قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والسبعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والسبعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والسبعون

تناولتها من بين يديه برفق لتضعها على كتفها، وقامت بهدهدتها كي تستيكن الرضيعة وتغفو بعد صراخها المتواصل، فنظر لها ذلك الشيطان البشري بأعين شبه نادمة على ضياع تلك الفرصة الثمينة هباءً، لكن إن تهور أكثر من هذا، لربما فُضح أمره، ونال ما يستحقه، تنفس الصعداء لتريثه، ثم عاد للصالة مجددًا ليتخذ من أقرب أريكة مقعدًا له.

ولجت لبنى بالرضيعة رنا إلى داخل غرفة نوم ابنها لتدثرها في فراشه، وتأكدت من إحاطتها بالوسادات كي تضمن سلامتها في حال وقوعها إن غفت عنها.
أحضرت شاهندة صينية تحمل القهوة مرددة بفتور: -اتفضل يا أستاذ ناصر، حاتم زمانته على وصول
التفت ناحيتها برأسها مبتسمًا بهدوء مريب: -براحته!

انحنت أمامه لتضعها على الطاولة، فجمد أنظاره على منحنيات جسدها بوقاحة جريئة، لكنها لم تنتبه لنظراته الخبيثة، واكتفت فقط بالابتسام مجاملة له، قبل أن تكمل تحركت مبتعدة عنه، فأخرج تنهيدة حارة من صدره دون أن يبعد نظراته عنها.
انتفض في مكانه مفزوعًا على إثر صوت فتح الباب، فجف حلقه، وارتبك بشدة، شعر بتلك السخونة المقلقة تنبعث منه حينما سأله حاتم باستغراب:
-ناصر! انت هنا من بدري؟

ازدرد ريقه قائلاً بتلعثم طفيف: -اه يا سيدي، فينك من بدري، غلبت أطلب عليك وانت مش بترد!
أسند ما معه من أكياس بلاستيكية على الأريكة معللاً: -معلش، كنت بأجيب طلبات للبت رنا
فرك ناصر ذقنه برفق متنحنحًا بخشونة: -احم. ربنا يخليهالك!
صمت للحظة ليجمد أنظاره عليه قبل أن يستأنف قائلاً: -بس فاتك كتير!
حك حاتم مؤخرة رأسه متسائلاً: -هو حصل ايه؟

تركت ذلك الكهل يصطحبهم إلى أرض قريبها الزراعية رغم معرفتها بمكانها، فهي لم ترغب في الذهاب إليه بمفردها، خشيت من تطاوله عليها، فاحتمت بوجودهم حولها، استمر عقلها في التفكير في جملته الغامضة، وطرح عقلها العشرات من الأسئلة التي جعلت أفكارها تتخبط أكثر وتزداد حيرة.

وصلوا إلى الحقل المملوك لفتحي، فأوقف منذر سيارته على الجانب، نزع زكريا خفيه، ووضعهما أسفل ذراعه متجهًا نحوه بعد تركه لدراجته القديمة، تبعه الأخرين سائرين بحذر، فرأوه يجلس كعادته أسفل تلك الشجرة العريضة يستظل بها، تباطأت أسيف في خطواتها بوضوح حينما وقعت عيناه عليها، وبدت علامات التوتر مسيطرة عليها، لم تنسَ المصادمة الحامية بينهما، ولا ما حدث مؤخرًا في المنطقة الشعبية، وكذلك كان الحال معه، لم يغب عن عقله لثانية تلك المذلة التي تلقاها بسببها.

ارتبك للحظة من وجودهم، فظن أنه ملعوبه قد كُشف، لذا عمد إلى استخدام الأسلوب الهجومي ليصرف الانتباه عنه، فعبس فتحي بوجهه قائلاً بتبرم:
-خير يا زكريا، جاي ليه؟
أشار له بيده موضحًا: -الجماعة بيسألوا عليك
نظر لهم شزرًا وهو يقول: -استغفر الله العظيم، نعم، جايين ليه؟
رد عليه منذر معاتبًا بتجهم ظاهر على محياه: -دي سلامو عليكم بتاعتك يا حاج فتحي، ولا خلاص نسيت الأصول والواجب؟!

أضاف دياب بامتعاض: -باين عليه شايل من المرة اللي فاتت، مع إنه هو اللي جه علينا!
رمقهما فتحي بنظرات مشتعلة، فكلاهما تعمدا تذكيره بما مضى عله يفكر مرتين قبل أن يتفوه بأي حماقات، لكنه خالف توقعاتهما ولجأ لطريقة أخرى، فصاح عاليًا ليلتفت الانتباه:
-جايبالي الافندي ده هنا ليه يا بنت حنان؟ ردي!

ارتجف جسدها من نظراته المهددة، وانكمشت على نفسها مرتعدة منه، رأها منذر على تلك الحالة المذعورة، فتقدم بجسده أمامها ليسد عليه الطريق هاتفًا بانزعاج:
-كلامك معايا أنا يا حاج فتحي!
رمقه فتحي بنظرات احتقارية وهو يسأله: -بصفتك ايه ياخويا؟
أجابه تلك المرة دياب بتفاخر واضح: -ده خطيبها يا عم الحاج، وقريب هايتجوزوا!

لوى فتحي فمه للجانب مرددًا باستهجان: -أها، قولتيلي بقى، والمطلوب مني ايه؟ أبارك وأهني، ولا أحط راسي في الطين وأسكت!
اغتاظ منذر من طريقته التهكمية التي تحمل بين طياتها إعلانًا صريحًا بسوء النوايا والظن، فصاح به بانفعال كبير وهو يهدده بيده:
-ما تتكلم عدل يا حاج، هو انت شايفنا عاملين الغلط؟

أرادت أسيف أن تسيطر على الموقف قبل أن يسوء بينهما ويتطور إلى مشاجة أخرى، هي تعلم جيدًا نهايات مثل تلك الخلافات، فهتفت بنبرة مرتجفة:
-أنا جاية اسألك عن بيت بابا واللي حصل فيه! فلو سمحت..
قاطعها فتحي قائلاً بحدة: -ولع، وخلصنا!
خرج من جوفها شهقة قوية متأثرة، هي لم تلملم جراحها بعد، ورؤية المنزل محترق مازالت متجسدة أمام أنظارها، وهو يضغط على جرحها بقسوة مفرطة وكأنه يتلذذ بتعذيبها.

بدا غير مقتنع بما قاله من مبررات مبهمة، فرد عليه منذر بحنق واضح في نبرته وفي عينيه:
-كده من الباب للطاق؟
لوح فتحي بذراعه أمام وجهه صارخًا فيه: -روحوا المركز اسألوا، حد قالوكم إن أنا بأشتغل مأمور أخر النهار، الحكاية دي متخصنيش!
صاح فيه دياب بنفاذ صبر: -ازاي يعني، مش البيت ده بتاع قريبتك، والطبيعي إنك..

قاطعه فتحي قائلاً بتهكم مسيء وهو يسلط أنظاره على أسيف ليصل إليها مقصده الصريح: -أنا ماليش قرايب مفضوحين وجايبلنا العار!
فهم منذر تلميحاته الموحية بسوء السمعة، فهدده بشراسة بادية في نبرته: -نعم، ما تحترم نفسك يا جدع انت!
أجهشت أسيف ببكاء أشد مستنكرة ما يقول، وقبل أن تنفرج شفتاها لترد، تدخلت عمتها هي الأخرى في الحديث، فلم يرقَ إلى مسامعها اتهامه الباطل لها، فهتفت مدافعة عنها بعصبية:.

-لأ عندك، اقف عوج واتكلم عدل، اللي بتغلط فيها دي بنت أخويا المرحوم، الراجل اللي كنت واكل معاه عيش وملح، ولا نسيت!
هب من مكانه واقفًا ليحدجهم بنظرات نارية، ثم هتف من بين أسنانه المضغوطة: -انتو جايين تتخانقوا بقى!
انتصب منذر بجسده أمامه، وبدا متحفزًا للهجوم عليه، قرأ فتحي هذا بوضوح في عينيه، فعمد إلى التمسك بما يردده، فربما نجاته تعتمد على ذلك الادعاء الزائف:.

-بس أنا ماليش كلام مع واحدة زيها، الله أعلم إن كانت غلطت في الحرام ولا..
لم يقوَ على احتمال المزيد من حماقاته المتهورة، خاصة أنها تمسها تحديدًا، فقاطعه بانفعال جلي مهددًا بإنهاء حياته:
-شكلك عاوزني أدفنك في أرضك!
منعه من الهجوم عليه ذراع أخيه الأصغر وتشبثه به بقواه الجسمانية ليمنعه من الاشتباك معه، نظر له فتحي بأعين محتقنة، ثم هتف ساخرًا:.

-خش عليا بالفتونة والعضلات، لأ انت هنا وسط أهلي وعزوتي، وبكلمة واحدة مني هتترجموا كلكم، ده أنا الحاج فتحي يا سبع البرومبة!
نظرت له بسمة بازدراء وهي تهمس لنفسها: -الراجل ده زبالة، شكله مش مريحني، وناوي على حاجة!
هدر فتحي عاليًا وملوحًا بذراعيه في الهواء ليجذب الأنظار إليه: -تعالوا يا أهل البلد، اتجمعوا يا ناس وشوفوا الفضايح اللي بتحصل هنا.

بدأ الأنظار تتجه صوبهم بعد صياحه المثير للفضول، وتجمع معظم المتواجدين بالأراضي الزراعية ليتابعوا باهتمام ما يحدث، لم تصدق أسيف ما يفعله، وتلفتت حولها بذعر بائن، هو حتمًا سيحدث فضيحة لن تمحى بسهولة من الذاكرة، وأمام أهل قريتها الذين يعرفوها عن ظهر قلب.
هتف دياب مصدومًا: -الراجل اتهبل في عقله!
رد عليه منذر بحنق: -ده مش طبيعي أصلاً!

أحاطت عواطف ابنة أخيها التي كانت ترتجف بذراعها علها تبث إلى روحها الأمان، ووقفت إلى جوارها بسمة تمسح على ذراعها بود لتؤازرها.
لمح فتحي من على بعد الحاج إسماعيل، فهتف عاليًا وهو يشير إليه: -تعالى يا حاج إسماعيل انت كمان اتفرج على المسخرة اللي بتحصل هنا!

انتبه له الأخير، وسار بخطوات متمهلة نحوه، خاصة بعد أن عرف أغلب الأوجه الواقفة أمامه، وفي أقل من دقائق احتشد الجميع لمتابعة الموضوع باهتمام، تابع فتحي صراخه المتنمر:
-شوية الواغش الفلتانين دول جايين يصيعوا عليا، يرضيك ده يا حاج إسماعيل؟!
استنكر منذر طريقته المستفزة، فهدر به معلنًا بعدائية: -ماتخلنيش أتهور عليك، أنا جبت أخري!

أمسكه دياب جيدًا ليمنعه من الانقضاض عليه مضيفًا باستنكار: -لم نفسك يا حاج، مش عاوزين نتجن عليك!
وبدهاء ماكر أبعد فتحي الشبهات تمامًا عنه ليوجه تفكيرهم نحو أمر لا يخطر على الأذهان مطلقًا..
-هما ساكنين هنا!

قالتها نيرمين وهي تصعد على الدرج بخطوات أقرب إلى الركض محاولة الوصول إلى ابنتها والانتقام منهم بعد اعتدائهم العنيف عليها، حررت محضرًا رسميًا ضد عائلة طليقها الأسبق بمساعدة الحاج طه، واتهمت فيه والدته وابنتها بتدبير مكيدة لاستدراجها، واصطحبت أفراد الشرطة معها لكي تأتي بابنتها، حاز البلاغ على الاهتمام بسبب تلك التوصيات المعروفة من الوسطاء الهامين من ضباط الشرطة ذوي الرتب العالية، فتحرك فورًا للتحقق منه.

كورت نيرمين قبضة يدها، ودقت بعنف على باب المنزل صارخة بعصبية هائجة: -افتحوا يا حرامية! افتحوا يا خطافين العيال يا..
حذرها الضابط المسئول قائلاً: -بلاش تغلطي يا مدام، كده انتي هتوقعي نفسك في مشاكل
ردت عليه بحدة وهي تلقي بطرف حجابها لخلف كتفها: -يعني أسيبهم يا حضرت الظابط..
قاطعها طه قائلاً بصرامة قبل أن تتهور: -خلاص يا نيرمين، اسمعي كلام الباشا!
ضغطت على شفتيها مرددة على مضض: -حاضر يا حاج طه!

فتحت لبنى الباب غير متوقعة تلك الطلات الرسمية أمامها، فاتسعت حدقتيها بتوتر قليل، لكن فسرت الأمر بديهيًا حينما رأت نيرمين تدفعها مقتحمة منزلها وهي تصرخ بقلب ملتاع:
-وسعي من وشي، هاتولي بنتي!
صدتها لبنى بكل قوتها هاتفة بزمجرة مغتاظة: -مالك داخلة كده ليه هجم عليا
استخدمت نيرمين كفيها لتدفعها بشراسة أكبر وهي تقول باهتياج: -اوعي، بنتي، هاتوهالي!

صاحت لبنى بقلق قليل: -يا حاتم، تعالى يا سيدي شوف النصايب اللي جاية علينا!
أتى ابنها من الداخل ممسكًا بمنشفته ليجفف بها يديه المبتلتين ممررًا أنظاره سريعًا على أوجه المتواجدين، فتوجس خيفة منهم، ثم تمتم بحذر:
-يا ساتر، خير يا باشا؟
رد الضابط بهدوء جدي: -المدام مقدمة فيكو بلاغ بتتهمكم فيه بخطف بنتها!
لطمت لبنى على صدرها مرددة باستنكار تام: -والله عيبة في حقنا، بقى احنا نخطف بنتنا! إخص على كده!

أضاف حاتم قائلاً بارتباك طفيف: -يا حضرت الظابط، أنا أبوها، ودي ستها، والبت خدتها من عندها تقضي اليوم معانا، ازاي هاكون خاطفها؟
تفاجأت نيرمين من إدعاءاتهما الباطلة، وكأنهما يدبران لها شيئًا ما، فصرخت بجنون: -يا عالم يا ظلمة، ده انتو ضربتوني وعدمتوني العافية هنا
رد عليها حاتم ببرود حذر: -محصلش، أنا لسه جاي من برا، وبأغير هدومي!

اشتعلت نظراتها، وغلت الدماء في عروقها من أسلوبه المستفز، وهدرت فيه بصوتها الذي بح من كثرة الصراخ:
-ده صاحبك ناصر كان واقف و..
قاطعها قائلاً بتجهم: -بطلي تتبلي على الناس، صاحبي أصلاً مسافر!
استشاطت نظراتها على الأخير، فرفيقه الوضيع كان يضع يديه النجستين على جسدها، وشعرت هي بجرأة لمساته عليها، فاختنق صوتها وهي تنفي كذبته:
-كدب، ده كان. كان..

قطمت عبارتها مجبرة كي لا تشير إلى فعله الفاضح معها فلا يظنوا بها السوء، لكن تهدج صدرها بأنفاسها المضطربة بداخلها، أخرجها من صمتها المجبر صوت لبنى القائل بتلهف:
-يا باشا، وما ليك عليا حلفان أبدًا!
ادعت البكاء متابعة بحزن مصطنع: -بنتنا وحشانا، وهي حرمانا منها، كلمتها واسترجتها تجبهالي كام ساعة أملي عيني منها، ووافقت على ده، وبعتلها ابني ياخدها، تقوم هي تعمل فينا محضر، شايف الجبروت والافترا.

صرخت فيها بلا وعي غير مصدقة كذبها الملفق: -أما إنكم عالم ولاد كلب فاجرين لا ليكم ذمة ولا عندكم ضمير، أنا عملت كده يا ضلالية؟
أشارت لبنى بيدها للضابط قائلة بامتعاض كبير: -شايف يا باشا بتغلط فينا ازاي، سجل عندك، أنا عاوز أعمل فيها محضر سب وقذف!
رف الضابط كف يده أمام وجه نيرمين محذرًا بجدية تامة: -اهدي يا مدام!

صرخت قائلة ببكاء: -والله كدابين، هما مدوا ايدهم عليا، طب شايف الزرقان اللي في وشي ولا الضرب اللي على جسمي!
نظرت لها لبنى شزرًا قائلة باستهجان: -يا شيخة روحي ارمي بلاكي على ناس تانيين!
تجمدت أنظار الضابط على وجهها مرددًا بتساؤل جاد: -أنا في القسم سألتك إن كان عندك شهود وإنتي أكدتي بدل الواحد في عشرة!

ردت عليه لبنى بتلهف: -شهود مين، احنا أعدين في حالنا كافيين خيرنا شرنا، وهي اللي جاية علينا، حسبي الله ونعم الوكيل، منك لله يا مفترية!
هدرت فيها نيرمين بجموح: -بتحسبني في وشي، ده بنتك إلهي ايدها تتقطع كانت معاكو و..
قاطعتها لبنى هاتفة بحدة: -بنتي، اتقي الله شوية، هي راحت مع أهل عريسها من بدري، مش موجودة في البيت!
ثم التفتت برأسها ناحية الضابط لتكمل حديثها بثقة: -وتقدر يا حضرت الظابط تكلمهم وتتأكد!

ضربت نيرمين فخذيها بقوة صائحة بسخط: -منكم لله، ربنا يولع فيكم!
تابع طه الموقف برمته دون أن يبدي أي تعليق، لكنه فهم أنها مكيدة دنيئة وضعت بإحكام لتلقين نيرمين درسًا قاسيًا، وهي كالمغفلة وقعت فيه بسذاجة، شعر بتلك النيران التي تآكلها بسبب الظلم والتجبر، فوضع على عاتقه رد حقها لاحقًا، لكن بتعقل شديد ودون تمهل.

تنحنح بصوت خشن موجهًا حديثه للضابط: -معلش يا حضرت الظابط، احنا عاوزين البت لأمها، ميرضكش يفضل قلبها متشحتف كده عليها!
نظرت له نيرمين بأعينها الدامعة غير مستوعبة أنه الوحيد الذي وقف إلى جوارها في تلك المحنة العويصة، نشج صوتها وهي تقول:
-هاتولي بنتي، أنا مش هاتعتع من هنا إلا وهي في حضني
ردت عليها لبنى بسماجة مستفزة: -وهو احنا هنموتها، دي لحمنا!

تابع الضابط محذرًا وهو يشير بسبابته للجميع: -يا ريت أي خلافات أسرية تحلوها بشكل ودي يا إما تلجأوا للمحكمة!
رد عليه حاتم بقلق خفيف وهو يحك فروة رأسه: -إن شاء الله يا باشا، أنا بس عشان خاطر الفضايح هالم الليلة، استني هاجيبلك البت!
استند طه بكفيه على رأس عكازه، ثم ابتسم للضابط مرددًا بامتنان: -تعبناك معانا يا باشا.

رد عليه الأخير على مضض: -حاج طه لولا التوصيات والمعرفة اللي بينا كان ممكن يتقلب الوضع ضدها ويبقى بلاغ كاذب، و..
قاطعه طه قائلاً بعشم: -يا باشا انت بنفسك شايف وشها عامل ازاي، يعني أكيد مش هاتعمل كده في نفسها
-بس معندهاش اللي يثبت
-عندك حق، كتر خيرك على مجيتك واهتمامك!
-ده واجبنا
خفق قلب نيرمين بقوة حينما رأت رضيعتها بين يدي طليقها السابق، هرولت ناحيته لتأخذه منه، ثم ضمتها إلى صدرها بقوة وهي تبكي:.

-رنا، بنتي!
انهالت على وجهها كله بالقبلات الأمومية، هي ابتعدت عنها لساعات لكنها كانت كافية لتدرك أهميتها، ضمتها مجددًا إليها، ثم رفعت أنظارها في وجه طليقها وأمه، نظرت لهما شزرًا، وهمست بتقزز:
-عالم ولاد، ، اتفووو!
صاح بها طه محذرًا قبل أن تتهور: -نيرمين!
تحركت ناحيته لتنظر إليه بامتنان وهي تقول: -تسلملي يا حاج طه، والله من غيرك ما كنت هاعرف أتصرف ازاي ولا أرجع بنتي!

أشار لها بعينيه قائلاً بصرامة: -قدر ولطف، يالا بينا من هنا!
أسرعت في خطواتها محكمة ذراعيها حول رضيعتها لتلج خارج المنزل متمتمة بكلمات خافتة لكنها تحمل السخط نحوهما، انصرف أفراد الشرطة في إثرها ومعهم الحاج طه، فأوصد حاتم الباب خلفهم.
نظر إلى والدته بانزعاج قائلاً: -عاجبك كده يامه، كان ممكن نروح في داهية!
تغنجت بجسدها مرددة بعدم اكتراث: -عدت خلاص، بلاش نبر بقى!

تابع حاتم موبخًا والدته: -ياباي! هو حد فيكم أصلاً كان طايق البت ولا أمها عشان تقولوا لحمنا وعرضنا!
بررت فعلتها قائلة بغيظ: -أنا كان غرضي أحرق قلبها وأمرمطها، وأديني عملت اللي أنا عاوزاه وزيادة، بس لسه ناقص شوية عشان أرتاح خالص!
ألقى حاتم بثقل جسده على الأريكة مرددًا بإنهاك: -ربنا يستر من نيتك السودة يامه!

عَمِد إلى حشد أكبر عدد من المارة والعاملين بالحقول المجاورة لأرضه الزراعية ليؤجج من انتقام أخر لاح في عقله، أراد فضحها، إذلالها بطريقة مهينة تعجز عن الرد عليها، ويستعيد عن طريقها اعتباره الذي خسره من قبل، تيقن منذر أن ذلك الرجل ينتوي شرًا، لن يقدم على استدعاء كل هؤلاء الأشخاص من أجل لا شيء، هو يفكر في أمر ماكر وخبيث، لم يحد بنظراته عنه، بل ظل مثبتًا إياهم عليه مهددًا بوعيد شرس إن تجاوز المعقول.

هتف فتحي بنبرة جهورية: -شوفوا يا ناس، الهانم بنت الأصول، دارت على حل شعرها وفجرت على الأخر، وجاية تقولي يا خال انجدني بعد ما ريحتها فاحت!
جحظت أسيف بعينيها في ذهول تام، وصدرت عنها شهقت مصدومة من افتراءه الباطل، ناهيك عن خفقان قلبها في قدميها من هول كلماته المفجعة، هو يعلن صراحة أمام الملأ عن فحشها، عن ارتكابها للأفعال المشينة، أي شيء سيصدق بعد إدعائه ذلك؟!

وضعت عواطف يدها على صدغها غير مصدقة كذب ذلك العجوز، ونظرت إلى ابنة أخيها بأبصار شاخصة، لم يختلف حال بسمة عنها كثيرًا، فالكل مصدوم بتصريحه المهلك.

بلغت عصبية منذر الذروة، لم يعد يتحمل المزيد من أكاذيبه الباطلة، خاصة ما يتعلق بها، ودون تريث دفع أخيه بعنف ليتجاوزه، واندفع ناحيته بعصبية مشحونة على الأخير ليمسك به من تلابيب ياقة جلبابه، هزه بعنف رامقًا إياه بنظرات نارية قاتلة، ثم هدر صارخًا فيه بجموح مدمر:
-إنت راجل ناقص، وأنا مش سايبك النهاردة!
أدار فتحي رأسه للجانب مستغيثًا بفزع: -حوشوه عني يا ناس! هايموتني عشان بأقول كلمة حق.

سبه منذر هادرًا بغضب جم: -كلمة حق يا..!
تدخل الناس سريعًا للفض بينهما، لكنه رفض إفلاته، بل ظل متشبثًا به، عاقدًا العزم على ضربه نظير افتراءاته الكاذبة عليها، وبصعوبة واضحة تمكن أكثر من خمسة أشخاص من جره بعيدًا عنه مقيدين حركته، لكنه كان يقاومهم بكل ما أوتي من قوة ليعود إليه، وشكل أخرون حاجزًا حول فتحي ليحموه منه، فاستغل الفرصة ليضيف بعبث متقن:
-بيستقوى على راجل أد أبوه، شايفين!

صرخ فيه منذر بصوت متشنج: -كلمة زيادة غلط وهاطير رقبتك!
رد عليه أحدهم بحدة: -تطير رقبة مين، إنت مفكر نفسك مين يا جدع انت؟
وأضاف أخر مهددًا: -ده احنا نفدي الحاج فتحي برقبتنا!
بينما أشار أخر إلى أسيف بيده معلنًا بكلمات موحية: -الدور والباقي على اللي مالهاش أهل يلموها
أجهشت هي ببكاء مرير صارخة بحسرة موجوعة: -حرام عليكم، أنا معملتش حاجة!

ضمتها عواطف أكثر إليها وكأنها تحميهم من بطشها هاتفة بتأثر: -انتو عالم ظلمة، دي بنت أخويا، وأعدة معايا وفي بيتي ووسط بناتي!
رد عليها فتحي بإهانة: -ده أنا أول مرة أشوفك يا ست انتي، أل بيتها أل!
لم تتحمل بسمة هي الأخرى ظلمه البين، فصاحت بانفعال مستنكر: -انت تعرف ربنا، انت حاج انت؟!
نظرت له أسيف بأعينها المغرورقة بالعبرات هاتفة بصوتها المبحوح، والممزوج ببكائها الذي يقطع نياط القلوب:.

-حرام عليك يا خالي، ليه بتقول عني كده؟
ثم رفعت رأسها لتوجه حديثها إلى من حولها قائلة بعتاب أكبر: -ده أنا بنتكم، ومتربية وسطكم وعلى إيديكم، وعمري ما عملت حاجة تغضب ربنا ولا..
قاطعها فتحي بازدراء قبل أن تستجدي قلوب الأخرين: -وأنا ايش دراني، هو أنا كنت قاعد معاكي، وشايفك!

سيطر دياب على أخيه بمجهود كبير مانعًا إياه من التهور، فقد خرجت الأمور عما هو مألوف، وأصبح الوضع يشير إلى تبعات مخيفة، وظل الأخير يقاوم بشراسة أذرعهم المكبلة له ليفتك به، راقبه الحاج إسماعيل بتوجس كبير، وأدرك أن الوضع قد تفاقم وتأزم كثيرًا، فهتف عاليًا مبديًا محاولة بائسة في فرض شخصيته على الحضور:
-خلاص يا حاج فتحي، مش كده! اعملي اعتبار! ولم الليلة شوية!

رد عليه بعبوس مظهرًا عدم اقتناعه: -ماشي يا حاج إسماعيل، بس يكون في معلومك إن حل الحكاية دي في ايد المحروسة، هي تثبتلنا إنها بختم ربها وقصاد نسوانا!
ارتفع حاجبي الحاج إسماعيل للأعلى مستنكرًا ما لفظه توًا وهو يردد مصدومًا: -نعم؟ قصدك ايه؟!

اتسعت حدقتي منذر على الأخير عقب فهمه لمقصد ذلك الدنيء، هو أدار ببراعة الدفة ناحيته، لتنقلب الأمور في صالحه، ويجبر الجميع على ظن السوء في تلك البريئة اليتيمة، وبالتالي لكي تثبت طهرها وعفتها عليها أن تتجرد من ثيابها أمام عدة نساء لتتولى إحداهن فحصها حتى تتأكد من نقائها.

تجمدت العبرات في مقلتي أسيف محاولة استيعاب ما يريده منها، فخرجت أنفاسها لاهثة وهي تجاهد عقلها لتفسير الأمر، كان عسيرًا عليها أن تصدق أنها في موضع الاتهام، أنها تعامل كالعاهرات العابثات.
التوى ثغر فتحي للجانب متابعًا بخبث: -هو ده اللي يخليني أصدق انها زي ما هي!
تسائلت بسمة بعدم فهم وهي توزع أنظارها بين أوجه من حولها: -هو قصده ايه بالكلام ده؟

لم يجبها أحد، وظلت الأنظار كلها متجهة إلى أسيف التي كانت في موقف حرج؛ فإن رفضت طلبه وعاندته، فسيثبت للجميع صدق كذبته الباطلة، وستسقط في أنظارهم، وستنبذ فورًا من بلدتها لكونها ساقطة لعينة، وسيلحق العار بعائلتها وبنسلها من بعدها، ستحرم من الكثير من حقوقها، أما إن قبلت بتلك المهانة، وأباحت لغيرها بالإطلاع على أكثر الأمور قدسية لها، فستخسر ثقتها بنفسها، وستتدمر معها نفسيتها كثيرًا، شعرت بنظراتهم المتهمة لها تخترقها وتؤكد دعمهم له رغم صمتهم، أدركت أن خيارها بات إلزاميًا، وقبل أن تحرك شفتيها المرتجفتين لتعلن عن قرارها النهائي، هدر صوت منذر بصرامة غير قابلة للنقاش:.

-مش هايحصل، محدش هايقرب من مراتي ولا يشوفها..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة