قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخمسون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخمسون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخمسون

ضرب بقبضة يده على الطاولة الزجاجية لاعنًا حظه العثر الذي انعكس أيضًا على حياته العملية.
نظر له رفيقه ناصر متساءلًا باهتمام وهو يناوله زجاجة الجعة: -وهتعمل ايه دلوقتي؟
أجابه حاتم بقلة حيلة: -مش عارف، المصلحة دي كمان باظت، وأنا كنت متعشم إني أطلع منها بقرشين!
لمعت عيناي ناصر ببريق طامع وهو يضيف مقترحًا: -طب ما ترجع تاني للتهريب؟

وضع حاتم يده على فمه قائلًا بتوجس ومتلفتًا حوله: -ششش. وطي صوتك! محدش يعرف ده!
هز الأخير رأسه عدة مرات مرددًا بإعجاب: -ماشي، بس انت سالك فيها، وليك سكتك ومعارفك
لوى حاتم ثغره مبررًا تراجعه عن القيام بتلك النوعية من العمليات الغير قانونية: -عارف، بس معدتش عندي اللي يخلص!
غمز له ناصر قائلًا بمكر وهو يلكزه بخفة في ذراعه: -اها، قصدك على المدام.

تجهمت قسمات وجه حاتم بالكامل، ورد بامتعاض شاتمًا إياها بوقاحة: -ماتجبليش سيرتها، ولية..!
عقد ناصر مابين حاجبيه قائلًا: -ده انت لسه معبي منها على الأخر
فرك رفيقه وجهه بغل، وأرجع ظهره للخلف مجيبًا عليه بسخط ظاهر في نبرته ونظراته: -جدًا! وعلى رأي أمي جايبة النحس للبيت كله، بس أنا مضطر أتكلم معاها عشان بنتي
أثارت جملته الأخيرة اهتمامه، فسأله بفضول: -هي البت مش معاكو؟

حرك رأسه نافيًا وهو يوضح بفتور: -لأ البت لسه صغيرة، والحضانة معاها!
تجرع ناصر رشفة كبيرة من زجاجته التي أوشكت على الانتهاء، وتجشأ قائلًا: -أها! قولتي بقى!
تابع حاتم حديثه بنبرة ممتعضة: -عاوز أشوفها، بس شايل هم الزيارة دي!
اقترح عليه رفيقه بنبرة عادية: -طب ما تبعت أمك ولا أختك عندها!

التوى ثغره بابتسامة تهكمية وهو يبرر بسخرية: -أمي! إنت بتهزر، دي تطيق العمى ولا تشوف وشها، انت عارف دي عاوزة تولع في البت نفسها عشانها منها!
ثم نفخ بحنق وهو يشير بيده مرددًا بتبرم: -قفل قفل على القرف ده كله، وخلينا نشوف شغلانة تانية نقضيها.
وافقه ناصر الرأي هاتفًا بابتسامة غير مريحة: -طيب! اشرب وانسى يا معلم!

ثم التفت برأسه للخلف ليراقب أوجه تلك العابثات المتواجدات في تلك الساعة المبكرة بذلك الملهى الرخيص منتقيًا من سيعبث معها لاحقًا.
لم يهتم حاتم بما يفعله رفيقه، فباله الآن مشغولًا في البحث عن وسيلة جديدة يتحصل منها على أموال إضافية.
ذرعت غرفة نومها الخاصة جيئة وذهابًا تفكر في تلك الكارثة التي اكتشفتها بغرفة ابنها البكري.

رفضت إلقاؤه في القمامة تحسبًا من شر ذلك الشيء القابع به والذي تظن أنه سيصيبه بالسوء إن أهملته، لذلك احتفظت به في أحد أدراج المطبخ. ثم عادت لغرفتها لتختلي بنفسها بعد رحيل الأختين من المنزل.
ضربت كفاً بالأخر هاتفة لنفسها بقلق ظاهر في نبرتها: -يا خوفي يطلع كلامها صحيح، طب أتصرف ازاي واكلم مين يفيدني في الحكاية دي؟
جلست مستاءة على طرف الفراش تهز جسدها بعصبية مضطربة.

عجزت عن التفكير بذهنٍ صافٍ، وغفلت عن إطعام الصغيرين.
ولج زوجها إلى الغرفة متعجبًا من حالتها الواجمة تلك.
ألقى عليها التحية لكنها لم تجبه، كانت تمتم لنفسها بكلمات مبهمة وكأنها لم تره.
صاح بها بصوت قوي: -سرحانة في ايه يا جليلة؟ عمال أكلمك من بدري، وإنتي في التوهان كده!
انتبهت لصوته المرتفع، ونهضت عن الفراش مرددة باضطراب قليل: -معلش يا حاج، دماغي مشغولة حبتين!

تفرس في وجهها متساءلًا باهتمام: -خير إن شاء الله؟
توجست خيفة من إخباره، فربما يرفض تصديق تلك الخرافات ويتهمها بالجنون، ففكرت سريعًا في إجابة مقنعة.
خرج صوتها مترددًا وهي تقول: -هه، آآ. حاجة البيت ومشاغله اللي مابتخلصش! ما إنت عارف يا حاج، وخصوصًا طلبات العيال!
رد عليها بعدم اقتناع وهو يشير بعينيه المجهدتين: -أها، طيب شوفي الأكل بتاعهم لأحسن أعدين برا يقولولي جعانين!

لطمت على صدرها بعفوية مرددة بضجر: -ده أنا نسيتهم خالص!
ثم أسرعت في خطاها تاركة الغرفة لتطعم الصغيرين.
تابعها طه بنظرات متعجبة، وهز رأسه قائلًا باستنكار: -مالها الولية دي، شكلها مش طبيعي خالص!
همست جليلة لنفسها بامتعاض ظاهر على محياها: -منك لله يا بنت حوا وآدم، دبرها من عندك يا رب، هو ابني ناقص!
تمددت على الفراش شاعرة بلذة انتصارها الساحق في تلك الجولة الجديدة في معركتها معها.

هي لا تعدها ابنة خالها، بل عدوتها التي تتنافس معها في الاستحواذ على محبة الأخرين، خاصة من جذبها بشهامته إليه.
لم تعبأ برضيعتها التي تبكي صارخة لتناول الطعام، وظلت شاردة تفكر فيما فعلته.
لقد أتقنت دورها ببراعة، وتفننت في خداع أمه الساذجة بأبسط الطرق.
همست نيرمين لنفسها متباهية: -زمانها دلوقتي قايدة نار، إياكش النار دي تاكل اللي ما تتسمى!

اندفعت أختها بسمة إلى الغرفة هادرة بضيق: -ايه يا نيرمين؟ مش سامعة عياط بنتك؟
اتجهت للفراش لتحمل الرضيعة بين ذراعيها، وقامت بهدهدتها برفق لتكمل تعنيفها لأختها الكبرى قائلة:
-مش معقول كده! أعدة ولا على بالك، بنتك مفلوقة من العياط وانتي هيمانة على نفسك!
عبست نيرمين بوجهها قائلة بتذمر: -يووه، لازم تعكري مزاجي كل شوية!

نظرت لها بسمة مدهوشة وهي تردد مستنكرة: -أعكر مزاجك! عياط بنتك مش فارق معاكي، ربنا يرحمها من قسوتك!
ردت عليها بسخط جلي: -خدت ايه منها غير غلب أبوها وبوزه الزفت!
-وهي ذنبها ايه؟ ارحميها
نهضت نيرمين على مضض من على الفراش مقتربة منها، ثم مدت يديها قائلة بتجهم ساخر: -طيب يا أم قلب حنين، هاتيها!
رمقتها بسمة بنظرات حادة متمتمة بصوت شبه هامس: -خدي، وربنا يرحمها منك!

كانت حذرة في خطواتها المتباطئة نحو دكانها العتيق حتى لا تؤذي قدمها اليسرى أكثر.
هي تماثلت للشفاء بنسبة كبيرة، لكنها حرصت على عدم الضغط عليها بالسير مطولًا أو بإرهاقها.
لم تشعر بذلك الذي يتربص بها وهو يدنو منها بخطاه المتعجلة، فلم تأخذ حذرها تمامًا.
أصبحت على بعد مسافة قصيرة من دكانها، شردت في اللافتة القديمة متأملة حروفها الغير واضحة.

انتفضت في سيرها فزعة حينما شعرت بيد تتلمس ظهرها، فاقشعر بدنها بالكامل، وشهقت مذعورة ملتفتة برأسها للجانب.
زاد هلعها حينما رأت وجهه المقيت يبتسم لها بصورة أرعبتها كثيرًا.
هي عرفته إنه نفس الرجل الذي قابلته من قبل، ذاك الذي أثار حنق منذر للغاية وأوصله للعصبية في لحظات.
هوى قلبها في قدميها من فرط الخوف.
تراجعت تلقائيًا مبتعدة عنه لتزيح يده المتلمسة لظهرها عنوة.

كانت كمن لدغها عقرب بلمسته المحرمة على جسدها رغم أنها لم تدمْ سوى لثوانٍ لكنها كانت كافية لإشعارها بالنفور والتقزز منه.
نظر لها مبتسمًا باستخفاف مزعج، ثم تحرك قبالتها ممددًا يده نحو وجهها متعمدًا تلمسه فذعرت منه، وأرجعت رأسها للخلف لتتحاشاه.
ابتسم قائلًا بلهو: -وأدينا اتقابلنا يا حلوة!
زاغت أبصارها من كلماته المقلقة، واستشعرت أنها على شفا الوقوع في مأزق كبير.

دنا منها ليحاصرها قائلًا بثقة مشيرًا بيده في الهواء: -دي الحتة كلها أد كده، مافيهاش خرم إبرة إلا وأنا عارفه كويس!
ضمت عفويًا يديها إلى صدرها وكأنها تحتمي منه، لكن لا مكان للهروب منه.
ابتسم لفرض سيطرته عليها، ولاستعادته تلك الذكريات القديمة التي كان يتلذذ بها حينما يرى قوته في خوف ضحاياه من صغيرات السن، فيزداد حماسة ورغبة طامعة فيهن.

غمز لها بعينيه مؤكدًا: -يعني كنا هنتقابل هنتقابل! وأديكي جيتي لحد عندي!
أراد أن يتطاول عليها مرة أخرى لكنها صرخت بفزع لتلفت الأنظار إلى كليهما.
وبالفعل لمحهما رجلي منذر المرابطين عند الدكان، فتبادلا نظرات مزعوجة للغاية. خاصة أنهما يعرفان هوية مجد وتاريخه المشين بالتحرش بالمراهقات والشابات.
هتف أحدهما بتوجس وقد توترت نظراته: -شايف اللي أنا شايفه!
هب الأخر واقفًا من مقعده مرددًا بفزع: -يا وقعة سودة!

لكز الرجل الأول رفيقه من كتفه ليدفعه للأمام قائلًا بحزم: -بينا نتدخل بسرعة قبل ما الدنيا تخرب!
رد عليه زميله دون تردد: -أوام، ده الريس منذر منبه علينا إن شوفناه معاها بالذات مانستناش!
تحرك الرجلان سريعًا في اتجاههما لنجدة المستغيثة قبل أن يتفاقم الوضع.
كركر مجد ضاحكًا من صراخها المذعور هاتفًا باستهزاء: -فكرك هاخاف من الصويت، بالعكس ده بيدخل مزاجي أوي!

ارتعدت فرائصها منه، وانكمشت على نفسها أكثر، وقبل أن تجيب عليه كان الرجلان يسدان عليه الطريق بجسديهما مانعان إياه من الاقتراب منها.
استشاط مجد غضبًا من تدخلهما السافر فيما يخصه، وهدر بهما بعصبية وهو يهددهما بيديه:
-انتو اتجننوا، مش عارفين أنا مين يا..!
تمكنت أسيف من الاحتماء خلفهما، والتصقت بالحائط لتترك مسافة فاصلة بين ثلاثتهم.
رد عليه أحد الرجلين قائلًا بحذر: -عندك يا معلم مجد، ميصحش كده!

ضربه مجد بقبضة يده المتكورة بعنف في صدره هاتفًا بتهكم: -هأو! إنت مين يا، عشان ترفع عينك في عيني وتكلمني؟
ثم رمق الرجلين بنظرات نارية وهو يضيف بسباب لاذع: -ده أنا هاطلع، أهلكم النهاردة!
تحامل الاثنان الإهانة مرغمين، فالتعليمات مشددة بضبط النفس معه، وعدم الانسياق وراء أي مشاجرة يقودهما إليها.
هتف أحدهما بهدوء زائف رغم احتقان وجهه: -يا معلم مجد دي حُرمة، واحنا آآآ..

قاطعه مجد هادرًا بنفاذ صبر: -البت دي ليها كلام معايا، فامشي من وشي انت هو، بدل ما أسويكم بالأسفلت! وبردك هاوصلها!
رد الأخر مضيفًا بنزق: -مش هاينفع، احنا معانا أوامر!
أشعلت كلماته عيناه اتقادًا، فهتف غير مبالٍ باستهزاء كبير: -أوامر، هأو، أو، أو.!
ضاقت نظراته أكثر لتتحول لإظلام مرعب وهو يكمل بتوعد: -والله لو مدير الأمن بذات نفسه موجود ما هيمنعني عنها!

تيقنت أسيف عند تلك اللحظة أن منذر كان محقًا في خوفه المبرر منه. أنها بالفعل واقعة بين مطرقة وسندان.
تطاول مجد باليد معهما محاولًا اختراقهما والوصول إليها، فتعالت شهقاتها المفزعة أكثر وأكثر.
استمر الرجلان في الحول بينه وبينها قدر استطاعتهما رغم تلك الشتائم القاسية التي ظل يتفوه بها.
تراجع خطوتين للخلف لينحني للأسفل ليتلقط أحد الأحجار ثم قذفه بقوة في وجه أحدهما، فأصاب عينه مباشرة.

وضع الأخير يده عليها صارخًا بألم كبير. بينما هجم الأخر على مجد منتويًا ضربه بشراسة.
تعالت صرخات أسيف من هول الموقف، ووجدت نفسها عاجزة حتى عن الدفاع عن نفسها.
انتهت عواطف من مقابلتها القصيرة مع المحامي بالوكالة، واستلمت باقي مستحقاتها المادية.
شكرته ممتنة، واستأذن هو بالانصراف.

وبقيت واقفة بمفردها عند العتبة لبرهة منتظرة قدوم ابنة أخيها تطالع أوجه المارة بنظرات عادية، لكنها لم تأتِ، ملت من الوقوف والانتظار. ففكرت في الذهاب.
دار بخلدها أن تتوجه ناحية الدكان فربما تكون متواجدة به.
ابتسمت لنفسها ابتسامة راضية لأنها ببساطة استطاعت تخمين مكانها.
سارت بتمهل في اتجاهه غير متوقعة ما ستراه هناك.
انقبض قلبها خيفة حينما رأت بعض رجال الوكالة يهرولون مسرعين وكأن في كارثة ما قد وقعت.

قطبت جبينها مرددة بتوجس: -يا ساتر يا رب! هو في ايه؟
في أقل من دقائق، أصبح الشاجر عنيفًا من قبل مجد الذي اعتبر الأمر مسألة شخصية، وكال للرجلين ضربات موجعة مستخدمًا ما تطاله يداه.
تجمع المارة، وتحولت المنطقة أمام الدكان والمحال الجديدة إلى ساحة للاقتتال خاصة بعد حضور رجال مجد من المطعم للاشتباك مع رجال منذر فور أن وصلتهم الأنباء.

لم يستطع مهدي السيطرة على الوضع الذي انفجر كالبركان الثائر في أوجه الجميع.
وتسابق الرجال في ضرب بعضهم البعض بالعصي، والزجاجات الفارغة، وقطع الخشب القديمة، والجنازير المعدنية.
دفع أحد الرجال التابعين لمنذر أسيف للاحتماء داخل دكانها، ولم تتردد هي في الاعتراض، فهو الأمن بنسبة لها حاليًا.
وشكل عدد أخر منهم خطًا للدفاع عن المحال قبل أن تتحطم واجهاتها الجديدة تمامًا من قذف الطوب والحجارة.

احتد صوت تهشم الزجاج وفرقعات النوافذ المحطمة مع صوت السباب النابي.
رأت عواطف ذلك الحشد الغفير المتجمع في المنطقة ويسد الطريق على أي شخص للاقتراب.
إشرأبت بعنقها للأعلى محاولة رؤية أي شيء بالتفصيل.
وللأسف لم تتمكن بسبب التحركات العنيفة للجميع.
تسارعت دقات قلبها خوفًا، وهتفت مذعورة: -أسيف! بنتي!
حاولت اختراق أجسادهم للمرور والوصول إليها علها تكون متواجدة بينهم أو محاصرة من قبل أحدهم.

لكن بدا الأمر مستحيلًا مع هذا الكم من الأدرينالين الذكوري الثائر.
تعالت الصراخات من النساء، والصيحات من الأطفال وكبار السن. فالجميع يهلل بسبب تأجج الاحتدام الجسدي.
أخذت عواطف تضرب على فخذيها بارتعاد حقيقي مما تراه، وتمنت في نفسها أن تكون ابنة أخيها في منأى عن تلك المشاجرة.
لم يعرف أي أحد سبب اندلاعها الحقيقي، لكنها كانت إعلانًا صريحًا بعودة جو المشاحنات العنيفة بين عائلتي حرب وأبو النجا.

كذلك وصلت الأخبار عنها إلى مسامع دياب، فلم يتردد للحظة في القدوم إلى المحال الجديدة للتواجد بنفسه والمشاركة في ذلك التضارب الشرس.
جمع ما يستطيع من عمال المستودع، وكذلك من محبي العائلة حرب ليزداد وطيس الاقتتال بين جموع الرجال الأشداء.
بقيت حبيسة الدكان مرتعدة بداخل جدرانه القاتمة.
لم تصدر صوتًا، وانزوت في أحد الأركان مختبئة خلف المكتب القديم تبكي برعب وهي كاتمة لصوتها الذي يأبى البقاء بداخل جوفها.

لم تتخيل أن الوضع سيسوء إلى تلك الدرجة. اعتقدت فقط أن المسألة مجرد معاكسة عابرة من شخص فج معتاد على الوقاحة مع الفتبات.
لكنه كان أخطر بكثير مما ظنت.
تذكرت كلمات منذر المحذرة لها قبل عدة أيام عن شخصه الوضيع.
هي استهانت بتحذيراته، ورأت الآن بعينيها ما آلت إليه الأمور.

حبست أنفاسها مترقبة اقتحام الدكان بين لحظة وأخرى، فالأصوات صادحة بالخارج، والدقات على الأبواب عنيفة للغاية، بالإضافة إلى تهشم الزجاج الذي يصدر دويًا مرعبًا بين الفنية والأخرى فيزيد من رعبها المشحون.
تنفست بصعوبة، وظنت أنها ستفقد الوعي من هول الصدمة.
تدريجيًا سمعت ذلك الصوت المألوف المطمئن.

إنه صوت صافرات سيارات الشرطة التي أتت بعد وقت ليس بالقليل لتتدخل جبرًا لفض الاشتباك بالقوة، واصطحاب أفراد النزاع للمخفر.
توقعت أن يدخل رجال الشرطة في أي ثانية إلى دكانها لأخذها، فهي العنصر الأساسي في اندلاع المشاجرة.
لكن على عكس توقعاتها، لم يأتِ أي أحد إليها.
بدأت تهدأ تدريجيًا حينما انخفضت حدة الأصوات بالخارج.
شعرت بأن قدماها لا تقويان على حملها، لكنها نهضت لترى الأمر بنفسها.

وبحذر شديد، وحرص بائن في خطواتها اتجهت نحو باب الدكان.
فتحته متوقعة الأسوأ ينتظرها بالخارج.
أطلت برأسها مختلسة النظرات، وتفاجأت بعدم وجود أي سوى حفنة قليلة من الرجال الذين يجمعون بقايا الأشياء المحطمة.
تنفست الصعداء لافظة زفيرًا عميقًا من صدرها.
تشجعت أكثر لفتحه، وولجت للخارج.
ابتلعت ريقها المرير وهي تمرر أنظارها على حطام كل شيء.

رأت بقايا زجاج متناثر بكثافة، و أنصاف زجاجات فارغة متهشمة، ومقاعد خشبية محطمة، وأيضًا قطع من الطوب المُلقي بغزارة على الجانبين، ناهيك عن أجزاء الأحجار الغليظة.
أقبل عليها أحد رجال منذر قائلًا: -ارجعي يا ست على بيتك!
رفعت أنظارها نحوه محدقة فيه بفزع، كان وجهه مليئًا بالكدمات، والجروح السطحية وبعض الخدوش، بالإضافة إلى خيوط الدماء التي امتزجت مع عرقه الغزير.

أخرجها مجددًا من تأملها له صائحًا بحدة: -يالا يا ست من هنا!
أومأت برأسها بالإيجاب، وسارت بحذر فوق قطع الزجاج.
لمحتها عمتها من على بعد فهتفت بتلهف: -أسيف بنتي!
ركضت الأخيرة نحوها وعلى ثغرها ابتسامة عريضة، فقد تسرب إلى قلبها شعورًا بالأمان لمجرد رؤيتها.
احتضنتها عمتها بقوة ضامة إياها لصدرها وهي تهمس بصوت شبه باكي: -الحمدلله إنك بخير، خوفت عليكي أوي.

ضمتها أسيف هي الأخرى مستقبلة تلك المشاعر الدافئة بتلهف كبير، وردت عليها بتلعثم:
-أنا. أنا آآ..
أشارت لها عمتها بعينيها هاتفة بجدية: -تعالي نمشي من هنا، ونتكلم في البيت!
هزت رأسها موافقة، وسارت الاثنتان سويًا، حانت من أسيف التفاتة سريعة للخلف لترمق المكان بنظرات أخيرة مبتلعة ريقها مرة أخرى.
فاليوم كان مشحونًا بأقصى درجات العنف والغضب. ومازالت تجهل توابعه..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة