قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني والسبعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني والسبعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني والسبعون

حافظت على تلك المسافة الكبيرة بينهما، متعمدة الظهور بمظهر جدي أمامه، ورغم ما تفعله من مكابرة وعِند إلا أنه كان هادئ الطباع متأملاً إياها بتمعن، شددت من كتفيها لتعتدل في جلستها، ثم أدارت رأسها بخفة ناحيته متابعة بتشنج قليل:
-حضرتك الاتفاق هينتهي بمجرد ما نروح بيتي!

ضاقت نظراته حتى بدت مزعوجة من عزمها على إنهاء الخطبة نهائيًا، وما زاد من ضيقه هو تعاملها الرسمي معه، وكأنه شخص غريب، تمتم باستنكار قليل:
-مممم. حضرتي!
تابعت قائلة بعصبية واضحة وهي ترمقه بنظرات حادة: -بيتي اللي في البلد، أظنك فاكره؟ ده سبب الاتفاق من الأول، ولحد دلوقتي أنا معرفش حاجة عنه، ولا روحنا ولا..

أزعجه تلميحها الصريح لكونه متقاعسًا عن تأدية مهمته، مع أنه يبذل ما في وسعه لراحتها وإسعادها، لذلك هتف مقاطعًا بنبرة جادة رغم ضيقه الواضح على تعابيره:
-وأنا متأخرتش، بس أكيد إنتي شايفة الظروف عندكم كانت عاملة ازاي؟ وإلا كان هيتقال عننا كلام بايخ! ده غير اللي حصل امبارح!
ردت بتجهم: -ايوه، والظروف دي انتهت والحمدلله!

نظر لها بجمود، بوجه غير مقروء التعبيرات، متعجبًا من طريقتها، كيف يعقل أن تكون هي من عاونته في شدته بالأمس؟ وفي نفس الوقت ترغب في إنهاء ما بينهما في أقرب وقت؟ عبست نظراته، واكتسى وجهه بالحزن لمجرد التفكير في الأمر.
سلطت أسيف أنظارها عليه متسائلة بقلق: -ممكن بقى نحدد ميعاد نروح هناك؟

صمت ولم يعقب عليها، هي تتعمد التعجيل بإنهاء كل شيء قبل أن يشرع في إشعارها بما يحسه نحوها، تريد أن تخمد جذوة حبه قبل أن يصرح بها، واصلت حديثها المنفعل حينما طال سكوته المريب:
-لو سمحت رد عليا، أنا أعصابي متوترة، وبيتي معرفش إن كان اتحرق ولا دي كدبة من خالي، ومحدش حاسس بالحيرة اللي جوايا ولا بالقلق و..

هب واقفًا فجأة من مكانه ليرد بصلابة تليق به: -حاضر، جهزي نفسك وهنتوكل على الله بكرة، بس الأول لازم أسلمك حقك!
ارتجفت لوهلة من تصلبه، ورفعت أنظارها عاليًا لتحدق فيه مرددة بذهول: -حقي؟
دنا منها قائلاً بضيق: -ايوه، بقية اتفاقنا!

نظرت له بتفرس متأملة تلك الخدوش وأثار الكدمات الواضحة عليه، لم تكن رأتها عن قرب، فشعرت بنغصة في صدرها لمجرد تخيل ذلك الألم القوي الناتج عن الضربات العنيفة التي تلقاها، لم ينتبه لنظراتها المتطلعة إليه، حيث دس يده في جيب بنطاله الخلفي ليخرج منه ورقة ما مطوية، نظرت له باستغراب أكبر، اقترب أكثر منها حتى بات قبالتها، ثم ناولها إياه، تسائلت أسيف بحيرة:
-ايه ده؟
أجابها باقتضاب: -عقد الدكان.

فغرت شفتيها مدهوشة، وبحذر مترقب أخذته منه، وسريعًا ما فتحت الورقة لتتأكد من صحة ما يقول، هو بالفعل أعطاها صك ملكية الدكان ليغدو بالكامل لها.
أخرجها من صمتها المتعجب قائلاً بتريث: -أنا اتنازلت ليكي عن حصتي بيع وشرا
لوهلة بدت في حيرة واضحة غير قادرة على إيجاد الكلمات المناسبة للرد عليه، شعرت بالإحراج منه، وأطرقت رأسها قليلاً، ثم ضغطت على شفتيها هامسة:
-بس احنا..

أشاح بوجهه بعيدًا بعد دسه ليديه في جيبي بنطاله، ثم هتف بجمود: -الاتفاق اتفاق. يا بنت رياض!
انزعجت في نفسها من تبدل حاله من الارتخاء والابتسام للتجهم والعبوس، كانت متأكدة أنها وراء ذلك التحول السريع، هي خشيت أن تحيد عن هدفها الأساسي، وتنشغل بأمور أخرى فرعية لن تستمر طويلاً، لذلك الأسلم أن تلمح دومًا إلى قرب انتهاء ما بينهما.
أولاها منذر ظهره قائلاً بضيق وهو يتجه نحو الخارج: -سلامو عليكم!

أحست بتأنيب الضمير لتعاملها معه بتلك الطريقة الجافة، هي كانت حذرة في كلماتها، لكنها لأول مرة تشعر بالضيق من تصرفها على الرغم من اقتناعها به، حدقت مجددًا في صك الملكية بنظرات شاردة، هي حصلت على مبتغاها، لكنها لم تكن سعيدة بالمرة، هناك شيء ناقص في فرحتها تلك.

أخفضت رأسها لتحركها بإيماءات مستنكرة، مازال يتكبد الكثير من أجلها، وهي تتعامل بجفاء قاسٍ، تنهدت بضجر واضح عليها، ثم أغمضت عينيها محاولة إجبار نفسها على عدم التفكير في أي شيء.

وكعادة موظفي المصالح الحكومية التباطئ المتعمد لتعطيل سير الأمور، لكنها كافحت قدر استطاعتها لتنتهي من الحصول على ورقة رسمية تفيد بأحقيتها في عطلة مرضية نتيجة لتعرضها لحادث مفاجئ، بقي لها القليل، وعاونتها رفيقتها في إنجاز ما هو مطلوب من توقيعات وطوابع حكومية، وتبقى فقط الذهاب إلى مقر عملها لإعطاء تلك الإفادة لوكيل المدرسة.

استقلت بسمة مع رفيقتها سيارة الأجرة لتتجها إليها، وما إن توقفت السيارة حتى ترجلت هي منها مستندة على عكازها الطبي، هي مضطرة لاستخدامه في تلك الأونة الأخيرة حتى تتمكن من السير بصورة طبيعية.
تفاجأت به متواجدًا عند بوابة مدرستها مستندًا على سيارته، وعاقدًا ساعديه أمام صدره، اتسعت حدقتيها باندهاش كبير، وتحركت بخطى عرجاء نحوه متسائلة باستغراب:
-إنت بتعمل ايه هنا؟

اعتدل دياب في وقفته مرخيًا ساعديه، ثم رد عليها معاتبًا: -مافيش سلامو عليكم، أهلاً وسهلاً، أي حاجة كده؟
لم تعبأ بما قاله بل واصلت استجوابها المتهكم: -جاي هنا ليه؟ هو إنت بتطاردي ولا حاجة؟
حدق فيها بنظرات حادة، ثم أجابها متسائلاً بامتعاض بائن على محياه: -إنتي ايه اللي نزلك من البيت؟
تعقد حاجباها بدرجة كبيرة وهي تسأله: -افندم؟
تابع مبررًا وهو يشير نحو ساقها المصابة: -مش لسه رجلك مخافتش، و..

قاطعته بحدة رافعة سبابتها أمام وجهه: -ده شيء يخصني، ومعلش يعني سيادتك مش هاتنفعني لما أترفد من المدرسة ولا يتخسف بمرتبي الأرض!
رد عليها بسخط: -يا ستي اقعدي مرتاحة في بيتك معززة مكرمة وبعد كده ربك يسهلها!
لم تنتبه إلى رفيقتها التي ظلت باقية في الخلف منتظرة إياها لكي تفرغ من حديثها، لكنها استشعرت احتمالية امتداد الحوار بينهما، فهتفت قائلة بحرج:
-بسمة أنا داخلة جوا، عاوزة حاجة مني؟

التفتت برأسها نحوها، وردت بجدية: -استني أنا جاية معاكي!
تدخل دياب في حوارهما قائلاً بصلابة: -معلش يا أبلة هي مشغولة معايا، روحي انتي شوفي مصالحك، متشكرين مش عاوزين نعطلك!
تحرجت رفيقتها كثيرًا، فاكتفت بالابتسام وتحركت مبتعدة عنهما، انزعجت بسمة من تصرفه الوقح، فصاحت مستنكرة بعصبية:
-انت مالك ومال زميلتي؟ هو أنا وكلتك تكلم عني؟ ولا ناقصة لسان!
رد عليها مداعبًا: -ما شاء الله إنتي عندك فائض فيه!

قبضت بيدها أكثر على عكازها هاتفة: -لو سمحت أنا..
قاطعها قائلاً بجدية: -ما أنا مخلصتش كلامي يا أبلة!
نفخت بصوت مسموع وهي تقول بعبوس جلي: -انجز!
رفع حاجبه للأعلى ساخرًا: -بقى دي كلمة يا أبلة تعلموها للعيال عندكم؟
ضجرت من ثرثرته الزائدة، فهتفت بنفاذ صبر: -عاوز ايه؟
-انتي هايجيلك استدعا من النيابة
-ليه؟
وضع يده على طرف ذقنه يفركه بعصبية وهو يجيب على مضض: -هما شاكين في الجزار إنه يكون ورا الحادثة بتاعتك!

تحولت نظراتها للشراسة، وتعابير وجهها للاحتقان، وبدأت خيوط حمرة الغرب تتجمع على وجنتيها، صاحت بنبرة مغلولة:
-الجبان الخسيس، قلبي كان حاسس إنه وراها!
ضربت بعكازها على الأرضية، ثم استدارت بجسدها متابعة بوعيد مغتاظ: -والله ما سيباه
اعترض دياب طريقها متسائلاً: -استني رايحة فين؟
كزت على أسنانها بقوة وهي تقول: -هاعرفه مقامه!
أشار لها بكفه قائلاً بغموض: -لأ خلاص، مفيش داعي، أنا ظبطهولك!

كورت قبضتها بعنف متابعة بحنق: -أنا مخدتش حقي لسه منه، ومش..
قاطعها مازحًا وهو يشير بكفي يده: -اهدي بس، ماتبقيش زي القطر واخدة في وشك ودايسة اللي واقف قدامك!
حدجته بنظرات مزعوجة، ثم ضغطت على شفتيها متسائلة: -في حاجة تانية؟
ابتسم قائلاً: -تعالي أما أوصلك البيت، مش انتي خلصتي اللي وراكي؟
تجهمت تعابير وجهها وهي تجيبه باقتضاب: -اه، بس هاخد تاكسي.

وضع يده على صدره قائلاً بغطرسة قليلة: -تاكسي وأنا موجود؟ دهحتى عيبة في حقي!
ردت عليه بتهكم: -هو انت قلبت عربيتك أجرة؟
نظر لها بضيق، ثم لوى ثغره قائلاً: -شربات، لسانك بينقط عسل أسود!
-بايخة!
-إيش حال مابقينا نسايب ومعارف أكتر وحبال الود رايحة جاية بينا..
-استغفر الله العظيم يا رب
اقترح عليها قائلاً بهدوء علها تقتنع بحديثه: -طب بصي اركبي ورا، وأهو نص العمى ولا العمى كله!

ردت قائلة باستغراب: -إيه الحكمة اللي نزلت عليك فجأة
هز رأسه للجانبين قائلاً بهدوء: -يهدي من يشاء بغير حساب!
أدارت وجهها للجانب لتخفي ابتسامتها من طريقته الطريفة، لكن سريعًا ما اختفت حينما تابع قائلاً بجدية:
-هاتي ايدك
هتفت مستنكرة وقد زاد انعقاد ما بين حاجبيها: -نعم؟
تنحنح مرددًا بخفوت: -قصدي عكازك!
سألته مستفهمة: -ليه؟
أجابها مبتسمًا بتأكيد وهو يغمز لها: -هاقعده جمبي يونسني!

ظهر شبح ابتسامة رقيقة على ثغرها، ثم أدارت رأسها للجانب لكنها كانت تلمحه من طرف عينها.

احترقت كمدًا من وقاحته الفظة معها، أنهى بأسلوبه اللاذع أي بارقة أمل للتودد إليه، بل قضى على رغبتها في التعلق به، ولكن هذا ليس معناه أن تجعله يهنأ مع غيرها، مثلما جعلها تحترق غيظًا وحنقًا، ستحيل حياتهما إلى جحيم متواصل، حدقت في انعكاس صورتها في المرآة لترى شبح امرأة تنهشها نيران الحقد والغل، ولن تسمح للهيب غضبها أن يأكلها هي فقط.

همست نيرمين من بين شفتيها بتوعد مخيف: -هاتشوفوا انتو الاتنين، مش نيرمين اللي يتعمل فيها كده وتسكت!
بكت رضيعتها حتى اختنق صدرها من كثرة الصراخ، لكنها لم تكترث بها، نظرت لها بقسوة مزدرية، اندفعت والدتها نحو الغرفة صائحة بتوبيخ:
-ايه يا بنتي؟ مش سامعة صراخها؟ حرام عليكي!
تحركت أنظارها نحو والدتها وهي ترد بفتور: -تلاقيها عاوزة تغير ولا اتنيلت جاعت!

حملتها عواطف برفق بين ذراعيها لتهدهدها برفق، وربتت على ظهرها بحنو كبير، نظرت إلى ابنتها قائلة بضيق:
-راعي ربنا في الأمانة اللي معاكي بدل ما تروح منك!
ردت عليه نيرمين بصياح متشنج: -يووه، أنا مخنوقة وجاية أخري، مش ناقصة حد يعتت في جتتي!
استاءت من تحجر قلبها نحو رضيعتها، من قسوتها الغير مبررة، فمصمصت شفتيها هاتفة بيأس:
-هاقول ايه بس غير ربنا يهديكي!

اعتدل في جلسته بعد أن أسند فنجان قهوته الفارغ، ثم وضع ساقه فوق الأخرى ليبدو مظهره أكثر صرامة، ابتسم له الشيخ إسماعيل بود لاستجابته لدعوته في ضيافته بمنزله، وهتف مرحبًا:
-شرفتنا يا سيادة المأمور، شوية والحريم هاينزلوا بالغدا و..
قاطعه المأمور قائلاً بجدية: -مافيش داعي، كفاية القهوة!
ابتسم قائلاً بود مهذب: -ليه بس جنابك؟ هو احنا كل يوم بيجيلنا مأمور المركز، ده الليلة عيد عندنا!

-كتر خيرك، دايمًا الدار مفتوحة بكرمك
-الله يخلي سيادتك، المهم بلدنا تكون عجبتك!
-مش بطالة، أنا بقالي شهرين هنا بس مبسوط من الناس
-إن شاء الله يبقوا سنتين
ضحك الاثنان بتكلف كنوع من المجاملة الودودة، لكن هدأت ضحكاتهما ليسترسل بعدها المأمور في حديثه الجدي قائلاً:
-شوف يا حاج إسماعيل، بما إنك من كبارات البلد هنا، فأنا حبيت أتكلم معاك بشكل ودي الأول قبل ما أخد خطوة تانية!

توترت تعابير وجه الأخير وهو يرد بحذر: -اتفضل جنابك
انتظر المأمور للحظات قبل أن يكمل بغموض: -موضوع حريق دار خورشيد، مش قضاء وقدر، ده بفعل فاعل!
ارتفع حاجباه للأعلى مظهرًا قلقًا أكبر عن ذي قبل.
تابع المأمور موضحًا: -المعمل الجنائي قال في تقريره إن الحريقة مفتعلة، بمعنى إن في حد عمل زي قفلة في الكهربا عشان يولعه!

ازدرد الحاج إسماعيل ريقه بصعوبة، وجاهد ليبدو هادئًا في تصرفاته، لكن تأكدت شكوكه تمامًا، وخشي أن يفتح أمره أمام ذلك الضابط المخضرم في وظيفته.
أخرجه من تفكيره المتوجس صوته المردد: -والسؤال هنا بقى بصفتك عارف كل كبير وصغير هنا، مين ليه يا حاج إسماعيل عداوة مع عيلة رياض خورشيد؟
تلعثم الحاج إسماعيل وهو يجيبه: -احنا. كلنا أهل في بعض، و..

أشار له بكفه معللاً: -شوف أنا عارف الكلام د كويسه، بس لازم يكون في زي حاجة كده حصلت، شد بين رياض وحد من البلد، أو مراته جايز بنته و..
-المرحوم كان راجل طيب وفي حاله، ومراته اللي يرحمها كانت زي النسمة محدش بيكرهها!
ضاقت نظرات المأمور نحوه، ثم انحنى للأمام متسائلاً: -وبنته؟

تردد في إخباره بالمشاجرة العنيفة التي دارت مع قريبها، هو لا يريد الزج بنفسه في مشاكل ما دون داعٍ بسبب اندفاع فتحي، فبدا مرتبكًا وهو يقول:
-والله هي سافرت عند. عمتها، و..
تفرس في وجهه بنظرات غامضة، بدا حديثه غير مرتب وكأنه يحاول اختلاق الأعذار، فاستشف بخبرته وجود خطب ما، لكنه لم يرد إثارة ريبته، ابتسم هاتفًا بتنهيدة مرهقة وهو ينهض من مقعده:.

-طالما عند عمتها يبقى مافيش مشاكل من ناحيتها، عمومًا أنا بأشكرك على القهوة دي، ومنتظرك تنورني في مكتبي!

أعدت عدتها في ظهيرة اليوم التالي لتسافر بصحبته ومعها عمتها وبسمة، واستعان هو بسيارة أخيه كبديل عن سيارته المحترقة، انتظرهن بالأسفل بوجه جامد الملامح، نظراته فارغة إلى حد كبير، خفق قلبه لمجرد رؤيتها، فسحب نفسًا عميقًا ليضبط به انفعالاته قبل أن تتغير، هو تعمد عدم إظهار تأثره بها، يكفيه حاليًا حدتها المستمرة معه ليسمع منها ما يزعجه.

استقر الجميع في المقاعد، وانطلق بالسيارة نحو وجهته غير متوقع ما سيحدث هناك..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة