قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني والتسعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني والتسعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني والتسعون

رغم تبرمها من تعجله في تلك الخطوة تحديدًا لكن فرحته الواضحة عليه جعلتها تتقبل الأمر بعاطفة أمومية صادقة من أجل سعادته هو فقط، راقبت باهتمام تصرفاته المليئة بالحيوية والنشاط لإنجاز ماهو مطلوب في أقل وقت ممكن، نعم مر وقت طويل منذ أن رأته متحمسًا لأمر ما، أدركت عن ظهر قلب أن الحب يفعل المستحيل، تنهدت بعمق مبدية ندمها في نفسها لسعيها الدؤوب على إجباره على زيجة لم تكن لتحقق له الهناء والسرور مثلما تراه اليوم، واجتهدت هي الأخرى في تجهيز ما يلزم لتصبح غرفته جاهزة لاستقبال العروس.

أشرفت بنفسها على ترتيب الأثاث الجديد بالغرفة محذرة بجدية: -حاسبوا التسريحة مش عاوزين حاجة تتبهدل!
استدار منذر ناحية والدته متسائلاً: -ها يا أمي ايه رأيك؟
أبدت إعجابها بالأثاث الحديث – ذو اللون البني الداكن – قائلة بابتسامة عريضة: -ماشاء الله، حاجة حلوة على الأخر!
ربتت على كتف ابنها مضيفة: -تتهنى فيها يا رب.

أمسك بكفها بين راحتيه ليربت عليه برفق كنوع من الامتنان لدعمها له، ثم سألها بقلق طفيف:
-تفتكري ذوقي هايعجبها؟
حرر قبضتها من يديه مكملاً بامتعاض: -هي مرضتش تنزل معايا تختار، وده مضايقني شوية و..!
قاطعته مبررة بهدوء: -بكرة تفرشوا بيتكم براحتكم، وتناقوا كل حاجة على ذوقكم!
هز رأسه موافقًا رأيها، فأضافت بجدية: -المهم إن ربنا يبعد عنكم أي شر
-يا رب أمين.

تابعت جليلة وهي تشير بسبابتها: -أول ما العمال ينزلوا أنا هابخرهالك وهاشغل قرآن في الأوضة عشان الحسد!
اتسعت ابتسامته الودودة قائلاً: -ماشي يا أمي، اللي يريحك!
ربتت على ظهره مجددًا وهي تدير رأسها في اتجاه العمال لتتابعهم عن كثب، بينما شرد هو في أحلامه المستقبلية مع حبيبته.

استندت برأسها على مرفقها شاردة في ذلك المشهد الحميمي بينهما رغم نفيه لأكثر من مرة عدم وجود أي رابط يجمعهما سوى ابنه، أزعجها تكراره في مخيلتها وكأنه عقاب خاص بها لتعذيبها، تنهدت بمرارة زافرة عن صدرها همًا أخرًا يطبق على روحها، لم تشعر بأسيف التي كانت تحدثها للحظات حتى هتفت باسمها بنبرة شبه مرتفعة:
-بسمة انتي مش معايا خالص!
انتبهت لصوتها فأفاقت من سرحانها المؤقت قائلة بصوت شبه متحشرج: -معلش!

حاولت أن تبتسم لتبدو أكثر إقناعًا وهي تتابع بتردد: -ت. تلاقيني مصدعة شوية
اقتربت منها أسيف أكثر لتتفرس في ملامح وجهها الذابل، رأت عينيها الملتهبتين بحمرة واضحة فخمنت على الفور سبب حمرتهما، سألتها بنزق:
-انتي كنتي بتعيطي؟
انتفضت في مكانها خيفة من كشف أمرها، وهزت رأسها نافية بقوة هاتفة: -لأ أبدًا، ده بس.
بدت طريقتها غير منطقية بالمرة ومتنافية مع تعبيراتها المنكسرة، فأصرت على رأيها قائلة بجدية:.

-بسمة في ايه مضايقك؟ اتكلمي بصراحة!
انزعجت من تضييق الحصار عليها، فهبت واقفة من مكانها قائلة بخفوت حزين: -ولا حاجة!
أولتها ظهرها كي لا تفضحها عيناها علنًا، وبدأت في فرك أصابعها بتوتر كبير، استشعرت أسيف وجود خطب ما بها، فلم تقتنع بردها لذا تابعت مضيفة بحذر علها تعلم ما بها:
-بس أنا مش حاسة كده، إنتي..

قطمت عبارتها مجبرة حينما هربت من أمامها فجأة، ارتفع حاجباها للأعلى باندهاش كبير، وركضت ورائها مرددة بصدمة:
-استني رايحة فين!
لم تتحمل المزيد من الضغوطات والأسئلة المحاصرة لها، هي اكتفت من كتم كل ما تشعر به في صدرها حتى اختنق على الأخير، فرت من أمامها كي لا تنهار، لكن لم تتركها بمفردها، حدسها ينبؤها بسوء حالتها النفسية، وقسمات وجهها تؤكد لها الأمر، لذلك تساءلت بتلهف:
-مالك يا بسمة؟ طمنيني؟

وضعت يدها على كتفها وأدارتها نحوها متابعة باهتمام قلق: -في حاجة حصلت؟ حد ضايقك؟
تشنجت نبرتها وهي تجيبها: -أنا مخنوقة يا أسيف، مخنوقة ومش قادرة خلاص!
لاحظت عصبيتها الزائدة وحالتها الثائرة فجاهدت لامتصاصهما هاتفة بتوجس: -طب اهدي، في ايه لكل ده؟
انهارت باكية وهي تجيبها بصوتها المختنق: -أنا مش عارفة مالي!

تراجعت للخلف لتجلس على طرف الفراش دافنة وجهها بين راحتيها وهي تكمل بصعوبة: -مضايقة جدًا، حاسة زي ما يكون في حاجة كاتمة على نفسي!
جلست أسيف إلى جوارها محاوطة إياها بذراعها، ظلت تمسح على ظهرها برفق ودود، ثم همست لها:
-احكيلي يا حبيبتي، أنا مستعدة أسمعك
ظلت مخبئة لوجهها متحرجة من كشفه، ردت بلا وعي بنبرة متقطعة: -أنا. خايفة أكون..

لم تسمع بوضوح ما الذي تردده، لكن قطعًا الأمر مزعج بدرجة كبيرة معها، سألتها بتلهف مهتم وهي مستمرة في المسح على ظهرها:
-تكوني ايه؟
أجابتها من بين بكائها المكتوم: -اتعلقت بيه!
ضاقت عيني أسيف باهتمام كبير من جملتها المقتضبة المثيرة للفضول متسائلة: -مين ده؟!

راقبت حديثهما العابر دون أن تدخل فيه علها تعرف ما الذي أصاب ابنتها لتبدو على تلك الحالة الشاردة الحزينة، هي أمها وتشعر بها وبحزنها الملموس، ومنذ عودتها من الخارج وهي تراها واجمة يعكس وجهها الكثير، لكنها لم ترغب في إجبارها على الحديث لتيقنها من رفضها الإفصاح لها عما يجيش في صدرها، فتركت تلك المهمة لابنة أخيها التي لم تتأخر عنها، واهتمت بها على الفور.

باحت بسمة بما تكنه في صدرها مزيحة تلك الأثقال عنها، فقد فاض بها الكيل، وامتلأت روحها على الأخير حتى خبت قواها واستسلمت، علمت منها اعتراف دياب بحبه لها، برغبته في الزواج بها، برفضها لتلك الزيجة، وإحساسها بالاختناق والضيق لرؤيته مع غيرها، خشيت أن تعترف لنفسها بحقيقة مشاعرها، بوجود بذرة لشيء ما في قلبها نحوه، شيء أرادت ودأه منذ البداية كي لا يتحول إلى عبء كاسح لها.

أشفقت عليها أسيف كثيرًا، وابتسمت لها محاولة إزالة ذلك التوتر المشحون مرددة بلطف:
-طب ليه مافضفتيش معايا من الأول؟
تهدل كتفيها بانكسار وهي تجيبها: -مش عارفة، جايز لأني مش عاوزة الموضوع ده!
-محدش هايجبرك على حاجة!
-أنا عارفة، بس. اللي بيحصلي ده و..
-وايه؟

سردت لها تلك المشادة الكلامية الحامية مع زوجة الجزار أثناء سفرهما للبلدة الريفية، وما تبعها من حضور دياب للمنزل وإصراره على الارتباط، خافت أن يكون إلحاحه نابعًا من كونه مجرد مساعدة منه لإيقاف تلك الألسن التي تطاولت عليها، انزعجت أسيف من تفكيرها المحدود مرددة بعتاب رقيق:
-غلطانة يا بسمة، دياب مش كده، وإنتي أكتر حد شوفتي مواقفه، ده نسخة من منذر!

هزت رأسها بأسف وهي ترد بنبرة محبطة: -بس للأسف في حاجة هتفضل بينا
قطبت جبينها متسائلة باهتمام: -ايه هي؟!
سحبت نفسًا مطولاً لفظته ببطء وهي تجيبها: -ابنه يحيى وطليقته!
ردت عليها أسيف بحماس طفيف: -طب والله ابنه بيحبك جدًا، بالعكس أنا بأشوفه متعلق بيكي جدًا، يمكن أكتر من أبوه وأمه!
ارتجفت نبرتها وزاد ترقرق العبرات في مقلتيها حتى بدت على وشك البكاء مرة أخرى وهي تقول:.

-أنا بأحبه أوي، بس خايفة من التجربة، خايفة يحصل معايا زي نيرمين!
امتعضت تعبيرات أسيف بانزعاج بائن لم تخفيه، فأختها تثير الأعصاب بتصرفاتها المستفزة، وبالتالي تأثر بسمة بمواقفها لا مفر منه، هي نفسها عانت من قسوتها وجحود قلبها في أحلك الظروف، لذلك ردت بجدية:
-ماتحطيش نفسك دايمًا في مقارنة مع غيرك، وخصوصًا نيرمين!

شعرت عواطف برجفة قوية تضرب جسدها بعد سماعها لتلك الاعترافات المثيرة، ابنتها تحت وطأة ضغوط مهلكة للأعصاب وتجاهد للبقاء قوية صلبة وصلدة أمام الجميع، كذلك كانت الظروف والأوضاع مختلفة تمامًا بين الأختين، فكلتاهما تعاصر وتعايش تجارب لا علاقة لها بالأخرى، لذلك من المجحف المقارنة بينهما وتوقع نفس النتائج.

لم يتوقف عن البكاء رغم انتهاء اليوم الدراسي حتى أصبحت معلمته مزعوجة من صمته المريب ورفضه الحديث عما أصابه ليبدو على تلك الحالة المقلقة، كان كل شيء طبيعيًا حتى عاد مجددًا إلى الفصل، ظنت في البداية أن للأمر علاقة بثيابه المبتلة، فتحرج الصغير من الموقف بين أقرانه، لكن مع استمرار نحيبه وبحكم خبرتها نشأ عندها اعتقادًا أن المسألة أعمق من هذا، حاولت تهدئته والحنو عليه لكنه رفض الاستجابة لها، وظل ينوح قائلاً:.

-عاوز مامي، عاوز أمشي من هنا!
سئمت من عناده المستمر، فأرسلت في طلب المشرفة لتتولى متابعته حتى تتمكن من الانتباه لباقي الأطفال، اصطحبته الأخيرة معها إلى غرفتها محاولة فهم ما حدث له، لكن كانت كلماته مبهمة ومكررة، اضطرت في النهاية إلى الاتصال بوالده للحضور، وبالفعل لم يتأخر عن ابنه فأتى لمدرسته على عجالة، واتجه إلى غرفة الناظرة ليقابلها متسائلاً بانزعاج كبير:
-ماله يحيى؟

أجابته بنبرة رزينة وهي مشبكة لكفيها معًا: -الطفل مش عاوز يتكلم، ورافض يتجاوب مع أي حد حتى المس بتاعته!
رد دياب متعجبًا وهو يشير بيده: -ماهو كان كويس طول اليوم
تابعت مضيفة بهدوء: -جايز في مشكلة في البيت مأثرة عليه
هتف معترضًا بانفعال طفيف: -مشكلة ايه؟ ما هو نازل معايا كويس!
أوضحت له الناظرة قائلة: -ابنك مابطلش ينادي على مامته!

عبس وجهه بصورة واضحة من جملته، فلاحظت تجهم تعبيراته وسألته بجدية شديدة: -هي فين أصلاً؟ احنا طلبناها معاك!
ضغط على شفتيها قائلاً بزفير مزعوج: -احنا منفصلين!
-ممممم
-بس برضوه مافهمتش ابني ماله؟
أخذت الناظرة شهيقًا عميقًا، ثم حررته بتمهل وهي ترد بتريث عقلاني: -أستاذ دياب، اعذرني إن كنت هتدخل في أمورك الشخصية، بس أنا كمربية قبل ما أكون مديرة للمكان ده يهمني نفسية الأطفال جدًا.

سألها متعجبًا وقد رفع حاجبه للأعلى: -وده ايه علاقته بيا؟
أجابته بحذر: -اللي فهمته من كلامك إن يحيى قاعد معاك انت، صح؟
-أيوه
-طب هل بيشوف والدته بانتظام؟
لوى ثغره للجانب وهو يجيبها بامتعاض: -مش دايمًا
تابعت مبررة تصرفه: -جايز يكون محتاجلها وخايف يقولك ده لأحسن ترفض
رد معترضًا بعصبية على اتهامها الضمني بكونه يسبب نوع من الهلع لصغيره: -ماعمروش طلب مني إنه يشوفها وأنا قولتله لأ، بلاش الطريقة دي معايا!

لاحظت انفعاله الظاهر في نبرته وإيماءاته فردت بإصرار: -ممكن لأنك مش بتديله فرصة يعبر عن اللي جواه!
زفر بصوت مسموع رافضًا تلميحاتها الصريحة فأكملت بجدية: -أرجوك لازم تراعي نفسية ابنك، لأن أحيانًا تصرفات الكبار بتأثر على الأطفال بدون ما ياخدوا بالهم
هب من مكانه واقفًا معلنًا عن انتهاء مقابلته معها وهو يرد باقتضاب: -ربنا يسهل.

نهضت هي الأخرى من مقعدها متابعة: -واحنا مع حضرتك في أي مساعدة، في النهاية يحيى ابننا كلنا
-إن شاء الله
كانت نظراتها الموجهة إليه تشير إلى اعتقادها بأنه السبب في حالة ابنه، واستنكر هو تلك الاتهامات لكونه لا يبخل عنه بشيء، أشارت له بكفها نحو باب غرفتها مكملة بنبرة رسمية:
-حضرتك تقدر تستلم الطفل من المشرفة برا
نظر لها بانزعاج وهو يرد بعبوس: -متشكر!

للحظة طرأ في باله اعتقاد ما، ظن أن طليقته تقف خلف ما حدث لابنه بصورة خفية، ربما جاءت من ورائه لمدرسته الخاصة وقامت بمقابلته وتلقينه تلك العبارات كجزء مكمل لخطتها الدنيئة في التودد إليه من جديد، اشتدت قسماته، واشتعلت نظراته من مجرد التفكير في ذلك الاعتقاد المثير للأعصاب، توقف مضطرًا عن شحن غضبه داخله حينما رأى صغيره يدنو منه مع المشرفة، انحنى ليحمله مقبلاً وجنته بحنو وهو يسأله:
-مالك يا بطل؟

طوق يحيى عنقه بذراعيه مخبئًا وجهه فيه وهو يرد بصوت مبحوح: -بابي!
أبعد دياب رأسه المختبيء عنه ليحدق في عينيه مرددًا بجدية: -بطل تعيط بقى، أنا هاخدك البيت!
تعلق يحيى أكثر به، وهمس بصوته المرتجف: -عاوز مامي!
رد بامتعاض: -حاضر هاخليك تشوفها!
تحرك به حاملاً إياه إلى خارج مبنى المدرسة كاظمًا ضيقه في صدره ومداعبًا له بود محبب كي يخفف من حدة بكائه.

كاد يفتك بها ألم رأسها رغم تناولها العديد من الوصفات الطبية المسكنة للأوجاع، لكن لا نتيجة طيبة معها، فاضطرت أن ترتدي عباءتها لتذهب إلى أقرب مستوصف طبي وتصحب رضيعتها معها للخارج، سألتها عواطف باهتمام:
-لابسة ورايحة على فين كده؟
ردت بتذمر وهي تنظر لها بامتعاض: -كويس إن في حد معبرني في البيت ده!
استنكرت أسلوبها التهكمي قائلة: -لا حول ولا قوة إلا بالله، مش لازم كل ما نسألك تردي علينا بالطريقة دي!

صاحت بحدة واضحة مشيرة بيدها: -أنا كده ومش هاتغير، واللي مش عاجبه يشرب من البحر!
-ده سؤال عادي يا نيرمين، لازمتها ايه المندبة دي
-رايحة أطعم البت!
سألتها باهتمام: -هو ميعاد تطعيمها جه؟
أجابتها نيرمين بإيجاز: -اه!
أشارت لها بيدها متابعة: -طيب استني ألبس وأجي معاكي و..
قاطعتها مرددة بوجوم: -لأ خليكي مرتاحة، كفاية عليكي الهانم اللي واكلة الجو كله!

مطت عواطف شفتيها بضيق بائن على محياها، وتنهدت قائلة: -روحي يا بنتي ربنا يسهلك طريقك!
اتجهت ناحية باب المنزل صافقة إياه بقوة خلفها، فخرجت بسمة من الغرفة متسائلة بفضول:
-هو مين نزل؟
أجابتها بضجر مشيرة بعينيها: -دي نيرمين هاتطعم رنا
هزت رأسها بعدم اكتراث وهي تضيف: -أها، طيب يا ماما في حاجات ناقصة لأسيف و..
لم تكمل جملتها بسبب إحاطة والدتها لها وضمها لصدرها بحنو زائد عن المعهود، تفاجأت مما فعلته متسائلة:.

-الله! بتحضنيني ليه؟!
رفعت عواطف يديها على وجه ابنتها، ومسحت عليه برفق وهي تجيبها بعاطفة ظاهرة في نبرتها:
-اوعي يا بنتي تخلي حاجة تقهرك ولا تجبرك تكوني زي أختك، انتي غيرها، وربنا ليه حكمة في اللي بيحصل لكل واحد!
صدمت مما تفوهت به، فرمشت بعينيها باضطراب، وارتبكت لوهلة من كلماتها الموحية، سألتها بتوتر:
-هاه. ليه بتقولي كده؟
ابتسمت لها مبررة: -أنا سمعت كل حاجة، وعرفت بموضوع دياب واللي حصل في غيابنا!

نكست بسمة رأسها حرجًا من والدتها، وأخرجت تنهيدة عميقة من صدرها رافضة الحديث، تابعت عواطف هاتفة بتمهل مطمئن:
-أنا مش هعاتبك وأقولك ليه ماحكتيش معايا، بس هانصحك تختاري اللي قلبك يرتاحه!

رفعت عينيها في وجهها محدقة فيها بارتباك، فواصلت أمها مؤكدة: -اختاري البني آدم اللي تحسي معاه إنه راجلك، سندك في الدنيا، يقدر يحميكي ويصونك، وأوعي تفكري إن كل الرجالة زي بعض، نيرمين نصيبها كان كده، بس انتي أعقل واشتغلتي وشوفتي ناس كتير، واللي شاريكي يا بنتي عمره ما هيفرط فيكي!

لعبت عباراتها المنتقاة بحسن نية دورًا في التأثير على نفسها المضطربة، ربما ليس كبيرًا، لكنها كانت بحاجة إلى مثل ذلك الدعم الإيجابي المشجع لتفكر بذهن صافٍ في اختياراتها المستقبلية.
لاحقًا، عاد به إلى المنزل قبل أن يذهب للوكالة، وحاول أن يستشف منه ما حدث له ليبدو عنيدًا بتلك الطريقة الغريبة لكنه رفض التجاوب معه، اعتقد أنه أسلوب جديد يلجأ إليه بإيعاذ من والدته للضغط عليه، فعنفه بعصبية:.

-يا ابني انطق مالك!
صرخ الصغير مفزوعًا منه مستعيدًا في مخيلته نظرات ناصر المهلكة، زادت رجفته من صياح أبيه المخيف، وركض ناحية جده ليحتمي به، أشفق طه على حفيده، وأحاطه بذراعه قائلاً بهدوء رزين:
-بس يا يحيى، مافيش راجل بيعيط!
حاوط الصغير خصر جده بذراعيه مخبئًا رأسه فيه وهو يقول ببكاء مختنق: -أنا عاوز مامي!

مسح طه على رأسه وظهره برفق عله يهدأ قليلاً خاصة أنه استشعر تلك الرعشة المريبة المسيطرة عليه، وهتف قائلاً بصرامة:
-هنجيبهالك، بس اسكت الأول!
اغتاظ دياب من دلاله الزائد مع والده، وكأنه يستعطفه ببكائه ليرضخ له مستسلمًا، لم يتحمل تماديه في الأمر أكثر من ذلك، لذا هدر به بانفعال واضح:
-شايف طريقته، طبعًا بنت ال، قلبت الواد عليا!

ارتجف يحيى من أسلوب والده الهجومي، فالتصق أكثر بجده صائحًا بفزع: -جدو أنا خايف!
حدج طه ابنه بنظرات نارية مستنكرة انفعاله الغير مبرر على طفله، ورد بصلابة ليطمئنه:
-متخافش، محدش هايعملك حاجة
أشار دياب بسبابته مهددًا: -قسمًا بالله لو ما سكت لهأقوم أعجنه!
تدخلت جليلة في الحوار على إثر صراخه الهادر قائلة بتحذير: -بالراحة يا دياب مش كده!

لوح بذراعه في الهواء هاتفًا بنفاذ صبر وقد استشاطت نظراته: -أنا مش ناقص نكد وقرف!
بررت والدته سبب بكائه قائلة: -ما تصبر جايز في حاجة تعباه!
رفض تصديق اعتقادها قائلاً باحتجاج قوي: -بيخيل عليكي الكلام ده، يا أماه هي أكيد قابلته من ورايا، ماهو مش هايتقلب كده من الباب للطاق!
زمت فمها قليلاً، ثم تابعت: -خلاص أنا هاكلم أمه أخليها تيجي تشوفه هنا.

هنا خرج طه عن صمته الهاديء صائحًا بصلابة مهددة وهو يضرب بعكازه الأرضية: -أنا قايل رجلها ماتعتبش هنا يا جليلة!
التفتت ناحيته قائلة بتوجس: -حاضر يا حاج، هانشوف حتة نقعد فيها برا!
زفر دياب بصوت مسموع، ثم تحرك صوب باب المنزل هادرًا بزمجرة: -اصرفوا، بس أنا مش عاوز أشوف خلقة أمها! سيرتها بتحرق الدم!
ردت قائلة باستياء: -ماشي، الواد معايا، اهدوا بس وهاتصرف!

جرجرت ساقيها نحو المقعد الشاغر في الزاوية بعد أن حجزت موعدًا مع الطبيب المتواجد بالمستوصف الطبي، مررت أنظارها الحادة على أوجه الجالسين حولها مبدية نفورها من كل شيء، بكت رضيعتها فهدهدتها بعصبية مما جعل المرأة الجالسة بجوارها تهتف محذرة:
-حاسبي البت، مش هاتسكت كده!
ردت نيرمين بضجر وهي ترفعها على كتفها: -قلبي اتنهى معاها، ومش بتبطل عياط!
أضافت المرأة قائلة: -جايز بطنها منفوخة!

هزت رأسها مرددة باستياء: -والله أنا اللي دماغي هتنفجر مني من أم الصداع اللي مش عاوز يسيبه
-بيقولوا الضاكتور هنا شاطر، وكل اللي بيجي عنده بيطيب بفضل الله
-يسمع منك ربنا!
انتبهت لصوت الممرضة الصائح بنبرة عالية: -اتفضلي يا مدام نيرمين، ده دورك!
نهضت من مقعدها بتثاقل قائلة بفتور: -شكرًا!

ولجت إلى داخل غرفة الكشف بصحبة ممرضة أخرى، وألقت بثقل جسدها المتعب على المقعد متنهدة بإرهاق واضح، تفرس الطبيب في وجهها متسائلاً بجمود:
-خير، إيه اللي تاعب حضرتك؟
وضعت يدها على رأسها موضحة: -صداع أديله فترة يروح ويجي، بس بقاله يومين مش سايب دماغي!
سألها الطبيب مستفهمًا: -هو إنتي عندك جيوب أنفية؟
قطبت جبينها مرددة بتساؤل حائر: -دي ايه دي؟
أجابها الطبيب مفسرًا: -نوع من أنواع الحساسية بتسبب التهابات و..

قاطعته متنهدة بتذمر: -يا دكتور أنا مش عاوزة رغي كتير، أنا عاوزة دوا وعلاج، جبت أخري خلاص وتعبت!
رد عليها معترضًا: -ماهو ماينفعش اكتبلك دوا من غير ما أشخص صح!
-وايه المطلوب؟
-عاوز إشاعة مقطعية على المخ، في مركز في ضهرنا متخصص في الأشعة، والأسعار معقولة فيه!
-ماشي
أضاف مؤكدًا بشدة: -وقت ما تطلع يا ريت تجيبهالي أطلع عليها
سألته بإلحاح وهي تربت على ظهر رضيعتها: -طيب والصداع؟

رد الطبيب بنبرة رسمية وهو يدون شيء ما في الورق الموضوع أمامه: -هاكتبلك على مسكن مؤقت، بس بأكد عليكي تجيلي وقت ما الأشعة تظهر
-ماشي
-شرفتينا، وألف سلامة
-كتر خيرك!
خرجت بعدها من غرفة كشفه محدقة في الوصفة الطبية التي أعطاها لها، طوتها لتضعها في حافظة نقودها، وهتفت محدثة نفسها:
-أما أشوف بالمرة موضوع الأشعة ده! خليني أخلص!

بدا متوترًا تلك المرة بشكل كبير رغم اعتياده على تنفيذ تلك المهام الغير قانونية، لكن تلك المرة مختلفة، فالمبلغ المعروض عليه نظير إتمامها مغري للغاية، تسلل بحذر نحو المنفذ الجمركي مترقبًا بأعين كالصقر اللحظة المناسبة للتحرك والخروج منه، تنفس بصوت مسموع ماسحًا حبات العرق الغزيرة من على جبينه.
تأكد حاتم من هدوء الأجواء فاستعد للتحرك بحرص لكنه شعر بألم موجع على كتفه مصحوبًا بصوت آجش خشن:
-على فين؟

التفت برأسه للجانب متسائلاً بنبرة مذعورة: -انت مين؟
نظر له الضابط بقوة متسائلاً بجمود متهكم: -معاك ايه بقى؟
خمن هويته سريعًا بعدما جاب بأنظاره ثيابه الرسمية، بالإضافة إلى هؤلاء الرجال المحيطين به، ارتجفت نبرته للغاية وهو يجيبه بتلعثم:
-أنا. مش معايا حاجة، ده أنا طالع أركب مكروباص و..
قاطعه الضابط ساخرًا: -علينا يا حاتم
صدم من معرفته لهويته، فسأله بنزق: -انت عرفت اسمي منين؟

أجابه مبتسمًا ابتسامة انتصار وهو ينظر له بتفاخر: -ده انت متوصي عليك جامد!
انفرجت شفتاه للأسفل بهلع كبير، فتابع الضابط متسائلاً: -ورينا مهرب إيه المرادي يا نجم!
اهتز جسده من فرط الخوف، باتت نهايته وشيكة إن اكتشف ما معه، جاهد ليخفي توتره الكبير لكنه فشل كليًا، أكمل الضابط بتشفٍ:
-ماهو كله اتكشف خلاص، واللي مشغلينك اتمسكوا معاك!

هنا أدرك الحقيقة المريرة، مصير مظلم خلف القضبان الموحشة في انتظاره، فتمتم مع نفسه مصدومًا:
-روحت في داهية يا حاتم!

رفض الخروج من الغرفة لرؤية والدته بعد ترتيب مقابلة معها في أحد المطاعم القريبة من المنزل، وظل يبكي بصورة هيسترية أصابت جدته بالاستياء، مال تفكيرها نحو اعتقاد ابنها بأنها بالفعل طريقة مفتعلة من ولاء للضغط عليهم لكي تأتي إلى المنزل بنفسها، تنهدت يائسة من إجباره على النهوض وتركته في فراشه بصحبة أروى التي كانت تضمه إليها وتلاعبه بلطف.
سألها دياب مغتاظًا وهي تلج من الغرفة: -لسه الواد ده بيعيط؟

أجابته بصوت حزين مستاء وهي تضم كفيها إلى صدرها: -قلبه انفطر يا حبة عيني من العياط!
صاح بعصبية: -مش بأقولك أمه معبية دماغه!
تساءلت بحيرة وهي تضع إصبعيها على طرف ذقنها: -بس امتى عملت ده؟ أنا مراقبة يحيى كويس و..
قاطعها قائلاً بحدة: -جايز قابلته في المدرسة من ورانا واتفقت معاه على كده
اندهشت من تفكيرها قائلة باستغراب كبير: -بس هو ده ينفع؟

رد بتجهم شرس: -مين هايمنعها، ماهي أمه ومن حقها تشوفه، وهاتلعب على الحتة دي!
-بنت الإيه!
صاح دياب مهددًا بنبرة شرسة: -طب يمين على يمين اللي خلفوها ماهتشوف ضافره ولا هتدخل هنا!
توجست جليلة خيفة من تهور ابنها خلال عصبيته الزائدة، فاستعطفته بحذر: -وطي صوتك، الواد مش مستحمل صريخ!
رد عليها باهتياج جامح ملوحًا بذراعه في الهواء: -يتنيل على عينه وهو طالع لأمه كده.

استنكرت إساءته للصغير الذي لا ذنب له في خلافات والديه، وعنفته بعتاب صريح: -حرام عليك! ماتقولش كده عنه، ده حتت سكرة، ربنا يحميه ويحافظ عليه!
انزعج من نفسه لتجاوزه في انفعالاته مع ابنه، فانسحب من المكان قبل أن يتمادى ويفعل ما لا يحمد عقباه في لحظة غضب طائشة.

علقت حقيبة يدها على كتفها وهي تهبط الدرج مشغولة البال في ترتيب أولويات ما تحتاج لشرائه، لم تنتبه لشخصه الذي كان يصعد في نفس الوقت الدرجات ليقابلها، فقد اشتاقت لها عيناه وأراد إشباع شغفه بها ولو بالقليل حتى يحين موعد زفافهما، حدق فيها متعجبًا شرودها الذي جعلها لا تلاحظه معتقدة أنه شخص غريب، سد عليها الطريق متسائلاً بعتاب:
-للدرجادي مش شيفاني!

انتفضت في مكانها مصدومة من رؤيته أمامها، واصبطغ وجهها بحمرة كبيرة متحرجة من نظراته المعاتبة لها، ردت مدافعة بذهول:
-منذر! أنا. والله ماشوفتك
ارتفع حاجباه للأعلى هامسًا بابتسامة لطيفة: -قولتي ايه؟
خشيت أن تكون قد أحرجته بعدم انتباهها له، فتابعت معللة بتوتر: -أنا دماغي فيها حاجات كتير، وملبوخة و..

أمسك بيدها لتتوقف عن الكلام محدقة فيه بخجل، طالعها بنظرات عاشقة متشوقة إليها، داعب أصابعها بأنامله وهو يهمس لها بتوسل متيم:
-أمانة عليكي تقولي اسمي تاني، ده أنا ريقي نشف عقبال ما أخد منك كلمة حلوة!
حاولت سحب يدها منه هامسة بارتباك كبير: -احنا على السلم!
سألها بتسلية: -وده يمنع؟
ردت بخجل مشوق: -الجيران يشوفونا و..
أمسك بيدها الأخرى لتصبح أسيرة كفيه، وسألها بهدوء: -وده ايه علاقة بالاسم؟ اكسبي فيا ثواب!

توترت من غزله المهلك لأعصابها فهمست بخوف وهي تتلفت حولها: -منذر!
تنهد بحرارة متابعًا باشتياق: -هو فاضل أد ايه عشان نتجوز؟
سحبت يديها منه لتضمها معًا وهي ترمش بعينيها، بينما حك هو رأسه ومؤخرة عنقه مضيفًا بتساؤل:
-نازلة لوحدك؟
أجابته ببساطة: -لأ عمتي جاية ورايا، أنا بس سبقتها!
-طيب استني أوصلك
-مالوش لزوم، احنا مش هنتأخر.

تعجب من عدم انتباهها للأمر جيدًا، فقد أتى خصيصًا من أجلها، وهي تتركه هكذا دون أن يرتوي من حبها الذي يتوق إليه، فعاتبها بامتعاض قليل:
-طب ده أنا جايلك على فكرة!
شهقت مصدومة من تصرفها الفظ معترفة بمحدودية تفكيرها، لقد انشغلت بصورة كبيرة لدرجة جعلتها تغفل عن أبسط الأمور، شعرت بخطئها فاعتذرت بتلهف متوسلة السماح منه:
-أسفة والله، مخدتش بالي خالص!

عضت على شفتها السفلى مبدية ندمها الشديد، لكنه لم يتمادى أكثر في عتابه، هو أراد فقط لفت أنظارها لوجوده، لذلك ابتسم لها بود وهو يقول:
-خلاص محصلش حاجة يا حبيبتي، اهدي!

أرادت أن تعوضه عن غفلتها المؤقتة، فدار ببالها شيء متهور، لكنها واثقة من نتائجه الفعالة التي ستمحو أثر أي شيء، وبلا تردد حسمت أمرها وتجرأت أكثر، شعرت أسيف بدقات قلبها تتسابق حتى بات صوتها مسموعًا وهي تنحني برأسها على صدغه لتضع قبلة رقيقة عليه أصابته بالذهول التام، همست له بنعومة مغرية:
-أسفة!

تجمد في مكانه مشدوهًا من حركتها تلك محدقًا فيها بأعينه اللامعة ببريق الحب، بينما انسلت من أمامه سريعًا لتكمل هبوطها على الدرج هاربة منه، هي تركه على أعتاب أبواب الاشتياق المتلهف لها مُضاعفة رغبته أكثر فيها، تعلقت أنظاره بها وتدريجيًا زادت ابتسامته المشوقة من تصرفاتها المحفزة لمشاعره..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة