قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والعشرون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والعشرون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والعشرون

سحب الميكانيكي جسده بحرفية معتادة من أسفل السيارة المصفوفة عند ورشته، ثم نهض واقفاً على قدميه ومسح كفي يده في المنشفة البالية الممسك بها.
التفت نحو صاحبها ليستطرد حديثه بجدية: -سيبهالي يومين يا ريس منذر وأنا هاظبطلك كل اللي فيها
نفخ منذر بضيق كبير، ودس يديه في جيبي بنطاله، ورد عليه بإمتعاض: -أنا محتاجها، ورايا شغل وماستغناش عنها.

رد عليه بنبرة عملية وهو يشير بيده: -عارف يا ريسنا، بس هي متبهدلة على الأخر، ده غير الإزاز اللي هايغيره والفوانيس اللي ورا والكابوت عاوز يترد وآآ..
قاطعه الأخير قائلاً بضجر وهو يخرج يديه من جيبيه ليضعهما على منتصف خصره: -طب شوف المناسب وانجز على طول!
هز الميكانيكي رأسه بإيماءة واضحة وهو يرد: -أوامر يا ريس منذر!

دس يده مرة أخرى في جيب بنطاله الخلفي ليخرج حافظة نقوده، ثم سحب مبلغاً مالياً منها، وطواه في قبضته.
دنا من الميكانيكي وأعطاه له قائلاً بجمود: -خد دول دفعة تحت الحساب!
تناوله الميكانيكي منه، ووضعه سريعاً في جيب أفروله الكحلي الداكن ( بدلة عمله ) ليردد بحماس وقد اتسع ثغره:
-متشكرين يا ريس منذر!

اقترب منهما عامل أخر بالورشة قائلاً بجدية وهو ممدد يده بكيس بلاستيكي: -يا أسطا، الحاجات دي كانت على الكرسي اللي قدام!
-هاتهم يا واد!
قالها الميكانيكي وهو يأخذ الكيس منه، فقد قام الأخير بتفتيش السيارة من الداخل ليتأكد من خلوها من أي مقتنيات شخصية ثمينة تخص صاحبها في حال تركها عند الورشة للإصلاح حتى لا تفقد، فوجد ذلك الكيس بها.

استدار ليواجه منذر الذي بدا مندهشاً كثيراً، فقد تناسى رغماً عنه إعطاء ابنة رياض متعلقات والدتها، وظلت باقية معه في سيارته منذ أن استلمها من المشفى.
قطع شروده صوت الميكانيكي وهو يردد: -اتفضل يا ريس منذر!
أمسك بالكيس البلاستيكي في يده، وأضاف بجدية: -هاعدي عليك كمان يومين ولو خلصت قبلها كلمني!
رد عليه الميكانيكي بصوت مرتفع: -حاضر!
لوح له منذر بكف يده وهو يودعه قائلاً: -سلامو عليكم!

أجابه الأخير بصوت نخفض نسبياً: -وعليكم السلام
سار منذر للأمام متطلعاً إلى الكيس بإهتمام، ثم رفع رأسه ليحدق أمامه محدثاً نفسه بضيق بائن على ملامحه:
-مجاش في بالي خالص أديها الحاجة بتاعة أمها!
نفخ بصوت مسموع وهو يكمل حديث نفسه: -بكرة أبقى أعديهم عليها مع أي حد من الوكالة!
مط مازن ذراعيه في الهواء، ثم طقطق فقرات عنقه بيده بعد أن أنهك نفسه كثيراً في العمل ليتأكد من إتمام المطلوب في طلبية الطعام.

انتبه لإهتزاز هاتفه المحمول الذي كان موضوعاً على الوضعية الصامتة، وبدا متأففاً وهو يقرأ بعينيه الاسم الظاهر على الشاشة.
تكرر الإتصال مرة أخرى فأجاب عليه قائلاً بإقتضاب: -خير يا ولاء
ردت عليه بتساؤل روتيني: -مش ناوي تيجي؟
زفر بعمق وهو يقول بعبوس: -لأ! عندي شغل!
سألته بدلال محاولة التأثير عليه لإثناءه عن قراره بالبقاء في العمل: -يعني مش هاتتعشى معايا، ده أنا مجهزالك عشا هيعجبك أوي!

عنفها قائلاً بقسوة: -ولاء حلي عن دماغي، أنا ورايا هم أد كده!
انزعجت كثيراً من رده الفظ، وهتفت بنبرة متعصبة: -أوكي، براحتك
أنهى المكالمة معها ملقياً الهاتف على سطح مكتبه، ثم غمغم مع نفسه بتذمر: -هو أنا ناقص خانقة!
جلست ضامة ركبتيها إلى صدرها، ومحاوطة كلتاهما بكفيها، ثم إتكأت برأسها عليهما لتبكي بمفردها بأنين خفيض.
ظلت أسيف ترثي والدتها الراحلة بكلمات مبهمة.

أجهشت ببكاء أشد، ودفنت رأسها في حجرها متحسرة على رحيلها المفاجيء عقب وفاة أبيها تاركين إياها تواجه مصيراً مجهولاً.
أغمضت عيناها قهراً، فلا تزال صورتهما وضحكاتهما عالقة بذاكرتها.
سمعت هي صوت دقات خفيفة على باب الغرفة، فأسرعت بفك كفيها المتشابكين، وتمددت على الفراش مدعية النوم. دثرت نفسها بالغطاء، وكفكفت عبراتها سريعاً كي لا ينكشف أمرها.
لم يكن بها أي رغبة بالحديث أو مشاركة مشاعرها مع أي شخص.

بقيت ساكنة تماماً، وضبطت أنفاسها لتبدو منتظمة وكأنها في سبات عميق.
استطاعت أن تسمع صوت تلك الخطوات الخافتة المتسللة إليها، وحافظت بمهارة على ثباتها حتى ظنت المتواجدة بالغرفة أنها نائمة.
شعرت بتلك اللمسة الحنون على جبينها، وتلك القبلة المطمئنة أعلى رأسها.
همست لها عواطف بحب: -ربنا يعينك يا بنتي على اللي جاي ويفرح قلبك، ويعوضك كل خير
انحنت مجدداً لتقبلها، ثم عدلت من وضعية الغطاء عليها، وتركتها وانصرفت.

أخرجت أسيف تنهيدة عميقة من صدرها، وأكملت بكائها الصامت.
علقت جليلة جلباب زوجها على المِشْجَب ( الشماعة ) بعد أن نفضته، والتفتت لزوجها لتهتف بإعجاب:
-والله ما يجيبها إلا رجالها!
ناولته لباسه المنزلي قائلة بإمتنان: -تسلم يا حاج، دايماً كده نصير المظلوم
رد عليها طه بصوت آجش: -ماهو اللي زي ده كان عاوز اللي يقفله ويربيه
وافقته الرأي قائلة بجدية وهي تضع حذائه أسفل التسريحة: -عندك حق!

أضاف طه قائلاً بصوت مزعوج وهو يشير بكف يده: -ماهو مكانش ينفع أسكتله، ده جاب سيرة عواطف، وهي تمسني بردك!
عادت جليلة لتقف إلى جواره، وأمسكت بعكازه الخشبي وهزته بحركة عفوية وهي ترد بتلقائية:
-اه مظبوط!
ثم تحركت عدة خطوات للأمام لتسنده إلى جوار خزانة الملابس قائلة بتشجيع: -واللي يتساهل مرة في حقه يستحمل اللي هيجرى!
أشار لها طه بكف يده قائلاً بصوت آمر: -قومي جهزيلي لقمة لأحسن واقع على الأخر!

التفتت برأسها نحوه راسمة إبتسامة سعيدة على ثغرها ومرددة بتلهف: -أحلى عشا يا أبو منذر!
تأوه بأنين خفيض وهو ينحني ليفرك باطن قدمه قائلاً: -آآه يا رجلي، محتاج أدهنها بمرهم ولا أي بتاع!
اقتربت منه مقترحة بإهتمام كبير: -أعملك مياه وملح تحط فيهم رجلك؟ هاينفعوك يا حاج!
حرك رأسه بالإيجاب موافقاً: -ماشي يا جليلة، هاتيهم!
ردت بتلهف: -على طول أهوو!
ابتسم لها زوجها قائلاً بإمتنان: -ربنا يخليكي ليا، ست أصيلة!

ضحكت في وجهه وأسرعت في خطواتها لتعد له وعاءاً بلاستيكياً مليئاً بالماء والملح لتخفف عنه آلام قدميه.
في صباح اليوم التالي،
كان يغط في نومه بإرتياح حتى بدأت تعابير وجهه في التشنج قليلاً بسبب ذلك الرنين المتواصل لهاتف ما.
استعاد وعيه نوعاً ما، لكنه لم يستيقظ كلياً.
في البداية ظن منذر أنه يحلم، وأن صوت الهاتف ضمن حلمه الغير مفهوم، فلم يهتم، وقاوم نداء عقله بالإستيقاظ والانتباه.

لكن مع تكراره، أفاق تدريجياً من نومه.
مد يده نحو الكومود محاولاً البحث عنه والإمساك به لوقف صوته المزعج، لكنه لم يجده، فرفع رأسه مجبراً عن الوسادة ليبحث عنه بعينين ناعستين.
دقق النظر بنصف عين مفتوحة، ولكن لا شيء.
كان الرنين أتياً من مكان أخر.
فرك وجهه بكفه، وتثاءب بصوت مسموع، ثم رمش بعينيه لأكثر من مرة ليعتاد على الإضاءة الخافتة بغرفته.

تكرر الرنين، فانتصب في نومته، وإشرأب بعنقه للأعلى مديراً رأسه للجانب.
تحركت عيناه صوب التسريحة حيث ذلك الكيس البلاستيكي.
كان الصوت أتياً منه، فتأكد أنه يخص هاتف المرحومة حنان.
تثاءب مرة أخرى بإرهاق، ثم أزاح الغطاء بعيداً عنه، ونزل عن الفراش ليخرجه من الكيس.
فرك فروة رأسه بكف يده عدة مرات وهو يدقق النظر في شاشته الصغيرة – ذات الإضاءة البرتقالية – ليرى رقماً غريباً صادحاً عليها.

ضغط على زر الإيجاب قائلاً بصوت متحشرج: -الو.
أتاه صوتاً أنثوياً هاتفاً بنعومة رغم جديته: -مع حضرتك فندق ((، ))، ده رقم السيدة حنان؟
أجابها بإختصار: -اه هو.
استأنفت حديثها قائلة بنبرة رسمية: -طب حضرتك احنا بنسأل عنها، المفروض كانت عاملة حجز عندنا هي وبنتها، بس بقالها كام يوم مش ظاهرة، والمفروض تعمل check out!
توقف عن فرك رأسه مجيباً إياها بتجهم: -الست حنان تعيشي انتي!

اضطربت نبرة الموظفة بعد تلقيها لهذا الخبر الصادم، وهتفت معتذرة: -أنا أسفة جداً يا فندم، البقاء لله!
رد عليها بصوت متحشرج: -الدوام لله، متشكر!
زاد ارتباكها وهي تتابع مبررة موقفها: -أنا. انا معرفش، ومحدش بلغ إدارة الفندق!
-عادي، حصل خير!
قالها منذر على مضض محاولاً إنهاء الحديث معها، لكنها أكملت مكالمتها مضيفة بجدية:.

-طب يا فندم بالنسبة للمتعلقات الخاصة بالمرحومة وباقي الحساب، احنا محتاجين حد يجي يستلم الشنط ويوقع الأوراق، ويدفع ال آآ..
بالطبع أدرك أن عليه أن يحل تلك المسألة العالقة فوراً، فالموظفون بتلك الفنادق دوماً يحاولون إنجاز أعمالهم بصورة رسمية، لذا قاطعها قائلاً بنبرة حاسمة ودون الإطالة في التفكير:
-أنا هاجي عندكم أخلص كل حاجة!

ردت عليه الموظفة بهدوء: -تمام يا فندم، في انتظار حضرتك، بس ممكن أسجل اسمك عشان الاجراءات!
أجابها بنفاذ صبر: -منذر طه حرب!
تابعت مجاملة بنفس النبرة المعتادة في عملها: -شكراً ليك أستاذ منذر، وفي انتظارك في أي وقت، ومرة تانية بأكرر تعازيا الحارة للمرحومة!
رد عليها بإيجاز وقد زاد عبوس وجهه: -العفو!
ضغط على زر الإنهاء، وتطلع أمامه بنظرات فارغة، ثم حدث نفسه بضجر وهو يضغط على شفتيه:.

-الظاهر إتكتب عليا أخلص كل حاجة تبع عيلة خورشيد!
شعرت بلمسة رقيقة تداعب وجهها لتسحبها إلى أرض الواقع بعيداً عن أحلامها الحزينة.
ظلت تفتح وتغمض جفنيها بحركة عفوية وهي تحاول الاستسلام لسلطان النوم الذي كان يجافيها طوال الليل.
أوقظتها عمتها عواطف بصوت دافيء قائلة بود وابتسامتها الحنونة لم تفارق شفتيها: -اصحي يا أسيف، فوقي يا حبيبتي عشان تفطري معانا
ردت عليها أسيف بصوت متثاقل وناعس للغاية: -مش عاوزة.

مسدت عواطف على رأسها برفق قائلة: -لا مافيش حاجة اسمها مش عاوزة، انتي دلوقتي في بيتك تقومي تاكلي وتشربي براحتك، وأنا مش هاسيبك كده هفتانة!
ردت عليها أسيف معتذرة بتهذيب: -معلش، ماليش نفس!
ألحت عليها عواطف بإصرار أكبر: -ده أنا عاملة فطار تاكلي صوباعك وراه، قومي اغسلي وشك ويالا يا بنتي، ده بنات عمتك مستنينك!
تذكرت أسيف تلك الشابتين اللاتين قابلتاها بفتور ممزوج بالإنزعاج.

تجدد في نفسها الإحساس بعدم الترحيب بالمنزل، فردت بنبرة حرجة: -بلاش أضايقهم بوجودي، ك. كفاية اني أخدت أوضة آآ..
قاطعتها عواطف قبل أن تكمل جملتها قائلة بجدية: -تضايقي مين، هما بس لسه مش واخدين عليكي!
ثم ابتسمت أكثر وهي تكمل بنبرة ودودة: -بس أما هاتعرفيهم هتحبيهم والله، وبعدين البت بسمة رغم لسانها الطويل إلا ان قلبها طيب وتتحب!

أزالت عنها الغطاء قليلاً لتشجعها على النهوض: -يالا يا بنتي، والله هتتبسطي معانا، قومي يالا
في الأخير اضطرت أسيف أن تلبي رغبة عمتها، فلن تبقى في الفراش للأبد. عليها أن تختلط بعائلتها الجديدة.
استقل منذر سيارة أجرة ليصل إلى الفندق المنشود.
لم تكن المسافة بعيدة، فقد كان قريباً من منطقته الشعبية.

توقف السائق أمام المدخل، فترجل هو منها واتجه للإستقبال ليقول للموظفة المتواجدة خلف الطاولة الرخامية العالية بجدية:
-كان جالي تليفون من اللوكاندة هنا يقولي أستلم حاجة المرحومة حنان!
سألته الموظفة بنبرة عملية وهي تحدق فيه بتفرس: -أستاذ منذر طه؟
أجابها بجدية دون أن تطرف عيناه: -اه أنا.

أسندت أمامه على الطاولة عدة أوراق وقلم حبري قائلة بهدوء: -اتفضل حضرتك، أنا مجهزة كل حاجة، ناقص بس دفع باقي التكاليف، وحضرتك هتطلع بعدها مع العامل للأوضة تستسلم المتعلقات الشخصية
لوى ثغره ليقول بجمود: -ماشي
ثم هتفت الموظفة بصوت مرتفع وهي تشير بيدها لأحد العاملين: -عماد، من فضلك اطلع مع الأستاذ منذر أما يخلص توقيع الورق لأوضة رقم ((، ))
رد عليها العامل بنبرة مطيعة: -حاضر يا آنسة.

بعد برهة، استقل منذر المصعد ليصل إلى الطابق المتواجد به الغرفة السابقة للنزيلة حنان.
جاب هو الرواق بنظرات عمومية شاملة دارساً لتفاصيله.
لم يكن الفندق على قدر من المستوى، لكنه كان ملائماً للطبقة المتوسطة، وأسعار غرفه نوعاً ما زهيدة.
سبقه العامل بخطوتين ليفتح الباب له قائلاً بترحيب متقن: -اتفضل يا فندم، دي الأوضة!
هز رأسه بإيماءة خفيفة وهو يرد: -طيب.

أشار له العامل بذراعه متابعاً: -الحاجة زي ما هي يا فندم، محدش جه جمبها!
رد عليه منذر بتنهيدة وهو يدور ببصره في أرجاء الغرفة متفقداً محتوياتها: -ماشي، أنا هاجمعهم!
اقترح العامل مد يد العون له قائلاً بتهذيب: -لو تحب أساعد سيادتك آآ..
قاطعه منذر بإقتضاب وهو يخرج له حفنة من البقشيش ليعطيها له: -مافيش داعي!
اعتلى ثغر العامل ابتسامة سعيدة للغاية بعد تلقيه لهذا المبلغ، وهتف قائلاً بحماس:.

-شكراً يا فندم، أنا واقف برا لحد ما حضرتك تخلص أنزلك الشنط لتحت!
هز منذر رأسه قائلاً بتفهم: -طيب
انتظر هو حتى انصرف العامل من الغرفة ثم وقف في منتصفها ينظر بحيرة حوله وواضعاً ليديه على منتصف خصره.
نفخ مجدداً بضيق وهو يحدث نفسه: -دايماً بأتحط في مواقف عجيبة مع العيلة دي!
عبست نيرمين بوجهها للغاية حينما رأت والدتها مقبلة عليها بعد أن طال تواجدها بغرفة أختها بسمة لتوقظ ابنة خالها التي ظهرت لها من العدم.

هتفت بتهكم قاسي وهي تطرق بأصابعها على سطح طاولة الطعام: -صحي النوم، احنا هانموت من الجوع، وفي ناس ولا على بالها!
رمقتها أمها بنظرات حادة وهي توبخها: -بطلي نأرزة يا نيرمين، ما انتي كل يوم بتصحي العصر، ماجتش من 5 دقايق يعني اتأخرت فيهم!
انزعجت نيرمين من عدم اكتراث والدتها بها، فصاحت معاتبة بشدة: -جرى ايه يا ماما، هو انتي هتقفي في صفها من دلوقتي؟ احنا بناتك؟!

ردت عليها عواطف بنبرة جادة وقد قست نظراتها: -وهي بنت المرحوم أخويا رياض، يتيمة ومعدتش ليها حد إلا احنا، يا ريت تفهمي ده!
احتجت نيرمين على أسلوبها، وردت قائلة: -بس آآ..
رفعت عواطف كف يدها في وجهها وهي تقاطعها بحدة قليلة: -من غير بسبسة، عاملي البت كويس يا نيرمين بدل ما أقلب على الوش التاني.

رمقت نيرمين والدتها بنظرات ضائقة، وتمتمت مع نفسها بسخط وبصوت خفيض: -مابقلهاش يوم في البيت وشقلبت حال أمي! اومال لو اعدت معانا أكتر من كده هاتعمل ايه؟!
التفتت عواطف برأسها لتجد أسيف تتحرك ببطء نحوهما، كانت تقدم قدماً وتؤخر الأخرى وهي تسير بتردد ظاهر للعيان.
هتفت عمتها قائلة بتشجيع: -تعالي يا أسيف، دي نيرمين بنتي الكبيرة، انتي شوفتيها قبل كده، في المستشفى ساعة آآ.
قاطعتها أسيف بحرج قليل: -أها، فكراها!

ثم استدارت برأسها نحوها لتهمس بصوت خجل وهي تحاول الابتسام: -صباح الخير
ردت عليها نيرمين بنبرة متجهمة: -أهلاً!
ثم أشاحت بوجهها بعيدة عنها متجاهلة إياها عن عمد، وأكملت ببرود: -مش هناكل بقى، ولا هنفضل نسلم ونرحب ببعض كتير!
نظرت لها عواطف شزراً، وهمست بصوت مزعوج من طريقتها الجافة في التعامل معها: -استغفر الله العظيم يا رب.

التفتت مجدداً نحو ابنة أخيها، وربتت على ظهرها قائلة بنبرة مرحبة: -اقعدي يا أسيف، مدي ايدك يا بنتي وكلي
جلست الأخيرة على إستحياء على الطاولة، وتحاشت النظر إلى نيرمين، فهي تفهمت شعورها نحوها، ولن تجبرها على تقبل وجودها.
تعلقت أنظارها بصحن الطعام الموضوع أمامها، وبدت حرجة للغاية وهي تلتقط لقيمات صغيرة من الخبز.
صاحت عواطف بنبرة متلهفة: -إن شاء الله الأكل يعجبك!

ثم وقفت إلى جوارها، وصبت لها الشاي الساخن في قدحها، وتابعت متساءلة بإهتمام: -قوليلي تحبي أعملك ايه على الغدا؟
هزت رأسها نافية وهي ترد بصوت متلعثم: -ولا حاجة، ماتتعبيش نفسك!
قطبت عواطف جبينها، وردت مستنكرة: -تعب ايه بس، احنا بنطبخ كل يوم يعني مافيش جديد، بصي النهاردة أنا هاعملك فراخ وبطاطس وخضار وآآ..

اتسعت حدقتي نيرمين مشدوهة من ذلك الحماس العجيب الذي سيطر على والدتها وكأن من تسكن معهن هي سفيرة أتت من الخارج، فشهقت مصدومة:
-الله الله! دي وليمة بقى!
سلطت عواطف أنظارها الحادة عليها، وردت بحماس أكبر لتثير غيظها: -اه وليمة وإن كان عاجبك، هو أنا عندي أعز من بنت رياض!
ثم مسحت على ظهرها بنعومة لتستفزها أكثر.
كزت نيرمين على أسنانها بحنق، ونفخت بصوت يصل إلى الآذان معلناً عن غضبها مما يحدث.

انتبه ثلاثتهن إلى صوت قرع الجرس، فأشارت عواطف بعينيها لابنتها قائلة: -قومي شوفي مين!
ردت عليها نيرمين بتبرم: -أكيد مش بسمة، هي في مدرستها وده مش ميعاد خروجها!
أضافت والدتها قائلة بتعنيف خفيف: -قومي افتحي الباب يا نيرمين، اتلحلحي يالا!
زفرت بضجر وهي ترد: -أوف! طيب قايمة!

اتجهت نحو الصالة، وسحبت ذلك الحجاب المنزلي - والذي يُرتدى عند الحاجة – من على ظهر الأريكة، ولفته بلا ترتيب حول رأسها، واتجهت نحو الباب.
فتحته لتجد منذر أمامها واقفاً على عتبة منزلها فحدقت فيه بإستغراب.
لم تنتبه إلى الحقائب التي بحوزته والمسنودة إلى جوار قدميه، فقد كانت أنظارها معلقة به.
لكنها سريعاً ما أخفضت بصرها عنه حينما قال بصوت رخيم: -سلامو عليكم!

ردت بترحيب ودود وهي تتنحى للجانب لتفسح له المجال للمرور: -وعليكم السلام، اتفضل يا سي منذر!
سمع الاثنان صوت عواطف يأتي من الداخل متساءلاً: -مين يا نيرمين؟
أجابتها نيرمين بنبرة عالية وهي تدير رأسها للخلف: -ده سي منذر ابن الحاج طه!
ردت بصوت مرتفع: -قوليله يتفضل!
التفتت تنظر إليه قائلة بنبرة لطيفة: -اتفضل يا سي منذر.

وقبل أن يفتح فمه ليعترض رأى عواطف مقبلة عليه هاتفة بصوت متحمس: -تعالى يا سي منذر، ده حماتك بتحبك، أنا لسه بأوضب في الفطار وآآ..
قاطعها قائلاً بجمود وهو يسلط أنظاره عليها: -لامؤاخذة إن كنت جاي من غير ميعاد!
استغربت من رده، وقالت بنبرة مجاملة: -ده بيتك يا سي منذر!
تابع هو قائلاً بنفس الجمود دون أن ترتخي ملامح وجهه: -إن مكانش فيها إساءة أدب، عاوز أكلم بنت أخوكي في حاجة مهمة!

انقبض قلبها نوعاً ما عقب عبارته الأخيرة، وانهالت عليه بأسئلة متتابعة دون أن تترك الفرصة لنفسها لتلتقط أنفاسها:
-أسيف؟ خير؟ في حاجة تانية حصلت؟ قريبها جه تاني؟
رد عليها بإقتضاب: -لأ
ثم طلب منها بنبرة مُلحة: -ناديها بعد اذنك!
ارتابت هي من إصراره على لقاء أسيف، وردت بإرتباك قليل: -اه طبعاً، اتفضل خش جوا، مش هاتفضل واقف على الباب كده!
تحرك خطوتين ليلج للمنزل بعد أن انحنى ليحمل حقائب السفر.

هتفت عواطف بنبرة عالية وهي تتجه للداخل: -يا أسيف، تعالي يا بنتي، سي منذر عاوزك!
نظرت نيرمين بفضول كبير إلى تلك الحقائب، وظلت تفكر في سبب إحضارهم إلى المنزل هنا. لكنها لم تتجرأ على سؤاله.
حضرت أسيف إليه بعد عدة دقائق قضتها في ارتداء اسدال الصلاة الذي استعارته من عمتها.
حدقت فيه بنظرات قلقة وهي تهتف بصوت مرتبك نسبياً: -سلامو عليكم!
سلط أنظاره الجامدة عليها مردداً بثبات: -وعليكم السلام.

ابتلعت ريقها ساءلة إياه بتوتر ملحوظ: -في. في حاجة جدت؟
اقترب منها ليقف قبالتها، ثم نظر مباشرة في عينيها قائلاً بإيجاز: -لأ!
ظلت أنظارهما متعلقة ببعضهما البعض لثوانً قبل أن ينطق بجمود جعل قلبها يخفق بخوف كبير:
-هي حاجة ليها علاقة باللوكاندة اللي كنتوا أعدين فيها إنتي والمرحومة..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة