قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والتسعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والتسعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والتسعون

لا تعرف ما الذي أصابها لترتكب مثل ذلك التصرف الجامح معه وتعطيه لمحة سريعة من سعادة مضاعفة سينغمس عما قريب في أنهرها، فهو يستحق ذلك بعد مواقفه الرجولية معها، هبطت الدرج سريعًا لكنها تسمرت في مكانها حينما رأت وجهها المتجهم أمامها وأعينها المحتقنة تطالعها بنظراتٍ محتدة للغاية، ازدردت ريقها بتوتر، حتمًا هي رأتهما معًا، وبالطبع لن تفوت الفرصة لتثير مشكلة ما، وحدث ما كانت تخشاه، هدرت نيرمين بصوت مرتفع يحمل الغل:.

-الله الله! ده القوالب نامت والإنصاص قامت!
ضيقت عينيها أكثر لتصبح أكثر شراسة وهي تكمل: -طب اعملي اعتبار للناس اللي لموكي في بيتهم!

انكمشت أسيف على نفسها خوفًا من الفضائح التي ستنال من سمعتها على يد تلك الحقودة، كانت كلماتها الموحية ونظراتها المظلمة تؤكد نيتها في إحداث كارثة بكافة المقاييس، ندمت على تهورها وتماديها في تصرفاتها في لحظة جنون جامحة فقدمت لها فرصة على طبق من ذهب لتنهش فيها، رغمًا عنها ارتجف جسدها مما سيصير لها، كما بدأت العبرات بالتجمع والتراقص في مقلتيها، وقبل أن تضيف بلسانها اللاذع اتهامات أخرى مسيئة ظهر أمامها منذر الذي هدر بها بقوة متصلبة:.

-عندك! كلمة زيادة وهاقص لسانك!
وضع قبضته على ذراع أسيف ليجذبها خلفه ليشكل بجسده المهيب درعًا يحميها من أي إساءة قد تطالها منها، حبست نيرمين كلماتها المغلولة في جوفها مرتعدة من تهديده الصريح ضامة لرضيعتها بذراعيها متخذة إياها وسيلة للذود عنها، استمر هو في الدفاع عن زوجته قائلاً:
-مراتي وأنا حر معاها، وأي حد يفكر بس يجيب سيرتها بكلمة أدبحه!

رمقها بنظرات احتقارية وهو يتابع بازدراء: -وخصوصًا لو كانت انتي!
استشعرت الإهانة من جملته الأخيرة، فزاد حنقها منه، ردت عليه بغضب: -بس مش كده، ولا انت نسيت الأصول يا ابن الحاج طه؟!
وقف قبالتها يطالعها بنظرات مشتعلة على الأخير وهو يرد بتشنج: -أنا عارف حدودي كويس، وكلها كام يوم وأسيف هتبقى في بيتي!

ضغط على جرح قلبها الذي لم يندمل بعد بتكراره تلك الحقيقة المريرة، أنها زوجته، وأنه فضلها عليها، فحاولت أن تلملم كرامتها المبعثرة صائحة بتهكم مسيء:
-ولما ده يحصل يبقى نحفظ أدبنا يا ابن الأصول، بس اللوم مش عليك، ماهو التفاحة المعطوبة بتبوظ القفص كله!
كتمت أسيف شهقاتها الباكية عاجزة عن الرد عليها، هي أعطتها الوسيلة لتفعل بها ما تشاء، رفع منذر كفه عاليًا في الهواء مهددًا بصفعها وهو يقول بانفعال هائج:.

-اخرسي بدل ما..
خشيت أسيف أن يضربها فيعقد الأمور أكثر، فانقبض قلبها بدقات عنيفة واندفعت بلا تردد نحوه ممسكة بكفه المرتفع في الهواء هاتفة بتوسلٍ باكٍ مقاطعة جملته:
-منذر!
تراجعت نيرمين خطوة للخلف مصدومة من ردة فعله، كانت تتخيل أي شيء إلا أن يهددها علنًا بالصفع، أعادت تلك الحركة ذكريات مشاهد مؤلمة في حياتها الماضية، ذكرتها بطليقها ووحشيته معها، انتفضت في مكانها وهي تسأله بذهول:.

-هاتمد ايدك عليا يا سي منذر؟
تشبثت أسيف أكثر في ذراعه مانعة إياه من تحريكه بكل ما أوتيت بقوة قبل أن يتهور عليها، بينما حرك هو جسده نحو تلك المقيتة هادرًا بشراسة قاسية:
-وأقطم رقبتك لو غلطتي!
توسلته أسيف باستعطاف راجٍ: -عشان خاطري بلاش، الناس هتتفرج علينا و..!
قاطعها ساحبًا يده بعنف من قبضتيها صائحًا بصرامة آمرة: -ماتكلميش يا أسيف، واطلعي فوق!

ظنت نيرمين أنه سيتطاول باليد عليها، فزاد احتماؤها برضيعتها التي انفجرت في البكاء بفعل الصراخ الحاد، ورد إلى ذهنها تصورًا مرعبًا بأنه مثل طليقها سيذيقها ألوانًا من العنف والشراسة المهلكة، فتصرفاته كلها تشير إلى ذلك، نفس الانفعالات، والنظرات، والتهديدات، ارتفعت نسبة الأدرينالين المتدفق في عروقها أضعافًا مضاعفة حتى لم يعد عقلها قادرًا على استيعاب تلك الكمية المندفعة في خلاياه، تأججت حدة صداعها، وتشوشت الرؤية في عينيها، ترنح جسدها من كم الضغط الزائد عليها، وجاهدت لتحافظ على ثباتها رغم حالة الوهن التي غلفت خلاياها بالكامل.

سألته أسيف بتوجس مذعور: -ناوي تعمل فيها ايه؟
استخدمت كلتا يديها لتدير وجهه ناحيتها لتصرف تركيزه عنها متوسلة بأنين: -عشان خاطري اهدى، هي ماتقصدش!
رد عليها بعصبية: -أنا أقسمت بالله و..
لمحت من طرف عينها اختلال توازن نيرمين، وتراخي ذراعيها عن رضيعتها، فانقبض قلبها بقوة كبيرة حتى ظنت أنه سيقتلع من مكانه من شدة رجفتها، صاحت بهلع:
-حاسبي يا نيرمين!

تركت قبضتيها عن منذر مسرعة نحوها كي تمسك بها قبل أن يتهاوى جسدها وتسقط عن الدرج مع الرضيعة، انتفض هو الأخر في مكانه متحركًا صوبها كي يمد لها يد العون ممسكًا بالصغيرة وهو يردد:
-البت هاتقع!
تثاقل جسدها وخارت قواها فمادت بالأرض رغم محاولات أسيف عدم تركها، بينما حمل منذر الرضيعة قائلاً بامتعاض:
-حركة مفقوسة منك، فيلم هابط مفضوح، بس مش هتفلت مني!

أحست بتلك البرودة التي كست بشرتها، وبالشحوب المريب الذي سيطر على وجهها فصاحت بفزع:
-لالالا، ده ايديها متلجة خالص!
ضربت على وجنتها برفق محاولة إفاقتها بعد أن غابت عن الوعي مرددة بخوف كبير: -ردي عليا يا نيرمين، سمعاني، نيرمين فوقي، محدش هايعملك حاجة!

نظر لها شزرًا غير مقتنع بكل ما تفعله، وتمسك بكونها تمثيلية مصطنعة للهروب من عقابه المحذر لها، أولاها ظهرها محاولاً تهدئة الرضيعة التي لم تتوقف عن الصراخ مطلقًا مبرطمًا بكلمات ساخطة من بين شفتيه، هتفت فيه أسيف بذعر:
-الحقها يا منذر، مش بترد خالص!

في تلك الأثناء هبطت عواطف الدرج بتريث فتفاجأت بتمدد ابنتها على الأرضية فاقدة للوعي، شخصت أبصارها وجزع فؤادها خوفًا عليها لمجرد رؤيتها على تلك الوضعية، أكملت هبوطها هاتفة بنبرة مرتعدة:
-نيرمين بنتي! ايه اللي حصلك؟

أسرعت نحو ابنتها تضمها إلى أحضانها بعد أن جثت أمامها على الأرضية تحدثها بقلب أمومي مذعور، زفر منذر بصوت مسموع، وجمد أنظاره المغتاظة عليها، تيقن أنها لا تدعي ذلك بالباطل، بل هناك خطب ما بها، وبامتعاض واضح عليه صاح بصيغة آمرة:
-خدي البنت، حاسبي يا أسيف!
رفعت رأسها نحوه متسائلة بتخوف: -هاتعمل ايه؟
أجابها بصلابة وهو يميل نحوها بالرضيعة الباكية: -هاطلعها لفوق!

نهضت من مكانها محتضنة الصغيرة بذراعيها محاولة تهدئتها برفق، بينما انحنى للأسفل حاملاً نيرمين بين ذراعيه ليتجه بها إلى الطابق العلوي حيث منزلها، تساءلت عواطف بخوف:
-مالها؟ جرالها ايه؟
أجابتها أسيف بتردد: -وقعت، على السلم وكنا بنحاول نفوقها
ردت عليها عمتها بتلهف مذعور وهي تربت على صدرها بحركات متكررة: -استرها يارب، قومها بالسلامة عشان خاطر بنتها!
-خلاص! غلبت وجبت أخري معاه!

هتفت جليلة بتلك العبارة وهي تضرب فخذيها بانفعال طفيف بعد فشلها في إجبار الصغير على الذهاب معها لرؤية والدته كما كان يلح طوال اليوم، نظر لها زوجها بجمود قائلاً بحيرة:
-الواد ده مش طبيعي!
وضعت إصبعيها على طرف ذقنها متابعة بتوجس: -أنا خايفة أقول لأبوه يتهبل عليه، ده ممكن يموته في ايده لو..
قاطعها طه هاتفًا بصوته الخشن: -لأ، مافيش داعي!

سألته بحيرة واضحة على محياها: -طب والعمل؟ هانخلي المحروسة تجيله هنا؟!
زفر مستاءً من ذكر اسم تلك اللعينة التي أفسدت حياة ابنه، ثم رد بحدة صارمة: -استغفر الله العظيم يا رب، أنا قولت ايه؟
أشارت بيدها قائلة بقلة حيلة: -طب ماهو على يدك؟ أنا عمالة أتحايل عليه من صباحية ربنا وهو راكب دماغه وهاري نفسه من العياط لحد ما في الأخر تعب ونام!

أشفق على حاله البائس، ثم استند بكفيه على رأس عكازه متسائلاً باهتمام: -والبت أروى لسه معاه؟
أجابته بتنهيدة حزينة: -مش عاوزة تسيبه، وهو متشعبط في رقبتها، أهي تاخد بالها منه!
نهض طه من مكانه واقفًا ثم أومأ بعينيه متابعًا بنبرة رزينة: -عمومًا أنا هاشوف الموضوع ده مع دياب، أكيد هايكون ليه حل!
زادت نبرته صرامة وهو يكمل محذرًا: -بس البت دي مش هاتعتب هنا يا جليلة، سمعاني! مش هاتدخل هنا في غيابي!

هزت رأسها ممتثلة لأمره وهي تقول: -أوامرك يا حاج! هو أنا أقدر أعصيلك كلمة؟!
مط فمه مكملاً بجمود: -أما أشوف، أنا نازل الوكالة!
نهضت من مكانها بتثاقل لتتبعه بخطى متريثة وهي تردد: -ربنا معاك ويعينك يا حاج طه!

أسندها برفق على الفراش واضعًا رأسها على الوسادة، ورغم انزعاجها من أسلوبها الفظ والفج في الإساءة إليها إلا أنها أرادت الاطمئنان على حالها، خاصة أن إغماءتها كانت مقلقة نوعًا ما، تراجع منذر بحذر للخلف ليترك المجال لأختها لتدثرها بالغطاء كي لا ينكشف جسدها، أبعد عينيه عنها، ووقف بالخلف قائلاً بثبات واثق:
-دلوقتي تفوق وتبقى كويسة!

هدهدت أسيف الرضيعة حتى سكنت تمامًا وغفت في أحضانها، بينما تساءلت بسمة باستغراب كبير وهي توزع أنظارها بينهم:
-هو حصلها ايه؟
أجابها منذر بهدوء حذر: -غميت على السلم
هتفت عواطف بامتنان وهي تمسح على جبين ابنتها الغافية: -الحمدلله إنكم كنتم موجودين ولحقتوها!
ثبتت أنظارها على ابنة أخيها متابعة بود حنون: -الله أعلم كان ممكن يحصل ايه لو محدش شافها، ولا بنتها رنا، مش قادرة أتخيل!

عجزت أسيف عن الرد عليها، شعرت أنها لا تستحق ذلك الشكر والعرفان بالجميل، بل على العكس هي كانت المتسببة في إيذائها بصورة غير مباشرة، نكست رأسها خجلاً منها شاعرة بالخزي لكونها قد لجأت للكذب، وأخفت حقيقة الأمر عنها، حينما طال صمتها ردت بسمة بجدية:
-قدر ولطف يا ماما!

ناولت أسيف الرضيعة لابنة عمتها برفق، ثم أسرعت هاربة من أمام عمتها التي خذلتها شاعرة باختناق كبير في صدرها، استشعر منذر ما بها، فلحق بها بخطوات متمهلة، رأها تلقي بجسدها على أقرب أريكة مخبئة وجهها بين راحتيها، وقف خلفها واضعًا كفه على كتفها متسائلاً بقلق:
-مالك يا حبيبتي؟
أجابته بصوت خفيض لكنه كان مختنقًا بشدة: -أنا وحشة أوي، أنا اللي عملت فيها كده، أنا لو..

وضع يده الأخرى على كتفها، ثم بدأ في تدليكه برفق كمحاولة منه لتهدئة أعصابها المشدودة، وقاطعها بهدوء:
-ماتكمليش، هي اللي غلطت، ومش من حقها تكلم بالباطل عن حد
شعرت بأنامله القوية تفرقع فقراتها المتيبسة فاسترخى كتفيها إلى حد ما، لكن بقيت أعصابها متوترة، ردت عليه بارتباك:
-بس كان ممكن..
مال عليها برأسه ليهمس لها بجدية مجبرًا إياها على قطم عبارتها: -خلاص، اللي حصل حصل!

شعرت بأنفاسه الساخنة تلفح أذنها، فاقشعر بدنها من تأثيره القوي عليها، خاصة أنه لم يتوقف عن تدليك كتفيها، أكمل منذر بهدوء:
-ارمي ورا ضهرك يا حبيبتي وماتفكريش فيها كتير!
أغمضت عينيها مستسلمة لذلك الشعور الرهيب الذي اجتاح خلاياها ليصيبها بالسكينة، وزاد تأثيره مع كلماته المتغزلة بها حينما قال:
-أسيف، إنتي طيبة وحنية، ومش كل الناس تفكيرها زيك، ولا قلبهم حنين، فاهدي وفكري في نفسك شوية!

أخرجت تنهيدة عميقة من صدرها أراحتها قليلاً، يكفيها حاليًا ذلك الإحساس المخدر لتوترها المتشنج، ابتسم لتجاوبها معه ولنجاحه في إزالة حزنها تاركًا أثرًا مشوقًا بداخلها، همس لها بتسلية:
-مافيش تصبيرة كده، أنا تعبت جامد وطالع وشايل و..
فهمت مقصده على الفور فتورد وجهها كليًا بحمرة طاغية، هبت واقفة من مكانها مبتعدة عنه وهي تهز رأسها نافية:
-تاني! لالالا، أنا حرمت!

نظر لها عاقدًا ما بين حاجبيه بعتاب وهو يقول: -بقى كده؟
هزت رأسها مؤكدة رفضها تكرار ما حدث قائلة باقتضاب عابس: -ايوه
وضع منذر يده على رأسه يحكه بضيق، ثم هتف ممتعضًا: -يعني الحكاية وقفت عليا بخسارة!
ابتسمت بخجل وهي تطالعه بأعين لامعة ببريق العشق، ثم أسرعت مبتعدة عنه قبل أن يتهور معها بأفعال أخرى قد تورطها من جديد.

أفاقت من إغماءتها لتجد والدتها جالسة إلى جوارها على الفراش تحاول إطعامها ذلك الحساء الساخن لكي تستعيد دمويتها من جديد، ملت نيرمين من ارتشافه، فأزاحت الصحن بعيدًا عنها وهي تقول بصوت شبه متحشرج:
-أنا بقيت كويسة! كفاية!
أصرت عواطف على إنهاء الحساء كي تنعم بفائدته الكلية هاتفة: -طب كملي الشوربة دي و..
ردت مقاطعة بتذمر: -يا أمي مش عاوزة خلاص، شبعت!

أسندت الصحن في الصينية جامعة بواقي الطعام فيه، تنهدت بتعب وهي تضيف: -الحمدلله إنها عدت على خير، ده أنا قلبي كان موجوع عليكي إنتي وبنتك!
لوت نيرمين ثغرها مرددة على مضض: -أنا بقيت زي الجن أهوو!
أراحت جسدها للجانب متسائلة باهتمام قليل: -بس مين جابني هنا؟
أجابتها عواطف بحماس واضح وهي تشير بيدها موضحة: -ربنا يباركله سي منذر، هو اللي شالك وجابك و..

انفرجت شفتاها للأسفل في صدمة، كما اتسعت حدقتيها مذهولة من تصرفه، هي لم تتوقع أن يفعل هذا معها، ورددت بعدم تصديق:
-بتقولي مين!
أكدت على ما قالته مضيفة بامتنان: -ايوه، مخلصوش تتمرمطي على السلالم قدام اللي طالع واللي نازل! طول عمره شهم وابن أصول!
اكتست عيناها بحزن كبير وهي تهمس باستياء محبط من بين شفتيها العابستين: -كان فين ده من زمان، بعد ايه بقى!

لم تفهم والدتها كلماتها الخفيضة، فسألتها مهتمة: -بتقولي ايه يا نيرمين؟
ردت عليها بامتعاض مخرجة تنهيدة ثقيلة من صدرها: -ولا حاجة! خليني أريح شوية، عاوزة أنام!
-ماشي، وأختك أكلت رنا وغيرتلها وهي نايمة
-طيب
سحبت عواطف الصينية من على الفراش قائلة: -هاننزل احنا نكمل حاجات أسيف، مش عاوزة حاجة من تحت؟
أجابتها باقتضاب وهي تغمض عينيها بيأس جلي: -لأ!

شردت في محاولة تخيل كيف كانت بين ذراعيه، كم تمنت تلك اللحظة ألاف المرات وفي كل مرة كانت تتوهم موقفًا مختلفًا يقرب بينهما، لكن لا جدوى الآن من كل ذلك، هو كسر قلبها، وحطم حلمها، وأباد عن عمد ما تبقى من رفات أحلامها، انسابت من طرف عينها عبرة خائنة تحمل الكثير من أحزانها.

تجولت ثلاثتهن بذلك السوق الشعبي المليء بالكثير من المنتجات محلية الصنع وأخرى مستوردة من بلدان عدة، لم تعرف أسيف عنه مطلقًا، تفاجأت بكم البضائع المنوعة المتواجدة به، وأبدت إعجابها بأغلب ما رأته، هتفت بسمة بحماس:
-السوق ده بيقولوا في حاجات حلوة وبالجملة كمان؟
زاد انبهارها وهي تسألها بفضول كبير: -وانتي عرفتيه منين؟
أجابتها بنبرة عادية وهي تهز كتفيها: -زمايلي في الشغل كانوا بيحكوا عنه!

حدقت أسيف في واجهات المحال التجارية المختلفة محاولة اكتشاف بضائعهم المعروضة، وأغرتها التصميمات الجميلة الموضوعة على موديلات العرض، أكملت بسمة باهتمام:
-ده غير إن في محلات فيها بواقي التصدير، وماركات أخر موديل، وحاجات مقولكيش تهبل!
-كل ده!
-طبعًا!
ردت عواطف بابتسامة عريضة: -يا ماشاء الله! ده أنا أول مرة أجي هنا!

على مسافة قريبة منهن، سارت متتبعة أثرهن وهي تنتوي شرًا، لقد عاهدت نفسها أن ترد الصاع صاعين لطليقة ابنها نظير ما اجترته من أفعال مع ابنتها، لم تبرد نارها بعد، وتأججت أكثر بإلقاء القبض على ابنها، أنبئها حدسها أنها تقف وراء ذلك، فحان وقت الانتقام من عائلتها، لذلك استأجرت عدة نساء ممن عرف عنهن القيام بأعمال البلطجة والعنف للاعتداء عليهن، وأتت فرصتها الثمينة.
تساءلت امرأة ما بصوت خشن مقلق: -هما دول؟

كزت لبنى على أسنانها بغيظ وهي ترد: -أيوه، شوفتيهم!
هزت المرأة رأسها كعلامة تأكيدية على جوابها، فتابعت مضيفة بنبرة عدائية: -عاوزة عضمهم يتكسر، متقوملهومش قومة! خدوا بتارنا منهم!
ردت المرأة قائلة بابتسامة خبيثة: -عينينا يا أم حاتم، دي شغلتنا!
لوحت بإصبعيها لمن معها لتتبعها وهي تقول بصيغة آمرة: -يالا يا ولية منك ليها.

تحركن سريعًا خلفهن، وسبقتهن إحداهن لترتطم بجسدها عن عمد ببسمة، مما أجبر الأخيرة على التوقف من شدة الألم الذي أصاب كتفها، وقبل أن تعنفها على تصرفها الأهوج، تفاجأت بتلك المرأة تصيح بها بصوت متعصب يحمل الإهانة:
-مش تفتحي وإنتي ماشية، ولا اتعميتي!
اندهشت أسيف من طريقتها الهجومية المتطاولة عليها، في حين فغرت بسمة شفتيها هاتفة باستنكار مزعوج:
-هو أنا جيت جمبك؟ ولا ده جر شكل؟!

لكزتها المرأة من كتفها قائلة بحدة وقد قست نظراتها على الأخير: -لأ بقى إنتي قاصدة تجري شكلي
تدخلت عواطف بتوجس محاولة تهدئة الأجواء بينهما قبل أن تشتعل بمشادة كلامية، فهي أدرى الناس بابنتها حينما تتهور، لذلك ردت قائلة:
-معلش يا بنتي، الدنيا زحمة، والناس ماشية تخبط في بعض!
نظرت المرأة شزرًا لها هاتفة بسخط: -يبقى تاخدي بالك بدل ما نقل أدبنا عليكي!

صدمت عواطف من وقاحتها وعدم مراعاتها لفارق السن العمري بينهما، اغتاظت بسمة من طريقة تعاملها مع والدتها فردت بتهكم:
-شكلها تلأيح جتت!
لم تنتبه ثلاثتهن لتلك الدائرة التي تشكلت حولهن من هؤلاء النسوة ليتمكن من التطاول باليد عليهن حينما يتلقين الإشارة المناسبة، هتفت المرأة بصياح جهوري ملوحة بذراعيها في الهواء:
-كمان بتغلطي فيا، أنا مش سيباكي النهاردة!

أعطت إشارة الهجوم لتبدأ النساء في الاعتداء عليهن من كل الاتجاهات، تفاجئن بما يصير معهن، وحاولن الدفاع عن أنفسهن على قدر المستطاع، تأزم الوضع، وزاد الصراخ المصحوب بالضربات الموجعة، استنجدت عواطف بمن حولها عل أحدهم يتدخل ويفض ذلك الاشتباك المفتعل، فصاحت بصوت متألم:
-يالهوي، الحقونا يا ناس!

تلقت أسيف ضربة مؤلمة على رأسها وأخرى عنيفة على ظهرها فتأوهت بألم شديد، وحاولت حماية وجهها من الخدوش الناجمة عن أظافر إحداهن صارخة بفزع:
-ساعدونا، آآه!
صرخت بسمة مستغيثة: -يا ناس حوشوهم عنا
صاحت المرأة هادرة وهي تجذب حجاب بسمة عن رأسها محاولة كشف شعرها: -يا بنت ال، ، أنا هاربيكي يا..!
قاومتها الأخيرة قدر المستطاع كي لا تظفر بحجابها هاتفة بصوت متألم: -سيبي طرحتي يا..!

انتبهت إحداهن لصوت الصراخ الصادر على مقربة من محلها، فاشرأبت بعنقها لترى أطرافه، ارتفع حاجباها للأعلى باندهاش عجيب حينما وقعت أعينها على معلمة ابنها، هتفت مصدومة:
-الله! ست الأبلة!

لم تتردد أم منصور في الركض نحوها لمساعدتها توًا، هي قدمت لها خدمة من قبل وساعدت ابنها، وحان الوقت لرد الجميل أيًا كان سببه، اندفعت وسطهن مقتحمة بجسدها أجسادهن المتكالبة عليهن لتتمكن من الولوج بينهن وهي تصيح بصوتها الرنان:
-عندك يا مَرَة منك ليها، الستات دول تبعي!
رفعت بسمة عينيها للأعلى لتجد أم منصور، نجدتها التي أتت من السماء لتزود عنها بطشهن الظالم، فتوسلتها بصوت مختنق للغاية:
-الحقيني الله يكرمك!

أحاطتها بذراعها مانعة تلك النساء من الاستمرار في اعتدائهن هادرة بثقة جلية: -ماتخافيش، إنتي في منطقتي هنا!

نجحت في فض الاشتباك بينهن بصياحات قوية مهددة للجميع، وبالطبع امتثلت النساء لها، فهن يعرفن إياها حق المعرفة، هي ذات سطوة في ذلك السوق الشعبي الكبير، والأغلب يعرف قدرها وقوتها، ومن يتجرأ عليها ويتحداها ينل عقابه منها، وقفت في المنتصف مشمرة عن ساعديها ومسلطة أنظارها على هؤلاء النسوة، هتفت المرأة بنبرة حادة:
-لينا عندهم حق يا أم منصور!

هدرت فيها بنبرة قوية لا تحمل إلا الصرامة: -ولا حق ولا دياوله، بأقولك يا ولية الأبلة دي وجماعتها تبعي! فهمتي ولا مخك تخين؟
فهمت من طريقتها المهددة تلميحًا صريحًا بعد المساس بها، ومخالفة أمرها يعني مشكلة جادة معها، ضغطت المرأة على شفتيها متمتمة بامتعاض:
-ماشي يا أم منصور، مش هنردلك كلمة!

تأوهت عواطف بأنين موجوع متحسسة جسدها الذي تورم بفعل الضربات العنيفة قائلة بخفوت وهي تمرر أنظارها على أوجه تلك النساء المخيفات:
-اه يا عضمي، منهم لله، ورموا جسمي
تحسست أسيف كتفيها الموجوع برفق وهي تتساءل بعدم فهم: -مين دول أصلاً؟
أجابتها بسمة بحيرة وهي تعيد ضبط حجابها على رأسها بعد أن كان شبه منتزعًا: -أنا مش عارفة هما مين، دي أول مرة أشوفهم!

التفتت أم منصور نحوها، وردت عليها بجدية شديدة: -يا ست الأبلة النسوان دول شلأ، ولبش وحاجة تيييت، يعني شكلهم متسلطين عليكم!
قطبت بسمة جبينها باستغراب كبير عقب عبارتها المريبة تلك، هي لم تفتعل أي عداوات مؤخرًا ليتم التدبير لتلك المشاجرة الحادة، حدقت أمامها في الفراغ بنظرات ضائقة متسائلة بحيرة كبيرة:
-بس يا ترى مين وزهم علينا..؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة