قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والعشرون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والعشرون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والعشرون

ارتفع حاجبي أسيف للأعلى عقب جملته الأخيرة، وشحب لون وجهها لتبدو بشرتها غير طبيعية.
تجمدت نظراتها المرتعدة على وجهه.
كما اضطربت نبضات قلبها، وشعرت بصوتها العنيف يخترق أذنيها بقوة.
هو يتحدث عن والدتها المتوفاة، عما يخصها.
جاهدت لتبدو صلبة، لكنها كانت تحترق حزناً من الداخل.
تابع منذر قائلاً بصوت ثابت وهو يتفرس وجهها المرتبك: -اتصلت بيا واحدة من اللوكاندة على تليفون أمك تقولي أجي أستلم شنطكم.

نهج صدرها بتوتر كبير وهي تسأله بنبرة متلعثمة: -تليفون ماما؟!
رد عليها موضحاً بنبرة خالية من الانفعالات: -اه، الأمانات في المستشفى ادهوني، واحنا اتلبخنا في دفنة المرحومة ونسيت أرجعهولك مع بقية حاجاتها!
ثم أخرج الهاتف وحافظة نقود الفقيدة من جيبه ليعطيهما لها قائلاً بهدوء: -وبقية الحاجة محطوطة جوا الشنط بتاعتكم!

لم تصغِ إلى ما قاله، وحدقت بنظرات مذهولة في متعلقات أمها الراحلة، وسريعاً ما تراقصت العبرات في مقلتيها.
تناولت هاتفها القديم منه بيد مرتجفة، وتجمدت عيناها المغرورقتان بالعبرات عليه متذكرة نبرة صوتها الرقيق المطمئن حينما تتحدث فيه، وتحسست بأصابع مرتعشة حافظة نقودها التي كانت دوماً موضوعة في حجرها.
اندفع إلى عقلها ذكريات كثيرة جمعتها مع أبيها وأمها في أماكن مختلفة بقريتهم وبمنزلهم وأرضهم الزراعية.

ذكريات كانت هي كل محورهم، اهتمامهم الأكبر والوحيد.
وفجأة اختفى كل هذا ليحل بدلاً عنه القسوة والوحدة والفراق.
نظر لها منذر بإستغراب من ردة فعلها خاصة أنها بدت وكأنها في عالم أخر، واستدار برأسه ليوجه حديثه إلى عمتها:
-أنا لميت بنفسي كل حاجة من الأوضة، مافيش حاجة نسيتها هناك!
هتفت عواطف قائلة بإمتنان كبير: -كتر خيرك يا سي منذر، والله تعبينك معانا!

التفت برأسه نحو أسيف مجدداً ليضيف بجدية وهو محدق بها بنظرات ثابتة: -وماتقلقيش، الحساب خلصان هناك!
ولم تكن مدركة له، ولم تنتبه لكلمة واحدة مما نطق بها. فعقلها كان مركزاً فقط على أخر ما تبقى من ذكرياتها الغالية.
صاحت نيرمين بصوت عالٍ مرددة بإعجاب: -سي منذر طول عمره شهم وبيقف مع كل الناس، مش جديد عليه ده
رد عليها بإبتسامة باهتة ملتفتاً نحوها: -متشكر.

بينما أضافت عواطف قائلة بإمتنان أكبر من السابق: -احنا من غيره هو والحاج طه نتوه، ربنا يباركلنا فيه ويفضلوا دايماً سندنا
بدا ما تسمعه حولها همهمات مبهمة، أصوات مختلطة تزعجها بشدة فتحول دون استمرارها في إستعادة سيل الذكريات البعيدة.
عاود منذر النظر إلى أسيف ليجدها في تلك الحالة الغريبة، فعبس بوجهه، وسألها بجدية قليلة:
-انتي كويسة؟
لم تجب عليه، بل لم تشعر به من الأساس.

قربت حافظة النقود من أنفها تستنشق بقايا عبير أمها فيها.
تنفست بعمق حابسة تلك الرائحة في صدرها لعلها تطفيء لهيب اشتياقها إليها فتثلج روحها، لكن زاد هذا من لوعتها.
أغمضت عيناها قهراً باكية بحرقة شديدة تدمي القلوب.
لم تستطع تحمل هذا الضغط النفسي العصيب أكثر من هذا، فإنهارت قواها كلياً. وارتخت أصابعها عن الهاتف القديم وحافظة النقود.

انتفض منذر في مكانه مصدوماً حينما رأها تترنح أمامه، فمد ذراعيه نحوها سريعاً ليتلقفها قبل أن يسقط جسدها على الأرضية.
شهقت عواطف بهلع قائلة وهي تلطم على صدرها: -أسيف!
احتقن وجه نيرمين بشدة واصطبغ بحمرة منزعجة من ذلك الموقف، وظنت أنه مفتعل من ابنة خالها لتجذب انتباه منذر إليها، فتملكها الضيق والغضب، وظلت تنفخ مغتاظة.

أمسك منذر بأسيف جيداً، ولف ذراعه حول خصرها، وانحنى قليلاً ليحملها من أسفل ركبتيها، ثم سار بها عدة خطوات ليضعها على أقرب أريكة، وعواطف من خلفه تصيح بفزع:
-جرالك ايه يا بنتي؟!
تراجع منذر للخلف بعد أن أسندها برفق على الأريكة، وجلست عواطف إلى جوارها محاوطة رأسها بكفيها متساءلة بصوت مضطرب خائف:
-ايه اللي حصلك بس؟ فوقي يا بنتي!
رد عليها منذر بنبرة مهتمة بعد أن تصلبت ملامحه نوعاً ما: -أطلبها دكتور؟

هتفت نيرمين قائلة بنبرة محتقنة وهي تدنو منهم بوجهها المتجهم: -مافيش داعي، أنا هشوفلها كولونيا ولا مياه تفوقيها بيها!
مسحت عواطف على وجنتها برفق هاتفة لها بنبرة مذعورة: -قومي يا بنتي، ده انتي كنتي لسه كويسة!
تمتمت نيرمين من بين شفتيها بنبرة مغلولة وهي تتجه للمطبخ: -مُحن بنات!
زفر منذر بضيق، وتلفت حوله منزعجاً، ثم أردف قائلاً بصرامة: -أنا هاطلب الدكتور يجيلها، ده أحسن!

عادت نيرمين من الداخل مرددة بنبرة عالية واثقة: -مالوش لازمة دلوقتي هاتفوق!
ثم أشارت إلى ما تحمله في يدها من كوب زجاجي ممتليء بمياه الصنبور.
اقتربت نيرمين من أسيف، وحدجتها بنظرات احتقارية مشتعلة منها.
ما أغاظها حقاً هو اهتمام الرجال بها، وخاصة منذر – الذي يعد من كبار أسياد رجال الحارة - وأنها حازت على اهتمامه الثمين فبات ينهي أعمالها المعلقة وكأنها تعني له شيئاً.

كذلك قيامها بجمعهم حولها منذ أن وطأت قدماها إلى منطقتهم، بل الأدهى أنها استطاعت أن تجذبهم إليها فأولوها إهتمامهم الكامل دون أي مجهود يذكر منها. وهي على النقيض شعرت بكونها مكروهة منبوذة وسط عائلة زوجها السابق حاتم ، وتكبدت العناء معه وتحملت قسوته وفظاظته وأخفت الكثير من أمور حياتها عن عائلتها لتحافظ على استقرار عائلتها لكنها لم تحصل في الأخير على اهتمامه ولا على أي شيء.

زاد ذلك الإحساس لديها بالنفور والبغض بعد حصولها على لقب مُطلقة لأكثر من مرة. فأصبحت كالمصابة بالجُذام أو عدوى خطيرة.
وضعت نيرمين نفسها في مقارنة غير عادلة معها رغم عدم معرفتها بها.
فبلا وعي منها قذفت وجهها بمحتوى الكوب فجأة، وتمنت في نفسها لو كان ما به ماء نار فتشوهه وتحرقها..
شهقت أسيف وهي تسعل بإختناق مستعيدة وعيها إلى حد ما.

بينما اتسعت حدقتي عواطف بذهول مصدوم من فعلة ابنتها المباغتة، وهتفت معنفة إياها بحدة:
-في حد يفوق حد كده؟ انتي غبية!
صُدم منذر هو الأخر من طريقتها الفظة في إفاقتها، وتشنجت تعابير وجهه بشدة، لكنه منع نفسه من التدخل أو التعقيب. فهن أقارب في بعضهن البعض. ليس له الحق في التدخل في تصرفاتهن حتى وإن كانت خاطئة.

ردت عليها نيرمين ببرود: -ما هي فاقت أهي، مش بأقولك تمثيلية! يا ماما انتي طيبة ومش هاتفهمي الحركات دي!
رمقتها أمها بنظرات نارية وهي تكز على أسنانها بقوة.
بكت أسيف متأثرة وهي تنتحب بأنين متآلم.
استدارت عمتها نحوها، وضمتها إلى صدرها لتربت على ظهرها برفق وحنو محاولة التهوين عليها.
هتفت بصوت منزعج: -حصل خير يا بنتي!
نفخت نيرمين مرددة بتأفف: -استغفر الله العظيم، كل شوية تعمل الحبتين دول!

استشعر منذر الحرج من وجوده، فتنحنح قائلاً بخشونة: -أنا كده سلمت الأمانة واطمنت، سلامو عليكم
التفتت نيرمين نحوه قائلة بنزق: -استنى بس يا سي منذر آآ..
قاطعها قائلاً بجدية وهو يوليها ظهره متحركاً بخطى سريعة: -خدوا راحتكوا، سلامو عليكم!
حاولت الركض خلفه لإيصاله إلى الباب لكنه كان الأسرع في الوصول، وصفقه خلفه بقوة.
تنهدت نيرمين بعمق مرددة بضجر: -كان ناقصنا حركاتها القرعة دي! أهوو الجدع مشى!

أثناء اليوم الدراسي بالمدرسة الحكومية التي تعمل بها بسمة، اقتحمت باحة المدرسة إحدى السيدات الشعبيات ذات الصيت الذائع، والمعروف عنها بكونها سليطة اللسان، صارخة بإهتياج:
-فين ناظر المخروبة دي؟ فين اللي شغالين هنا؟
حدقت فيها بسمة بنظرات متعجبة متأففة من هيئتها وأسلوبها الهمجي السوقي في الحديث، ومالت على رفيقتها في العمل لتسألها بفضول:
-مين دي؟
أجابتها زميلتها متعجبة: -انتي مش عارفها؟

هزت بسمة رأسها نافية وهي تقول: -لأ!
تابعت زميلتها قائلة بصوت خفيض وهي توميء بعينيها: -دي أم ولد عندنا في رابعة ابتدائي، ست أعوذو بالله منها، تاجرة في سوق السمك، بس لسانها زفر وحاجة كده استغفر الله العظيم!
ضاقت نظرات بسمة للغاية، وتساءلت مندهشة: -ودي جاية هنا ليه؟
أجابتها رفيقتها وهي تهز كتفيها: -أكيد في مشكلة مع ابنها!

لكزتها بسمة في جانبها قائلة بفضول وقد بدا على ملامح وجهها الإهتمام: -طب تعالي نتفرج بس من بعيد
-ماشي
قامت تلك السيدة بتمزيق عباءتها السوداء التي كانت ترتديها، وشقتها إلى نصفين لتبدو ثيابها المنزلية من أسفلها، ثم نزعت حجاب رأسها عنها، ونثرت شعرها متابعة بصراخ أقوى:
-انتو يا مدرسة مافيهاش راجل!
تفاجيء الجميع بما تفعله تلك السيدة، وارتسم على وجوههم علامات الاستنكار والضيق الكبير.

أسرع أحد مسئولين الإدارة بالركض نحوها مانعاً إياها من الإستمرار فيما تفعله من أمور جريئة وصادمة قائلاً بتحذير شديد اللهجة وهو يشير بيده:
-عيب يا ست، انتي في مدرسة محترمة، اللي بتعمليه ده مايصحش!
هدرت بصوت منفعل وهي تنظر له بإزدراء: -محدش هيعلمني الصح من الغلط!
توسل لها المسئول قائلاً برجاء: -أرجوكي اتفضلي نتكلم جوا في المكتب.

رمقته بنظرات إحتقارية صريحة متغنجة بجسدها بحركة استفزازية، ثم سألته بسخط وهي تضع يدها على منتصف خصرها:
-وانت مين بقى ان شاء الله؟
أجابها المسئول بنبرة رسمية وهو يتحاشى النظر إليها: -أنا وكيل المدرسة الأستاذ أسامة!
رفعت كف يدها أعلى جبينها بحركة ساخرة وهي تجيبه مستهزأة: -تشرفنا يا سي وكيل!

ثم عبست بوجهها أكثر وهي تضيف بعناد: -أنا مش هامشي من هنا غير لما أشوف المدرس ابن ال، اللي ضرب ابني بالشلوت وأجيبه تحت رجلي وأخد حقي!
ابتلع الأستاذ أسامة ريقه بتوتر قائلاً: -أكيد في سوء تفاهم!
رمقته بنظرات متعالية وهي تهز جسدها قائلة بطريقة فجة: -سوء تفاهم مين يا أحمد يا عمر!

انزعج الأستاذ أسامة من أسلوبها المتطاول في الحديث، والذي لا يتلائم تماماً مع وضعه كمسئول بتلك المؤسسة التعليمية، فنهرها قائلاً بحدة:
-عيب الطريقة دي!
لوحت بكف يدها في الهواء مهددة بجموح: -هو أنتو لسه شوفتوا عيب!
شهقت بسمة مصدومة مما رأته، وهتفت بذهول: -أوبا، شوفي بتعمل ايه الست دي؟
ردت عليها رفيقتها بنبرة مصدومة هي الأخرى: -دي قطعت هدومها، لالالا، كده عيب أوي!

أشاحت بسمة بوجهها بعيداً لتقول بنفور: -أنا مش هاتفرج، دي قلة أدب ومسخرة، أنا رايحة أوضة المدرسين!
همست لها رفيقتها قائلة بفضول: -استني يا بسمة نشوف هاتعمل ايه
نظرت لها بسمة شزراً، وردت عليها بعدم اكتراث: -اتفرجي انتي!
ثم تركتها، وأسرعت في خطاها لتتجاوز الباحة قبل أن يتطور الأمر، لكنها سمعت صوت الأستاذ أسامة ينادي بإسمها بنبرة عالية مردداً:
-يا مس بسمة، مس بسمة!

تجهمت قسمات وجهها، وأغمضت عيناها للحظة ضاغطة على شفتيها بضيق، فهي قد خمنت سبب ندائه لها.
التفتت ببطء برأسها نحوه قائلة بإقتضاب: -ايوه!
أشار لها بذراعه هاتفاً بنبرة شبه آمرة: -تعالي من فضلك هدي المدام!
ردت السيدة بأسلوب أكثر فجاجة وهي تهز في أجزاء جسدها المليء بالشحوم: -أنا مش مدام يا أستاذ، أنا أم منصور يا روح الروح!

نظر لها بإزدراء، وجاهد ليسيطر على أعصابه، فالتعامل مع تلك النوعيات المتدنية من البشر تتطلب الحيطة والحذر، فهم لا يمكن التنبؤ بأفعالهم الغير عقلانية.
وقفت بسمة على مقربة من وكيل المدرسة، وابتلعت ريقها قائلة بإرتباك قليل متجنبة على قدر المستطاع النظر في اتجاه تلك الوقحة:
-خير يا أستاذ أسامة
رمقها الأستاذ أسامة بنظرات ذات مغزى وهو يجيبها بهدوء حذر: -المدام ليها شكوى، وعاوزينك تحليها!

اعترضت على إقحامه لها في مشكلة لا تخصها بالإجبار قائلة بإنزعاج من توريطها: -بس أنا مش أخصائية اجتماعية هنا، أنا مدرسة آآ..
قاطعها متنحنحاً بحرج: -أنا عارف، بس حضرتك هاتعرفي تتفاهمي معاها كويس، إنتو ستات زي بعض! فاهمني طبعاً.

هو أراد تدخلها في إيجاد حل سريع لمشكلتها قبل أن تتفاقم وتتهور الأمور مع تلك السيدة إلى شيء لا يُحمد عقباه، شيء يخجل من مجرد تصوره في عقله، وفكرة تعامل معلمة أنثى معها أفضل بكثير من تدخل أي رجل لحلها، خاصة أن الأخصائي الإجتماعي بالمدرسة رجل وربما لا يستطيع السيطرة عليها فهي لديها استعداد لفعل الأسوأ.

نظرت بسمة إلى وكيل المدرسة بنظرات مزعوجة للغاية، وهمست لنفسها بغضب: -ايه المصيبة اللي حشرتني فيها دي يا أستاذ أسامة، هو أنا ناقصة أعلق مع واحدة زي دي
أفاقت بسمة من صمتها الإجباري على صوت السيدة الصائح بسخط: -ها يا أبلة، هتشوفيلي حل ولا هتفضلي متنحة كده كتير؟!
اضطربت بسمة قليلاً من طريقتها قائلة بتوجس: -احم. سوري، اتفضلي حضرتك معايا، وإن شاء الله ألاقي حل لمشكلتك!

أصدرت السيدة صوتاً بفمها مستخفة بها وهي تقول: -أما أشوف!
ثم سارت الاثنتان معاً نحو غرفة مكتب مدير المدرسة للحديث هناك..
لاحقاً في المساء،
حبست أسيف نفسها في غرفة بسمة رافضة الخروج منها أو تناول الطعام أو مشاركة أي أحد في الحديث.
فضلت أن تكون أسيرة أحزانها.
واحترمت عمتها عواطف رغبتها تلك في الإنفراد بنفسها ولم تضغط عليها كثيراً.

ظلت حقائب السفر موضوعة أمامها، ولم تجرؤ هي على الاقتراب منهم أو حتى فتحهم. فهي تخشى أن تنهار مرة أخرى إن رأت متعلقات والدتها.
يكفيها ما مرت به من وضع مخجل أمام الجميع فتسمع بأذنيها تعليقات جارحة مسيئة لشخصها.
تمددت على الفراش، وانكمشت على نفسها مكورة ساقيها إلى صدرها، ودفنت رأسها في الوسادة باكية بلا توقف.
همست لنفسها بصوت مخنوق للغاية: -ليه سبتوني لوحدي؟ ليه مامتش معاكو؟ أنا ماليش حد يحبني بعدكم!

هدهدت نيرمين رضيعتها رنا بعد أن أطعمتها حتى تأكدت من نومها، فأسندتها برفق على الفراش، ثم دثرتها بغطاءها، وخرجت من الغرفة.
كانت والدتها مشغولة بإحضار أواني الطعام من المطبخ، فقامت هي برص الصحون على الطاولة.
ولجت عواطف لداخل غرفة بسمة لتدعو أسيف لتناول العشاء معهن لكنها أصرت على رفضها، وأثرت النوم.
خرجت هي من الغرفة وعلى وجهها تعابير حزينة.

سئمت نيرمين من معاملة والدتها اللينة لها، وضجرت من ذلك الاهتمام الزائد بها، فالأمر لا يستحق كل هذا، هي ليست الوحيدة في العالم التي فقدت عائلتها.
رمقت هي أمها نيرمين بنظرات حادة متساءلة بحنق بائن: -برضوه مش عاوزة تاكل؟
ردت عليها أمها بضيق: -لأ، من وقت ما سممتي بدنها بالكلمتين بتوعك وهي حابسة نفسها جوا!

قطبت نيرمين جبينها بشدة، وصاحت معترضة رافعة حاجبها الأيسر بإستنكار: -الله يا ماما، انتي عاوزة الراجل يقول عننا كلمة بطالة؟!
عنفتها عواطف من طريقتها المتسرعة في الحكم على الأخرين مرددة: -بطلي أفكارك دي، يا ساتر عليكي!
انضمت إليهما بسمة جالسة على مقعدها المعتاد بالطاولة، وهتفت قائلة بجدية وهي تضع بعض الطعام بالملعقة الكبيرة في صحنها الفارغ:.

-ماما انتي شوفي حل وخلي أسيف تنام معاكي، أنا عاوزة أرجع أوضتي تاني!
ردت عليها عواطف بتنهيدة: -ربنا يسهل، كام يوم كده تكون راقت وهاخليها تنام معايا!
أضافت نيرمين هاتفة بوجه عابس متعمدة الإساءة إلى أسيف: -دي نكدية وببوز طوله شبرين!
زفرت عواطف في وجهها قائلة بحدة: -يا باي يا نيرمين على كلامك، ده الملافظ سعد!

قاطعت بسمة حديثهما عن ابنة خالها قائلة بحماس عجيب: -سيبك منها يا دلوقتي يا ماما، النهاردة حصل عندنا في المدرسة حتت مشكلة، بس بنتك طلعت جدعة وحلتها!

انتبهت الاثنتان لها، فسردت لهما ما دار في مدرستها من تصرفات ولية الأمر المريبة والجريئة، وكيف تمكنت هي من علاج الأزمة بحنكة وحكمة. فقد أقنعتها بأنها ستدعم ابنها لكي يحصل على أعلى المراتب والدرجات في كافة المواد، وستتأكد من انضمامه لمسابقات المتفوقين وغيرها مما يفيده دراسياً ويجعله محبوباً أكثر لدى جميع المعلمين. وسيحصل على امتيازات تؤهله للإلتحاق لاحقاً بالمسابقات الرياضية والثقافية بالمدرسة.

كما تعهدت لها بألا تتكرر مسألة الاعتداء بالضرب عليه، وأنها ستعرف المعلم المسئول عن ذلك وستتولى بنفسها مهمة التأكد من محاسبته من قبل مسئولي إدارة المدرسة.
وعلى مضض كبير وافقت السيدة على عدم التمادي في الأمر، وانهت المشاجرة موافقة على تلك الاقتراحات.
أبدت والدتها إعجابها قائلة بتشجيع: -ناصحة يا بنت بطني!
بينما أضافت نيرمين ساخرة: -أروبة ياختي!

ردت عليهما بسمة بغطرسة وهي تهز كتفيها في زهو: -طبعاً، هو أنا أي كلام!
تساءلت نيرمين بعدم اقتناع وهي تدس الطعام في فمها: -والست صدقت إنك هاتخلي ابنها يبقى رقم واحد في المدرسة؟
ردت عليها بسمة بثقة: -ايوه!
ثم تابعت موضحة بجدية وقد عقدت ما بين حاجبيها: -وبعدين الولد يستاهل، هو شاطر وكويس، بس أمه بيئة طحن! بجد مش شبهها خالص!
التوى ثغر نيرمين مرددة بسخرية: -يدي الحلق للي بلى ودانه!

هتفت بسمة مضيفة بتباهي: -بس انتي عارفة كده بقالي ضهر اتحمى فيه
ردت عليها نيرمين ساخرة: -يا شيخة، بايعة السمك دي هاتحميكي؟
أجابتها أختها مؤكدة بجدية: -اه تخيلي، دي واصلة وقادرة!
صاحت فيهما عواطف بعد أن ضجرت من ثرثرتهما الزائدة: -كفايكو رغي وتعالوا ساعدوني في ترويق المطبخ!
ردت عليها بسمة متذمرة: -مش أما نخلص أكل الأول!

التفتت نيرمين ناحية والدتها، وسألتها بجدية وقد سلطت أنظارها عليها: -صحيح يا ماما إنتي مش هاتكلمي المحروسة في موضوع بيع الدكان؟
تناست عواطف تلك المسألة رغماً عنها، وانشغل عقلها بما حدث لابنة أخيها. ففغرت فمها مرددة:
-هه! الدكان؟!
استطردت نيرمين حديثها قائلة بصوت جاد ومحذر في آن واحد: -احنا اتلهينا عنه، بس مش عاوزين نخسر محبة سي منذر والحاج طه!

تنهدت عواطف بإرهاق وهي ترد عليها: -مش وقته، بعدين أبقى أكلمها!
ألحت عليها نيرمين هاتفة بنبرة ذات مغزى وهي تغمز لها بعينيها: -حطيه بس في بالك، خلينا نبيع ونستفيد، وهي كمان هاتطلع من البيعة بقرشين حلوين، يعني هاتكسب زينا ومش هتخسر!
بينما أضافت بسمة بحماس: -اه وممكن نوضب البيت بالفلوس اللي هانخدها!
استدارت نيرمين برأسها نحوها وردت عليها: -تصدقي صح، عاوزين نركب بلاط جديد، وتغير البوهية وآآ..

قاطعتهما عواطف قائلة بتجهم: -ربنا يسهل، بطلوا لت في الموضوع ده خلوه يكمل على خير!
ثم حدقت أمامها بنظرات شاردة لتحدث نفسها بقلق: -هو حد عارف ايه اللي ممكن يحصل بكرة..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة