قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن

اتجهت نيرمين وهي تحمل رضيعتها الغافية على كتفها نحو باب منزلهم لتفتحه بعد استماعها لقرع الجرس الخاص به.
وقفت أمام العتبة تتأمل المتواجدين بإستغراب قليل.
أردف منذر قائلاً بنبرة خشنة: -سلامو عليكم
سريعاً تداركت الموقف وتنحنحت بخفوت قائلة بترحيب: -وعليكم السلام، يا أهلاً وسهلاً!
تابع هو متساءلاً بجدية ونظراته تحولت للجمود: -الست عواطف موجودة؟

حدقت فيه بقلق ظاهر، ووزعت أنظارها بينه وبين أخيه الواقف خلفه مجيبة إياه: -اه موجودة!
ابتلعت ريقها بتوجس وتساءلت بتلعثم: -هو. آآ. هو في حاجة؟
رد عليها بغموض: -أنا عاوز أتكلم معاها
أضاف دياب قائلاً بعتاب: -هو احنا هنفضل واقفين كتير على الباب؟!
أيقنت شرودها عن التصرف بلباقة مع الضيوف، فهدهدت رضيعتها برفق، وتنحت للجانب قائلة بحرج:
-لا مؤاخذة، اتفضلوا، ده بيتكم!

صاح منذر عالياً لينبه من بالداخل لوجوده: -يا رب يا ساتر
بينما تنحنح دياب بخشونة مردداً: -احم. سلامو عليكم!
اتجه الاثنان نحو غرفة الصالون حيث المكان المعتاد لاستقبال الزائرين.
بينما أسرعت نرمين في خطاها لتبلغ والدتها بوجودهما بالخارج.
لفت عواطف حجاب رأسها سريعاً دون عناية بمظهره النهائي، وسارت بخطوات شبه سريعة نحوهما.
ابتسمت قائلة بود مرحبة بهما: -يا مراحب بالغاليين!

نهض الاثنان من على الأريكة العريضة ليصافحاها، ثم عاودا الجلوس مرة أخرى.
لم يرغب منذر في إضاعة الوقت هباءاً، لذلك استطرد حديثه قائلاً بعجالة وبجدية شديدة:
-شوفي يا ست عواطف، أنا جاي النهاردة عشان أحط النقط على الحروف في موضوع الدكان
حدقت فيه بإرتباك كبير، فقد بدا في نبرته وفي نظراته المسلطة عليها الحزم والشدة.
ازدردت ريقها قائلة بحذر: -ما أنا آآ. مش ساكتة يا سي منذر بس آآ..

انزعج منذر نوعاً ما بسبب استشعاره لتقاعصها عن إتمام تلك المسألة الحيوية، وقبل أن تكمل جملتها للنهاية قاطعها قائلاً بعصبية قليلة:
-مش وقت بسبسة يا ست عواطف، دي مصالح وارتباطات مع ناس كتير، مش فاضين للأعذار والحجج
دافعت عواطف عن موقفها قائلة بتلهف: -والله ما حجج!
ثم أخفضت نبرتها نسبياً لتتابع بحزن واضح: -أنا بس أخويا رياض مات من قريب وماكونتش أعرف.

حلت الصدمة على وجهي كلاً من منذر ودياب، وتبادلا نظرات مزعوجة وممزوجة بالحيرة.
فلم يتوقع أحدهما وفاة الشريك الأخر لعواطف، وبالتالي تشكلت عقبة أخرى أمام إكمال مسألة البيع.
ردد منذر بنبرة واجبة: -البقاء لله
ردت عليه بصوت مختنق: -الدوام لله وحده
بينما أضاف دياب مواسياً: -الله يرحمه، البركة فيكي انتي!
ردت عليه بتفهم: -اللهم امين، تعيش يا بني!

ساد صمت حذر لعدة لحظات قبل أن تستأنف عواطف حديثها قائلة بصوت مضطرب: -أنا كنت هافتحه في بيع الدكان، بس. بس اتفاجئت باللي حصله، ده حتى معرفتش أقوم بالواجب ولا آآ..
تلك المرة قاطعها دياب قائلاً بجمود متخيلاً عن هدوئه: -شوفي يا ست عواطف المثل بيقول الحي أبقى من الميت، وبصراحة كده احنا بنسابق الزمن عشان ننجز
ردت عليه بقلة حيلة: -وأنا متأخرتش عنكم يا دياب يا بني!

ضجر منذر من فتور ردودها، فصاح محذراً إياها من المماطلة بانفعال ظاهر: -احنا مش بنهزر ولا ده لعب عيال!
بينما أضاف دياب بتهديد ضمني: -خليكي فاكرة يا ست عواطف إن الدكان اتفقنا هنشتريه وبسعر كويس فبلاش ملاوعة من أولها، لأن ده مش في مصلحتك!
نفت سريعاً إتهامه لها قائلاً بخوف: -والله ما ملاوعة، دي. دي ظروف حصلت!
رد عليها غير مكترث: -ماليش فيه ده كله!

هزت رأسها بإيماءات متتالية قائلة: -حاضر، أنا هاتصل بمراته، وأفاتحها في بيعه!
نهض منذر فجأة من مكانه، وتابع قائلاً بصوت قاتم: -اعملي اللي تعمليه يا ست عواطف، المهم يخلص في أسرع وقت!
-ماشي
أكمل دياب مهدداً بعد أن هب واقفاً هو الأخر: -كمان أنا لحد دلوقتي مصدر الوش الحلو، فبلاش أضطر استخدم الوش التاني، وإنتي مش محتاجة تعرفيه
-اطمنوا، اللي انتو عاوزينه هايحصل!

ثم هتفت بنبرة عالية: -يا نيرمين، الشاي أوام للضيوف
رد منذر معترضاً بجمود: -مالوش لازمة، احنا ماشيين على طول
ألحت قائلة بإصرار كبير: -والله ما يحصل أبداً، ده انتو كده بتشتموني
نظر منذر لأخيه، وأشار له بعينيه قائلاً بهدوء: -خلاص اقعد يا دياب، خمساية ونتوكل على الله!
رد عليه أخاه على مضض: -طيب
في نفس التوقيت عادت بسمة من الخارج وعلى وجهها علامات سخط جلية.

كانت منزعجة للغاية من تصرفات أولياء الأمور المستفزة في بعض الأحيان والدافعة لحنقها المستمر.
لم تشعر بوجود غرباء في منزلها، فأخذت راحتها في التذمر من وضعها المأساوي في الدروس الخاصة التي تقوم بإعطائها مرددة بصوت مرتفع وهي توصد باب المنزل:
-امتى يتوب علينا ربنا من الهم ده، بجد ناس معندهاش لا رحمة ولا أدب من الأساس!

أسرعت نيرمين ناحيتها قائلة بصوت خفيض وهي ترمقها بنظرات حادة للغاية: -بسمة، وطي صوتك في آآ..
لم تمهلها الفرصة لإكمال ما تريد قوله، حيث هتفت بتبرم: -الواحد يبقى قاعد في الدرس كافي خيره شره ومركز في اللي بيديه للعيل من دول ويلاقي الأم بتظبطني ياختي مع أخوها.

فغرت نيرمين شفتيها مصدومة مما تردده أختها بلا وعي، وحاولت تحذيرها لتكف عن الحديث، لكن كانت الأخيرة كالصاروخ في اندفاعها بعباراتها الناقمة على وضعها.
تابعت غير مهتمة بإيماءات وإشارات أختها الغامضة والغير مفهومة بالنسبة لها: -خال الواد عمال يظبط زوايا معايا من صباحية ربنا عشان أخد باله منه ومبحلأ فيا بعينيه على وسعهم!

هزت نيرمين شفتيها للجانبين مستنكرة تلك الفضائح التي تتفوه بها، في حين تابعت بسمة بإشمئزاز بادي على وجهها ونبرتها:
-لأ وطول الوقت شغال منادية تقوليش واقف في السوق ولا أعدين على المصطبة، ركز يا واد مع الأبلة، اسمع للأبلة الحلوة، هي صغيرة بس دماغها جامدة! رجالة أخر زمن سايبين اللي وراها وبيعاكسوني عيني عينك كده!

تحركت دون اكتراث للأمام فرأت باب غرفة الصالون ( موارباً ) فدقق النظر فيه فلمحت طيف رجلين بالداخل.
شهقت مصدومة والتفتت نحو أختها متساءلة بحرج كبير: -هو احنا عندنا حد؟
ردت عليها نيرمين بتأفف وهي خافضة لصوتها: -اه يا فالحة، ماهو ده اللي بأحاول أقولهولك من بدري!
أشارت بكف يدها نادبة سوء تصرفها، ومرددة بندم: -أوبا، ده أنا عكيت الدنيا على الأخر!

ردت عليها نيرمين بتمني: -ربنا يستر ومايكونوش خدوا بالهم من الهالومة اللي عملتيها
تساءلت بسمة بفضول وقد التمعت عيناها نوعاً ما: -هما مين أصلاً؟
أجابتها نيرمين بعبوس: -ولاد الحاج طه حرب!
ضغطت بسمة على شفتيها مرددة بإستياء: -كملت!
لكزتها أختها الكبرى قائلة بجدية وهي تدفعها للأمام: -طب خشي الأوضة بدل ما تتهزأي من أمك!
وافقتها بسمة الرأي مرددة بإمتعاض: -ايوه، مش ناقصة قلة قيمة أكتر من كده!

استمع دياب إلى معظم ما قيل بالخارج بسبب حدة الصوت، واستنكر بضيق شديد ما يحدث في منازل أولياء الأمور من تجاوزات أخلاقية.
ورغم هذا ابتسم لنفسه بتهكم.
فقد تذكر حديث طليقته عن رغبتها في إعطاء ابنهما درساً خاصاً لمساعدته على استذكار وفهم دروسه، فربما تكون هي المرشحة المناسبة لذلك الأمر وبالتالي لن يكون بحاجة للبحث عن واحدة أخرى.

لكنه لم يرد مفاتحة السيدة عواطف في تلك المسألة مباشرة دون الرجوع لوالدته أولاً والتفكير فيها بروية.
شعرت عواطف بالحرج من تصرفات ابنتها الغير محسوبة والتي تضعها دوماً في مواقف حرجة مع الأخرين، وحاولت قدر الإمكان إلهاء ضيفيها كي لا ينتبها للحديث الدائر خارج الغرفة.
لم يعبأ منذر بما سمعه، وركز تفكيره فقط على كيفية اتمام بيع الدكان العتيق والبدء في مشروع المطعم في أقرب وقت.

ارتشف هو مقداراً كبيراً من محتويات قدحه، ثم أسنده على الصينية أمامه، وأومأ بعينيه لأخيه بإشارة ذات مغزى، ثم ضرب على فخذه برفق قائلاً بجدية:
-متشكرين يا ست عواطف على الشاي، هانستأذن احنا!
نهض الاثنان بعدهما من مكانهما، ووقفت عواطف هي الأخرى مودعة كليهما بود: -هنياً، ما لسه بدري
رد عليها بإقتضاب: -عندنا شغل وحاجات كتير
ردت عليه بتفهم وهي تشير بيدها: -الله يكون في العون، شرفتونا!

وبالفعل قامت بإصطحابهما إلى الخارج مودعة إياهما بكل ود وألفة.
أسرعت نيرمين بالذهاب إليها متساءلة بفضول: -خير يا ماما، كانوا جايين ليه؟
ردت عليها بتنهيدة مستاءة: -هو في غيره، موضوع الدكان اياه!
أسندت جليلة صحن الفاكهة العريض على الطاولة أمام عائلتها لينتقوا ما يريدون من الثمار لتناولها.
تابع منذر حديثه قائلاً بجدية: -أنا مرضتش أشد عليها أكتر من كده، بس فهمتها عيني عينك إن الموضوع مش هزار.

قطم والده ثمرة التفاح مردداً وهو يبتلعها: -كده صح!
ثم التفت منذر برأسه ناحية دياب ليضيف بإمتعاض: -بس ابنك كان عاوز يشعلها على طول
احتدت نظرات دياب نوعاً ما، وهتف غير مبالٍ: -أنا زهقت من كتر اللف والدوران، عاوزين ننجز يا حاج
برر الحاج طه موقفها قائلاً بنبرة عقلانية: -هي بردك معذورة، اللي مات مش حد غريب، ده أخوها!
تساءلت جليلة بفضول وهي تمصمص شفتيها: -على كده راحت لمرات أخوها وآآ..

قاطعها دياب بتجهم قليل: -واحنا مالنا بالحوارات دي، هتفرق معانا يعني
أوضحت مقصدها قائلة: -أصل أنا افتكر إن علاقتها بعيلة أخوها مش أد كده يعني!
رد عليها دياب بجدية: -سيبك انتي من الكلام ده، أنا عاوز أخد رأيك في حاجة كده!
انتابها الفضول لمعرفة ما يرغب ابنها في معرفته، فسألته بتلهف: -حاجة ايه دي؟
أجابها بصوت جاد للغاية وهو محدق فيها بثبات: -أنا سمعت ان بنت عواطف شغالة مُدرسة.

هزت رأسها بالإيجاب لتضيف وهي تشير بكف يدها: -أها. بنتها الصغيرة باين، أبلة كده في مدرسة حكومي باين
استأنف قائلاً بنبرة عازمة: -المهم شوفي إن كان تنفع تدي ليحيى الدرس ولا لأ!
فكرت جليلة فيما قاله بإهتمام كبير، فهي بالفعل تبحث عن معلمة جيدة لابنتها أروى، بالإضافة إلى حاجة يحيى لمعلمة تعاونه في استذكار دروسه.

أكمل دياب قائلاً بهدوء جاد: -يعني، هي أحسن من الغريب، بردك احنا مش عاوزين أي واحدة تفوت عندنا والسلام!
ثم استدار برأسه ناحية أبيه، ووجه حديثه متساءلاً بجدية: -ولا انت ايه رأيك يا حاج؟
رد عليه طه بفتور: -اعملوا اللي تعملوه، المهم العيال تذاكر وتنجح في الامتحان!
حركت جليلة رأسها بإيماءة جادة، وقد بدأت تفكر في تلك المسألة بالفعل وتضعها في حسبانها.

نجحت أسيف في إقناع والدتها بالسفر وترك قريتهم مؤقتاً، وبالفعل بدأت في إعداد العدة لتلك السفرية القصيرة.
قامت بتجهيز حقائبهما بكل ما ستحتاجان إليه من متعلقات ضرورية، بالإضافة إلى تهجيز ملف خاص بالأشعة والتقارير الطبية الخاصة بحالة والدتها الصحية.
كذلك لم تنسَ الأدوية التي تتناولها ووضعتها في حقيبة صغيرة مستقلة لإستخدامها وقت اللزوم.

أصر ابن خالة والدتها الحاج فتحي على إيصالهما للمحطة القريبة رغم رفض أسيف لأي مساعدة منه، ولكنها اضطرت في الأخير أن ترضخ لطلب أمها بتقبل عرضه لتجنب افتعال المشكلات معه.
وقف هو إلى جوارهما قائلاً بإبتسامة فاترة على رصيف المحطة: -متغيبوش علينا
ردت عليه حنان بهدوء: -إن شاء الله
تساءل هو بإهتمام محاولاً سبر أغوار تفكيرهما الغامض الذي دفعهما للسفر في هذا التوقيت تحديداً:
-وهاتقعدوا فين كده؟

أجابته أسيف بنزق لكي لا تترك الفرصة لأمها للبوح عما ينتويان فعله فهي ترفض تدخلهما السافر في شئون حياتهما الخاصة:
-في لوكاندة كده قريبة من المستشفى!
مط فمه قائلاً بصوت آجش: -طيب، طمنوني عليكم أول ما توصلوا، وإن عوزتوا حاجة ولا ناقصكم شيء عرفوني!
ردت عليه أسيف بإقتضاب وقد بدا وجهها متجهماً نسبياً: -مستورة والحمدلله!

في حين أسرعت حنان بالرد عليه بإبتسامة مهذبة لتتلافى توبيخه لابنتها إن ظن أنها تعامله بجفاء:
-حاضر، احنا منستغناش عنك يا حاج فتحي
لوح لهما بيده قائلاً: -في حفظ الله!
هتفت أسيف بهدوء وهي تحاول الابتسام له: -اتوكل على الله يا خالي وشوف مصالحك، وربنا هيكرمنا
بالطبع كان يطمع أن يتركهما ويرحل، ولكن لكي لا يعاتبه أحد على ذهابه، فرغب في التمسك بالأصول لأخر لحظة، وتساءل بنبرة مجاملة:
-يعني مش عاوزين حاجة مني؟

ردت أسيف مؤكدة: -لا كله تمام
بينما أضافت حنان بنبرة ممتنة: -شكراً يا حاج فتحي، ربنا يخليك لينا!
هتف بنبرة عالية وهو يلوح بذراعه في الهواء مودعاً كلتاهما: -طيب فوتكم بعافية!
تابعته الاثنتان بنظرات منوعة مابين الإنزعاج والخوف.
التفتت أسيف ناحية والدتها، وهمست بصوت متبرم: -معنتش بأقبل وجوده يا ماما
ردت عليها أمها مدافعة عنها: -كتر خيره برضوه، عارف الأصول!

استنكرت دفاعها عنه، وهتفت بتذمر معاتبة إياها: -هو في واحد عارف في الأصول يبيعنا ورثنا غصب!
تنهدت والدتها بإستياء قائلة: -مالوش لازمة نحكي في اللي فات
رأت أسيف علامات الضيق متشكلة على وجهها، فتوقفت عن إلقاء التهم واللوم حتى لا تزعج والدتها أكثر، فشاغلها الآن هو الانتقال للحضر والخوض في مغامرة جديدة لمعرفة المزيد عن عائلة أبيها وذلك الإرث الغامض.

ابتسمت لها بود، وردت بإيجاز وهي تنحني لتقبل رأسها: -ماشي!
استمعت بعدها كلتاهما إلى صوت صافرة القطار، فتملكها الحماس للمضي قدماً، وصاحت بتلهف:
-يالا يا ماما!
حركت والدتها مقعدها المتحرك بكفيها، في حين رفعت أسيف حقائب السفر بيديها، واتجهت الاثنتان نحو القطار.
دنت أسيف من أحد عمال السكة الحديدية وطلبت منه العون في إدخال والدتها إلى داخل عربة القطار قائلة برجاء قليل:
-ممكن مساعدة يا حضرت.

التفت العامل نحوها، ونظر إلى حيث تشير، ثم رد عليها بنبرة رسمية: -حاضر يا ست!
بعد برهة كانت كلتاهما بداخل العربة، جلست أسيف على مقربة من النافذة، وحدقت بحماس في المنظر الطبيعي بالخارج.
تسارعت دقات قلبها نوعاً ما بسبب حماستها الزائدة،
وتشكل على ثغرها ابتسامة متفائلة ومتطلعة لغد أفضل.
عاودت النظر إلى والدتها فوجدتها ممسكة بمصحفها تقرأ فيه بعض أيات القرآن.

تنهدت بعمق، واستدارت برأسها مرة أخرى نحو النافذة داعية الله في نفسها أن ييسر لهما كل عسير.
انتهى أغلب العمال من تحميل الشاحنات الكبيرة بألواح الرخام والسيراميك وكذلك أنواع الأرضيات المختلفة عليهم.
وتم إفراغ معظم المخازن مما بها من بضائع.
لوح منذر لسائقي الشاحنات التابعة له قائلاً بنبرة مرتفعة تحمل الصرامة: -اتأكدوا إن كل حاجة متربطة كويس، مش ناقصين يحصل زي المرة اللي فاتت والبضاعة تريح!

رد عليه أحد العمال بثقة: -اطمن يا ريس منذر!
التفت منذر ناحيته، وأردف قائلاً بحدة وقد احتدت نظراته: -مش هاطمن إلا لما أتأكد بنفسي!
صاح العامل بصوت مرتفع: -يالا يا رجالة، شدوا حيلكم!

راقبهم منذر بنظرات ثاقبة للغاية، ففي المرة السابقة تعرضت إحدى شاحناته لموقف متأزم حينما مالت الحمولة للجانب، وكادت تفقد الشاحنة توازنها على الطريق السريع مما اضطر السائق للتوقف إجبارياً على أقصى جانب الطريق مستنجداً به ليرسل له من يعاونه على إنقاذ الشاحنة قبل سقوط الحمولة بأكملها وبالتالي تكبدهم خسائر فادحة إن لم يكن تعرضه هو وأخرين لحادث سير مفجع.

لذا وقف بنفسه تلك المرة وسط عماله ليتأكد من اتباعهم لتعليماته بحزافيرها.
دنا منه رئيس المخازن قائلاً بنبرة رخيمة: -البضاعة اتحمل يا باشا، ودي الفواتير والأوراق
تناولها منذر منه، وتطلع فيها بنظرات خاطفة وشمولية، ثم رد عليه بإقتضاب: -تمام!
سار هو بخطوات سريعة نحو إحدى الشاحنات ليركب في المقدمة بجوار السائق ليشرف بنفسه على وصول بضاعتهم بأمان.

وصل القطار إلى محطته الأخيرة، فترجلت منه أسيف، ومن بعدها والدتها بمعاونة عاملين المحطة.
جرجرت حقائبها خلفها، وتلفتت حولها بنظرات حائرة.
هي لم تعرف إلى أين تذهب تحديداً، فقد كانت تلك هي المرة الأولى التي تبتعد فيها تماماً عن قريتهم البسيطة وتنتقل إلى مكان أوسع، وأكبر، وأكثر إزدحاماً.
ارتفعت الحماسة بها، لكنها كانت ممزوجة بالقلق والتوتر.

انتبهت لصوت والدتها يناديها بتحذير: -بالراحة يا أسيف، خلينا نشوف هانعمل ايه الأول
-حاضر يا ماما
قالتها أسيف مبتسمة برقة.
تباطئت في خطواتها، واتبعت إرشادات اللوحات المعدنية لتصل إلى خارج المحطة.
بعد عدة دقائق كانت كلتاهما على مسافة قريبة من منطقة سيارات الأجرة.
أسندت أسيف الحقائب إلى جوارها، وأخرجت الورقة التي تحمل عنوان عمتها لتقرأها.

أخذت نفساً عميقاً حبسته لثوانٍ في صدرها، ثم أخرجته دفعة واحدة، ونظرت إلى والدتها بحنو مرددة:
-جاهزة يا ماما؟
بادلتها حنان نظرات شبه متوترة، وردت بخفوت: -ايوه، ربنا يكملها معانا بالستر!
بحثت هي بعينيها سريعاً عن إحدى السيارات لتقلهم إلى العنوان المذكور، وبالفعل حظت بواحدة بعد معاناة مع السائقين المتذمرين، فالمسافة لم تكن هينة.

قام السائق بوضع الحقائب في صندوق سيارته، ثم تعاون مع أسيف في إسناد حنان وإجلاسها في المقعد الأمامي.
جلست هي في الخلف، وتطلعت بتلهف من النافذة لرؤية عمتها الوحيدة.
على النقيض كانت حنان تخشى ما هما مقبلتان عليه.
هي عهدت تلك الفترة المظلمة من حياة زوجها الراحل رياض، وتعرف مدى شراسة وغلظة طباع ذلك الجانب من العائلة.
ربما لم تحدث ابنتها عنهم مسبقاً بسبب عدم اختلاطهم بهم، لكنها باتت نادمة لذلك.

انطلق السائق في وجهته متخذاً الطريق السريع ليتجنب زحام السير، ولكن حدث ما لم يتوقعه. تعطلت سيارته في منتصف المسافة، واضطر أسفاً أن يصفها على الجانب ليكتشف العطل محاولاً إصلاحه.
كانوا محظوظين نوعاً ما لوجودهم بالقرب من محطة لتمويل السيارات بالوقود. فإن تعذر على السائق إصلاح العطل سيكون من السهل اللجوء لمساعدة من بالمحطة.

دققت أسيف النظر في المنطقة حولها، ولمحت وجود استراحة على مقربة منهم – على الجانب الأخر من الطريق - مخصصة لبيع السلع الغذائية، فابتسمت بسعادة، وهتفت قائلة:
-ماما، أنا هانزل أجيب حاجة سخنة نشربها
ردت عليها أمها بعبوس فقد تملك الإرهاق منها بسبب عناء السفر المتواصل: -مش عاوزة، خليكي أعدة جوا العربية وخلاص.

أصرت أسيف على طلبها قائلة بإلحاح وهي تشير بيدها نحوها: -شوية شاي بس ياماما، من الاستراحة اللي هناك دي!
استمع السائق لحوارهما، فتدخل قائلاً بضجر: -لو عاوزين تقعدوا هناك شوية براحتكم، العربية هتاخد وقت في التصليح!
رفضت حنان الترجل من السيارة قائلة بجدية: -مالوش لازمة، خليني في مكاني!
ثم همست بصوت خفيض يحمل المرارة: -مش حابة اتبهدل وأتعب اللي حواليا.

تفهمت أسيف موقفها، وسألتها وهي تبتسم لها بإبتسامة خفيفة: -طب أجيبلك مياه من هناك، أو أكل جاهز، سندوتشات أو آآ..
اعترضت حنان مقاطعة بنبرة تحمل الإرهاق: -لا يا بنتي مش عاوزة!
هتفت أسيف مرددة بإصرار قليل: -طب أجيب عصير بس، هينفعنا، لسه قدمنا شوية، ماشي يا ماما؟
ردت عليها مستسلمة: -ماشي!
ترجلت أسيف من السيارة وهي تحمل في يدها حافظة نقودها، ثم التفتت نحو والدتها حينما سمعتها تحذرها:.

-خدي بالك وانتي بتعدي الشارع، العربيات هنا مش زي عندنا
أومأت برأسها إيجاباً مرددة: -حاضر
وبالفعل اتخذت حذرها وهي تعبر الطريق للجانب الأخر لكي تصل إلى الاستراحة.
مكثت هي بداخلها لبضعة دقائق متفقدة ما تحتويه من مأكولات سريعة ومشروبات باردة وساخنة.

أثرت أن تحضر لوالدتها مشروباً بارداً بجانب المياه وبعض الحلوى لتعطيها الطاقة. فهي تعلم رفض أمها القاطع لتناول أي شيء خارج المنزل، فلم تجازف بشراء طعام جاهز لها.
دفعت أسيف الحساب، ثم خرجت من الاستراحة لتعاود أدراجها حيث تتواجد سيارة الأجرة.
لم تضع هي باقي النقود في حافظتها، وطوتهم بداخل راحة يدها.
أسرعت في خطاها لتجتاز الطريق السريع دون أخذ الحذر الكافي من السيارات المسرعة القادمة أمامها.

في نفس التوقيت اقتربت الشاحنة المتواجد بها منذر من الاستراحة.
لمح هو شبح شيء ما يحاول المرور ظاهراً فجأة أمامه من العدم، فمد يده بحركة لا إرادية سريعة نحو عجلة القيادة ليديرها في الاتجاه الأخر ليتجنب دهسها أسفل عجلاتها، فإنحرفت الشاحنة نسبياً عن مسارها، وصدر عنها صوتاً مزعجاً للغاية نتيجة الضغط على المكابح بقوة.
وبحركة احترافية لسائق ماهر تمكن بمهارة من إيقاف السيارة ومنع حادثة مروعة من الوقوع.

تسمرت أسيف في مكانها مذهولة مما حدث، وتجمدت نظراتها على تلك الشاحنة التي تجاوزتها بمعجزة حقيقية.
ارتخت أصابعها عن النقود المطوية في قبضتها، وتركتها تسقط منها لتطير بفعل الهواء في اتجاه الشاحنة.
نعم لقد كانت قاب قوسين أو أدنى من الموت المحقق.
هوى قلبها في قدميها من فرط الرعب، ودب في جسدها إرتعاشة رهيبة من هول الموقف. كما تلاحقت أنفاسها بصورة سريعة.

إنتاب منذر حالة من الغضب الشديد بسبب حماقة تلك الطائشة، فترجل من الشاحنة وعلى تعابيره نذيراً بالخطر المهلك.
تداركت أسيف نفسها ورأت ذلك المتجهم الغاضب المتجه نحوها.
كانت ملامحه مخيفة للغاية، ونظراته موحية بشر مستطر.
ارتعدت أوصالها أكثر، واضطربت أنفاسها بفزع ظناً منها أنه سيتشاجر معها وربما يتطاول باليد عليها لائماً إياها على خطئها الغير محسوب العواقب.

كان هذا هو الموقف الأكثر خطورة الذي تتعرض له في حياتها كلها.
لم يسبق لها أن مرت بتجربة مثيرة – ومهلكة في آن واحد -كتلك.
أفاقت من جمودها المرتعد لتركض بخوف شديد ناحية سيارة الأجرة التي تنتظرها على الجانب الأخر متجنبة التصادم مع ذلك الغريب الشرس.

سلط منذر أنظاره على تلك الشابة التي تهرول بلا تريث، فاستشاط غضباً أكثر منها لتجاهلها المتعمد له وكأنها لم ترتكب شيئاً أحمقاً، وحدجها بنظرات نارية مغلولة.
انفلت أعصابه بسبب غبائها، وصاح بصوت جهوري لاعناً إياها بألفاظ بشعة مستنكراً جهلها وتهورها المميت.
استمعت هي إلى سبابه اللاذع في حقها دون أن تجرؤ على الالتفات إليه مجدداً.

بكت بحرقة بسبب تلك الإهانة الشديدة والألفاظ البذيئة التي طالتها. ووضعت يدها على فمها لتكتم شهقاتها المتصاعدة.
يكفيها نظراته المظلمة والمهددة التي كادت أن تمزقها دون حتى أن يمسها.
جاهدت لتتلاشى من أمام أنظاره قبل أن يصل إليها فيفتك بها لفعلتها تلك.
وحمدت الله في نفسها وجود بضعة سيارات مصطفة على مقربة من محطة الوقود لتتمكن من الاختباء والتواري جيداً.

ترجل سائق الشاحنة هو الأخر منها، واقترب من منذر مردداً بصوت لاهث: -الحمدلله يا ريس منذر، قدر ولطف، كان ممكن البت دي تتفرم تحت العجلات، ونروح في داهية بسببها، و آآ..
قاطعه منذر مشيراً بكف يده وهاتفاً بصوت قاتم مغتاظ يحمل الوعيد: -حظها انها جرت، كنت عرفتها إن الله حق، ودفعتها تمن غبائها ده!
رد عليه السائق بإمتعاض: -هي اللي سمعته منك قليل يا ريسنا، حريم مجانين مخهم طاقق!

ظلت قسمات وجه منذر متصلبة للغاية، ونظراته منزعجة على الأخير بسبب ما دار.
اصطفت الشاحنات الأخرى خلف شاحنتهما الواقفة، وبدأ معظم المتواجدين بهم في الترجل منها.
رأى السائق النقود المتطايرة في اتجاههما، فانحنى ليجمعها سريعاً مردداً بسخرية:
-البت الظاهر وقعت فلوسها
التفت منذر ناحية السائق ونظر فيما يحمله من نقود، وآمره بجمود: -هاتهم!

ناوله إياه، فقد كان المبلغ المتبقي زهيداً ولا يستحق العناء من أجله، لذا لم يهتم السائق به.
طواه منذر في قبضته وكأنه يعتصره، وسلط أنظاره على تلك المحطة التي اختفت بداخلها مفكراً في أمر ما و..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة