قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع

وقف سائق الشاحنة إلى جوار رب عمله منذر يتابع ردة فعله الغامضة بفضول.
فقد لاحظ تبدل تعابيره الجامدة إلى الغلظة والتجهم، وهو يعرف تلك التعبيرات جيداً.
سأله بحذر وهو يحك مؤخرة رأسه: -تؤمر بإيه يا ريسنا
أومأ منذر بعينيه المحتدتين مجيباً إياه بصوت خشن للغاية: -هاشوفها هناك!
فرك السائق طرف ذقنه متساءلاً بغرابة: -ودي ايه اللي هيوديها عند البنزينة؟

صمت منذر للحظة قبل أن يجيبه بنبرة محتقنة: -واحدة زيها ممكن تكون متفقة مع اصحاب البنزينة تعمل الشويتين دول، تقوم العربيات تخبط في بعض وتتعمل حوادث وبلاوي سودة هنا، وهما يسترزقوا من تصليحها!
فغر السائق فمه مشدوهاً مما قاله، وهتف غير مصدق: -يا بنت ال، ، ايوه، ده فيهم ورشة تصليح، ومشحمة، إزاي مجاش في بالي!
تقوس فم منذر قائلاً بتهكم: -عشان انت مغفل.

هتف السائق مردداً بحماس: -الله عليك يا ريسنا، محدش فينا بيعرف يجيب ربع مخك!
تسلطت أنظار منذر على محطة الوقود، وهمس بغلظة بنبرة عدائية: -وعزة جلال الله ما سيبها إلا لما أمسح بيها الأسفلت!
ركضت أسيف مسرعة نحو محطة الوقود المرابط إلى جوارها سيارة الأجرة التي تقلها هي وأمها القعيدة.
فرت الدماء من عروقها، وجف حلقها للغاية، كما شحب لون وجهها بسبب ذلك الموقف المرعب الذي تعرضت له قبل لحظات.

حاولت أن تلملم شتات نفسها قبل أن ترى والدتها كي لا تلاحظ ما مرت به.
هي لا تريد إرعابها، وأيضاً التعرض للوم والتوبيخ.
أبطأت في خطواتها، وتنفست لعدة مرات بعمق لتسيطر على حالها وتستعيد ثباتها.
اقتربت من سيارة الأجرة، وهمست بنبرة مرتجفة وهيتمد يدها بالكيس البلاستيكي نحو النافذة الملاصقة لأمها:
-آآ. اتفضلي يا ماما
تناولت منها الكيس، ضيقت عيناها وهي تنظر في وجهها متفرسة تعابيرها الغريبة.

قطبت جبينها أكثر، وسألتها مستفهمة بتوجس قليل: -مالك يا أسيف؟
ارتبكت أسيف نوعاً ما من سؤالها العادي، وأجابتها بتلعثم: -ما. مافيش!
زاد قلق والدتها من ردها الغير مقنع، فسألتها بجدية: -أومال لونك مخطوف كده ليه؟
ابتلعت ريقها على عجالة، ورسمت على ثغرها ابتسامة مزيفة مجيبة إياها بتصنع: -تلاقي تعب السفر باين على وشي!

رفعت رأسها للأعلى فجأة، فلمحت طيف ذلك الرجل الغريب ذو الطباع الحادة والانفعالات الغير محمودة العواقب الذي أمطرها بوابل من السباب العنيف قبل دقائق، فخفق قلبها رعباً، واتسعت مقلتيها هلعاً من رؤية طيفه مقبلاً في اتجاهها.
زاد شحوب وجهها، وتسارعت دقات قلبها أكثر.
لاحظت والدتها التوتر الرهيب الذي حل فجأة عليها، فحدقت فيه بتوجس متساءلة: -في ايه يا أسيف؟
برودة قارصة حلت عليها.

أعادت حنان تكرار السؤال على مسامعها رافعة لنبرة صوتها بعد أن تأكدت من شرود ابنتها في أمر ما.
انتبهت لها أسيف، وفكرت سريعاً في كذبة سريعة لتجيبها بها.
تلفتت حولها بذعر، فوقعت عيناها على لافتة ما مدون عليها ( مراحيض )
أضاء عقلها بفكرة ما، وأخفضت نظراتها نحو أمها.
ارتجفت شفتيها، وخرج صوتها مهزوزاً وهي تجيبها قائلة: -آآ. أنا. أنا أصلي تعبانة شوية، ه. آآ. هاروح الحمام بسرعة ورجعالك.

ردت عليها حنان بهدوء: -طيب متتأخريش
لم تترك لنفسها الفرصة للوقوف أمام والدتها أكثر من هذا، فكل لحظة تبقى فيها إلى جوارها تعرضها لتهديد أكبر.
هي لا تعرف لماذا ذلك الشعور الطاغي بالفزع والخوف من شخص مجهول، ولكن لأنه أساء إليها بطريقة لم تعتادها في حياتها من قبل، فجزعت منه بشدة. وخافت أن يسبب لها الحرج والفضيحة أمام أنظار أمها العاجزة فتسوء حالتها، ويتطور الوضع للأسوأ.

لذلك أسرعت في خطواتها، واتجهت نحو المراحيض العمومية لتختبيء بها.
وصل منذر إلى محطة الوقود، وتفقد بنظرات مدققة جميع السيارات المتواجدة بها وعلى مقربة منها.
ظل قابضاً على باقي النقود في راحته، لكن علامات الوجوم والغضب مازالت متمكنة منه.
وقعت أنظاره المتفرسة على إحدى السيارات، فرأى رب أسرة يقدم الطعام لأسرته وصغاره الذين يتراقصون بالمقعد الخلفية.
جاب بعينيه سيارة أخرى يجلس بها كهل كبير يرتشف قهوته.

التفت برأسه الناحية العكسية فلفت انتباهه ذلك المقعد المتحرك المطوي والموضوع أعلى سقفية سيارة الأجرة.
أمعن النظر في الجالسة بالمقعد الأمامي، فرأى امرأة كبيرة بالسن ملامحها تبدو هادئة وحزينة.
دنا منها بخطوات سريعة فسمع صوتها تتساءل بإهتمام وهي تطل برأسها من النافذة المجاورة لها:
-ها يا بني أخبار العربية ايه؟
أجابها السائق بإمتعاض وهو يبرز رأسه من خلف غطاء السيارة الأمامي: -هانت، قربت أصلحها، اطمني!

ظن منذر أن تلك السيدة هي والدة هذا الشاب المنحني على مقدمة سيارته، فتركهما وانصرف باحثاً بجدية عن الشابة الطائشة في بقية السيارات المتواجدة.
توعدها وهو يجز على أسنانه قائلاً: -بس لو أشوفك!
اختبأت أسيف بداخل المرحاض النسائي، وأشرأبت بعنقها للأعلى لترى من النافذة الخلفية للمرحاض ما يحدث بالخارج.
لم تستطع أن تتبين أي شيء، فقد كان هناك سياجاً حديدياً بالخلف يحول دون الرؤية بوضوح.

توترت كثيراً، وترددت في الخروج من مخبأها المؤقت.
مرت عدة دقائق وهي باقية بالداخل تفكر بخوف في سيناريوهات سيئة.
إنتابها القلق على والدتها، فقد طال انتظارها.
فركت كفيها معاً، وهمست لنفسها بحيرة: -طب أعمل؟ هافضل هنا محبوسة شوية كمان ولا. ولا أخرج؟
ترنح جسدها للحظة، فاستندت بيدها على طرف الحوض. ثم استدارت للخلف لتنظر إلى انعكاس وجهها الشاحب في المرآة الغير نقية.

فتحت الصنبور، وملأت راحتها بالمياه، ثم نثرتها على وجهها لتفيق نفسها قبل أن تتهواى من فرط الخوف الغير مبرر.
تنفست بعمق لتستعيد هدوئها، ثم رفعت رأسها للأعلى قائلة بنبرة عازمة: -مش لازم أخاف، أنا معملتش حاجة، هو. هو ميقدرش يأذيني!
ابتلعت ريقها، وارتشفت بضعة قطرات من مياه الصنبور المنهمرة، ثم أغلقته.
أخذت نفساً مطولاً حبسته في صدرها، وأغمضت عينيها لثوانٍ، ثم فتحتهما مجدداً، وزفرته دفعة واحدة.

تحركت ببطء ناحية باب المرحاض، ومدت يدها لتمسك بالمقبض وتفتحه.
أدارته بهدوء لكن تجمدت قبضتها عليه بفزع حينما سمعت صوته قريباً منها وهو يحدث أحد ما قائلاً بغلظة:
-مالهاش أثر، فص ملح وداب
سأله السائق المصاحب له: -طب يا ريس، هاتعمل ايه؟
رد عليه بجمود: -مش عارف، بس أنا محتار، هاتكون اختفت فين؟
تسارعت دقات قلبها حتى كادت تصم أذنيها من حدتها، وجاهدت ألا تصدر صوتاً حتى لا ينتبه أحدهما لوجودها.

وضعت يدها على فمها لتكتم صوتها، وتابعت ما يدور بينهما من حديث بحذر شديد.
أردف السائق قائلاً بجدية: -جايز تكون دخلت هناك!
تساءل منذر بعدم اقتناع: -ايه اللي هيوديها المشحمة؟
رد عليه السائق بنبرة شبه متأكدة: -جايز تكون بنت حد من اللي شغالين فيها، أو تبع حد فيهم
رد عليه منذر بإقتضاب: -احتمال!
ساد صمت مؤقت بينهما لثانية قبل أن يهتف منذر بجدية شديدة: -تعالى ناخد بصة هناك ونتأكد!
-اللي تشوفه يا ريسنا.

-ماهو البت دي لازم تعرف إن الحركات ال، ماينفعش تتعمل معايا أنا بالذات
أغمضت أسيف عينيها بقوة وهي تكاد تموت هلعاً في مكانها.
انتظرت لبرهة قبل أن تفتح الباب ببطء شديد.
تنفست الصعداء لرحيلهما بعد أن اختلست النظرات نحو الخارج.
ركضت عائدة إلى سيارة الأجرة، فعاتبتها والدتها لتأخيرها قائلة باستغراب: -كل ده يا أسيف؟

تلفتت هي حولها بتوتر شديد لتتأكد من عدم وجوده حولها مرددة بنبرة مرتبكة: -م. معلش، كنت تعبانة شوية!
أشارت لها بكفها قائلة بصوت مرهق: -طب اركبي
-ح. حاضر
قالتها أسيف وهي تهز رأسها بخوف واضح، ثم ركبت سريعاً في المقعد الخلفي.
كان السائق قد انتهى تقريباً من إصلاح عطل سيارته، فزفر بصوت مسموع هاتفاً: -أخيراً، اليوم كان باين من أوله.

أغلق الغطاء الأمامي، ثم صاح بنبرة عالية مبرراً سبب تأخيره: -لامؤاخذة عطلتكم معاياً، بس هاعمل ايه أديكو شايفين العربية واللي جرى
ردت عليه حنان بإبتسامة ودودة: -اتوكل على الله يا بني، حصل خير!
وبالفعل استقل السائق سيارته، وبدأ في إدارة محركها ليتحرك بها نحو وجهته متعمداً الإبطاء من سرعتها كي يتأكد من كفاءة عمل المحرك.
استعادت أسيف هدوئها وبدأت تتنفس بإنتظام حينما شعرت بحركة السيارة.

كورت أصابع كفها بحركة متوترة، ثم مالت بجسدها للجانب نحو نافذتها.
حانت منها التفاتة سريعة للخلف وهي تطل برأسها منها لتتأكد من ابتعادهم عن ذلك الغاضب المتذمر.
في نفس التوقيت، كان منذر واقفاً على مقربة من منطقة غسل السيارات، راقب للحظات حديث السائق مع أحد العاملين بها.
ضجر هو من وجوده بالمكان، ومن ذلك الوقت الذي ضاع هباءاً بلا أي جدوى.

أخرج هاتفه من جيبه ليعرف التوقيت فزفر منزعجاً لتأخره عن وقته المحدد بكثير.
أعاد وضع هاتفه في جيبه، ونفخ بغيظ مردداً من بين أسنانه: -اتعطلت على الفاضي!
التفت برأسه للخلف عفوياً للجانب ليحدق في السيارات السائرة، فوقعت عيناه الثاقبتين مصادفة على سيارة الأجرة التي مرت على مسافة قريبة منه.
بالطبع كانت السيارة مميزة لكونها تحمل مقعداً متحركاً على سقفيتها.

علقت أنظاره بالنافذة الخلفية حينما لمح فتاة ما تجلس بالخلف.
أمعن النظر أكثر فيها، فارتفع حاجباه للأعلى في صدمة واضحة.
تمكن منذر من رؤيتها كمرأى العيان وهي تمرق بجواره ناظرةً إليه من نافذتها.
ارتسمت علامات الإندهاش الممزوجة بالتجهم على محياه.
تجمدت أنظار أسيف عليه، وانفرجت شفتاها بذهول مخيف. لقد رأها بالفعل، وتأكد منها.
بدت كمن أصيب بالشلل المؤقت فعجزت عن التحرك أو الابتعاد.

تركت له الفرصة للتدقيق في ملامح وجهها أكثر، وبالطبع لم تخلو نظراته نحوها من الشراسة والغضب.
شعر منذر بالحماقة والغباء الشديدين، فقد تمكنت تلك الطائشة من خداعه لوهلة ليبدو كالأبله أمام نفسه وأمام الأخرين وهو يبحث عنها بلا جدوى.
وها هي الآن تمر من جواره دون أن يتمكن من الوصول إليها.
سيطر عليه احساس بالفشل وخيبة الأمل.
قبض كف يده بعصبية شديدة، وبرزت عروقه الغاضبة من عنقه.

زادت سرعة السيارة واختفى شبحه المرعب من أمامها لكن بقيت نظراته المحتدة عالقة في ذاكرتها.
تراجعت بجسدها للداخل، وانكمشت على نفسها أكثر.
اضطربت أنفاسها، وزادت دقات قلبها من خوفها.
راقبها السائق من مرآته الأمامية وسألها مستفهماً بفضول بعد أن لاحظ تبدل حالتها:
-في حاجة يا آنسة؟
التفتت حنان برأسها للخلف لتنظر إلى ابنتها بقلق بعد سؤاله الغريب هذا، وسألتها هي الأخرى بتوجس:
-مالك يا أسيف؟ في حاجة فيكي؟

وزعت أنظارها الزائغة بينهما، وأجابت بصوت خافت وشبه متحشرج: -م، مغص تاعبني شوية
-أكيد من أكل الشارع!
قالتها والدتها بحسن نية ظناً منها أن ابنتها ربما أصيبت بتلبك معوي بسبب تناولها الطعام الفاسد.
أضاف السائق بجمود: -ألف سلامة، لو قابلنا صيدلية في طريقنا ممكن أقف وتنزلي تجيبي دوا منها
ابتلعت أسيف ريقها وهي تجيبه ممتنة: -متشكرة، شويو وهايروح.

عاتبتها والدتها قائلة بضجر: -قولتلك من الأول ماتكليش من برا، محدش عارف الأكل بيعملوه إزاي وبيحطوا فيه إيه
هزت رأسها بإيماءات خفيفة ومتتالية وهي تضيف بحذر: -هابقى أخد بالي بعد كده يا ماما
تابع السائق قيادته للسيارة حيث العنوان المطلوب، بينما ظل بال أسيف مشغولاً بشبح ذلك المخيف الذي أضيف إلى قائمة أسوأ كوابيس يقظتها.

أسندت عواطف صينية المشروبات الباردة وأطباق الحلوى على المائدة التي تتوسط غرفة الصالون هاتفة بنبرة مرحبة لضيفتها السيدة جليلة وابنتها الصغرى أروى:
-شرفتونا! البيت نور بوجودكم فيه
ردت عليها جليلة مجاملة: -منور بأصحابه يا عواطف
تابعت عواطف قائلة بنبرة ودودة وقد اتسعت ابتسامتها المشرقة: -اتفضلوا، دي حاجة بسيطة، صحيح مش من مقامك بس آآ..
قاطعتها جليلة مرددة بتهذيب: -متقوليش كده، دايماً عامر يا رب!

ابتسمت عواطف أكثر وهي تقول: -بحسكم يا غالية!
ولجت نيرمين إلى داخل الغرفة لترحب بالضيفة التي تعد في مثابة خالتها.
هتفت قائلة بحماسة: -سلامو عليكم، ازيك يا خالتي
نهضت جليلة من مقعدها لترحب بها قائلة: -وعليكم السلام، ازيك يا نيرمين، عاملة ايه يا حبيبتي
احتضنتها بذراعيها، ثم قبلتها من وجنتيها عدة مرات مرددة: -الحمدلله!
سألتها جليلة بإهتمام وهي تعاود الجلوس على الأريكة: -اخبارك ايه وازي جوزك؟

اكفهرت ملامح وجه نيرمين، وحل العبوس عليها وهي تجيبها متجهمة: -متشوفيش وحش يا خالتي، إحنا اتطلقنا وخلاص معدتش في راجعة بينا!
اتسع ثغر جليلة بشهقة عالية، وردت بصدمة واضحة وهي محدقة بها: -يا ساتر يا رب، اتطلقتوا تاني؟!
صححت لها نيرمين عبارتها قائلة بنبرة مزدرية: -قولي تالت!
هزت جليلة فمها للجانبين مستنكرة حدوث الانفصال بينهما، ثم تساءلت بفضول: -طب ليه يا نيرمين؟

أجابتها بتنهيدة منزعجة وهي تشير بعينيها نحو الصغيرة الجالسة وسطهن: -موال كبير هابقى أحيكهولك بعدين يا خالتي!
تفهمت جليلة رغبتها في عدم الحديث خاصة أن أروى تصغي إلى حوارهن بإنتباه كبير.
هزت رأسها إيجاباً وهي تردد مواسية: -ربنا يعوض صبرك خير!
أضافت نيرمين قائلة بسخط وقد انعقد ما بين حاجبيها ليزيد من حالة الوجوم المسيطرة عليها:
-الحمدلله على كل حال، هو مايتبكيش عليه الصراحة!

اختنقت نبرتها قليلاً، وحاولت أن تحافظ على جمودها أمام ضيفتها.
أرادت جليلة أن تلطف الأجواء قليلاً، فهتفت بنبرة متفائلة وهي تشير بيدها: -مافيش واحدة بتقعد، بكرة ربنا يرزقك بالأحسن
ابتسمت نيرمين لها قائلة بتصنع: -ربنا موجود، أخد حقوقي بس وبعد كده أشوف هاعمل ايه!
هتفت أروى قائلة بتهذيب وهي تبتسم لنيرمين: -ينفع ألعب مع النونة يا أبلة؟

مسحت نيرمين على رأسها برفق مجيبة إياها بلطف: -اه يا حبيبتي، خشي الأوضة شوفيها، لو صحت العبي معاها!
هبت أروى واقفة في مكانها مرددة بحماس: -حاضر!
ثم ركضت إلى خارج الغرفة وهي تقفز بسعادة.
صاحت عواطف قائلة بإعجاب وهي تتابعها بأنظارها: -ماشاء الله أروى كبرت وبقت عروسة أهي
ردت عليها جليلة بتبرم: -اه، بس مدوخاني في مذاكرتها!
هزت عواطف رأسها بتفهم وهي تقول: -كل العيال كده!

تحركت جليلة على الأريكة قليلاً لتدنو منها، ومالت بجسدها نحوها، ثم هتفت بغموض وهي مسلطة بصرها عليها:
-ماهو ده الموضوع اللي جيالك فيه
توجست عواطف من اقترابها المثير للريبة، وسألتها بقلق ظاهر: -خير يا ست جليلة؟
أشارت جليلة بيدها في الهواء وهي تجيبها بهدوء
-بصي يا ستي أنا ابني دياب عاوز مدرسة تكون شاطرة وبتفهم تدي الواد ابنه يحيى!

لم تفهم عواطف مقصدها بوضوح، بدت نوعاً ما مشتتة التفكير، فسألتها مستفسرة: -أها، بس ده ايه علاقته بينا؟
تابعت جليلة قائلة بإبتسامة متحمسة: -ما أنا جيالك في الكلام أهوو
-طيب
ارتشفت جليلة القليل من المشروب، ثم استأنفت حديثها قائلة بجدية: -احنا كلنا عارفين إن بسمة شغالة مُدرسة في أبصر مدرسة كده، فبصراحة ملاقتش أحسن منها تديه الدرس وتذاكرله!

نظرت عواطف إلى ابنتها نيرمين مندهشة. فلم يسبق لعائلة حرب أن تطلب منها شيئاً كهذا خاصة وأنهم يعلمون أن بسمة معلمة منذ فترة.
بدت نيرمين متحمسة للفكرة، ولما لا، فالعائد المادي هنا سيكون مجزياً ومختلفاً تماماً عن الطبقة الفقيرة والمتوسطة التي تدرس لهم أختها الصغرى.
أضافت جليلة قائلة بمكر وهي تغمز بعينها: -وبالمرة تدي أروى معاه، الحاج طه كان عاوز يديها درس، واطمني هنحاسبها كويس، احنا كرما!

ردت عليها عواطف بنبرة مجاملة: -يدوم العز يا رب، دي تديهم ببلاش، من فضلت خيركم علينا!
ابتسمت لها جليلة بلطف وهي تقول: -الله يكرمك!
ثم تلاشت ابتسامتها نوعاً ما وهي تسألها بجدية: -ها المهم ايه رأيك انتي؟
ارتبكت عواطف قليلاً، فهي لا تعرف رد ابنتها عن تلك المسألة المفاجئة.

لا تنكر أنها خشيت أن تعتبر الموضوع متعلقاً بكرامتها إن أعطتها وعداً لا تستطيع الإفاء به، وهي متوجسة خيفة من ردة فعل عائلة حرب إن أخلف أحدهم اتفاقهم المبرم معهم.
لذلك حاولت أن تبدو دبلوماسية في ردها عليها، وأجابتها بحذر: -مش عارفة الصراحة أقولك ايه، الحكاية دي تخص بسمة وهي اللي تقول رأيها لأن انتي عارفة هي مشغولة يا حبة عيني لأخر اليوم!

ردت عليها جليلة بصوت ثابت: -خليها تشوف مواعيدها كده، وأهوو البيت قريب من البيت، لا في مشاوير، ولا بهدلة في المواصلات!
ثم تعمدت أن تشير إلى الناحية المادية مجدداً حتى تتمكن من إغرائها بالموافقة، فأكدت قائلة بجدية وهي تنتصب في جلستها:
-وزي ما قولتلك دياب ابني والحاج طه هيراضوها كويس!

لاحظت عواطف تحول اسلوبها للجدية والصرامة، فهتفت بنزق: -انتي تؤمرينا، أنا هاكلمها وأخليها تشوف نفسها وتفضيلهم ميعاد مخصوص، هي هاتيجي لأعز منكم!
ابتسمت جليلة لنفسها بغرور بعد أن وصلت لمبتغاها دون عناء، وهزت رأسها هاتفة بثقة:
-تسلمي يا حبيبتي، ده العشم بردك!
انتبه ثلاثتهن إلى صوت دق عنيف على باب المنزل، فاستداروا برؤوسهن نحو باب الغرفة.

تساءلت عواطف بإمتعاض وهي تنهض من مكانها: -ياختي مين اللي بيخبط على الباب كده؟
هزت نيرمين كتفيها نافية وهي تجيبها: -مش عارفة!
أشارت لها أمها بيدها لتسبقها في سيرها قائلة بنبرة آمرة: -روحي يا نيرمين افتحي!
ردت عليها بإقتضاب: -حاضر
أسرعت نيرمين في خطواتها متجهة نحو باب المنزل لتفتحه.
عبست بوجهها حينما رأت شرطياً يقف على عتبته.
سألته بتوجس وهي تتفرس فيه وفيما يحمله من أوراق في يده: -ايوه!

حدق فيها الشرطي بنظرات دقيقة متساءلاً بجمود: -ده بيت نيرمين سيد؟
خفق قلبها نوعاً ما من سؤاله المباغت، وردت عليه بتلهف: -اه هو، خير يا شاويش؟
رفع ورقة ما أمام وجهها مجيباً إياها بجفاء: -ده إخطار من القسم
مجرد ترديد كلمة ( مخفر الشرطة ) في جملة ما تثير خوف واضطراب أي شخص.
لذا لطمت نيرمين على صدرها مصدومة وهي تشهق متساءلة بفزع: -قسم، يا نصيبتي، ليه؟
أجابها بنبرة رسمية: -البيه المأمور عاوزك تستلمي عفشك!

ارتفع حاجباها للأعلى بذهول أغرب، وهتفت غير مصدقة ما سمعته: -عفشي
أوضح الشرطي باقي عبارته قائلاً بعدم مبالاة: -طليقك سلمه عند القسم وباعتلك تاخديه، امضي على الاخطار ده يا ست
كزت نيرمين على أسنانها قائلة بغل وبصوت خفيض لاعنة زوجها السابق: -ابن ال..!
وقفت والدتها إلى جوارها، وسألتها بخوف وهي محدقة في الشرطي: -في ايه يا نيرمين؟
أجابتها الأخيرة بتجهم كبير: -المنحوس الفقري شايفة عامل ايه فيا؟

زادت دقات أمها بقلق أكبر، واضطربت أنفاسها نوعاً ما.
وضعت هي يدها عى ذراع ابنتها، وضغطت عليه قليلاً متساءلة بتلهف وهي تدقق النظر في وجهها:
-ماله؟
أجابتها بنبرة محتقنة للغاية: -باعتلي عفشي على القسم
شهقت أمها مصدومة وهي تلطم على صدرها بقوة: -يالهوي
صاحت نيرمين بنبرة مغتاظة وهي تلج لداخل صالة منزلها: -منه لله، حسبي الله ونعم الوكيل فيه، أنا هالبس العباية وأروح أشوف النصيبة دي!

ردت عليها عواطف بإصرار: -استني أنا جاية معاكي، مش هاتروحي لوحدك
تابعت جليلة ما يحدث من موقف محرج في الخلفية، واستشعرت عدم ملائمة الظروف لبقائها أكثر من هذا في المنزل، وأنه من الأفضل إنهاء تلك الزيارة الودية على الفور، لذلك هتفت بهدوء نسبي:
-طب يا عواطف هاسيبكم تشوفوا حالكم وهانتكلم تاني!
شعرت عواطف بالخجل الشديد من تعرض ابنتها لهذا الموقف المشين أمامها، فأخفضت نظراتها حرجاً وهي تردد:.

-اعذريني يا ست جليلة، أديكي شايفة الحال عامل ازاي
ربتت جليلة على كتفها متفهمة موقفها، وأردفت قائلة: -عذراكي يا حبيبتي، الله يكون في العون!
ثم التفتت برأسها للخلف، وهتفت بنبرة مرتفعة: -بت يا أروى يالا عشان ماشيين
ركضت الصغيرة نحو الصالة، وعبست بوجهها وهي تحدق في والدتها بضيق.
وضعت هي يديها على منتصف خصرها، وركلت الأرضية بقدمها قائلة بتذمر: -ملحقتش يا ماما ألعب مع النونة!

أمسكت بها جليلة من ذراعها قائلة بحدة: -مرة تانية، يالا، سلامو عليكم!
أوصلتها عواطف لخارج منزلها مرددة بإضطراب: -وعليكم السلام!
أغلقت الباب بهدوء، وتمتمت بحسرة مع نفسها: -يادي الجرس والفضايح اللي مالهاش ميعاد!
خرجت نيرمين من الغرفة وهي تلف حجابها حول رأسها، وتلقي برضيعتها الغافية على كتفها مرددة بحدة:
-البسي بسرعة يا ماما خليني أشوف ابن ال، عمل ايه في عفشي!

أجابتها أمها بصوت شبه لاهث وهي تركض ناحية غرفتها لتبدل ثيابها المنزلية: -على طول أهوو.!
ارتعشت يدها بشدة وهي تنظر مرة أخرى في جهاز كشف الحمل المنزلي لتتأكد من النتيجة التي برزت بوضوح عليه.
هتفت مستنكرة حدوثه رغم الإجراءات الوقائية التي تتبعها في علاقتها مع زوجها وغير مصدقة ما تراه وهي تزيح خصلات شعرها للخلف:
-ده شرطتين، طب إزاي!

رفعت وجهها لتنظر في المرآة بشرود محاولة استيعاب تلك الكارثة التي حلت بها، فلا أحد يعلم بزواجها السري من مازن إلا والدتها شادية فقط.
تجمدت أنظارها على إنعكاس صورتها الباردة لبرهة.
ابتلعت ولاء ريقها بخوف شديد، وغمغمت من بين شفتيها بهلع: -ده أنا كده وقعت في مصيبة لو الحمل ده اتعرف!
ضغطت على شفتيها بتوتر شديد، ثم هتفت بنبرة عازمة: -وأنا مش هاشيل البلوى دي لوحدي، لازم مازن يتصرف معايا.

قبضت على الجهاز الصغير بكفها، وجمعت بقايا العلبة الكرتونية وألقت بها في سلة المهملات. ثم خرجت من المرحاض باحثة عن هاتفها المحمول.
بدت متعصبة للغاية وهي تذرع الغرفة ذهاباً وإياباً منتظرة إجابة مازن على اتصالها العاجل به.
وقبل أن ينقطع الخط سمعت صوته يقول بنبرة شبه ناعسة: -خير!
صاحت فيه بصوت متعصب: -مش خير خالص، أنا عاوزاك تجيلي دلوقتي يا مازن!
سألها بفتور: -ليه؟

صرخت فيه بتشنج وقد استشاطت نظراتها: -انت لسه هاتسأل في مصيبة هاتحصل لو مجاتش!
رد عليها بصوت متحشرج غير مهتم: -طيب. اديني ساعة كده أفوق وألبس واجي عندك!
هتفت فيه بنفاذ صبر وبصوت مرتفع: -بسرعة يا مازن! أنا مستنياك!

ألقت بعدها بالهاتف على الفراش وهي تنفخ بغضب شرس، ثم غرزت أصابع يديها في فروة رأسها المشتعلة من كثرة التفكير محاولة السيطرة على انفعالاتها الزائدة لكي تفكر بوضوح في حل لتلك الكارثة الغير متوقعة..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة