكي معايا، اوعي تبعدي زي بابا، معدتش عندي حد إلا انتي وبس!
مالت عليها مجدداً لتسند بجبينها على كفها، وأجهشت ببكاء أشد.
وصلت سيارة الإسعاف إلى أقرب مشفى حكومي، والذي يبعد مسافة 10 دقائق بالسيارة، ثم ترجل المسعفون منها، واندفعوا على عجالة لينزلوا الناقلة الطبية للأسفل.

انتفضت في مكانها مذعورة حينما رأتهم يبعدوها عنوة ليجذبوا ناقلة أمها.
أفسحت لهم المجال ليقوموا بعملهم، ونزلت خلفهم وجسدها يرتعش بشدة.
كانت كالتائهة لا تعرف ماذا تفعل بمفردها في تجربة أخرى قاسية من تجارب الحياة.
تلوث فستانها ببقع الدماء لكنها لم تهتم سوى باللحاق بغاليتها.
راقب منذر الطريق بنظرات فارغة وهو يسير خلف سيارة الإسعاف.
حدق في كفي يده القابضين على مقود السيارة بإندهاش.

أخذ يقلبهما متعجباً، كيف لم ينتبه لما بهما.
كانت أثار الدماء متجمدة على أصابعه، توتر لوهلة وهو يستعيد صورة ذلك المشهد الدامي حينما رفعت الأنقاض الخشبية عن تلك المسنة القعيدة.
مازال أثر صراخ البائسة يتردد في اذنيه، نفخ بضيق وهو يضغط بعنف على المقود مردداً من بين أسنانه:
-لو مكانش الظرف كده، كنت اتصرفت معاكي!
أكمل القيادة بصعوبة حتى وصل إلى المشفى، فبحث عن مكان شاغر ليصف سيارته به.

أنهت بسمة درسها مع الطفلين، وأعطت لكل منهما مهمة للاستذكار يؤديها على حسب عمره، واستأذنت بالإنصراف، لكن اعترضت جليلة قائلة بعد أن رأت أطباق الحلوى وكوب المشروب البارد كما هو بالإضافة إلى قدح الشاي.
هي لم تمس أي منهم: -ايه ده؟ دي الحاجة زي ما هي؟!
ردت عليها بسمة بعزة نفس: -شكراً، أنا مش عاوزة حاجة
تعجبت جليلة من فعلتها، وظنت أنها ربما تكون متقززة من تناول الطعام لديها، لذا هتفت منزعجة:.

-اوعي تكوني قرفانة ولا حاجة؟ ده أنا نضيفة، وأكلنا زي الفل وآآ..
قاطعتها بسمة بجدية أكبر مبررة سبب رفضها: -لالالا مش كده والله، أنا ماليش نفس ومش متعودة أخد حاجة عند حد
ردت عليها جليلة بعتاب وهي تحد من نظراتها: -هو احنا أي حد، لالا، انتي كده هتزعليني منك
ابتسمت بسمة بتكلف، وتابعت بهدوء: -معلش، مرة تانية!

مصمصت جليلة شفتيها مضيفة بضجر وهي تضرب كفها بالأخر: -لا حول ولا قوة إلا بالله، يا بنتي ده أنا محطتش حاجة!
حافظت بسمة على ثبات ابتسامتها المصطنعة، وردت بهدوء عقلاني: -شكراً، عن اذنك عشان اتأخرت!
ثم بدأت بالتحرك صوب الخارج، فتبعتها جليلة مرددة بيأس: -ماشي براحتك، أمري لله!
ثم رفعت من نبرتها قليلاً لتقول بحزم وهي تشير بسبابتها: -بس المرة الجاية مش هتنزلي إلا لما تاكلي وتشربي.

أدارت بسمة مقبض الباب هاتفة بتهذيب: -ربنا ييسر، سلامو عليكم
ودعتها جليلة وأغلقت الباب من خلفها، فتابعت بسمة هبوطها على الدرج مرددة بتبرم ساخط:
-هو أنا جاية مطعم أكل وأشرب!
لاحظت هي رباط حذائها الغير معقود، فزفرت في ضيق متمتمة: -استغفر الله العظيم، الرباط اللي عمال يتفك ده، محتاجة أجيب كوتشي بدل ده!

استدارت بجسدها، ورفعت ساقها على الدرجة العلوية وأسندت إلى جوارها متعلقاتها الخاصة، ثم انحنت للأسفل لتعقد الرباط بدقة.
لم تنتبه إلى ذلك الصاعد بتريث منهك إلى نفس الطابق.
فرك دياب مؤخرة رأسه بإرهاق، وأكمل اعتلائه لدرجات السلم ليصل إلى منزله.
تفاجيء برؤية شابة منحنية أمامه تسد عليه الطريق.
أدار وجهه للجانب متحرجاً من وضعيتها تلك، وضغط على شفتيه بضيق.

سمع صوتها تردد بتبرم: -دروس ايه دي اللي الواحد جاي يتخن فيها!
التفت برأسه عفوياً نحوها ليحدق فيها بإندهاش كبير بعد أن خمن تقريباً هويتها.
لقد عرفها على الفور، ونسى دون قصد سبب تواجدها بمنزلهم، هي تلك المشاغبة المتذمرة الناقمة على كل شيء.
تناولت بسمة أشيائها، ثم اعتدلت في وقفتها، واستدارت لتنزل الدرج لكنها تسمرت مصدومة في مكانها حينما رأته أمامها محدقاً بها بغرابة.

حل الوجوم والتجهم على تعابيرها المشدودة، ورمقته بنظرات نارية مغتاظة.
اتخذت هي وضعية التأهب، وباتت متحفزة للرد بقساوة عليه بعد أن أزعجتها نظراته نحوها.
هتفت موبخة إياه وهي تشيح بيدها أمامه: -جرى ايه يا حضرت، مش تعملك صوت ولا حس
ضاقت نظرات دياب نحوها، وحدجها بحدة وهو يرد بصوت غليظ: -نعم؟ انتي بتكلميني أنا؟
هتفت غير مكترثة به متعمدة التقليل من شأنه: -اه انت، ولا على راسك ريشة!

اشتعل أكثر من ردها الوقح الذي يتنافي مع كونها معلمة – ومربية أجيال – تعلم الأدب والتهذيب.
كز على أسنانه بغيظ، وصعد درجتين ليدنو منها.
ظلت هي ثابتة في مكانها، ولكن تشبثت أكثر بدفاترها وحقيبتها، وتجمدت نظراتها عليه.
اقترب دياب منها أكثر حتى صار قابلتها، ورمقها بنظرات مخيفة جعلت جسدها يجفل للحظة، لكنها استجمعت شجاعتها قبل أن تهتز أمامه، وأكملت ببرود متحدية إياه:.

-مش معنى إني لوحدي مش هاعرف أخد حقي من أي حد يتعرضلي لثانية، لأ انت مش عارفني!
قبض أصابعه بقوة، ورد عليها بصوت متشنج من بين أسنانه وقد ضاقت نظراته للغاية: -أنا جاي ومخنوق وعلى أخري، ومش ناقص واحدة زيك تقرفني على أخر اليوم، كفاية نصايبك اللي فاتت!
ثم ضرب بقبضته المتكورة بعنف على الحائط.
انتفضت لضربته المباغتة، وابتلعت ريقها قائلة بصدمة قليلة: -افندم؟

ثم استعادت رباطة جأشها، وصاحت به بحدة متعمدة الهجوم عليه: -هو انا دوستلك على طرف ولا انت بتقول شكل للبيع! عجايب والله!
هتف قائلاً بضيق ومحذراً وهو يضغط على شفتيه: -لسانك ده هيوديكي في داهية!
ردت عليه بجمود: -يعني غلطان وبتكلم، ده بدل ما تتنحنح كده وتقول يا رب يا ساتر، دستور! تعملك حس ولا حركة بدل ما تخضني!
قست نظراته نحوها، وهتف متهكماً: -لا والله.

تابعت قائلة بسخط وقد حل العبوس على وجهها: -اه، هو أنا اللي هاعلمك الأصول!
احتدت نظراته أكثر، وقبل أن يفتح فمه لينطق هتفت مضيفة بتأفف: -وحاسب خليني أشوف اللي ورايا، أنا مش فاضية!
ثم تحركت للجانب لتتمكن من النزول.
تسمر دياب في مكانه مشدوهاً من تصرفاتها الفظة، وهتف بصوت مرتفع علها تدرك خطئها:
-يا ساتر يا رب! أعوذو بالله!

التفتت بسمة برأسها نصف التفاتة، ورمقته بنظرات مزدرية قبل أن تكمل بجمود: -اه وابقى قول لابنك يذاكر أكتر بدل ما يطلع زيك كده!
أوقدت بكلماتها نيرانه الداخلية، فهتف بصعوبة محاولاً السيطرة على نفسه: -إنتي آآ..
قاطعته ببرود وهي تسرع في خطواتها لتهبط عن الدرج: -سلام يا معلم دياب!
ضرب بكفه الدرابزون مردداً بذهول: -يا ربي، دي ايه دي، مش ممكن!

أعاد تكوير قبضة يده متابعاً بتوعد خفي: -طيب! ماشي، هانروح من بعض فين يا بنت عواطف!
تعلقت أنظار أسيف بباب غرفة الطواريء الذي اختفت من خلفه والدتها.
وضعت يدها على فمها لتكتم شهقاتها المذعورة، وظلت تأن بنواح متقطع.
لمحت إحدى الممرضات وهي تلج للداخل فأسرعت خلفها، ثم أمسكت بها من ذراعها وقبضت عليه مرددة بتوسل:
-الله يخليكي طمنيني عليها.

أزاحت الممرضة يدها عنوة من عليها مرددة بإحتجاج: -ماينفعش اللي بتعمليه ده!
استعطفتها أكثر قائلة برجاء وبنبرة مرتعشة بعد أن سحبت يدها: -أنا أسفة، بس. بس آآ. طمنيني عليها الله يكرمك، أنا. أنا معنديش إلا هي!
نظرت لها الممرضة بإشفاق، وردت مستسلمة لبكائها: -حاضر، هاشوفها واطمنك
انتحبت أسيف وهي تقول ممتنة: -متشكرة ليكي أوي، ربنا يباركلك!
تحركت الممرضة للداخل وتبعتها أعين أسيف وقلبها وكل ذرة في كيانها.

ضمت كفيها معاً وقربتهما من فمها، وتمتمت بتضرع: -يا رب نجيها، يا رب احفظهالي يا رب!
وصل منذر إلى الاستقبال، وتهادى في خطواته وهو يبحث بتأني عن مكان البائسة وأمها.
حرك رأسه في كل الاتجاهات محدقاً بتفرس في أوجه المتواجدين.
ثَبُتتْ أنظاره على طيفها البعيد، وتجمدت عيناه على أثرها الغير واضح.
تحرك للأمام بحذر، وضيق نظراته أكثر ليتأملها بتفحص وهو يدنو منها.

كانت تقف ملتصقة بالحائط تبكي وترتجف وضامة ساعديها إلى صدرها، منكسة رأسها بذل للأسفل.
نفخ بضيق، واتجه نحوها بخطى أسرع نسبياً.
ظلت أسيف تبكي غير واعية لما يحدث من حولها، يدور في رأسها فقط عدة سيناريوهات مخيفة إن حدث الأسوأ لوالدتها.
تعالى صوت شهقاتها، فلم تستطع كتمانها.
وقف منذر قبالتها فاستمع بوضوح لنشيجها الحزين.
أغمض عيناه لثانية، ثم أخذ نفساً عميقاً وزفره على مهل.

أعاد فتح جفنيه، ورمقها بنظرات جامدة قبل أن يقول بصوت خشن وهو يقلص المسافات بينهما:
-لولا الظروف الحاصلة كان هايبقالي كلام تاني معاكي!
رفعت رأسها ببطء لتحدق في ذلك الظل الذي غطاها، فرأته أمامها بوضوح.
اتسعت حدقتيها في رعب. وارتفع حاجبها للأعلى بصدمة مفزعة.
لقد عرفته، وجهه لم يكن بالغريب عنها. تلك الملامح المتجهمة الشرسة تذكرها جيداً.
ومع كلماته القاسية المتوعدة زاد يقينها بحجم التهديد الذي باتت فيه.

جفل جسدها منه، وزادت رجفتها.
هربت الكلمات من على شفتيها، وشعرت بجفاف غريب في حلقها.
تابع هو حديثه الجاف مردداً بتساؤل يحمل التهكم والإساءة: -وكنتم جايين تشحتوا من مين المرادي؟ ولا جايين تحصدوا الغلة، بس مجتش الليلة على هواكم؟
حدقت فيه بغرابة، وتراقصت العبرات في عينيها.
هي لم تفهم مغزاه من تلك العبارة الغامضة، لكنها أدركت أنه يظن بها السوء.

حاولت استنباط مقصده، لكنها لم تكن في حالة ذهنية تمكنها من التفكير بصفاء، وضف على هذا انعدام شجاعتها – مؤقتاً – لكي تجابهه أو حتى تردعه عنها.
حاولت الفرار من أمامه، لكنه كان يسد عليها الطريق بجسده ونظراته القاسية والخالية من الرأفة نحوها.
أضاق منذر مردداً بقسوة: -حظك حلو إني بأفهم في الأصول وعارف الواجب كويس، غير كده هنتحاسب على اللي فات، ماهو مش منذر حرب اللي يضحك عليه!

ارتعاشة قوية دبت في أوصالها خوفاً منه.
نظرت له بحيرة محاولة تفسير غرضه رغم إرتعادها منه،
لماذا تلك التهديدات الغير مفهومة لشخصها وهي لم ترتكب في حقه أي جرم
رفع منذر ذراعه للأعلى ليسنده على الحائط الملتصقة به مكملاً بغلظة: -وحسابي مع اللي مسرحك إنتي وأمك!
انتفضت خوفاً منه، وانكمشت على نفسها أكثر.

انقذها من حصاره الوهمي صوت الممرضة وهي تصيح بنبرة عملية: -عاوزينك في الاستقبال تملي بيانات الست المصابة؟ مش انتي معاها؟
تراجع منذر خطوة للخلف مبعداً ذراعه، فتمكنت أسيف من الفرار منه، وأسرعت بأرجل مرتجفة نحوها مرددة بصوت خائف لتنجو بنفسها:
-أنا. أنا جاية معاكي!
سألتها الممرضة بجدية: - نكتب الاسم ايه؟
ظنت أسيف أنها تستفسر عن اسمها هي، فأجابتها بسجية بصوت مبحوح متوتر: -أسيف رياض خورشيد!

انتبه منذر لذلك الاسم جيداً الذي اخترق أذنيه بوضوح، فتحركت عيناه بجمود على صاحبته.
تشكل محياه بتعابير مصدومة إلى حد ما.
فهو يعرف لقب ( خورشيد ) والذي يرتبط بالدكان العتيق موضع الخلاف.
وعلى حسب علمه فهو مملوك لعواطف وشقيقها الذي توفي مؤخراً.
فمن تكون تلك؟
تساءلت الممرضة مؤكدة: -ده اسم المصابة؟
هزت أسيف رأسها نافية وهي تصحح قائلة: -لأ ده اسمي أنا، ماما اسمها حنان آآ..

زاد ذهول منذر أكثر حينما عرف الهوية الحقيقية لتلك البائسة.
ورغم ابتعادها عنه، واختفائها من أمام أنظاره إلا أنه ظل مثبتاً عيناه على ما تبقى من أثرها.
لقد تغير كل شيء الآن بظهور ابنة الوريث الأخر للدكان على الساحة..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة