قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والخمسون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والخمسون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والخمسون

اضطر الضابط المسئول بالمخفر الشرطي الفصل بين مجد وأعوانه، ودياب ورجاله أثناء احتجازهم به حتى لا يتجدد الالتحام اللفظي أو الجسدي بين الطرفين خاصة أنها يعرف العصبية الجامحة في تلك النوعيات من الخصومات الشرسة.
ركض الحاج طه مهرولًا للداخل وبصحبته محامي العائلة، ثم بحث بعينيه سريعًا عن ابنه ضمن المتواجدين، لكنه لم يره.
استدار ناحية المحامي هاتفًا بقلق: -دياب مش باين خالص!

أجابه المحامي بهدوء حذر مشيرًا بيده: -جايز الظابط حاجزهم، ده طبيعي بعد اللي حصل!
رد عليه طه بضجر كبير وهو يضرب بعكازه الأرضية الصلبة: -قلبي كان حاسس إن ده هايحصل، ابن أبو النجا مش ناوي يجيبها لبر! خارج من السجن وحلفان يولعها!
هز المحامي رأسه بإيماءة خفيفة متابعًا بجدية: -اطمن يا حاج طه، أنا هاتصرف، وهاعرف التفاصيل كلها وأبلغك!

أومأ له طه بعينيه هاتفًا بتلهف: -بسرعة يا أستاذ لأحسن أعصابي على أخرها، ومعنتش مستحمل
رد عليه بهدوء وهو يوليه ظهره: -حاضر!
أخرج طه هاتفه المحمول من جيب جلبابه الرمادي، وضغط على زر الاتصال بابنه البكري مرددًا لنفسه بنبرة مكفهرة:
-انت فين يا بني؟
وضع الهاتف على أذنه، فاستمع إلى تلك الرسالة الصوتية المسجلة: (( الهاتف المطلوب غير متاح حاليًا، برجاء ترك رسالة بعد. )).

أبعده عن أذنه قبل أن يكمل الجملة للنهاية محدثًا نفسه بامتعاض: -وده وقت الست دي!
زفر بصوت مسموع مكملًا: -استرها يا رب، هو اليوم باين!
بقي بصحبة رجاله بداخل إحدى غرف الحجز، وعرف سريعًا السبب وراء التشاجر الدامي، فهو قد اشتبك معه أولًا دون أن يتحرى عن الدوافع، المهم ألا يخذل عائلته في أي موقف.

تجهمت تعابيره للغاية بعد كلمات رجاله الموجزة، إنها قريبة عواطف، احتك بها مجد بوضاعة، وأساء لها عن قصد، فتدخل رجال منذر بناءً على تعليماته الصارمة للحول بينهما والدفاع عنها.
صمت ليفكر مليًا فيما قالوه، فأخيه لا يفعل ذلك إلا إذا كان الأمر خطيرًا.
حدق في وجه رجاله المحتجزين هاتفًا بحسم وهو يشير بسبابته أمامهم: -محدش يجيب سيرة حريم في الليلة، احنا مش ناقصين جرجرة ليهم على الأقسام!

رد عليه أحدهم معترضًا: -بس يا ريس دياب، هي الوحيدة اللي آآ..
التفت ناحيته هاتفًا بغلظة صارمة: -ولا كلمة! انتهى!
قطم الرجل عبارته ولم يضف المزيد رغم انزعاجه من قراره الغير حكيم، فشاهدتها مهمة في إثبات حقهم أنهم كانوا في حالة دفاع عنها، وهم المجني عليهم وليس العكس.
وضع دياب يديه على رأسه ضاغطًا عليها بقوة، فالأمر الآن في يد أخيه الكبير منذر ليتصرف بحنكة من أجل إخراجهم من هنا.

ألصق ظهره بالحائط ضاربًا بقبضته المتكورة عليه متمتمًا بخفوت ممتعض: -رجعنا تاني للماضي الاسود!
أدخلتها إلى الفراش مدثرة جسدها المرتعد بالغطاء، ثم مسحت على وجهها بحنو، ومسدت على رأسها برفق هامسة لها بنبرة أمومية دافئة:
-اطمني يا بنتي، انتي في أمان دلوقتي!
لم تتمكن أسيف من السيطرة على ارتجافتها المتواصلة، فصدى الاشتباك الحامي لازال يتردد في أذنيها مجسدًا لها في مخيلتها مشاهدًا عنيفة.

كذلك تلك النظرات الشيطانية الوضيعة ظلت تطاردها كلما أغمضت جفنيها.
هي مرت بوقت عصيب للغاية لا يمكن وصفه بأي كلمات، ومتيقنة من أنها السبب الرئيسي في اندلاعه.
بكت رغمًا عنها متنهدة بشهقات خفيفة مكتومة.
أشفقت عليها عواطف، وانحنت لتقبلها أعلى جبينها متابعة بضجر: -قدر ولطف يا بنتي!
ظلت تربت على كتفها برفق محاولة بث الثقة إليها مرة أخرى.

أزعجها للغاية شحوبها المقلق، فهتفت مهتمة: -أنا هاعملك شوية شوربة سخنين يرجعولك الدموية اللي راحت من وشك دي!
ثم وضعت أناملها على صدغها لتمسح تلك العبرات التي تبلله. ومع ذلك استمرت في بكائها المنكسر.
وبخطى سريعة اتجهت عواطف نحو الخارج متمتمة بكلمات مبهمة. فرأتها بسمة على حالتها الشاردة تلك.
اقتربت منها متساءلة بفضول: -في ايه يا ماما؟ مالك أخدة في وشك كده ليه؟

ردت عليه عواطف بتنهيدة مطولة: -اسكتي يا بنتي، مش قادرة أحكيلك على اللي حصلنا واحنا تحت!
عقدت بسمة ما بين حاجبيها مبدية اهتمامها بحديث أمها المثير، وتساءلت قائلة: -خير؟
أجابتها عواطف بتبرم: -حصلت حتة مضاربة يا ساتر يا رب عليها، ولا في الأفلام!
انتبهت نيرمين للحوار الدائر بينهما وهي جالسة بغرفتها، إشرأبت بعنقها للأعلى مركزة حواسها كليًا على ما تسمعه.

أثار فضولها بشدة سماعها لكلمات غامضة ك ( مضاربة، دكان )، لذا نهضت عن الفراش، وسارت بحذر مقتربة من الباب لتتنصت عليهما دون أن تنتبه أي منهما لوجودها المقلق.
زاد انعقاد حاجبي بسمة وهي تردد باستغراب: -مضاربة! وعشان ايه؟
أجابتها عواطف عفويًا: -عند الدكان بين دياب، وابن أبو النجا!
هتفت بسمة قائلة بنزق: -مع مازن؟
هزت عواطف رأسها نافية وهي تجيبها بتوجس: -لأ، مجد!

تبدلت تعابير وجه ابنتها للضيق وهي تقول: -أعوذوا بالله! هو البلطجي ده خرج من السجن؟
أومأت والدتها بالإيجاب قائلة: -ايوه!
ثم أخفضت نبرتها لتضيف بأسف: -وبنت خالك كانت موجودة في النص وقت ما حصل ده كله!
بدت بسمة متعجبة للغاية مما قالته أمها، فابتسمت قائلة بمزاح: -ليه هي الخناقة كانت عشانها؟
كأنها بعبارتها تلك نجحت في استثارة أختها المتجسسة عليهما، فصارت كالحمم الملتهبة وهي تراقبهما عن كثب.

ردت عواطف بجدية: -مش عارفة والله يا بنتي، هو أنا لحقت أعرف ولا أشوف حاجة، الكل كان ماسك في بعضه، ومحدش عارف ليه!
أضافت بسمة متساءلة باهتمام: -ها وبعدين؟ انتو اتصرفتوا ازاي؟ ودياب عمل ايه معاه؟
أجابتها بضيق موضحة بيديها: -ولا حاجة، وقفت أتفرج من بعيد، والستات تصوت، الناس مقدرتش عليهم، كانت والعة على الأخر، ومافيش إلا البوليس اللي عرف يخلصهم من بعض، وخادهم كلهم على القسم!

ارتخت تعابير بسمة إلى حد ما، وهتفت بفتور: -أها! هيرجعوا يتصالحوا تاني ولا كأن حاجة حصلت! معروفة يا ماما، هي أول مرة!
تهدل كتفي عواطف وهي تقول بتوجس واضح: -الله أعلم! بس المرادي غير!
ثم أشارت بكفها نحو المطبخ متابعة: -أما ألحق أروح أعمل حاجة سخنة للغلبانة اللي جوا، دمها هربان منها على الأخر!
لم تعقب عليها بسمة، بل تحركت في اتجاه المرحاض غير مكترثة بتفاصيل المشاجرة ولا توابعها الخطيرة.

وقبل أن تلج إليه خرجت إليها أختها متساءلة بعبوس جلي: -في ايه؟ أمك بتحكي عن ايه؟
نظرت لها بسمة بحدة وهي تجيبها بتأفف: -اسأليها!
هي مازالت تحمل في صدرها ضيقًا نحوها بسبب صراحتها الزائدة معها.
رمقتها بنظرات أخرى أكثر انزعاجًا قبل أن تتجاهلها كليًا، وتتركها في مكانها لتدخل المرحاض.
تجمدت نظرات نيرمين على نقطة ما بالفراغ، وشردت تفكر بتعمق فيما عرفته.

جمعت خيوط الأمر معًا، ورددت مع نفسها بنبرة غير مريحة: -لو الموضوع زي ما بأفكر ه. آآ.
توقفت عن الحديث، فقد لمعت عيناها فجأة بشيء مخيف، نعم وصل عقلها إلى استنتاج مريب.
زاد بروز ابتسامتها الخبيثة من بين أسنانها. ، وبدت أكثر حماسة عن ذي قبل.
أخذت نفسًا عميقًا لتضبط انفعالاتها مرددة لنفسها بنبرة أقرب لفحيح الأفعى: -اهدي كده يا نيرمين واحسبيها كويس عشان تظبط معاكي صح!

رفعت حاجباها للأعلى متابعة بجموح شيطاني: -ولو زي ما أنا مفكرة يبقى هرتاح منها خالص!
وضعت يدها على جرحها تتحسسه، فزاد إحساسها بالكراهية نحوها.
هي تخلت عنها في أشد أوقاتها احتياجًا لها، ولم تتقبل مطلقًا أنها فعلت ذلك من أجل مصلحتها.
ولولا خوفها من العودة إلى منزلها لما وطأت بقدميها منزلها مرة أخرى.
دنت منها شادية محاولة تهدئتها بعد أن ثارت ثائرتها، لكنها أبعدت يدها عنها هادرة بعصبية:.

-بعتيني يا ماما وقبضتي التمن!
ردت عليها بحذر: -مش كده يا حبيبتي!
صرخت فيها ولاء بحدة مستنكرة قسوتها: -هونت عليكي تعملي فيا كده؟!
هزت رأسها معترضة وهي تبرر لها: -لا يا حبيبتي، إنتي أغلى ما عندي، بس. بس كنت هاعمل ايه مع مجد ابن ال، ده، إنتي مشوفتيش كان بيتكلم ازاي! وتهديده ليكي وآآآ..
قاطعتها قائلة بصراخ أشد: -أنا مش مصدقة، مازن قتل فيا أكتر حاجة الواحدة ممكن تحسها، حرمني من آآ..

وضعت يدها على فم ابنتها لتكتم صوتها الصارخ، وهتفت قائلة وهي ضاغطة على شفتيها: -شششش. كل حاجة وليها علاج! أنا سألت الدكتورة في المستشفى وآآ..
ردت عليها ولاء بنبرة منفعلة: -انتي بتضحكي عليا ولا عليكي، هو انتي مفكراني جاهلة.
حاولت شادية أن تهون عليها، فأضافت بدون تفكير: - طب فكري في ابنك يحيى!

وكأنها تعمدت اثارة مشاعرها الغاضبة أكثر. هي تحثها على الاهتمام بابنها، وتتناسى عن عمد أنها حرمت من أبسط حقوقها كأنثى، أن تصبح أمًا مرة أخرى.
ردت عليها بنبرة محبطة وهي تنظر لها شزرًا: -ابني اللي مرمي في حضن أبوه!
ردت عليها أمها معترضة: -انتي ناسية الحضانة معايا، يعني نقدر ناخده بالقانون!
زادت نظراتها حنقًا، وهتفت غير مصدقة تلك القسوة الظاهرة عليها، فصاحت بها: -انتي بتبرري لنفسك يا ماما؟!

جاهدت شادية لتمتص غضبها، هي مدركة لعدم تقبلها لذلك الاتفاق، لكن من وجهة نظرها لم يكن لديها أي بديل سوى القبول به.
وضعت كفيها على ذراعيها قائلة برجاء خفيف: -افهميني بس
أزاحت قبضتيها عنها صارخة بعصبية: -مش عاوزة أفهم، بقي عاوزة تقنيعني إنك عملتي ده لمصلحتي، أنا مش مصدقة، تحطي ايدك في ايد اللي قتل ابني ودبحني!

ردت عليها متبرمة من ضيق تفكيرها المحدود: -مجد كان هيضيعك لو معملتش كده، ومازن قصاده ولا حاجة، مش هايقدر يقوله حتى لأ، انتي مش عارفاه كويس زيي!
احتدت نظرات ولاء، وهتفت مهددة بلا وعي: -حقي اللي ضاع منهم هارجعه!
حذرتها والدتها قائلة بجدية: -متتهوريش، وسبيني أفكرلك، وصدقيني هاتكسبي من اللي حصل!
امتعض وجه ولاء للغاية، فحديث أمها ماهو إلا كالملح الذي يوضع على الجرح الملتهب ليزيد من ألمه، فصرخت بجنون:.

-كل حاجة عندك بالفلوس وليها تمن، عينيك مابتعرفش تحسب غير هاخد من ده كام، وده هيدفعلي أد ايه!
اختنق صوتها أكثر وهي تضيف: -وأنا احساسي كأم ضاع للأبد، بس انتي قبضتي تمنه ومش مهم أنا عاملة ازاي ولا حالتي ايه، وابني نفسه بتاجري بيه عشان الفلوس اللي هاتدخل جيبك!
نظرت لها شادية بجمود، ثم ردت عليها: -أنا مش هحاسبك على الكلام ده دلوقتي، انتي مضايقة ومش في وعيك! بكرة تعرفي إن غرضي هو مصلحتك انتي وبس.

لم تصغِ إلى كلمة واحدة مما قالته، بس بكت محدثة نفسها بقهر وهي تنظر لها بأعين مغلولة:
-حرام عليكي! انتي خليتني زيك مش بأفكر في حاجة إلا بتمنها، لحد ما خسرت كل حاجة، وأولها أنا، وبقيت ولا حاجة. ايوه، ولا حاجة!
تعذر عليه الحصول على شاحن لإعادة شحن هاتفه الذي فقدت بطاريته كامل طاقتها، فأصبح مجرد قطعة معدنية لا فائدة منها.

استغرقه إنهاء الإجراءات القانونية الخاصة بالشحنة الجديدة بالميناء وقتًا أكثر من المتوقع، وعلى مضض كبير تحمل هذا التأخير لينتهي منه تمامًا.
وما إن اطمأن من عدم الحاجة إلى وجوده حتى تحرك مبتعدًا ليعود إلى سيارته، ولكن استوقفه أحد معارفه هاتفًا بترحاب ودود:
-منذر حرب!
استدار منذر برأسه ليرى ذلك الذي يناديه باسمه، فتابع الرجل قائلًا بحماس عجيب: -عاش من شافك يا راجل.

دقق النظر في وجه الرجل، وعرفه توًا، إنه أحد رفاقه القدامى منذ دراسته بكلية التجارة.
دنا منه أحمد محتضنًا إياه ومتساءلًا باهتمام: -ايه يا راجل انت شكلك ناسيني؟
ابتسم مجاملًا وهو يرد بهدوء واثق: -لأ ازاي، أحمد يسري! هو انت تتنسي!
كركر أحمد ضاحكًا بمرح وهو يتابع: -حبيبي يا منذر، قولي بقالك كتير مجاتش بورسعيد؟
أجابه الأخير بهدوء: -لأ بأجي، من وقت للتاني، بس انت عارف مشاغلي.

ربت أحمد على كتفه قائلًا: -الله يكون في العون!
حافظ رفيقه على ابتسامته الواسعة وهو يكمل بألفة: -بجد فرحان إني قابلتك النهاردة، فكرتني والله بأيام زمان!
رد عليه منذر مبتسمًا ابتسامة باهتة: -الله يخليك يا أحمد!
أضاف أحمد قائلًا بجدية وهو يشير بيده: -قولي، ناقصك حاجة أخدمك فيها، أنا قديم هنا في الشغل وليا لي وضعي!
رفع منذر حاجبيه للأعلى مبديًا إعجابه وهو يرد: -طب كويس!

أكد رفيقه على رغبته في تقديم أي عون له هاتفًا بمرح: -مش هزار والله، تعالى الأول أعزمك على أكلة بوري إنما إيه مش هاتدوق زيها في الجمهورية بحالها
رد عليه منذر مقتضبًا في حديثه: -يدوم يا رب، بس أنا مستعجل شوية
بالطبع كان عقله مشغولًا بما يمكن أن يكون قد حدث أثناء غيابه.
أصر رفيقه القديم على دعوته مرددًا: -هو أنا لحقت أشوفك، ده احنا عاوزين نرغي شويتين تلاتة ونسترجع الذكريات إياها!

ضغط منذر على شفتيه هاتفًا: -وقت تاني معلش
تجمدت تعابير وجه أحمد قائلًا بتفهم: -شكلك مستعجل
رد عليه منذر بنبرة جادة تحمل الإزعاج: -يعني حاجة زي كده، وبعدين موبايلي فاصل ومش معايا شاحن، وآآ..
قاطعه أحمد قائلًا بحماس مريب: -دي حاجة بسيطة، أنا معايا واصلة بأشحنها بيها من اللاب بتاعي، هاتوه أشحنهولك شوية!
تحرج منذر منه، فرد معتذرًا: -مافيش داعي، أنا كده بتعبك معايا.

استنكر رفضه لعرضه قائلًا بعبوس: -تعب ايه بس، دي حاجة بسيطة، مسافة ما نشرب الشاي كده يكون شحن حبة!
ابتسم منذر ممتنًا: -تسلم يا أحمد، طول عمرك أبو الكرم والذوق
-الله يكرمك يا منذر!
ثم سار الاثنان سويًا في الرواق الواسع متجهين نحو أحد المكاتب الإدارية.
رأها منذر فرصة مناسبة لإعادة شحن بطارية هاتفه، فربما لن يتمكن من الحصول على شاحن مناسب في الوقت الحالي.

تابع أحمد حديثه المهتم متساءلًا: -قولي بس أخبارك ايه؟ اتجوزت وبقى عندك عيال ولا لسه؟
رد عليه منذر بجمود: -اتجوزت، بس مراتي ماتت!
عاتب رفيقه نفسه قليلًا لتسرعه في ذلك السؤال، فاعتذر قائلًا بندم ملحوظ: -لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا أسف يا صاحبي، معنديش خبر والله!
رد عليه منذر مقتضبًا: -ولا يهمك!
تابع قائلًا بنبرة مواسية: -البقاء لله، ربنا يعوضك خير
-يا رب
تساءل أحمد بحذر: -كان عندك ولاد منها؟

انزعج منذر من ثرثرته المزعجة، وأجابه بامتعاض: -لأ! ربنا مأذنش!
تنحنح أحمد بخشونة مرددًا بتفاؤل: -كله خير من ربنا، إنت لسه في عزك، ولو عاوز عروسة من هنا أجيبلك ألف! أشر انت بس وأنا هاقوم بالواجب كله معاك!
التفت منذر ناحيته ليبتسم مجاملًا وهو يرد: -أدها يا بوحميد.

على الجانب الأخر، تمكن مهدي وابنه الأصغر مازن والمحامي التابع للعائلة من الالتقاء بمجد، وبالطبع لم يخفَ عليهم حجم المشكلة العويصة التي وقع بها هو.
بدا مازن في حالة قلق مستمر، وظهر هذا جليًا على ملامحه. فهو لم يسلم بعد من تبعات مصائبه مع زوجته وأمها ليجد أخيه الأكبر في مصيبة أخطر.

رمقه مجد بنظرات متفرسة مستنكرة ضعفه الغير مبرر، فهو على عكسه غير مكترث بما تؤول إليه الأمور، المهم دومًا ألا يكون لقمة سائغة.
صاح قائلًا بقوة موجهًا حديثه له: -افرد ضهرك، مالك محني زي النسوان كده ياله!
رد عليه مازن بتوتر: -خايف عليك يا مجد!
تقوس فمه للجانب قائلًا بسخرية: -لأ متخافش، أنا واخد على كده، السجن للرجالة!

ضاقت نظرات والده نحوه، فابنه لا يتوقف عن حشر نفسه في بوتقة الكوارث، وهتف بنزق معنفًا إياه بحدة:
-ارتحت دلوقتي، كان لازم يعني تشبك معاهم، إيش حال مكونتش مفهمك وموعيك عن المصالح اللي بينا!
رد عليه مجد بقسوة شرسة مُطلقًا سباب لاذع: -عاوزني أسكت لشويه العيال ال، ، أسيبهم يعملوا رجالة عليا، ده أنا طلعت، أبوهم!
نهره أباه قائلًا بضجر كبير: -طب اسكت خالص خلينا نفكر هانحلها ازاي!

تحولت نظرات مجد للقتامة، وتابع بعدم مبالاة: -يا أبا جمد قلبك، احنا أدهم وأدود.!
مال المحامي على رأس مهدي ليهمس له بجدية: -عاوزك في كلمتين يا حاج!
تحرك معه مبتعدًا عن ابنه البكري حتى لا يفسد الحوار بينهما بحماقاته المتهورة.
هتف متساءلًا بقلق: -خير يا سي الأستاذ؟
أجابه المحامي بنبرة عقلانية: -من رأيي انكم تتصالحوا، وضع الأستاذ مجد حرج!
اتسعت حدقتيه بتوتر أكبر، فهو إلى حد ما محقًا في رأيه.

أكمل المحامي حديثه المهم مرددًا: -من أقوال الشهود واللي عرفته إنه هو اللي بدأ الخناقة، ولو ده إتاخد ضده، وكيل النيابة هيحبسه على طول، وخصوصًا إنه لسه خارج قريب، يعني ممكن يعتبروه مثير للشغب، وآآآ..
تسارعت دقات قلب مهدي عقب تلك الجملة المنذرة بالخطر، وهتف محتجًا: -لأ يتحبس ايه، اتصرف يا أستاذ وامنع ده!

تابع المحامي موضحًا بهدوء رزين: -أنا مش عاوز أوجع دماغك بوضعه القانوني يا حاج مهدي، بس خلاصة كلامي اتراضوا هنا قبل ما المحضر يوصل للنيابة!
أومأ الأخير برأسه متفهمًا وهو يرد بنبرة غامضة: -طيب! أنا هاتصرف!
أعاد تشغيل هاتفه بعد برهة حينما تأكد من وجود ما يكفي لعمل البطارية، فتفاجأ بكم الرسائل المتتالية الواردة إليه، والتي تبلغه بورود عشرات الاتصالات في فترات زمنية متعاقبة.

خفق قلبه بخوف، وجاهد ليبدو وجهه خاليًا من أي تعابير مقلقة.
ودع رفيقه متحججًا بضيق الوقت، ثم أسرع بترك المكتب متفقدًا على عجالة تلك الرسائل المتتالية.
عرف هوية المتصلين، وتيقن أن هناك خطب ما، فكلها تخص رجاله وعائلته.
هاتف أولًا أبيه مترقبًا رده بقلق ظاهر على تعابير وجهه.
رد عليه الأخير قائلًا بتوبيخ شديد: -انت فين يا منذر من بدري؟
حافظ على ثبات نبرته وهو يتساءل بترقب: -خير يا حاج في ايه؟

هتف والده بعصبية: -في مصيبة حصلت، الكلب النجس مجد وقع مع أخوك دياب، واتضاربوا وكلهم دلوقتي محجوزين في القسم!
اشتدت قسمات وجه منذر تشنجًا عقب عبارته الموجزة والتي أثارت بداخله كمًا هائلًا من الغضب.
تمتم بصعوبة من بين شفتيه محاولًا امتصاص انفعاله: -بالراحة كده يا حاج عليا، وفاهمني بالتفصيل ايه اللي حصل..
لم يستطع تبين تفاصيل ما حدث من أبيه، فأغلب حديثه كان مقتضبًا أو غير مشبع لفضوله الذي يقتله.

أصبح تفكيره منصبًا على شخص واحد، هو فقط من يرغب بمعرفة ما الذي فعله، وخاصة إن كان للأمر علاقة بها.
هاتف أحد رجاله ليفهم منه طبيعة الأمر.
صدق حدسه، وتحققت مخاوفه.
لا إراديًا تحولت نظرات عينيه للقتامة والإظلام، وتشنجت تعابير وجهه للغاية حينما سمع من رجله:
-احنا عملنا زي ما أمرتنا يا ريس، وحمينا الست قريبة الحاجة عواطف، صاحبة الدكان!

تمتم عفويًا من بين شفتيه بصوت هامس لكنه يعكس الكثير عن نيرانه المتأججة بداخله: -أسيف!
لقد حدث ما كان يخشاه، وتعمد ذلك الدنيء التحرش بها بشراسة، فتحول الأمر مجددًا لمسألة عدائية معه.
هتف منذر بصياح مهدد: -ابن ال، ده مش سايبه!
رد عليه الرجل بجدية: -اطمن يا ريس منذر، احنا قومنا معاه بالواجب، وسي دياب عَلِم عليه هو كمان وآآ..

وقبل أن يواصل حديثه أجبره منذر على الصمت مرددًا بقوة مقلقة: -أنا راجع في السكة، سلام!
كز على أسنانه بعنف ليهدر من بين أسنانه وهو يضرب بعصبية على مقود سيارته: -انت جبت الناهية معايا!
أدار محرك السيارة، وضغطت على دواسة البنزين لينطلق عائدًا غير مكترث بتخطيه لحدود السرعة القانونية المسموح بها على طرق السفر..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة