قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والثلاثون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والثلاثون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والثلاثون

صف سيارته على مقربة من ذلك المطعم الحديث الذي اتفقا على اللقاء عنده.
جاب بأنظاره المكان بنظرات سريعة شمولية، ثم نظر إلى جواره متأملاً صغيره بنظرات عميقة.
مال بعدها على المقعد المجاور له ليحتضنه، ثم قبله بعاطفة أبوية حانية على صدغه قائلاً بجدية:
-ماشي يا حبيب بابا، خلي بالك من نفسك!
هز يحيى رأسه بالإيجاب مردداً ببراءة: -حاضر
تابع دياب تعليماته الصريحة قائلاً: -واسمع الكلام، مش عاوز شكوى من أمك!

ابتسم له الصغير بمرح: -ماشي!
عبث دياب بشعر الصغير المتناثر، وأحاط رأسه من الخلف بكفه العريض قائلاً بسعادة:
-هات بوسة حلوة؟
دنا الصغير من أبيه، فقبله الأخير وهو يحتضنه بمحبة حقيقة شعر بها تجاهه.
ترجل بعدها يحيى من السيارة حينما رأى والدته مقبلة عليها.
هتف دياب صائحاً وهو يلوح له: -مع السلامة يا يحيى!
بادله الصغير تحية الوداع، لكن ذلك لم يمنع ولاء من الاقتراب منه والترحيب به بنفسها.

تغنجت بجسدها بميوعة مفتعلة متعمدة أن تثيره بمفاتنها الأنثوية التي اعتقدت أنها مازلت مغرية وستجعله تحت تأثيرها.
لذا استطردت حديثها قائلة بدلال وهي تستند بيدها على نافذة سيارته مائلة نحوه بجسدها:
-ميرسي انك جبته!
لم ينظر إليها بسبب شعوره بالنفور والتقزز من مجرد التحديق بها.
عبس بوجهه وهو يزيح يدها عن حافة النافذة، فانزعجت من تصرفه الوقح تجاهها.

وضع دياب نظارته القاتمة على عينيه قائلاً بجمود قاسي: -هما يومين بس وهارجع اخده!
شعرت بالضيق لتجاهله لها عمداً، فاعتدلت في وقفتها وردت عليه بتجهم: -أوكي
أدار محرك سيارته قائلاً بإيجاز: -سلام!
تابعته بأنظارها المحتقنة منه وهي تكز على أسنانها بشراسة.
أخرجها من حالتها الغاضبة صوت صغيرها متساءلاً ببراءة: -احنا رايحين فين يا مامي؟
أجابته بعد تنهيدة مطولة: -هانتفسح يا حبيبي!

أحاطت صغيرها من كتفيه، وسارت به مبتعدة عن المطعم حتى مرقت إلى طريق جانبي حيث كان ينتظرها هناك سيارة ما.
لمح الصغير جدته، فصاح مهللاً: -تيتة شوشو!
فتحت باب السيارة ليقترب هو منها، ثم احتضنها بسعادة.
انهالت عليه بالقبلات قائلة: -حبيب قلب تيتة!
أفسحت له شادية المجال ليجلس على حجرها قائلة بود: -تعالى في حضني يا حبيبي!
جلس الصغير على حجر جدته، فضمته بذراعيها محاوطة إياه.

أغلقت ولاء الباب خلفه، وانحنت للأمام لتستند بكفيها على حافة النافذة الملاصقة لمقعد والدتها لتقول بنبرة آمرة:
-اسمع كلام تيتة!
نظر لها بغرابة متساءلاً بحزن: -مش هاتيجي يا مامي معانا؟
مسحت على وجنته برفق قائلة: -لأ يا حبيبي، أنا هاحصلكم كمان شوية!
تجهمت تعابير وجهه وهو لا يعي سبب ذهابه مع جدته فقط.
التفتت ولاء بعينيها نحو والدتها مضيفة بجدية: -ماما خلي بالك منه، مش هوصيكي!

ردت عليها بنبرة واثقة وهي ترمقها بنظرات مثيرة للقلق: -اطمني، ده في عينيا، روحي انتي بيتك، وعلى تليفونات!
هزت رأسها بإيماءة واضحة وهي تردد: -ماشي!
اعتدلت في وقفتها، ووضعت يدها على شفتيها لتبعث بقبلة في الهواء إلى صغيرها.
قام يحيى بتقليدها، وأرسل لها نفس القبلة قائلاً: -باي يا مامي
لوحت له بعدها بكفها هاتفة: -باي باي يا قلبي!

أشارت شادية إلى السائق بيدها ليتحرك بعدها مبتعداً عن المكان حيث وجهته المجهولة لتبدأ كلتاهما في تنفيذ مخطط تخبئة الصغير واخفائه دون النظر إلى عواقب الأمور..
لم تتخيل أسيف أن ذلك الدكان الذي لم تره مسبقاً، وفي نفس الوقت تمتلك فيه الحصة الأكبر بحكم أنه إرثها الشرعي، قد حسم أمر بيعه دون أن تدري.
تسمرت في مكانها لوهلة مصدومة محاوة استيعاب الموقف.

ودعت عواطف الضيفة بإبتسامة لطيفة، ولكنها تلاشت سريعاً حينما أغلقت الباب خلفها.
نفخت بغيظ مع نفسها، فقد وضعتها ابنتها في موقف حرج مع ابنة أخيها الراحل، هي لم تفاتحها من قبل في مسألة بيع الدكان أو حتى طرحتها أمامها، لكنها تفاجئت بنيرمين تصرح بذلك وكأنه حقيقة واقعة غير قابلة للنقاش
قدمت قدماً وأخرت الأخرى وهي تتجه نحو ابنة أخيها.
رأتها باقية في مكانها في حالة حائرة فزاد قلقها مما هو قادم.

أخذت نفساً عميقاً تضبط به انفعالاتها، ثم اتجهت صوبها.
وضعت عمتها يدها على كتفها قائلة بحرج: -آآ. أسيف يا بنتي
التفتت هي نحوها بوجهٍ عابس مرددة بصوت شبه مختنق: -ممكن تفهميني يا عمتي ايه معنى كلام نيرمين اللي قالته جوا؟
ابتلعت ريقها قائلة بإرتباك ملحوظ: -حاضر، تعالي معايا في الأوضة وأنا هافهمك!
تبعتها أسيف إلى غرفتها راغبة في معرفة كل شيء.
-فرستهالك يا بسومة
قالتها نيرمين بتفاخر وهي تلج إلى الشرفة.

عقدت أختها ما بين حاجبيها بإستغراب مرددة بعدم فهم: -مين دي؟
ضغطت نيرمين على شفتيها هاتفة بإمتعاض: -هو في غيرها، أم النكد بنت خالك!
لوحت بسمة في كف يدها قائلة بإشمئزاز: -يا شيخة افتكريلنا حاجة عدلة
جلست نيرمين على مقعدها بإسترخاء، ولمعت عيناها بوميض شيطاني ماكر، ثم هتفت متساءلة بعبث:
-ها مش عاوزة تعرفي أنا عملت ايه فيها؟
ردت عليها بسمة وهي تهز كتفيها غير مبالية: -لأ، خليني أخلص التحضير اللي ورايا!

ثم دققت النظر فيما معها من مفكرة تدون فيها ما ستقوم به خلال يوم الغد في مدرستها.
حركت نيرمين مقعدها بالقرب منها، ومالت على أختها متساءلة بفضول وقد زاد بريق نظراتها الغير مريحة:
-طب بسومة، قوليلي انتي هاتروحي عند خالتي جليلة امتى؟
رفعت بسمة رأسها لترمقها بنظرات غريبة وغامضة، وسألتها بجدية: -وانتي عملتيها خالتك من امتى؟

ارتبكت نيرمين لوهلة، وفركت أصبع كفيها بقلق وهي ترد: -عادي يعني، انا بأقولها كده وخلاص!
لم تقتنع بما قالته، لكنها لم تكن مهتمة بما يدور في رأسها من أفكار ومخططات، فأوخزت في الحديث معها مرددة:
-أها. طيب!
عاودت الكتابة مجدداً في مفكرتها لكن قاطعتها نيرمين متساءلة بإلحاح: -ها مرددتيش عليا، هاتروحيلها امتى؟

زفرت بسمة بضجر وهي تقول: -معرفش لسه، بأفكر أعتذر عن الدرس الفقر ده، من يوم ما روحته وأنا المصايب نازلة على دماغي!
ارتفع حاجبي نيرمين للأعلى مستنكرة اعتذارها عنه، وهتفت محتجة: -ليه بس؟ دول ناس كرما وآآ..
قاطعتها بسمة بتبرم وقد تشنجت تعابير وجهها: -انتي هاتعملي زي ماما؟
هزت رأسها نافية متحاشية ثورة غضب أختها: -لا يا حبيبتي!
ثم مسحت على كتفها برفق مبررة: - أنا غرضي مصلحتك.

ضجرت بسمة من ثرثرتها في ذلك الموضوع الممل، فهتفت مضيفة بإنزعاج: -طيب ممكن تسبيني أكمل تحضير؟!
ابتسمت نيرمين قائلة بتكلف: -ماشي، بس أما تيجي تروحي تاني ابقي قوليلي!
ردت عليها على مضض: -ربنا يسهل!
تقوس فمها بإبتسامة ماكرة للغاية وهي تهمس لنفسها بثقة: -هيسهل إن شاء الله!

سردت عواطف لأسيف بإختصار كل ما يخص مسألة بيع الدكان من اتفاقات مسبقة بينها وبين الحاج طه وابنيه، وأن للموضوع علاقة بتسوية خلاف كبير بين رجال منطقتهم الشعبية. كذلك سيعود البيع بالنفع على الجميع خاصة أن وجوده على وضعه هذا لم يكن مثمراً.
رفضت الأخيرة تلك الفكرة، واحتجت قائلة بشراسة وهي تهب واقفة من على طرف الفراش:
-مش هابيع الدكان! مش هايحصل!

ربما يظن الغير أن تمسكها به هو أمر مبالغ فيه، لكنه سيظل أخر ما أهداه لها والدها، والسبب الرئيسي في قدومها إلى هنا.
هو أكثر ما يربطها بعائلتها، البُعد بالنسبة لها نفسي أكثر منه مادي..
وقفت عواطف هي الأخرى قبالتها، ونظرت لها بحنو قائلة بنبرة شبه متوسلة: -ليه بس يا بنتي؟ ده حتى هو مقفول وخرابة وزي قلته، يعني محدش مستفيد منه بحاجة!

بدت نظراتها قاسية وهي محدقة بها، أغاظها بشدة تبرير الأمر كأنه شيء عادي لا يخصها، وهي أحد ملاكه، بل من تملك النصيب الأكبر فيه. استنكرت حديثها، وصاحت بعصبية:
-أنا مش هابيعه، ازاي تقرروا ده عني؟!
كانت عواطف تعلم أن ابنة أخيها محقة في جملتها الأخيرة، فقد عرفت بمسألة البيع مصادفة، وبالطبع لها كل الحق لأن تغضب وتثور. فلو أخبرت من قبل لم يكن ليبلغ الأمر ذروته.

وضعت هي يدها على ذراعها، ومسحت عليه برفق قائلة: -هي مش مقصودة والله يا بنتي، بس آآ..
قاطعتها أسيف قائلة بنبرة متشنجة وقد احتقنت نظراتها: -ده انا حتى ماشوفتش شكله!
ردت عليها بهدوء حذر: -ما أنا بأقولك هو خرابة وقديم وآآ.
قبضت أسيف على أصابعها مكورة إياهم بشدة محاولة التحكم في أعصابها قبل أن تنفلت.
الأمر بالنسبة لها يتجاوز كونه مجرد جدران عتيقة ومكان قديم متهالك عفا عليه الزمن.

هي تنظر للأمر من منظور مختلف تماماً. فقد اعتبرته شيئاً ثميناً خصه لها والدها بالذات، وبالتالي لن تتخلى عنه مهما حدث.
حاولت إيضاج وجهة نظرها قائلة بصوت مختنق: -أرجوكي تفهميني يا عمتي
أشارت لها عواطف بكف يدها قائلة بنبرة عقلانية آملة أن تقنعها: -يا بنتي انتي لو شوفتيه هاتغيري رأيك وتقولي أبيعه دلوقتي! إنتي بس مضايقة عشانك مفكرة إن زي الدكاكين والمحلات اللي بتشوفيها!

لم تصغِ أسيف لكلمة واحدة مما قالته، وتساءلت فجأة بجمود: -عمتي فين مفتاح الدكان؟
قطبت عواطف جبينها متعجبة سؤالها عنه، وأجابتها بسجية: -معايا، في الشتمجية بتاعتي!
سألتها بأدب وهي ترمقها بنظرات غامضة: -ممكن تجبهولي؟
أومأت برأسها قائلة بإمتثال: -حاضر
توجهت عمتها بعدها إلى خزانة ملابسها لتفتح إحدى ضلفه، ثم انحنت قليلاً لتخرج صندوق خشبي من الرف السفلي، واعتدلت في وقفتها.

فتحته بحذر، وعبث في محتوياته، ثم أخرجت منه مفتاحاً قديماً رفعته أمام وجهها.
وقعت أنظار أسيف عليه، ثم مدت كف يدها نحوها وهي تقول: -هاتيه يا عمتي بعد اذنك!
وضعته في راحة يدها قائلة: -اتفضلي يا بنتي
قبضت أسيف عليه بشدة وكأنها تحوي بين راحتها على كنز ثمين، وهتفت مرددة: -شكراً يا عمتي
اكتفت الأخيرة بالإبتسام لها، ثم أعادت وضع صندوقها في الخزانة.

وقفت إلى جوارها محدقة بها، وتابعت قائلة بنبرة هادئة: -طيب بصي، انتي لو فكرتي بالعقل كده هتلاقي إن احنا لما هنبيعه انتي هايجيلك فلوس كتير وآآ..
قاطعتها أسيف بنبرة حاسمة: -يا عمتي أنا مش هابيع الدكان!
أخفضت عواطف رأسها متمتمة من بين شفتيها بإستياء وبنبرة خافتة: -لا حول ولا قوة إلا بالله، طب أفهمها ازاي اننا لازم نبيعه؟!

عادت جليلة إلى منزلها سعيدة بتلك الزيارة الخفيفة وبالأنباء السارة التي سمعتها هناك.
كان منذر على وشك النزول، فأسرعت خلفه متساءلة بإهتمام: -انت رايح الوكالة؟
أجابها بجدية وهو يدس هاتفه في جيبه: -اه يا أمي، في حاجة عاوزاها أبعتهالك؟
ابتسمت قائلة بود: -لأ تسلم يا حبيبي!
وقبل أن يدير هو مقبض الباب ويفتحه هتفت فجأة بنزق وكأنها قد تذكرت شيئاً للتو:
-بالحق قبل ما أنسى، أنا اطمنت على موضوع بيع الدكان!

استدار برأسه نحوها قائلاً بإبتسامة باهتة اعتلت ثغره: -طب خير!
أضافت قائلة بإهتمام: -وشوفت كمان بنت أخو عواطف. أسيف وعزيتها!
هز رأسه بتفهم، فهذا هو سبب زيارتها الرئيسي، وهتف متساءلاً بإقتضاب: -أها، وأخبارها ايه؟
ردت عليه بأريحية: -كويسة، وشها رد كده وبقت أحسن عما كانت هنا!
شعر منذر بالإطمئنان لكونها أصبحت على حال أفضل، فردد بهدوء دون أن يظهر أي تغيير على ملامح وجهه:
-تمام.

دنت منه، وحدقت مباشرة في عينيه لتضيف بمكر: -واعدت اتكلمت مع نيرمين شوية!
تبدلت تعابير وجهه سريعاً للضيق والإشمئزاز لمجرد ذكر والدته لذلك الأمر الثقيل على قلبه، وصاح بنبرة شبه غاضبة وقد استشاطت نظراته:
-اوعي تكوني فاتحتيها في حاجة يا أماه!
ارتجفت من تحوله للغضب، وردت بحذر: -كان على طرف لساني بس آآ..

أظلمت عيناه، وقاطعها مهدداً بنبرة عدائية وهو يشير بسبابته: -قسماً بالله لو حصل من غير ما تقوليلي لأنهي الموضوع قبل ما يبدأ!
هزت رأسها نافية وهي تجيبه: -لا يا بني، ميصحش أصلاً أفاتحها في حاجة دلوقتي، أنا خدت بس واديت معاها في كلام عادي!
تنفس بإرتياح لأن والدته لم تتهور وترتكب مثل تلك الحماقة.
لم يبدل من تعابيره المتشنجة، وأكمل منبهاً بشراسة: -الله يكرمك قفلي على سيرة الجواز لأني بأتخنق!

ثم أخفض نبرته ليحدث نفسه بإزدراء: -وخصوصاً مع دي!
عبست جليلة بوجهها، وأخفضت نبرتها لتبدو مستاءة فتشعره بالذنب نحوها وهي تقول: -يا ضنايا أنا بأفكر في مصلحتك، ونفسي أفرح بعوضك فبأشوفلك حاجة مضمونة!
رد عليها مستنكراً تفكيرها بسخرية متهكمة: -هي تلاجة هاشتريها!
أوضحت له مقصدها مبررة: -ماهو ربنا بيقول اسعى يا عبد!
رد عليها بغلاظة: -مش بالشكل ده، لما ربنا يإذن هيحصل، لكن جو التلزيق والتمحيك ده ماليش فيه.

قست نظراته وبدت أكثر صرامة وهو يقول مؤكداً: -ماشي، اتفقنا يا حاجة جليلة؟
تنهدت مستسلمة وهي ترد: -اللي تشوفه
-يالا سلام بقى!
-في رعاية الله يا حبيبي!
قالتها وهي تغلق الباب خلفه بهدوء لتعود إلى الداخل لتكمل ما لديها من أعمال منزل عالقة..
يئست أسيف من محاولة اقناع عمتها بأنها لا ترغب في بيع الدكان الذي لم تره بعد، وهتفت متساءلة بتبرم:
-ايه اللي مش واضح في كلامي؟

كانت تخشى الأخيرة عواقب الرفض، فالمسألة ليست مجرد عملية بيع عادية، بل هي مسألة حيوية يترتب عليها الكثير من الأور، لذا ردت عليها بتوجس:
-انتي كده هتوقعينا في مشاكل مع منذر والحاج طه!
انزعجت أسيف من اعطاء هؤلاء الأشخاص قدراً أكبر من قيمتهم، وكأنهم يملكون زمام كل شيء، فصاحت متساءلة بعصبية:
-ليه يعني؟

أجابتها عواطف بنبرة مرتبكة وهي تبتلع ريقها: -لو ماتمتش البيعة هيحصل مضاربات تاني وخناقات ومشاكل مش هاتنتهي!
ردت عليها أسيف بنبرة شبه قوية غير مكترثة بهم: -كل ده مايخصنيش، ولا يجبرني أبيعه أو حتى أفرط في حتة منه!
توسلتها قائلة برجاء أكبر وهي محدقة فيها: -طب عشان خاطري أنا، ده الحاج طه وابنه وقفوا معانا كتير، وجمايلهم مغرقانا!

ثم صمتت للحظة قبل أن تضغط على شفتيها لتقول بحرج قليل: -ده. ده غير الفلوس اللي دفعوها وآآآ..
فهمت أسيف مقصدها على الفور، هي متحجة بمسألة الدين وما سددوه من مديونيات سابقة تخصها.
قست تعابيرها، واحتدت نظراتها، و ردت بحسم وبجدية صارمة: -أي حاجة دفعوهالي دين عليا أنا هارده، ودلوقتي!
أولتها ظهرها، ثم اندفعت نحو الباب خارجة من الغرفة بخطى سريعة وكلها إصرار على سداد ما عليها من مستحقات.

لحقت بها عواطف قائلة بتوجس: -مش كده يا بنتي، الموضوع أكبر من مجرد فلوس ودين!
التفتت أسيف بجسدها نحوها مرددة بصوت متصلب: -بصي يا عمتي، أنا متعودتش اكون مديونة لحد، وده حقهم، فمش خلي حد يجبرني على حاجة لمجرد إني مديوناله!
توسلتها عواطف بإلحاح: -يا أسيف اسمعي وافهمي كويس الموضوع، هو مايتخدش قفش كده!

ردت عليها بإصرار عنيد: -لأ يا عمتي، أنا مش عاوزة أفهم حاجة، دكان أبويا أنا مش هابيعه! وفلوس سي منذر بتاعكم ده هادفعهاله!
فغرت عواطف شفتيها مصدومة من تبدل حالها للجدية والجمود بعد أن كانت لا حول لها ولا قوة، فهتفت مستنكرة اندفاعها الأهوج:
-لا إله إلا الله! يا بنتي انتي مكونتيش كده؟
لم تعقب عليها أسيف بل انطلقت نحو الغرفة لتخرج النقود من الحقيبة وتدفع ما عليها.

خرجت نيرمين من غرفتها متساءلة بفضول بعد أن سمعت صوت شجارهما المرتفع: -في ايه يا ماما؟ صوتكوا على كده ليه؟ ومالها البت دي؟
رمقتها أمها بنظرات نارية مشتعلة وهي تجيبها بحنق: -منك لله يا شيخة، بوظتي الدنيا بغباءك!
انفرجت شفتاها مرددة بذهول مصطنع: -هو أنا عملت حاجة
أشارت لها والدتها بكفيها قائلة بتوبيخ شديد: -كان لازم يعني تتسحبي من لسانك وتقولي على الدكان قبل ما تشوريني؟!

وضعت نيرمين يدها في منتصف خصرها مرددة بإزدراء: -ليه؟ الهانم اللي على رجلها نقش الحنة مش عاجبها الكلام؟!
أجابتها عواطف بتبرم: -اه يا فلحوسة، ومش راضية تبيع!
رفعت نيرمين كفها أعلى جبينها شاهقة بإستنكار: -نعم؟ ليه إن شاء الله؟ هي تطول حد يدفعلها فلوس!
أسرعت أسيف بجذب الحقائب من جوار خزانة الملابس، وأسندتهم على الفراش، ثم قامت بفتحهم لتبحث بداخلهم عن كيس النقود البلاستيكي المخبأ وسط الثياب.

كانت تفتش بعصبية فبعثرت معظم الثياب دون أن تجد ما تريد.
وقعت عيناها على الكيس ففتحته على عجالة، وشهقت مصدومة حينما لم تجد بداخله سوى قطعة من الملابس.
أفرغت محتوياته على الفراش، وتساءلت بخوف: -هما راحوا فين؟ دول كانوا هنا، أنا متأكدة، أنا حطاهم بإيدي في الكيسة دي؟!
قلبت الحقائب رأساً على عقب، وبحثت بتأني في كل شيء.

ألقت ما بيدها، ثم فركت جبينها عدة مرات بتوتر شديد، وتابعت البحث من جديد وهي تحدث نفسها بقلق:
-مش ممكن، مش معقول اختفوا كده!
انقبض قلبها بخوف كبير حينما فشلت في العثور على النقود.
هي الآن في مأزق حقيقي.
تسارعت دقات قلبها ونهج صدرها من فرط المجهود المكثف.
أضاء عقلها بوميض غريب. ودار بخلدها فكرة ما غير مريحة على الإطلاق.
رفضت تصديق الأمر في البداية، لكن لم يكن لديها أي تفسير أخر سوى ذلك.

رددت مع نفسها بصدمة: -أكيد هو اللي ورا الموضوع، هو الوحيد اللي لم حاجاتنا من اللوكاندة!
تشنجت قسمات وجهها، وصرت على أسنانها لتهتف بوعيد: -والله ما سكتاله!
اندفعت كالثور الهائج راكلة الثياب بقدمها صائحة بنبرة عالية متعصبة: -يا عمتي!
توجست عواطف خيفة من نبرتها تلك، وسألتها بحذر: -خير يا بنتي
وقفت أسيف قبالتها، ونظرت لها بأعين مغلولة وهي تجيبها: -أنا اتسرقت!

لطمت عواطف على صدرها مرددة بعدم تصديق وهي تشهق: -ايه؟ اتسرقتي؟!
استنكرت نيرمين ما قالته ابنة خالها، فقد استشعرت في حديثها أنها تتهم عائلتها بالسرفقة.
ضاقت نظراتها نحوها، وهدرت صائحة بحدة: -نعم. نعم. نعم!
وزعت أسيف نظراتها بينهما قائلة بإنفعال: -ايوه، أنا مش لاقية فلوسي اللي كانت في الشنطة، وآآ..

قاطعتها نيرمين بشراسة مشيرة بكف يدها أمام وجهها لتجبرها على الصمت: -حاسبي على كلامك! محدش فينا مد ايده على حاجتك!
ردت عليها بصعوبة وهي تحاول التحكم في أعصابها: -مقصدش حد فيكم، بس. بس الفلوس اللي كانت معايا وفي الشنطة مش موجودة!

نظرت لها نيرمين شزراً، وتابعت قائلة بوقاحة: -بصي يا روح الروح انتي من يوم ما طبتي علينا ومحدش قرب منك ولا من شنطك، شوفي مين خد فلوسك، ولا تلاقيها وقعت منك أصلاً وبتقولي اتسرقت وآآ.
قاطعتها أسيف صائحة بجدية مفرطة: -أنا. أنا عاوزة أشوف اللي اسمه منذر ده!
وكأن صاعقة قد ضربت برأس نيرمين فجأة، فاتسعت حدقتيها في عدم تصديق، وشهقت مذهولة:
-مين ياختي؟

توجست عواطف من تطور الأمور للأسوأ، فتساءلت بخوف: -ليه يا أسيف؟
ردت عليها معللة وهي تشير بيدها: -هو اللي جاب الشنط، ومش بعيد يكون آآآ..
وقبل أن تكمل جملتها للأخير هدرت بها نيرمين بنبرة عنيفة متعمدة إهانتها وهي تحدجها بنظرات دونية:
-اياكي تفكري في ده، منذر مين اللي هايبص للكام ملطوش اللي معاكي؟ ده يشتريكي كلك على بعضك بملاليم، تقولي يسرق فلوسك، فلوس مين يا أم فلوس!

ذُهلت عواطف مما رددته ابنتها، فنهرتها قائلة: -نيرمين اتكلمي عدل!
ردت عليها الأخيرة بحدة غير مبالية بتصرفاتها المتطاولة: -انتي مش شايفة بتغلط في مين!
اشتعلت أسيف غضباً من أسلوبها الفج المسيء لها، فصرخت بها بعصبية وهي تشير بسبابتها لها:
-لو سمحتي متداخليش، أنا مطلبتش رأيك!
ردت عليها نيرمين بجموح وهي تقف قبالتها متحدية إياها: -لأ هاتدخل ونص!
رمقتها أسيف بنظرات مستخفة وهي تسألها بعصبية: -بصفتك ايه أصلاً؟

تغنجت بجسدها بطريقة مستفزة وهي تجيبها ببرود جامد: -قريبنا وأعرفه كويس، الدور والباقي عليكي انتي، اللي ما عرفينلك أصل من فصل!
احتقنت عيناي أسيف بحمرة غاضبة للغاية، وكورت قبضة يدها لتدفعها بها بعنف من كتفها صائحة بصوت متشنج مهدد:
-احترمي نفسك معايا، مش هاسمحلك تغلطي فيا!
تفاجئت نيرمين مما فعلته، وكانت على وشك الاشتباك معها، لكن وقفت عواطف حائلاً بينهما بجسدها، وصرخت فيهما:.

-بس انتو الاتنين، احترموا وجودي، في ايه؟
تابعت أسيف قائلة بشراسة وقد قست عيناها: -أنا مش هاقبل بأي اهانة تسيء ليا، وفلوسي اللي ضاعت مش هاسكت عنها، وهاجيبها!
ثم وجهت حديثها إلى عمتها قائلة بقوة تحمل الكبرياء والترفع: -وإن كان على القعاد هنا يا عمتي فبناقص منه، الحمدلله أنا أقدر أسكن في آآآ..
وضعت عواطف يدها على فمها مانعة إياها من الحديث وهي ترد بتوجس: -ماتكمليش!

خشيت أن تخسر ابنة أخيها الراحل بسبب حماقات ابنتها الغبية، فجاهدت لضبط الأمر قبل تفاقمه، واستدارت برأسها موجهة حديثها لنيرمين قائلة بغلظة:
-انتي مش هاتسيبي بيت عمتك، واللي مش عاجبه الكلام يخبط راسه في الحيط!
اغتاظت نيرمين من تصريح والدتها، فهتفت مستنكرة: -ماما!
أشارت لها عواطف بيدها قائلة بصرامة: -اخرسي خالص يا نيرمين، ايه مالك؟ طايحة في الكل ومش عاملة اعتبار لحد! أنا كلمتي اللي هاتمشي هنا!

ضربت نيرمين الأرضية بقدمها بعصبية جلية، وصاحت بتشنج: -ماشي يا ماما، ماشي!
ثم تركتهما بمفردهما وأسرعت عائدة إلى غرفتها وهي تتوعد أسيف بالرد القاسي بعد أن شعرت بتحقير شأنها أمامها.
صفقت الباب بعنف خلفها، فحدقت الاثنتان فيه بجمود.
تنفست أسيف بعمق محاولة ضبط انفعالاتها.
أردفت عمتها حديثها بهدوء حذر: -شوفي يا أسيف لو ليكي حق عند منذر هو هايجبهولك بنفسه!
ردت عليها أسيف بعناد: -وأنا عاوزة حقي دلوقتي!

حاولت عواطف إثناءها عن التشبث برغبتها قائلة: -استني بس لما آآآ..
قاطعتها بإصرار أكبر دون أن تطرف عيناها: -دلوقتي، و من فضلك قوليلي فين مكانه وأنا هاروحله!
لم تجد عواطف أي بد من تغيير رأيها، فردت عليها مستسلمة: -طب استني هانلبس ونروحله سوا!
هي أرادت أن تكون بصحبتها لتضمن سيطرتها على الوضع إن تواجهت مع منذر فلا يسيء أحدهما للأخر أو يحدث أي تطاول بينهما.

كما أن وجودها معها يجعلها تفسر الأمور له بطريقة سلسة فتتأكد من عدم حدوث أي سوء فهم.
أضافت أسيف بصوت حاسم وهي ترفع رأسها للأعلى في شموخ: -ماشي، بس من هنا ورايح يا عمتي أنا مش هاسكت لأي حد يدوسلي على طرف، بنت الحاج رياض مش هاتكون ملطشة لأي حد..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة