قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني

مسحت بمنشفتها القطنية عيناها الباكيتين لتحدق في ابن خالتها الذي حضر خصيصاً اليوم للحديث معها في أمر هام.
انتحبت بصوت خفيض وهي تحاول السيطرة على نفسها أمامه. فقد مر أكثر من عشرة أيام على فراق شريك حياتها، بدا الوقت كالدهر، فمن سيملأ الفراغ من بعده؟
أما ابنتها فهي في وضع بائس، حاضرة معها بجسدها لكن روحها وعقلها غائبين.

منذ دفنه تحت الثرى وهي تذهب يومياً إلى تلك البقعة التي إعتادت الجلوس فيها معه في أرضه الزراعية، تقضي بها ساعات مختلية بنفسها شاردة في ذكرياتها معه.
فالفقيد لا يعوض، وهو كان الحياة بالنسبة لها.
عزاها الحاج فتحي قائلاً بنبرة مواسية: -شيدي حيلك يا بنت خالتي! المرحوم كان غالي علينا كلنا!
ردت عليه بصوت باكي: -الشدة على الله.

أخذ نفساً عميقاً، وزفره على مهل، ثم تابع بهدوء مريب: -أنا عارف إن الوقت مش مناسب للي جاي أقوله النهاردة، بس. س لازم أفتحك فيه!
انتبهت حواسها بالكامل له، وسألته متوجسة: -خير يا حاج فتحي؟
صمت لبرهة قبل أن يجيبها بكلمة واحدة موجزة: -الأرض!
انقبض قلبها نوعاً ما، فذكر تلك المسألة المؤجلة الآن ينذرها بوجود خطب ما.
ابتلعت ريقها وسألته بتوتر قليل: -مالها؟

حدق فيها بنظرات جامدة، ثم أجابها بصوت جاف: -انتي عارفة كويس إن رياض الله يرحمه كان شريك معايا في حتة الأرض القبلية!
أومأت رأسها بالإيجاب قائلة: -ايوه!
أضاف قائلاً بنبرة جادة: -وكمان عارفة إن الحريم هنا مابيتملكوش أراضي!
أزعجها للغاية جملته الأخيرة، فهي تفهم المغزى من ورائها، أن النساء لا تورث ما له علاقة ب الطين وبالطبع امتلاك الأراضي الزراعية على رأس القائمة.

ورغم ذلك اعترضت على جملته قائلة بثبات وهي ترفع رأسها للأعلى في كبرياء: -اها. ده العرف عندكم، بس شرع ربنا بيقول آآ..
قاطعها قائلاً بعدم اكتراث: -شرع ربنا مش هانتعرض عليه وحقك انت وبنتك محفوظ!
تشنجت قسمات وجهها، كما ضاقت نظراتها المنزعجة منه، وسألته بحدة خفيفة: -تقصد ايه بالظبط يا حاج فتحي؟ أنا مش فهماك!

نظر لها بجمود شديد، وأردف قائلاً وهو يشير بكف يده: -شوفي يا بنت خالتي، أنا مقدر ظروفك وفاهم الحال عامل ازاي معاكم، وصعب انتي أو بنتك تقفوا وسط الأنفار والرجالة وتديروا الأرض بنفسكم!

تمكن هو بكلماته المنتقاة بعناية من اللعب على الوتر الحساس، فهو بالطبع لا يحتاج للإشارة إلى عجزها الجسدي، ولا إلى صغر سن ابنتها التي انتهت من تعليمها الجامعي قبل فترة قصيرة، لكن يكفيه أن يلمح لكونهما امرأتان ضعيفتان، بل هشتان على الأرجح، بلا رجل معيل يحميهما.

أدرك أنه كان مصيباً في حديثه، فتشجع لإكماله، وتابع متحفزاً: -المرحوم كان قايم بالليلة كلها، ومش مقصر في حاجة، بس الوضع اتغير دلوقتي، وماينفعش اللي كان بيحصل زمان يتعمل عادي!
ردت عليه بصعوبة محاولة التمالك أمامه واظهار قوتها: -وضحلي غرضك يا حاج فتحي؟
أجابها بنبرة عازمة وهو ينظر مباشرة في عينيها بقوة: -أنا هاشتري نصيبكم في الأرض بما يرضي الله، وهراضيكم على الأخر!

وجدت أن الأمر شبه محسوماً من قبل ابن خالتها، بالطبع الأمر معتاد هنا ومرتب له خاصة إن كانتا بمفردهما، ولذا هي ليست بحاجة لتخمين النتائج.
حاولت فقط أن تثنيه عن رأيه وتعطي ابنتها فرصة لتقرير مصيرها، فهتفت قائلة بصوت متردد:
-انت عارف ان أسيف متعلقة بحتة الأرض دي وفيها ذكرياتها مع أبوها، ومن يوم ما المرحوم فارقنا وهي. وهي دايما بتروح تقعد عند آآ..

قاطعها قائلاً بقسوة جامدة: -ودي الحاجة التانية اللي كنت هاكلمك فيها، إحنا عوايدنا غير، ومايصحش اللي هي بتعمله، لولا انتي مقدر الظروف وعارف إن العيبة ماتطلعش من بنت الحاج رياض خورشيد كنت اتصرفت معاها تصرف تاني!
شعرت بتلميح ضمني يحمل التهديد بين طيات كلماته، فانقبض قلبها أكثر، وخشيت على ابنتها من التعرض للأذى، وبعاطفة أمومية صادقة هتفت مدافعة عنها:
-أنا بنتي متربية كويس، والعيبة آآ..

لم يدعها تكمل عبارتها للنهاية، وقاطعها مكملاً بقسوة: -عارف ده يا ست حنان، بس الناس ليها الظاهر!
ردت عليه بحدة وقد بدا وجهها منزعجاً للغاية: -الناس مابتسبش حد في حالها أبداً، عاوزين ايه مننا، ده احنا قافلين علينا بابنا وآآ..
هتف مقاطعاً بجدية مفرطة: -المثل بيقول الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح، وأنا عرضت عليكي عرضي وهاسيبك كام يوم تفكري، ويا ريت تحسبيها صح وتدوري على مصلحة بنتك!

حدقت فيه بصدمة واضحة. فقساوة الحياة لم تتركهما ينعمان بالهدوء لبرهة. وها قد بدأت دوامتها.
لم يضف المزيد، ونهض واقفاً من مقعده، وابتسم لها بود مصطنع قائلاً: -هاستنى منك رد قريب، سلام يا مرات المرحوم الغالي!
تصلبت في مكانها ولم تتمكن من تحريك حتى عجلتي مقعدها لتودعه.

أيقنت أنها لن تستطيع مجابهة كل شيء بمفردها، شعرت بقلة حيلتها، أخفضت نظراتها نحو ساقيها العاجزتين ولم تمنع نفسها من الانخراط في البكاء حسرة على حالها وحياتها القادمة.
انتهت جلسة المصالحة العرفية بين عائلتي حرب وأبو النجا على دفع مبلغ مالي ضخم كتعويض عن تصرف سليل عائلة أبو النجا الأهوج، ولضمان عدم تكراره لتلك الفعلة الطائشة.
هي مصالحة ودية في ظاهرها، لكنها جلسة تأديبية في باطنها.

طرأ ببال كبير عائلة أبو النجا أن يستغل الفرصة لصالحه، ويضع حداً للنزاعات القائمة بين الأبناء، فاقترح بلا تردد أن تتشارك العائلتين في عمل يجمعهما سوياً، وهتف مُصراً على تنفيذه:
-دي فرصة نكون إيد واحدة وننسى اللي فات!
لم يلقَ الاقتراح ترحيباً إلا من الحاج طه، فهو أعلم الناس بما يدور في خلد ولديه خاصة دياب ، كذلك لا يريد الزج بهما في مغبة المشاجرات والمشاحنات العنيفة التي كادت تودي بحياتهما.

فكر هو ملياً لبعض الوقت قبل أن ينطق بجدية: -وليه لأ؟
تهللت أسارير مهدي، وبرقت عيناه لتصريحه الجدي، ثم هتف بحماس: -يعني انت موافق يا حاج طه على الشراكة دي؟
ظل صامتاً للحظة قبل أن يرد بصرامة وكأنه أمر واجب النفاذ: -طبعاً، المفروض كان يتعمل من زمان!
ثم وجه أنظاره إلى ابنيه اللذين بديا على تعابيرهما المفاجأة والذهول.
تساءل طه بتوجس قليل وهو يتفرس في أوجه الشباب المتقد أمامه: -وأنتو يا ولاد رأيكم ايه؟

حدق طه في ابنيه، وهتف بصلابة: -ها؟ مش سامعلكم حس
تجمدت نظرات منذر على وجه أبيه، ورد بإيجاز مقتضب: -اللي تشوفه يا حاج!
في حين لم يحد دياب بنظراته الشرسة عن مازن، وهتف من بين أسنانه بهدوء: -اعمل الصالح يا أبا!
تساءل طه على عجالة وهو يسلط أنظاره على ابنه مازن قائلاً: -وانت يا مازن؟ رأيك ايه؟
أجابه الأخير بابتسامة لئيمة: -مافيش بعد قولك كلام يا كبيرنا!

ثم غمز لدياب بطرف عينه متعمداً إغاظته، وقد نجح في هذا، وجاهد هو للحفاظ على ثباته حتى لا ينفجر فيه.
زادت حماسة الحاج مهدي لتلك الشراكة القادمة، وهتف متحفزاً: -على بركة الله، وأنا عندي فكرة المشروع!
تم الاتفاق بينهما على فتح أكبر مطعم مأكولات بحرية بالمنطقة القاطنين بها في البناية القديمة المتواجدة في مدخل حارتهم والمملوك أكثر من نصفها لعائلة حرب.

كما سيتولى منذر الإدارة كاملة، وستؤول ثلاثة أرباع الأرباح الخاصة بالسنة الأولى لعائلته، والربع الأخير المتبقي لعائلة أبو النجا على أن يتم تقاسم الأرباح مناصفة من العام الثاني.
بإمتعاض كبير وافق دياب على هذا الاتفاق، وبسخط جلي قبل مازن بشروطه المجحفة من وجهة نظره، فعائلته لن تستفيد شيئاً إلا بعد فترة طويلة.

هذا هو الظاهر للعيان المصالحة السلمية . لكن ستظل الكراهية والعداوة قائمة بين قطبي العائلتين بسبب رواسب الماضي.
النظرات العدائية بين الجميع لم تتوقف للحظة رغم الصمت المشحون بالحقد والرغبة في الانتقام..
تجمدت نظرات منذر على تجاعيد وجه أبيه، ومر بباله شريط ذكرياته المليء بالكثير.
هو تزوج زواجاً تقليدياً بناءاً على أمر والده، ورضخ لطلبه دون مناقشة آن ذاك.

لكن تعذر عليه هو وزوجته راضية الإنجاب. رغم عدم وجود أي موانع تحول دون حدوثه، لكن لكثرة الخلافات بينهما وعدم استقرار الأوضاع انعكست بالسلب عليهما.
لم ينسَ تلك المشاجرة المحتدة التي اندلعت بينهما، وصراخه فيها: -ده انتي تجنني العاقل، قرفت منك ومن خناقك كل يوم
استشاطت نظرات راضية، وهدرت فيه بصوتها المتشنج مشيرة بكفها في وجهه: -إنت اللي مش عاوز تخلف مني!

لوح بذراعه عالياً وردد بغضب: -وأنا بإيدي ايه، ماهو كله بأمر الله!
كزت على أسنانها لتضيف بمرارة: -انت عمرك ما حبتني، اتجوزتني مصلحة والسلام!
هي كانت مصيبة في هذا، فهو لم يُكن لها أي مشاعر من قبل، وحاول جاهداً أن يجعلها سكناه، لكنها كانت بطريقتها العصبية تثور فيه وتهدم أي محاولة للإصلاح.
وقبل أن يرد عليها تابعت بصراخ: -لأ وكل ما أجيبلك سيرة الخلفة تهب فيا كده!

نفخ بنفاذ صبر، ونظر لها شزراً، ثم تمتم بتأفف: -أعوذو بالله منك، أنا كرهت الأعدة معاكي يا شيخة!
أولاها ظهره، وتحرك مبتعداً عنها، فركضت خلفه، وأمسكت به من ذراعه ساءلة إياه:
-استنى رايح فين؟
أبعد قبضتها عنه، ورد عليها بإنفعال: -رايح في داهية، أوعي!
رمقته بنظرات مغلولة، وظلت تغمغم بكلمات متعصبة تعمدت فيها الإساءة إليه بعد رحيله..

ومن وقتها انغمس منذر في عمله أكثر ليبتعد عن شجارها المحتد معه، وانشغلت هي في البحث عن الحلول الطبية العاجلة لتتمكن من الإنجاب.
ابتسم الحاج مهدي ابتسامة متكلفة وهو يتفرس في وجه دياب الجالس قبالته، وجاب بخطره تلك المحادثة التهديدية التي دارت مع السيدة شادية في منزله.
حدق فيها بنظرات نارية يحذرها بغلظة: -انتي كده بتلعبي بالنار يا شادية، وهتجرينا معاكي ليها.

ردت عليه بقسوة: -النار دي كلنا فيها من زمان، والمصالح بتحكم!
تأفف من أسلوبها الغير مكترث، ورد بعدم اهتمام: -وأنا مش عاوز وجع قلب!
صاحت فيه بقوة مهددة إياه: -ابنك اللي دخل بنتي ولاء في السكة دي، يبقى لازم تتصرف وإلا. آآ..
هو مدرك أن شادية متهورة، بل ربما ترتكب الجرائم لمطامعها الخاصة، وابنتها ما هي إلا نسخة مصغرة منها، لذا قاطعها متساءلاً بقلق قليل:
-وإلا ايه؟

أجابته بجمود مخيف: -وإلا هايعرف أعمامها باللي مازن خططله، وساعتها هما اللي هايتصرفوا، وانت عارف دمهم حامي ازاي ومش هيسيبوا حد ينهش في لحمهم ويسكتوا! ففكر كويس يا حاج مهدي!
نظر لها متوجساً بعد أن صمت ليفكر بتعقل في تهديدها الصريح لاعناً تلك القرابة التي جمعتهما معاً.
عاد دياب بذاكرته إلى تلك السنة النهائية بكليته، حيث كان يقضي أغلب أوقاته برفقة مازن ورفاقه.

احتل وقتها الصدارة في كل شيء، وكانت سمعة وسيرة عائلته تسبقه إلى أي مكان يلج إليه فتفتح له الأبواب المغلقة على مصرعيها. بينما كان مازن موضعاً على الهامش، ودائماً يقارن معه، هو مصدر الضيق والمتاعب لعائلته، بينما دياب مصدر الفخر والرجولة لهم.
أثار هذا حنقه ضده، وضمر في صدره مشاعر مغلولة نحوه.
وقرر أن يكيد له ليدمر سمعته، ويلطخها بالوحل.

وذات يوم تعمدت إحدى الصديقات المشتركة بين مازن ودياب الدفع برفيقتها المقربة لتتعرف عليهما، ومن هنا فتحت أبواب الجحيم على دياب.
ولاء. تلك الشابة المغترة بنفسها، والواثقة في قدراتها على الإيقاع بالرجل المناسب. تمكنت بحرفية تامة من استدارج دياب وإيقاعه في شباك غرامها.
استغرقها الأمر وقتاً، لكنها حازت على ما تريد في نهاية المطاف.

وهو رغم خبرته في عالم النساء العابثات ونصائحه الدائمة لرفاقه بتوخي الحذر من مكرهن، إلا أنه لم يتخذ حذره معها واطمأن لها بعد تحريه عنها ومعرفته بكونها قريبة عائلة أبو النجا، كما كان رفيقه مازن دائم الشكر فيها وفي سيرتها الطيبة، وبالتالي لم يرتاب من الأمر.
لم يهتم بها في البداية، لكن رويداً رويداً اتجه لمتابعتها، وبدأ يحسب الأمر من زاوية مختلفة حينما لفت مازن أنظاره إليها.

اتخذ هو المسألة كتحدٍ حينما وضع في المقارنة مع غريمه الذي أوهمه بأنه سينالها في النهاية.
تكالب الاثنان عليها. وتسابقا في إرضائها، لكن ما لم يكن دياب على علم به أن الأمر مرتب له، وموضوع برهان مسبق لإذلاله وكسر هيبته الزائفة أمام الجميع، والإيقاع به في المحظور لتدميره والتخلص منه.
سقط كفريسة سائغة أمام سحرها المفتن، وأوهمته أنها تعشقه حتى النخاع، متيمة بكل ما يخصه، فأشعرته برجولته وتفوقه على الجميع.

أراد أبويه وقتها تزويجه بمن تناسبه عقب تخرجه خاصة بعد زواج أخيه الأكبر منذر، وهو لم يكن راغباً في الإرتباط بمن لا يعرفها، أو يكرر تجربة أخيه، ففكر في أن يقترن بها، وبالطبع لن يواجه رفضاً من قبل عائلته إن تقدم لخطبتها، والأكيد هي سمعتها الطيبة، لكن كل ذلك مجرد قناع زائف لأمر أخطر من هذا.

هي في الأخير شابة مادية بحتة، باحثة عن مصلحتها أولاً، بغض النظر عن توابع ما تفعله بغيرها، المهم نفسها فقط وأبداً طالما ستجني الاستفادة القصوى من وراء ذلك.
أسلمت له نفسها، وانغمسا في المحرمات سوياً، لكن تطور الأمر لإكتشاف علاقتهما المحرمة سوياً وافتضاح أمره أمام أفراد عائلته.
انقلبت الطاولة على رأسه، وأصبح هو الجاني المجرم – صاحب السمعة السيئة - في نظر الجميع الذي أوقعها في حبائله.

وسريعاً تحولت المسألة لتهديدات علنية بالقتل من أجل الشرف، فاضطر أباه أن يلملم شتات الأمور قبل أن تتفاقم أكثر ويخسر حياة ولده في المقابل، لذلك أجبره على إكمال الزيجة حفاظاً على حياته، ومنعاً للفضائح التي ستدمر سمعة العائلة للأبد..
اكتشف حقيقة أمرها بعد عقد قرانه بها في جلسة شبابية بأحد المقاهي حينما أبلغه أحد رفاقه قائلاً:
-أنا مش عاوزك تتهور لما تسمع اللي عرفته.

تجمدت تعابير وجه دياب، وضاقت نظراته نحوه، ثم هدر فيه بعصبية خفيفة: -ما تنطق وتقول في ايه
ابتلع رفيقه ريقه بصعوبة، وأجابه بحذر جاد: -هي. هي حاجة تخص ولاء!
اشتعلت نظرات دياب غضباً، وهدر فيه بعنف: -اتلم، انت هاتجيب سيرة مراتي وآآ..
قاطعه رفيقه بتوجس: -م. مقصدش، بس. آآ. بس في حاجة عرفتها كده، ولازم انت كمان تعرفها
تحولت عيناه للإظلام، وسأله بحدة: -حاجة ايه؟ انطق
رد عليه بإرتباك: -هي. هي كانت بتشتغلك!

اكتسى وجهه بحمرة غاضبة، وأمسك به من تلابيبه قائلاً بغل: -نعم، انت اتجننت!
حاول رفيقه تخليص ياقته من قبضته القوية، ودافع عن نفسه قائلاً بفزع قليل: -والله أبداً، بس ده اللي عرفته من مازن، هو كان عامل دماغ ومش في وعيه وخطرف بالكلام عنك!
أدرك دياب أن المكان غير مناسب للجدال، فقد كانت الأنظار محدقة بهما، لذا نهض عن مقعده، وجذبه من ذراعه قائلاً بصرامة:
-تعالى معايا.

وبالفعل ابتعد الاثنان عن المقهى، واتخذا زاوية نائية بعيدة عن أعين المتطفلين، ثم سأله بصوت قاتم:
-احكيلي بالراحة
اضطربت نظرات رفيقه، ورد عليه بحذر متوجساً من ردة فعله العنيفة: -اللي فهمته منه إنه كان متفق معاها توقعك عشان تحط راسك وراس عيلتك في الوحلة!
أمسك به مجدداً من عنقه، وكان على وشك الفتك به.
صاح به بصوت غاضب من بين أسنانه: -اخرس!

ارتجف هو من عصبيته الزائدة، ورد بتلعثم: -مش كلامي، هو. هو اللي قال كده!
جاهد دياب لضبط أعصابه ليفهم المسألة برمتها، وعرف طبيعة الخدعة التي سقط في فخها بسذاجة من سرده المقتضب.
لاحقاً عاد إلى منزله ليحاسب زوجته ولاء على خداعها له مهدداً إياها بإنفعال:
-بقى انتي تستغفليني؟
ردت عليه ببرود متعمدة النظر إليه بإزدراء: -أنا مضحكتش عليك، إنت اللي جريت من الأول ورايا وكنت طمعان فيا!

هدر فيها لاعناً إياها بسباب لاذع: -بقى واحدة زيك، تتفق عليا مع الكلب ده؟
نظرت له شزراً وأجابته بعدم اكتراث لتثير حنقه أكثر متعمدة استفزازه: -كله كان برضاك، أنا مغصبتكش!
رفع كف يده عالياً في الهواء، وهوى به على وجهها ليصفعها قائلاً بغضب جم: -اه يا بنت ال آآ..
باغتها بصفعته، فصرخت متأوهة من الآلم ووضعت يدها على وجنتها تتحسسها بصدمة.

نظر لها بإحتقار شديد، وأمسك بها من ذراعيها ليهزها بعنف ومهدداً بصوت عدائي: -لولا إنك حامل كنت قطعت جتتك نسايل ورميتها للكلاب ينهشوا فيها!
ردت عليها تتحداه بصوت مختنق: -مش هاتقدر تعملي حاجة، عيلتي مش هاتسيبك!
صرخ فيها بعصبية جامحة غير مكترث بما قالته ومشيراً بسبابته: -هادفعك انتي وهما التمن!

ومن وقتها تحول الأمر إلى عداء شرس بينهما، فلم يدخر دياب وسعه في تدمير كل ما له علاقة بمازن من قريب أو بعيد. ولاحقه في عمله، وأفسده عليه.
ولم يتوقف الأخير عن الرد عليه بجنون.
حاول طه منع ابنه من جموحه المتهور حتى لا يودي بحياته بعد أن وصل الأمر في إحدى المرات لذروته، حيث تم تدبير حادث سير له أرقده الفراش لأسابيع طويلة، وتسبب في وفاة زوجة أخيه الأكبر التي كانت عائدة معه من زيارتها لطبيب النساء.

وقتها ساءت أحوال منذر كثيراً، فقد خسر زوجته، وتعهد بالانتقام الشرس من جميع أفراد عائلة أبو النجا، وإذاقتهم من جحيمه اللا محدود.
بدأ بابنهم البكري مجد. فزج به في السجن عن طريق توريطه في قضية تهريب ورشوة جعلته يتلقى عقوبة تتجاوز العشر سنوات. واتجه لملاحقة الثاني بضراوة.

توسل حينها مهدي لطه بأن يوقف تلك الحرب الغير معلنة بين العائلتين مقابل أي شيء وإلا ستتحول المسألة لسلسال دم سيخسر فيها الاثنان جميع أولادهما للأبد.
فكر الأخير في المسألة من منظور جاد للغاية، فخصمه على حق، وأصبحت الأمور معقدة بصورة مخيفة ووصلت للقتل والفتك، لذا لا داعي لفقدان أي غالي من أجل حقيرة مخادعة.
كما تدخلت النساء من الجانبين للضغط على رجال العائلتين واقناعهما بما فيه الصالح للجميع.

استعطفت جليلة زوجها طه قائلة: -ولادي يا حاج! مش عاوزاها يموتوا كده قصاد عينينا!
رد عليها بحدة: -شيفاني راضي باللي بيحصل
هتفت مستجدية إياه بصوت مختنق: -امنعهم، اتصرف، انت أبوهم وليك كلمة عليهم
رد عليها بضيق: -هاشوف! وربك يدبرها من عنده!

في النهاية تدخل كبار العائلتين لحسم المعارك - حتى وإن ظلت توابعها قائمة حالياً لكنهم منعوا الكثير- وتوقفت تلك الحرب بعد جلسة مصالحة كبيرة وضعت فيها عدة شروط حازمة لتضمن عدم تعرض الطرفين لأحدهما الأخر.
في تلك الأثناء أنجبت ولاء طفلاً، الحفيد الأول لعائلة حرب، فأسماه جده يحيى.
بالطبع كان بالنسبة لها ورقة اليانصيب الرابحة للضغط على العائلة للحصول على كل شيء ولضمان حمايتها من بطشهم.

لكنه كان يمثل لأبيه الذكرى الدائمة لغبائه وحماقته.
أفاق دياب من شروده الموجع على صوت والده الصارم: -دياب، كلم المحامي عشان يجهز الأوراق والعقود!
التفت نحوه، ورد بصوت شبه هاديء: -حاضر!
بعدها انصرف الجميع و على وجوههم تعابير مختلفة لكن ما بالقلب يظل باقياً فيه.
اختلى منذر بأبيه في الوكالة الخاصة بهم، واستطرد حديثه قائلاً بجدية: -في حاجة مهمة يا حاج انت مش واخد بالك منها.

رد عليه طه متساءلاً بفضول: -ايه هي؟
أجابه منذر بنبرة ثابتة: -في العمارة القديمة معانا شركا!
لم يفهم طه مقصده، فسأله مستفهماً: -ودي فيها ايه؟
رد عليه ابنه بنبرة عقلانية: -يا حاج مش هانعرف نفتح المحلات على بعض، انت ناسي الدكان القديم المقفول!
قطب جبينه قليلاً، ثم وضع كفه على طرف ذقنه ليفركه قليلاً، وهتف متساءلاً: -بتاع عواطف؟

أومأ منذر برأسه بالإيجاب مردداً: -ايوه، موجود في الوسط، وعشان ندي وسع للمكان لازم نضم الدكان بتاعها لينا!
جاب طه أرجاء الوكالة بخطوات متريثة مضيفاً بهدوء: -اها، يبقى محتاجين نعمل زيارة ليها
أضاف منذر بحسم وهو مسلط أنظاره على ظهر أبيه: -الأهم نقنعها تبيعلنا نصيبها
التفت طه ناحيته، ورد مبتسماً بثقة: -دي أمرها سهل!

اضطرت أسيف أن توقع إلى جوار والدتها ببيع نصيبها في ورثها في الأرض الزراعية المملوكة لأبيها، وسلمها الحاج فتحي المبلغ المتفق عليه قائلاً بإبتسامة عريضة:
-مبروك عليكم البيعة!
نظرت له أسيف شزراً، فلولا حالة والدتها الصحية – والتي تعد ميئوساً منها – وتدهورها مؤخراً، بالإضافة إلى حاجتها إلى سيولة مادية للإنفاق عليها ورعايتها لما وافقت أبداً عن التخلي عن أرضها.

-عدي فلوسك يا ست حنان وإتأكدي منها!
هتف بتلك العبارة ليخرجها من تحديقها المغلول به، بينما ردت عليه والدتها بصوت محبط:
-مافيش داعي!
زادت ابتسامته اتساعاً وهو يضيف: -ربنا يباركلنا جميعاً، وأهو كله رزق من المولى!
لم تقتنع أسيف بقناع الورع الزائف الذي يضعه على وجهه، ونهضت من أمامه مرددة بوقاحة:
-شرفتنا يا خال!
نظر لها بحدة، بعد أن تبدلت تعابير وجهه للتجهم بسبب أسلوبها الفظ معه، وقطم حديثه قائلاً:.

-فوتكوا بالعافية!
عاتبتها والدتها قائلة بصوت منهك: -ليه كده يا بنتي؟
ردت عليها بنبرة مغتاظة وهي تشير بيدها: -كفاية كدب ونفاق يا ماما، أنا مش قادرة أستحمل!
طأطأت حنان رأسها للأسفل مرددة بحزن: -معلش، ربنا موجود، ومش بينسى عبيده!
-ونعم بالله
صمتت هي للحظة متأملة حال والدتها، ثم هتفت فجأة بجدية شديدة: -ماما!
انتبهت لها حنان، ورفعت أنظارها نحوها قائلة بتنهيدة: -ايوه.

اقتربت من والدتها، وجثت على ركبتيها أمامها، ثم هتفت بجدية: -احنا بالفلوس دي هنشوف علاج كويس ليكي!
تهدل كتفي حنان، وردت بنبرة فاترة: -يا بنتي مالوش لازمة، أنا راضية بنصيبي وبقضاء ربنا!
وضعت أسيف كفيها على ساقي والدتها، وألحت قائلة بنبرة عازمة: -بس ربنا قال اسعوا وخدوا بالأسباب، وأنا مش هاتفرج عليكي لحد آآ. لحد ماآآ..
تعذر عليها إكمال جملتها، فهي تخشى خسارة نبع الأمومة والحنان كأبيها.

ابتسمت لها والدتها بود، ومسحت على وجنتها برفق قائلة بهدوء حزين: -ماتكمليش، ده مقدر ومكتوب!
ابتلعت أسيف غصة مريرة في حلقها، وأخذت نفساً عميقاً لتضبط به إنفعالاتها وتخفي ضعفها قبل أن تنهار باكية فتزيد من الأمر سوءاً، ثم أخرجته ببطء، وهتفت بإبتسامة متحمسة:
-أنا هادور على مستشفى كويسة جايز يكون في أمل!
ردت عليها والدتها بإحباط: -ماتتعبيش نفسك، وتضيعي الفلوس دي على الفاضي، سبيها تنفعك في جوازك!

هزت رأسها مستنكرة تفكير والدتها المنحصر في أمور تقليدية، وأصرت على موقفها قائلة:
-مافيش أغلى عندي منك يا ماما، إن شاء الله كل حاجة تروح بس أشوفك قدامي كويسة وبخير!
ضمت والدتها وجه ابنتها بكفيها، ورمقتها بنظرات حانية، ثم همست لها: -ربنا يباركلي فيكي يا بنتي، ويعوضك خير!
كانت تتحرك بخطوات شبه متعجلة بعد أن أنهت عملها في تلك المدرسة الحكومية التي تعج بعشرات الطلاب المزعجين.

بالطبع اليوم كان مرهقاً لها، ومليئاً بالمشاحنات والمضايقات لذلك لم تنتبه هي إلى صاحب محل الجزارة الذي كان يقذف بالمياه على الرصيف الخاص به، فابتل طرف ثوبها، فتحولت نظراتها للعدائية، والتفتت إليه لتشتبك معه قائلة بشراسة:
-ماتفتح يا أخي، هو أنت اتعميت في نظرك!
تقوس فم الجزار بإبتسامة متشفية وهو يجيبها غير مكترث بإتساخ ثوبها ليستفزها أكثر:
-لا مؤاخذة يا ست الأبلة.

ردت عليه بحدة وقد برزت مقلتيها الحمراوتين: -اسمي مس بسمة، مش أبلة!
التوى ثغره بإبتسامة ساخرة، ورد عليها بتهكم: -يعني غلطت في البخاري!
تجهم وجهها أكثر، واصطبغت بشرتها البيضاء بحمرة غاضبة، ثم هدرت فيه بصوت مرتفع ومتشنج:
-لأ بقى، إنت كده بتقل أدبك عليا، وأنا ممكن أركبك جناية وأنا واقفة هنا!

بدأ المارة في التجمع على إثر صوتها العالي، وتابعوا بفضول ما يدور من مشاجرات شبه يومية بين ابنة السيدة عواطف، وذلك الجزار السمج.
رد هو عليها بحنق: -طب وليه الأذية دي من الأول!
صاحت فيه بغيظ وقد ارتفع حاجباها للأعلى: -ماهو انت اللي اتغابيت عليا، وأنا لو الجنونة ركبتني هآآآ..
في تلك اللحظة هتفت والدتها بصوت شبه آمر وهي تطل من شرفة منزلها: -بسمة، اطلعي!

لوح الجزار بيده في الهواء مرحباً بثقل: -مساءك فل يا ست عواطف!
رمقته بسمة بنظرات نارية مستنكرة أسلوبه الاستفزازي، وردت على والدتها بإنفعال: -استني يا ماما، أما أربي الأشكال الضالة دي الأول
أغاظه ردها الوقح، وتمتم مصدوماً: -الله! الله!
هدرت والدتها بنفاذ صبر: -يا بنتي هو كل يوم خناقة مع الناس؟!
ردت عليها بسمة بحدة: -هو أنا اللي بأجر شَكَلهم من الباب للطاق؟!

أشارت لها بيدها قائلة بقوة: -طب اطلعي ربنا يهديكي
حدجت بسمة الجزار بنظرات احتقارية قبل أن تضيف بسخط: -ناس عاوزة الحرق، اتفووو!
ثم تعمدت تصنع البصق أمامه كتعبير عن نفورها منه واشمئزازها من شخصه، فاستشاط غضباً أكثر، وكبح بصعوبة التطاول عليها، وغمغم مع نفسه بحنق:
-يا ساتر يا رب، بت الله أكبر عليها، عاوزة حش وسطها..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة