قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والتسعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والتسعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والتسعون

ظل تفكيرها مشغولاً بمحاولة تخمين هوية من يقف وراء تدبير حادثة الاعتداء عليهن، ليس الأمر عابرًا كما ظنت في البداية، لكن هناك شخص خفي أراد إلحاق الأذى الجسيم بهن، وهذا الشخص على معرفة وطيدة بهن، وتربص بتأنٍ وجودهن في السوق الشعبي لينفذ خطته الماكرة، هداها تفكيرها المتعمق إلى زوجة الجزار، فقد توعدتها بالانتقام الشرس قبل فترة، وربما هي من لجأت إلى هؤلاء النسوة لتلقنها درسًا عنيفًا، لم يخطر ببالها مُطلقًا أن تكون الجانية هي حماة أختها السابقة، انتهى مشوارهن التسوقي قبل أن يبدأ ليعاودن أدراجهن إلى المنزل منهكين على الأخير.

تعجبت نيرمين من عودتهن باكرًا، فتساءلت باستخفاف ساخر: -خير إن شاء الله، السوق شطب بدري، ولا جبته ضلفه!
تنهدت عواطف بانهاك وهي تجيبها بضجر: -لأ يا فالحة، ده احنا اتمرمطنا هناك!
لوت ثغرها متسائلة بعبوس قوي: -ليه؟
أجابتها بإرهاق وهي تدلك عظام كتفها: -احنا اتكتبلنا عمر جديد، شوية ستات منعرفش مين جوم هجموا علينا!
بدا الفضول واضحًا عليها لمعرفة التفاصيل أكثر، فسألتها باهتمام: -وبعدين؟ كملي!

التقطت والدتها أنفاسها متابعة: -ولولا ستر ربنا والست معرفة أختك بسمة كان زمانا روحنا في دوكة!
-أنا مش فاهمة حاجة!
قالتها نيرمين بامتعاض ظاهر عليها، ثم هتفت قائلة وهي تجذبها من ذراعها نحو الأريكة لتجلسها إلى جوارها:
-اقعدي كده وفهميني بالراحة إيه اللي حصل!

سردت لها مستخدمة ذراعيها كوسيلة للتوضيح ما دار بالسوق الشعبي، واستطاعت هي سريعًا أن تربط بين ما سمعته من تهديدات سابقة متوعدة بالاعتداء الشرس على عائلتها من حماتها اللعينة وبين ما حدث اليوم، هبت واقفة من مكانها هاتفة بلا وعي:
-بنت اللذينة عملتها؟
نظرت لها عواطف بغرابة متعجبة من تبدل أحوالها للانزعاج ونظراتها للحدة، فسألتها مستفهمة:
-قصدك مين؟

أجابتها بغموض وقد قست نظراتها على الأخير: -مافيش غيرها، كانت ناوية على كده
ضجرت والدتها من الحصول على إجابة واضحة منها، فهتفت بنفاذ صبر وهي تربت على فخذيها بتعب:
-يا بت قولي مين؟!
تقوس فمها للجانب، وقطبت جبينها مبدية اشمئزازها الصريح قبل أن تنطق بنفور: -الحيزبونة أم البأف اللي كنت متجوزاه!
لطمت أمها على صدرها هاتفة بصدمة: -يانصيبتي!
-وربنا ما أنا سيباها.

وقفت عواطف على قدميها لتمسك بابنتها من ذراعها، أدارتها نحوها قائلة بجدية وهي تحذرها:
-خلاص يا بنتي، اللي حصل حصل، مش هانفضل نعيد ونزيد معاها، هي ولية شر، الله يسهلها بعيد عننا، كفاية مشاكل بقى، احنا معدناش مستحملين!
-يا أماه دي..
-كفاية يا نيرمين!
اضطرت أن تستسلم لإلحاح والدتها، فزفرت قائلة باستياء رغم شراسة نظراتها: -ماشي. هي ليها يومها بردك!

لاحقًا اتفق جميع من في المنزل على تناسي تلك الحادثة وعدم ذكرها مطلقًا كي لا تتسبب في افتعال مشاجرات حامية من جديد.

مرت عدة أيام انشغلت فيها أسيف بالتحضيرات النهائية لزفافها الوشيك، وعاونتها بسمة بكل حيوية ونشاط مستمتعة معها بدور وصيفة العروس، سعدت عمتها للتقارب الودي القوي بين الاثنتين، وتمنت لو كانت ابنتها الكبرى تشاركهن الفرحة، لكنها انعزلت عنهن و انخرطت – دون علمهن - في دوامة التحاليل الطبية والأشعة المختلفة لمعرفة أسباب مرضها المجهول، ومع ذلك لم تحصل على جواب كافٍ من طبيبها الذي كان يشك في مسألة ما.

تبقى لها وضع النواقص الشخصية في حقيبة سفرها لتصبح جاهزة، تنهدت بتعب بعد أن وضبطت كافة متعلقاتها الخاصة، وقعت عيناها على أشياء والدتها الراحلة، فمدت يدها لتمسك بكل منهم على حدا، تحسست حافظة نقودها وقربتها إليها لتشتم رائحتها الجلدية، حدقت في هاتفها القديم، كم اشتاقت لسماع صوتها الذي كان يبعث على الدفء والراحة، نظرت إلى ما تبقى من أدويتها المسكنة، لم تتخلَ عنهم، بل احتفظت بهم لتذكرها بها، تحرك بؤبؤاها نحو مسبحة والدها، فتلمستها برفق وأغمضت عينيها لتستعيد صورته في مخيلتها، باتت ذكراهما بعيدة عنها رغم رحيلهما القريب، تجمعت العبرات في مقلتيها متأثرة بتفكيرها المشتاق لهما.

ولجت إليها بسمة مستغربة حالتها الواجمة تلك، فمررت نظراتها سريعًا على ما معها، تفهمت الأمر دون الحاجة إلى سؤالها، جلست إلى جوارها على طرف الفراش قائلة بهدوء:
-هما في مكان أحسن دلوقتي، ادعيلهم بالرحمة
مسحت تلك العبرات التي علقت بأهدابها وهي ترد: -ربنا يجمعني بيهم في الجنة
ابتسمت بسمة مازحة محاولة تلطيف الأجواء: -يارب، وبعدين في عروسة تعيط قبل فرحها، ده حتى فال وحش!

ردت عليها مبتسمة ابتسامة باهتة قائلة: -حبيبتي يا بسمة، أنا مكونتش متخيلة إن احنا هنبقى قريبين أوي كده بعد المشاكل والخلافات اللي كانت بينا
-سبحان الله، ما محبة إلا بعد عداوة
-ربنا ييسرلك كل أمورك يا بسمة!
تبادلت الاثنتان أحضانًا ودودة للحظات، ثم تراجعت أسيف للخلف متسائلة باهتمام: -المهم إنتي فكرتي في اللي عاوزاه؟

أجابتها ابنة عمتها بتنهيدة مطولة: -لسه محتارة! مش قادرة أخد قرار، خايفة أوافق وأرجع أندم إني اتسرعت
ردت عليها أسيف بهدوء: -خدي وقتك يا حبيبتي، وكلنا معاكي!
هي مدركة لحالة التخبط الشديد في أفكارها، لتلك الصراعات الدائرة بين عقلها وقلبها، وأي قرار متعجل قد يأتي بنتائج عكسية، لذلك من الأسلم حاليًا التأني في التفكير حتى تصل إلى قرارها الأخير.

حالة من الخوف المستمر سيطرت على إداركه الحسي بصورة مقلقة حتى انعكست على أحلامه والتي ضمت الكوابيس المفزعة فأرقت ليله الطويل بصراخ خائف، ناهيك عن نهاره الباكي المفعم بالهلع والرعب، لم يتجاوب مع والده وظل في حالة رهبة دائمة منه مما اضطره لتجنبه كي لا يثور عليه بعد أن فقد أعصابه لأكثر من مرة معه، ورفض الصغير الحديث مطلقًا عما يخيفه.

اعتقدت جدته أن للأمر علاقة بأعمال السحر، وساورتها الشكوك حول وجود مسٍّ سفلي به، باحت بهواجسها لزوجها الذي نهرها بتعنيف صارم:
-بطلي تخاريف يا ولية، جن ايه ده اللي هيركب الواد؟!
ردت موضحة بنبرة مرتعدة: -يا حاج ده السحر مذكور في القرآن، وناس كتير حصلهم كده!
عبست قسماته بشدة، وهدر بها بانفعال طفيف: -بأقولك ايه، بلاش جنان.

أصرت على اعتقادها مضيفة بدلائل محسوسة: -طب ماهو على يدك احنا جبناله الضاكتور وقال زي الفل، إنت مش شايف عامل إزاي، ده زي ما يكون اتلمس من اللهم احفظنا و..
قاطعها طه بصلابة: -جليلة! مش عاوز كلام في الموضوع ده، الواد هيبقى كويس
مصمصت شفتيها قائلة بيأس: -يا ريت، هو أنا أكره!
استمع إلى جدالهما بانزعاج ظاهر على تعبيراته، فرك فروة رأسه بحيرة وهو يتنهد بصوت مسموع، التفت برأسه للجانب قائلاً بإحباط:.

-استغفر الله العظيم، أنا احترت ومش عارف أعمل ايه معاه!
احتدت نظراته أكثر وهو يكمل بغضب بائن في نبرته: -بنت ال، زنقتني مع ابني، الواد خايف يبص في وشي، وأنا خلاص زهقت وقرفت!
رد عليه منذر بجدية مشيرًا إلى لحظات تهوره المعروفة: -ما انت اتجنيت عليه أكتر من مرة!
برر دياب موقفه المتعصب قائلاً باستياء: -من غلبي، هو مش مريحني
فرك منذر طرف ذقنه مضيفًا بريبة أزعجته هو الأخر: -الغريبة إن ابنك رافض يشوف أمه!

رد عليه دياب بحدة: -وده هيطير برج من نافوخي، منين هي وحته عليا ومنين هو مش عاوز حتى يخرج من الأوضة؟!
صمت الاثنان للحظات يفكران في حل لتلك المعضلة التي تجاوزت الحدود، طرأ ببال منذر فكرة ما، ظن أنها مناسبة إلى حد كبير، لذلك اقترح بلا تردد:
-طب أنا عندي حل جايز ينفعك
-ايه هو؟
-ما تكلم الأبلة بتاعته!
انعقد ما بين حاجبي دياب باندهاش وهو يتساءل: -قصدك مين؟
غمز له منذر من طرف عينه مبتسمًا بعبث: -بسمة!

ارتفع حاجبي الأخير للأعلى مبديًا اندهاشه من ذلك الاقتراح المثير، ربما لوجوده في وسط المشاكل لم يستطع التفكير بذهنٍ صافٍ، وحجب عن عقله الكثير من الحلول الميسرة التي تضمنتها بالطبع، غفل عنها غير متعمد، تابع منذر موضحًا بجدية:
-ابنك بيحبها ومتعلق بيها، وهي شاطرة مع العيال جايز تفهم منه ماله وترتاح!
تشكلت ابتسامة راضية على محياه هاتفًا: -تصدق فكرة حلوة!

أضاف منذر بهدوء وهو يشير بيده: -أنا رايح عند أسيف دلوقتي أجيب شنطها من هناك لهنا، تعالى معايا وكلمها!
-ماشي، هاغير هدومي على طول!
-وأنا مستنيك تحت!
وكأن الدنيا قد ابتسمت له من جديد بمجرد ترديد اسمها، شعر دياب ببريق الأمل يلوح في الأفق لكونها ستساعده بطريقة أو بأخرى، بالإضافة لكونها فرصة طيبة لتبادل الحديث معها بعد أن عزفت عنه لأيام عدة، فباتت لياليه طويلة جافة.

ألقت بهاتفها المحمول على الفراش بعد تلقيها موعدًا جديدًا من الطبيب المتابع لحالتها المرضية المجهولة، استاءت من كثرة طلباته ومن عدم جدوى علاجه المؤقت، لم يفارقها الصداع، بل على العكس كان يتزايد باستمرار حتى بات يؤثر على إبصارها، استمعت والدتها إلى صراخها المحتد، فولجت إلى الغرفة متسائلة بتوجس:
-مالك يا نيرمين.

لم تجبها بل بدأت تنوح بصوت مسموع مما جعل قلق والدتها يزداد عليها، اقتربت منها متفرسة ذلك التبدل المريب في أحوالها، لفت أنظارها تلك التحاليل الطبية الموضوعة على الفراش، فسألتها بعدم فهم وهي تطالعهم بنظرات حائرة:
-دول ايه يا بنتي؟
أجابتها بنبرة مختنقة وهي تدفن وجهها بين راحتيها: -أنا تعبانة ومحدش دريان بيا، خلاص قرفت من كل حاجة!
انقبض قلبها بقوة من جملتها تلك، وسألتها بتلهف: -تعبانة، بتشتكي من ايه؟

أبعدت يديها لتكشف عن وجهها الباكي، ثم أجابتها بتذمر: -مش عارفة لسه، وخلاص زهقت
احتضنت عواطف وجه ابنتها بكفها قائلة بعتاب: -طب مقولتيش ليه؟ هو أنا مش أمك؟!
أشفقت على حالها كثيرًا، وحاولت احتوائها لكن نبذت ابنتها عاطفتها هاتفة بسخط: -هو في حد فاضيلي، ما كلكم ملبوخين مع الهانم اللي خدت كل حاجة مني حتى انتو!

أغمضت عواطف جفنيها للحظة محبطة من قسوتها المستمرة، لم يرق قلبها بعد نحو ابنة خالها الوحيدة رغم مرور الأيام، تنهدت مطولاً، ثم تابعت على مضض:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، طب استهدي بالله وشوفي عاوزة ايه وأنا أعملهولك!
أجابتها بغضب: -عاوزة أخلص من الهم اللي وقعت فيه
سألتها والدتها باهتمام وهي تنظر نحوها: -طب انتي المفروض هتروحي للضاكتور امتى؟

أجابتها بفتور مكفكفة عبراتها: -كلموني من العيادة وقالولي النهاردة!
هزت عواطف رأسها هاتفة بجدية: -خلاص هاجي معاكي
لوت ثغرها مرددة بامتعاض: -مالوش لازمة، شوفي المحروسة اللي برا
أصرت أمها على الذهاب معها قائلة: -انتي بنتي، ومش هاسيبك!
لم تعلق عليها بل اكتفت بالتحديق فيها بنظرات غامضة تحمل الحنق والسخط، هي مؤمنة بكونها تعيسة الحظ لم تنل من الحياة إلا القليل.

تعرقت من كثرة المجهود الذي بذلته فقررت أن تستحم لتنعش جسدها من جديد، لم يخطر ببال بسمة مجيئه في تلك اللحظة تحديدًا، ولذا لم تتخذ حذرها حينما ولجت للمرحاض حاملة معها فقط مناشفها القطنية، قرع جرس الباب فتوجهت أسيف لفتحه، ابتسمت بخجل حينما رأته أمامها يطالعها بنظراته المتلهفة لها، أردف قائلاً بصوت خفيض متعمدًا مدحها:
-القمر بنفسه بيفتحلي!

رمشت بعينيها بحياء، وانتبهت لوجود أخيه خلفه فتجمدت الكلمات على شفتيها، شعرت بالحرج الشديد من غزله الصريح أمامه، وعضت على شفتها السفلى متحاشية النظر إليه، سألها منذر بهدوء دون أن يحيد بعينيه عنها:
-أخبارك ايه؟
تورد وجهها بخجل أكبر وهي ترد: -الحمدلله، أنا خلاص جهزت كل حاجة، بس هابلغ عمتي إنك موجود
هز رأسه قائلاً: -تمام!

استمر في التحديق بها بنظرات شغوفة متناسيًا العالم من حوله حتى شعر بلكزة خفيفة في جانبه، فتذكر حضوره معه، تنحنح بخشونة متسائلاً:
-بالمناسبة بسمة هنا؟ دياب كان عاوزها في خدمة!
استغربت من طلبه ذلك وهي ترد بإيجاز: -اه، اتفضلوا!

تنحت جانبًا لتسمح لهما بالمرور وهي تشير بيدها للداخل، أسرع منذر في خطواته نحو غرفة الضيوف ليجلس بالداخل، بينما تباطأ دياب في سيره محاولاً التطلع خلسة حوله عله يلمح طيفها، لكن خاب أمله، كان المكان خاويًا منها، لم ينتبه لطرف السجادة فتعثر بها، وكاد يهيم على وجهه لولا تداركه الموقف، حلت عقدة رباط حذائه نتيجة تلك الحركة المباغتة، فانحنى للأسفل ليربطها.

في نفس التوقيت خرجت من المرحاض ملتفة بمناشفها لا يبرز منها إلا جزء من ساقيها، تنبهت حواسه لصوتها المدندن فرفع أبصاره في اتجاهها، خفق قلبه بدقات فرحة لرؤيتها، وزادت سعادته بانعكاس صورتها في عينيه، على عكسه تسمرت في مكانها مدهوشة حينما رأته محنيًا على الأرضية أمامها مبتسمًا لها ابتسامة عريضة.
اتسعت حدقتاها بصدمة، وشعرت بتلك السخونة المتدفقة إلى وجهها، هتفت بنزق: -انت؟!

انتبه لكونها على أريحيتها، فأخفض بصره متحرجًا، ثم اعتدل في وقفته ليوليها ظهره وهو يقول بارتباك مشيرًا بيده:
-احم. انتي شكلك كنتي مشغولة!
حدقت في نفسها فتفاجأت بخروجها على تلك الحالة المتجاوزة، خرج من جوفها شهقة مصدومة، ثم اختفت راكضة من أمامه شاعرة بحرج كبير للغاية،.

جاهد دياب ليخفي ضحكاته الغبطة بخجلها، فقد تصادف دومًا رؤيته لها في مواقف عجيبة تشعرها بالحياء والحرج، وهو مثلها يتحاشى قدر المستطاع التطلع إليها في تلك الظروف رغم رغبته فيها، أراد ألا يتجاوز معها حتى بالنظرات في أبسط الأمور محافظًا عليها، رغم كون الموقف غير مقصود إلا أنه أخرجه من حالة الضجر التي كان يعايشها، استمتع لثوانٍ بعفوية أنعشت روحه المنهكة، تنفس بعمق، وولج إلى داخل غرفة الضيوف ليلحق بأخيه.

ضربت جبينها بكفيها معاتبة نفسها على عدم اتخاذها حذرها أثناء استحمامها، وإلا لما وضعت في ذلك الموقف المخجل أمامه ليتكرر مشهد جديد يضاف إلى ذلك الذي عاصرته من قبل، لامت نفسها مرددة بحنق:
-غبية! ازاي تخليه يشوفك كده!
أسرعت بارتداء ثيابها مكملة عتابها القاسي لنفسها: -دلوقتي يقول عني ايه؟ ولا يفكر فيا ازاي! متخلفة!

كورت قبضتي يدها بحدة ضاغطة على أصابعها بقوة مستشعرة الحرج الشديد منه، التهب وجهها بحمرة صريحة مستعيدة نفس المشهد في عقلها، انتفضت في مكانها بخضة حينما أطلت أسيف برأسها من باب الموارب هامسة:
-دياب عاوزك برا!
تضاعف ارتباكها وهي ترد بتجهم: -اه ما أنا شوفته
سألتها أسيف باهتمام وهي تشير بعينيها نحو الخارج: -طيب هاتطلعي تكلميه
هزت رأسها بالإيجاب مرددة: -ايوه جاية!

ابتلعت ريقها مضيفة بجمود زائف: -اديني دقيقتين بس أظبط نفسي
ابتسمت لها ابنة خالها قائلة برقة: -براحتك!

استشعرت الأخيرة خجلها، واعتقدت أن ترددها الظاهر عليها يرجع لوجوده بالخارج، فأعطتها مساحة من الحرية لتختلي بنفسها وتستعد نفسيًا للحديث معه، فربما قد جاء لمفاتحتها من جديد في مسألة الارتباط الرسمي، بدت بسمة في حيرة واضحة بعد انصرافها، دق قلبها بعنف كبير حتى توجست خيفة من أن يكون قد أصابها مكروه ما، توترت أكثر للقائها به رغم كونه عاديًا، لكن مؤخرًا تغيرت كثيرًا، وصارت أكثر تحسسًا من وجوده حولها، تساءلت مع نفسها بتوتر:.

-طب أطلع أقوله ايه؟ لالالا، أرفض، طب ما أنا قولتلها جاية!
زفرت بصوت مسموع قبل أن تكمل حديث نفسها المرتبك: -خدي نفس يا بسمة واهدي، محصلش حاجة، وماشفش حاجة منك، عادي ياما بيحصل!
تنفست عدة مرات بعمق لتضبط انفعالاتها، لكن ما لم تستطع السيطرة عليه هي تلك الحمرة التي تصبغ وجهها، يئست من إخفائها فاضطرت أسفة أن تخرج من الغرفة على تلك الحالة.

على قدر المستطاع تعمد أن يكون هادئًا جديًا معها كي لا يشعرها بالحرج، لكن عصفت بداخله حربًا هوجاء أرادتها بشدة، فرائحتها الزكية تثير أنفه وحواسه مما شتت تركيزه لأكثر من مرة، بذل مجهودًا مضاعفًا ليبدو ثابتًا أمامها، ابتسم قائلاً بحذر:
-أنا محتاج منك خدمة لو مكانش ده يضايقك
ردت بسمة بارتباك طفيف وهي تتعمد التحديق في أي شيء إلا وجهه: -اتفضل، أنا سمعاك!

قص لها باختصار ما ألم بابنه فاستغربت كثيرًا لكون يحيى طفلاً طبيعيًا واجتماعيًا مع الأخرين، لذلك اعتبرت تبدل أحواله للنقيض أمرًا خطيرًا ومقلقًا خاصة حينما علمت أنه مصحوبًا بالصراخ والبكاء المتواصل، هزت رأسها قائلة بجدية:
-أنا هاتكلم معاه، وهاحاول أعرف ماله، يا رب بس يقولي!
تنهد قائلاً بتلهف: -يا ريت!
استشعرت ذلك بقوة حينما التقت عيناها بعينيه وهو يضيف: -أنا بجد محتاجلك!

رمشت بعينيها قائلة بتردد: -بس. ده عشان خاطر يحيى وبس
حافظ على ابتسامته رغم انزعاجه من جملتها تلك، وردد قائلاً: -تمام، وأنا هاكون شاكر جدًا لتعبك ده
ابتسمت مجاملة وهي تقول: -عادي
احنى رأسه نحوها ليحدق مباشرة في حدقتيها هامسًا بنبرة ذات مغزى: -بس مش عادي بالنسبالي!
ارتجف بدنها من كلماته الموحية والمصحوبة بتنهيداته المعبرة عن حبٍ نمى بداخله، ربما طبع أثره في نفسها وسيزداد وضوحًا إن أعطته الفرصة للبروز.

راقبهما الاثنان من خارج الغرفة بعدما انسحبا منها ليتمكنا من الحديث على انفراد، ظلت أسيف صامتة، مقتضبة في حديثها مما دفع منذر للاسترسال معها، لكنها أعطته إجابات مختصرة، لاحظ تحديقها المستمر ببسمة، فاستشف معرفتها بأمر أخيه، لذا هتف قائلاً بمكر:
-والله لايقين على بعض، صح؟
التفتت نحوه هامسة وهي تهز كتفيها: -يعني، ربنا يكتبلهم الخير!

تحرك خطوة للجانب ليحجب عنها الرؤية قاصدًا الحصول على انتباهها الكلي وهو يضيف بعبث:
-بس مش زينا بردك
مد كفه ليتلمس يدها المسنودة إلى جانبها، فسحبتها للخلف متجرحة من احتمالية رؤية عمتها لها، غمز لها عن قصد، فنظرت له محذرة، وقبل أن يتمادى معها سألته بجدية مصطنعة محاولة تشتيت انتباهه:
-منذر، ممكن أسألك في حاجة؟

وضع إصبعه على طرف أنفها ليداعب أرنبته قائلاً بهدوء وهو يرمقها بنظراته الحنونة: -انتي تطلبي على طول
أرجعت رأسها للخلف قائلة بجدية: -الدكان!
سحب يده إلى جواره متسائلاً بجمود مريب قد حل عليه من كلمتها المقتضبة تلك: -ماله؟
تابعت موضحة باهتمام: -هايفضل مقفول، أنا كان نفسي أوضبه وأعمل فيه مشروع صغير.

ضغط على شفتيه بقوة بعد أن تنهد بصوت مسموع قائلاً: -بعدين نتكلم في ده، دلوقتي احنا ورانا فرح وجواز وحاجات تانية أهم
ظنت أنه يتهرب من الإجابة عليها لرفضه العمل به من الأساس، فاحتجت على طريقته بحدة طفيفة:
-يعني إنت مش عاوزني..
قاطعها قائلاً بتريث عقلاني: -يا حبيبتي قبل ما تظني السوء، نتجوز وبعد كده نتكلم في ده، مش وقته خالص.

رمقته بنظرات مزعوجه من مماطلته، وقبل أن تواصل استرسالها جاءت إليها عمتها قائلة بحرج ظاهر في نبرتها:
-معلش يا ابني، ممكن نطلب منك خدمة!
استدار منذر ناحيتها هاتفًا بوجهٍ خالٍ من التعبيرات: -اتفضلي يا ست عواطف
بدت مترددة بدرجة ملحوظة وهي تسأله بلطف: -تودينا في سكتك عند عيادة الضاكتور ((، ))
سألها مهتمًا: -ليه؟ انتي تعبانة ولا حاجة؟ بتشتكي من.
قاطعته أسيف متسائلة بخوف: -عمتي مالك؟

رأت الهلع في نظراتهما فقالت بهدوء لتبعث الطمأنينة عليهما: -مش أنا، دي نيرمين بنتي، هي محروجة تطلب مساعدة من حد، وأنا مش هاسيبها لوحدها، قلبي مش جايبني أشوفها كده وأفضل أتفرج عليها
هتفت أسيف بلا تأخير: -مش لازم نستنى، احنا نوديها على طول، ده شيء واجب
استجاب منذر هو الأخر لرجائها رغم امتعاضه من اصطحاب تلك السمجة معه حينما رأى عدم وجود أي معارضة من زوجته لها، فأضاف قائلاً بفتور:.

-مافيش مشكلة، أنا هانزل استناكم تحت لحد ما تجهزوا
ردت عليه عواطف بامتنان كبير: -كتر خيرك يا ابني، جميلك ده مش هننساه!
لوح لها بإصبعيه مكملاً بجمود: -ولا يهمك! سلامو عليكم!
حدقت أسيف في عمتها بعد انصرافه قائلة: -رغم اللي بتعمله معايا، والغل اللي بأشوفه في عينيها ليا بس أنا مش بأكرهها والله، دايمًا بأدعيلها، جايز تتغير معايا!

يومًا بعد يوم تثبت لها ابنة أخيها أنها ابنة بارة بأهلها وأقاربها، فربتت على ظهرها قائلة بود:
- تسلمي يا بنتي، ربنا يحنن قلبك دايمًا على عبيده!
خرجت بسمة من غرفة الضيوف صائحة بنبرة شبه مرتفعة لتلفت الانتباه نحوها: -ماما، أنا هاروح مع دياب عند طنط جليلة!
نظرت لها الاثنتان بغرابة، فتابعت موضحة: -ابنه في مشكلة ومحتاجين مساعدتي ضروري
سألته عواطف بتوجس: -خير ماله؟

أجابها دياب قائلاً بابتسامة باهتة: -اطمنوا مش حاجة خطيرة، بس هو عنده مشكلة في الكلام معانا، وجايز الأبلة تعرف تحلها
هزت عواطف رأسها بتفهم ومع ذلك ردت بحرج قليل: -بس احنا كنا رايحين مع نيرمين للضاكتور
أدارت بسمة رأسها في اتجاه دياب الذي كان يرمقها بنظرات تحمل الرجاء، أخرجت تنهيدة قوية من صدرها مبدية حيرتها الطفيفة، لكن سريعًا ما لبث أن حسمت أمرها قائلة:
-طيب خدوا وقتكم معاها وأنا هاسبقكم على هناك!

تنفس الصعداء لاستجابتها لرجائه، وشعر بتقديرها الكبير للموقف مما عمق من مكانتها في قلبه، حتمًا هي تملك قلب أم حنون، تمنى لو قبلت بعرض زيجته لقدم لها الدنيا على طبق من ذهب فقط ليحظى بابتسامة صافية من على شفتيها..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة