قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والأربعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والأربعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والأربعون

خرجت من الغرفة الأخرى على إثر صراخها المرتفع الذي أرق منامها.
تمطت بذراعيها في الهواء وهي تتثاءب، ثم استندت بجسدها على الحائط، ورفعت يدها على رأسها لتعبث بخصلات شعرها.
رمقتها بنظرات مطولة وهتفت متساءلة بصوت ناعس: -فيه ايه؟ بتزعقي ليه؟
التفتت نيرمين ناحيتها، وحدجتها بنظرات نارية قبل أن تجيبها بتهكم ساخر: -وأدي الفردة التانية اللي على رجليها نقش الحنة!

اعتدلت بسمة في وقفتها، ونظرت لها بحدة وهي تفرك وجهها بيدها لتزيل أثار النعاس، ثم ردت عليها بعصبية:
-الله! طب ليه كده؟ يعني أنا غلطت فيكي عشان آآ..
قاطعتها أختها مرددة بحدة: -كفاية إنك ساكتة وراضية عن اللي بيحصل!
اقتربت منها بسمة لتقف قبالتها، وحدقت مباشرة في عينيها هاتفة بحنق: -مش فهماكي! طلعي اللي عندك!

ردت عليها نيرمين بشراسة: -أعدتي بس تقولي أوضتي وحاجتي ومش هاسيبها، تعالي اتفرجي دلوقتي على نفسك وانتي شوية شوية هتفرشي على الأرض، لأ وكله بسبب أمك!
اتسعت حدقتاها بصدمة جلية من طريقتها الهجومية عليها، وصرخت رافضة اتهامها بالتخاذل وهي تشير بسبابتها أمام وجهها:
-نيرمين مسمحلكيش!
دفعتها أختها الكبرى من رسغها بعنف مرددة بعدم اكتراث: -ولا تسمحي، معدتش تفرق معايا، أوعي خليني أشوف بنتي!

فغرت بسمة شفتيها مشدوهة من وقاحتها الزائدة، والتفتت برأسها لتتابعها بنظرات مغتاظة.
ما أثار ضيقها هو تجاهلها لها ومواصلتها الهجوم عليها بصورة أكثر حدة.
ضاق بها ذرعًا كلماتها البغيضة فهتفت بنبرة عالية: -بجد انتي انسانة مستفزة!
زاد عبوس وجهها وهي تضيف بسخط: -خسارة فيكي لقب أم!
صفقت نيرمين الباب خلفها لتزيد من حنق أختها نحوها.

فنجحت عن عمد في شحنها بمشاعر الكره والبغض ناحية أسيف، ذلك تحركت الأخيرة بعصبية نحو غرفتها للاشتباك معها.
وضعت يدها على المقبض وفتحت الباب فجأة، لكنها تسمرت في مكانها تراقبها بذهول.
لم تجدها على الفراش، فبحثت عنها بعينيها في أرجاء الغرفة. وجدتها منزوية في أحد الأركان توليها ظهرها، ومحدقة في متعلقات والدتها الراحلة الموضوعة أمامها على الأرضية.
دققت النظر أكثر فيما تحمله في كفها فرأت هاتفًا قديمًا.

تجمدت أنظارها عليها، وراقبتها في صمت.
كانت أسيف في عالم أخر خاص بها، لم تمنع شهقاتها من الخروج من صدرها.
لم تتوقف عبراتها عن الانهمار، تابعت حديث نفسها الحزين مرددة ببكاء: -لو ياخدوا مني كل حاجة ويدوني لحظة أسمع فيها صوتك تاني!
اختنق صوتها حتى بدا كالأنين: -أنا من غيرك ولا حاجة، ليه عملتوا كده؟

بكت بقهر عاجز وهي تكمل بصعوبة: -انتي وبابا سبتوني فجأة، ليه قسيتوا أوي عليا، ليه سبتوني لوحدي ماليش حد يحميني ولا يدافع عني؟
زادت شهقاتها قوة حينما تابعت بآسى شجي: -وأنا بأموت كل يوم مليون مرة وانتو بعاد عني!
تأثرت بسمة لحديثها الموجع، وشعرت بغصة قوية عالقة في حلقها.

لم تستطع أن تراقبها لأكثر من هذا، أو أن تتحمل معاناتها القاسية. فإلى الآن هي لم تتحدث معها بأي صورة ودية، وتلك هي المرة الأولى أن تصغي إلى ألمها المفجع للقلوب بتأثر كبير.
قاومت رغبة عارمة تحثها على البكاء، وانسحبت بهدوء للخارج مغلقة الباب خلفها.
هرب من مقلتيها عبرة خائنة، فمسحتها سريعًا قبل أن يلاحظها أحد.

رفعت رأسها لتحدق في الفراغ أمامها متذكرة ذلك الموقف المشين الذي مرت به قبل سنوات فدفعها قسرًا للتصرف بوقاحة وفظاظة مع الجميع..
توفي والدها قبل بدء الدراسة في المدرسة الثانوية بعدة أيام، فلم ترغب في الذهاب أو حتى الاستذكار.
اعتزلت كل شيء، وحبست نفسها في غرفتها رافضة الخروج أو الحديث.

توسلت لها أمها عواطف ألا تهمل في دروسها كي لا يحزن أباها الراحل، وأن تحقق له أمنيته الأخيرة في رؤيتها الطالبة المثالية التي تترقى في دراستها حتى تصل إلى الجامعة وتتخرج خاصة وأنها قد نجحت في امتحان الالتحاق بفصول الفائقات.
وعلى مضض كبير ذهبت إلى مدرستها الجديدةواضعة هدفًا واحدًا نصب عينيها.

لم يكن لها من الرفيقات من تتودد إليهن، وبقيت بمفردها لعدة أيام متحاشية الحديث مع أي طالبة كاتمة في صدرها حزنها الشديد على فراقه. وركزت فقط على المذاكرة ومتابعة الدروس أولًا بأول.
اعتقدت زميلاتها أنها تتعالى عليهن، وأنها تجد نفسها في منزلة أفضل منهن خصوصًا أنها حازت على اهتمام أغلب المعلمات.
وعلى قدر المستطاع اجتهدت لتبدو عند حسن ظنهم.

مر عليها شهر من الدراسة وقد برزت بين قريناتها بأنها الطالبة المتوفقة. وزاد هذا من حنق تلك الحفنة التي دومًا تتعرض للإساءة بسببها، لذلك قررن التكالب عليها وتلقينها درسًا عنيفًا.
ولجت ذات يوم إلى المرحاض لتغسل وجهها، ولم تتوقع وجود من تراقبها عن كثب.
تم إخلاء المكان من جميع الطالبات لتبقى هي بمفردها مع حفنة من المشاغبات.

ابتلعت بسمة ريقها بتوجس، وجاهدت لتتصرف بصورة طبيعية كي لا يظهر عليها علامات الخوف والاضطراب من وجودهن، فهي تسمع عن كوارثهن المقلقة باستمرار.
اقتربت منها إحداهن، ووجهها يشير إلى حقد دفين. وخمنت على الفور أنها من نصبت نفسها عليهن زعيمة.
تحركت بسمة بعيدًا عنها متجنبة الارتطام بها، ولكن سدت عليها المشاغبة الطريق عمدًا مرددة بسخط:
-رايحة فين يا حلوة؟

ردت عليها بسمة بصوت شبه مرتجف وهي تتحاشى الاقتراب منها: -أنا خارجة من هنا، في حاجة؟
تلفتت المشاغبة حولها مضيفة بابتسامة ساخرة: -هو احنا خلصان كلام؟
ردت عليها بسمة بحذر: -هو أنا أعرفك أصلًا؟ عن اذنك
قبضت المشاغبة على ياقة قميصها صائحة فيها بحدة: -انتي تطولي تعرفيني يا بتاعة انتي؟!
وضعت بسمة يدها على كفها محاولة نزعه عن ياقتها وهي تقول بصوت مزعوج: -ميرسي لذوقك، حاسبي لو سمحتي.

حدجتها المشاغبة بنظرات احتقارية بائنة وهي تردد: -اضحكوا يا بنات، دي بتقولي ميرسي!
تعالت ضحكات الطالبات المشاغبات بصورة تهكمية مثيرة للحنق، فاحمر وجه بسمة من الغيظ لتصرفاتهن المتجاوزة معها، ورغم هذا كتمت غضبها في نفسها. هي لا تريد إثارة المتاعب مع أي منهن.
وضعت المشاغبة يدها على شعر بسمة لتجذبها منه لاعنة إياها بشتائم مهينة: -عاملة نفسك مؤدبة يا..

تفاجأت بسمة من كم السباب النابي الذي سمعته أذنيها لشخصها، فألجمت المفاجأة لسانها.
واصلت المشاغبة جذب شعرها بقوة أكبر لتؤلمها وهي تقول: -انتي شايفة نفسك علينا ليه؟
تألمت بسمة من عنفها، ودافعت قائلة بصوت شبه باكي: -آآآه، أنا. محصلش والله!
هزتها المشاغبة من رأسها بعنف وهي تصيح بها: -انتي هاتكدبيني، البت دي مِتَّنِكة علينا، صح يا بنات؟
هتفن جميعًا في نبرة واحدة: -اه.

تابعت المشاغبة قائلة بنبرة مريبة تحمل التهديد الصريح: -واللي زيها لازم يتعمل معاها حفلة ترحيب!
وافقتها بقية الطالبات الرأي، فاستشعرت بسمة وجود خطر محدق بها. وصدق إحساسها، فقد حاصرتها البقية، وقمن بتقييد حركتها وإسقاطها على أرضية المرحاض لتجثو زعيمتهن فوقها.
صرخت بسمة مستغيثة، لكن تكفلت واحدة منهن بتكميم فمها.

أمسكت المشاغبة بقميصها، ومزقته بيديها ليبرز من أسفله ثيابها التحتية. فاتسعت حدقتاها بهلع كبير، فما هي مقبلة عليه أخطر بكثير.
استجمعت كل قوتها وشجاعتها لتقاومها. وبالفعل نجحت في إبعاد إحداهن، فمدت يدها نحو المشاغبة لتخدشها بشراسة في عنقها ووجهها.
تأوهت الأخيرة بألم كبير، وقامت بصفعها كردة فعل طبيعية، ثم كورت قبضتها لتسدد لها لكمة عنيفة في صدغها، وأخرى في طرف ذقنها.

نزفت بسمة الدماء من بين شفتيها، ومن أنفها وأسنانها.
وقبل أن تتمادى المشاغبة معها ضبطتهن إحدى المعلمات فصرخت فيهن بهياج: -بتعملوا ايه يا نصايب؟
ردت عليها إحداهن مدعية بالباطل على بسمة: -البت دي يا أبلة شتمتنا بالأم والأب!
صاحت بهن المعلمة بحدة: -وهتعمل كده من نفسها؟ قومي يا بت منك ليها!

اتهمتها أخرى بكذب صريح: -لأ يا أبلة دي عاملة متربية وهي مصاحبة وماشية مع ولاد وبتشرب سجاير، أهي يا أبلة مطلعينها من جيبها!
ردت عليها المعلمة باستنكار كبير: -تقوموا تعملوا فيها كده؟
ثم تابعت مهددة وهي تشير بسبابتها: -كلكم على أوضة الوكيلة، مش هاسكت عن اللي حصل هنا، وهتاخدوا استدعا ورفد، دي مدرسة مش سويقة!

نهضت الطالبات عن بسمة وحررن قيدها، فتحاملت هي على نفسها واستندت على مرفقيها لتنهض عن الأرضية المتسخة.
بالطبع تلطخت ثيابها الممزقة بالدماء، وكذلك وجهها.
أشفقت عليها المعلمة، وعاونتها قائلة بأسف: -انتي غلطانة، إزاي تعملي كده، لأ وكمان بتشتميهم؟
نظرت لها بسمة بأعين دامعة رافضة تصديقها لكذبهن، وهتفت مدافعة عن نفسها بصوت مختنق:
-أنا معملتش حاجة، دول بيتبلوا عليا!

ردت عليها المعلمة بعدم اقتناع وهي تدفعها من كتفها للأمام: -هانشوف الموضوع ده بعدين، تعالي على أوضة الوكيلة!
ضمت بسمة طرفي قميصها معًا لتغطي جسدها المكشوف وواصلت البكاء طوال سيرها لغرفة وكيلة المدرسة.
-يا مس دي بتمشي مع ولاد كمان، وبتشرب سجاير ولما جيت أنصحها شتمتني!
هتفت بتلك العبارة الطالبة المشاغبة مدعية البراءة وموجهة حديثها لوكيلة المدرسة التي نظرت لها شزرًا وعنفتها قائلة بصرامة:.

-بلاش انتي، في ملف ليكي عند الأخصائية، هو أنا مش عرفاكي؟
هتفت بسمة مدافعة عن نفسها بصوت باكي: -كدب والله، ماتصدقيهاش!
نظرت الوكيلة إليها بازدراء وتابعت توبيخها بتأفف: -حتى انتي! عيب عليكي! المفروض تكوني قدوة لزميلاتك، انتي استحالة تفضلي في فصول الفائقات، هتتنقلي فصل تاني عادي!

بكت بسمة بقهر لعدم تصديق أي أحد لها، وعانت أكثر بعد قرارها بنقلها لفصل أخر يعد من أسوأ الفصول بالمدرسة لتتدمر جزئيًا أمنية والدها.
تابعت الوكيلة تعنيفها الصارم: -أنا هاعملكم كلكم استدعا لأولياء أموركم، ده غير إنه هيطلع جواب بالفصل لمدة 3 أيام عشان مايتكررش ده تاني! ولو سمعت حاجة زي دي حصلت هنا هايكون في قرارات أشد!

ردت عليها الطالبة المشاغبة برجاء زائف: -بلاش يا مس، بابا هيضايق مني ويمكن يضربني لحد ما يموتني، عشان خاطري بلاش استدعاء، هي السبب والله، هي بتعيط بس عشان تتعاطفوا معاها
صمتت الوكيلة لتفكر مليًا فيما قالته الأخيرة، فهي لم تتوقف عن التوسل لها حتى تصفح عنها ملفقة ادعاءات أكثر حدة وبطلانًا عن ذي قبل لبسمة. حتى أنها استشهدت بزميلات أخريات لتؤكد صدق تلك الأكاذيب.

بدت الوكيلة على وشك الاقتناع، وأصبحت بسمة في وضع حرج.
فقد انقلبت الآية وأصبحت هي المتهمة بدلًا من المجني عليها.
التوى ثغر الطالبة المشاغبة بابتسامة عابثة وهي تنظر إلى بسمة بنظرات متشفية. فقد حققت مبتاغها وأساءت لها بشراسة. بل إنها سببت لها الأذى في مستقبلها التعليمي.
هنا قررت بسمة ألا تترك حقها حتى وإن كانت في موقف تحسد عليه، ألا تتهاون مع من يسيء إليها ظلمًا.

لذلك استغلت فرصة انشغال الوكيلة عنها، وانقضت على الطالبة المشاغبة فطرحتها أرضًا، ثم انهالت عليها بضربات متلاحقة موجعة في وجهها وعنقها وكتفيها.
صدمت وكيلة المدرسة من فعلتها المباغتة، وحاولت فض الاشتباك بينهما لكنها فشلت.
أفرغت بسمة شحنة غضبها المبكوت بداخلها، ولم تعبأ بتبعات ما سيحدث لها بعد ذلك. المهم ألا تظهر بمظهر الضعيف المتخاذل أمام غيرها.

أعقب ذلك تعرضها لفصل نهائي من المدرسة، ونقلت إلى مدرسة أخرى في مكان شبه متدني لتتغير معها شخصيتها نهائيًا..
أفاقت بسمة من تلك الذكرى البعيدة ماسحة تلك العبرات العالقة في أهدابها.
تجدد شعورها باليتم والعجز لسماعها لصوت بكاءها الذي يقطع نياط القلوب، فلم تنتبه لفتح أسيف للباب.
تفاجأت هي بوجودها خلفها، فشحب لون وجهها قليلًا.
لم تختلف صدمة أسيف عنها، فهي لم تتوقع وجودها بالخارج ملاصقة للباب.

ظنت في نفسها أنها ربما تريد استرجاع غرفتها منها، ولما لا؟ فهي تخصها منذ البداية. لذلك همست بصوت منتحب:
-أنا أسفة إن كان وجودي مضايقك، معلش استحمليني! غصب عني أفضل هنا، بس. بس أنا خايفة لو مشيت تاني عمتي تتعب ويجرالها حاجة!
حدقت فيها بسمة بنظرات شاردة، ولم تعقب عليها.
تابعت أسيف بنبرة منكسرة: -أنا مش هاستحمل يتأذى حد بسبي!

ابتلعت ريقها بصعوبة قائلة: -اطمني، وجودي هنا مؤقت، أنا عارفة إن دي أوضتك وخدتها منك، بس. بس قريب هردهالك!
ظلت بسمة صامتة غير قادرة على الرد عليها، لكنها محدقة بها بنظرات تحمل الإشفاق نحوها.
اضطربت مشاعرها، وتخبطت أفكارها نحوها. هي تذكرها بها بصورة أو بأخرى ولكن في مرحلة سابقة من حياتها. مرحلة استجمعت فيها شجاعتها لتجتازها بمفردها دون عون من الأخرين.

اطمأنت أسيف لصمتها، واستشعرت تقبلها لوضعها، فعفويًا مدت كفها لتمسك بيدها قائلة برجاء:
-أنا بس هأرتب ظروفي الأول، وهامشي من هنا، وأوضتك هترجعلك! صدقيني آآ..
أخفضت بسمة نظراتها نحو كفها الممسك بيدها، وسريعًا سحبته منها قائلة بارتباك: -براحتك، ده. ده بيتك!
تفاجأت أسيف من ردها الغريب، ونظرت لها باندهاش غير مسبوق.
هي عادة تتعامل معها بحذر، وكثيرًا تبدي نفورها منها. واليوم هي تصرح لها بأن هذا منزلها أيضًا.

اختفت بسمة من أمامها قبل أن تحاصرها بكلماتها المؤثرة مجددًا فتكشف ضعفها من نظراتها اللامعة، بينما عادت أسيف إلى داخل الغرفة لتبقى حبيسة وحدتها من جديد.
ورد إليه اتصالًا هاتفيًا من محاميه الخاص يبلغه فيه بإتمام توثيق الأوراق الخاصة بيبع حصة عواطف من الدكان له بعد حضور الموظف المختص لمنزلها وإنهاء باقي الإجراءات القانونية. فرد عليه مبتسمًا:.

-ماشي يا أستاذ، اسحبلي بس من البنك باقي المبلغ عشان أسلمه ليها دفعة واحدة
اقترح عليه محاميه قائلًا: -حضرتك ممكن تديهولها شيك وهي تسحبه وقت ما تحب!
رفض اقتراحه مرددًا بجدية: -لأ، مش عاوز كده، خليها تاخده مرة واحدة
لم يعترض المحامي على قراره، ورد بهدوء: -اللي يريحك.

أنهى معه منذر المكالمة شاعرًا بإرتياح قليل لمشاركته رسميًا لأسيف في دكانها. ورغم هذا لا يزال قلقًا عليها من غريمه البلطجي. راقب خلال الأيام السابقة الدكان عن كثب، وشعر بنوع من الطمأنينة لعدم تواجدها هناك. ومع ذلك لا يريد للوضع أن يبقى مأرجحًا بين الخوف من المجهول والترقب لما هو قادم.
وقبل أن يشرع في التفكير في الخطوة التالية قطع عليه حبل أفكاره المسترسل صوت والده الجاد:
-هاتسافر امتى يا منذر؟

أجابه بهدوء وهو يتنحنح بخشونة: -كمان شوية يا حاج
هز أباه رأسه بتفهم وهو يضيف متساءلًا: -طيب يا بني، معاك التصاريح والأوراق المطلوبة؟
أجابه ابنه مؤكدًا: -اه، كله تمام
ابتسم طه ابتسامة خفيفة وهو يقول بإيجاز: -على بركة الله!
تحرك بعدها منذر إلى خارج الوكالة، ثم لوح بذراعه مناديًا أحد الأشخاص قائلًا بنبرة آمرة:
-تعالى يا بني
ركض ناحيته أحد العمال قائلًا بنبرة ممتثلة: -ايوه يا ريس منذر.

وضع منذر يده على كتفه، ومال عليه برأسه متابعًا بصرامة: -عاوزك تتأكد إن في حد من تبعنا عند دكان خورشيد
نظر له العامل بغرابة وهو يرد مشيرًا بيده: -ما هو في واحد مبيت هناك قصاده
ضغط بقبضته على كتفه وهو يؤكد بحزم: -لأ يبقى معاه حد تاني، سامع!
أومأ العامل برأسه قائلًا: -ماشي يا ريس
رفع منذر قبضته عنه ولوح له بذراعه متابعًا: -يالا اتوكل انت!
-أؤمرنا يا ريس.

تابعه بأنظاره حتى تلاشى من أمامه، ثم تنهد بعمق محدثًا نفسه بقلق ملحوظ: -ربنا يستر ومايحصلش حاجة وانا مش موجود!
كانت كالجالسة على فراش من الجمرات، ظلت تتقلب على الجانبين لاعنة كل شيء من حولها.
دار ببالها فكرة شيطانية، ترددت في تنفيذها، لكنها السبيل للتقرب إليه أكثر، بل ربما تجعلها تحوز على مكانة مميزة في قلب والدته.
هي تسعى للتقارب معه، وإصلاح ما أفسدته بحديثها العابث.

زفرت بنفاذ صبر، وظلت على حالتها المزعوجة تلك حتى ولجت إليها أختها ورمقتها بنظرات حادة دون أن تتحدث معها.
حدجتها نيرمين بشراسة وهي تسألها بعصبية: -ايه مالك؟ لاوية بوزك عليا ليه؟
التفتت بسمة ناحيتها، وكتفت ساعديها محدجة إياها بنظرات حانقة، ثم ردت قائلة بازدراء:
-انتي أكيد مش طيبعية!
تمتمت نيرمين من بين شفتيها بصوت خفيض: -وهبقى طبيعية ازاي وأنا متنيلة في القرف ده كل يوم!

تجاهلتها بسمة، وأرخت ساعديها لتتجه نحو خزانة الملابس.
سألتها نيرمين بفضول وهي تراقب تصرفاتها: -انتي رايحة فين؟
أجابتها الأخيرة بفتور: -عندي شغل!
لمعت عيناها فجأة بوميض عجيب وهي تتساءل باهتمام: -هاتروحي عند خالتي جليلة؟
نظرت لها بسمة من طرف عينها قائلة بنفاذ صبر: -اه، عندي درس!
هبت نيرمين من مكانها مرددة بحماس مريب: -طب استني هاجي معاكي!

قطبت بسمة ما بين حاجبيها باستغراب كبير، وسألتها بتعجب: -تيجي معايا! ليه إن شاء الله؟ تكونيش ناوية تشتغلي مدرسة وأنا معرفش؟!
زفرت نيرمين في وجهها قائلة بحدة: -يووه، مالكيش فيه، أنا جاية معاكي وخلاص!
رمقتها بنظرات مزعوجة وهي تحدث نفسها بضجر: -هو أنا نقصاكي!
تحرك بسيارته في اتجاه الطريق الرئيسي لتبدأ سفرته نحو محافظة بورسعيد حيث الشحنة الواردة بالميناء.

ظل باله مشغولًا بما يمكن أن يحدث في غيابه من تجاوزات مسيئة من قبل مجد. وبقي على اتصال مستمر برجاله المرابطين أمام الدكان وكذلك بالمحال الجديدة ليتأكد من عدم وجوده.
أخفض سرعة السيارة تدريجيًا ليتوقف عند أحد محطات الوقود، وقبل أن يلج إليها أتاه اتصالًا أخرًا لم يتوقعه.
رد عليه قائلًا بتلهف: -ايوه يا باشا
هتف الضابط بنبرة جادة: -ازيك يا منذر؟
أجابه الأخير بدون تردد: -بخير الحمدلله!

تابع الضابط قائلًا بتفاخر: -شوف يا سيدي، عشان تعرف غلاوتك عندي، أنا حققت في موضوع السرقة بتاع قريبتك ده، ومسكنا اللي سرقها، وهي اعترفت بده
تهللت أسارير منذر، وهتف غير مصدق: -بجد؟ طب حصل ازاي؟

أجابه الضابط بتريث: -التحريات أثبتت إن في عاملة باللوكاندة اسمها زهرة سابت شغلها بعد يومين، البت دي فقيرة ومستواها مش أد كده، ولما رجالتنا دوروا وراها لاقوا إن أثر النعمة بان عليها بسرعة، ودي حاجة غريبة، وطبعًا ده دورنا كشرطة نعرف أصل وفصل الحكاية بالظبط!
هتف منذر مهللًا بحماس: -الله عليك يا باشا، أنا مش عارف أقول ايه والله!

رد عليه الضابط بهدوء: -ماتقولش حاجة، هات قريبتك وتعالى القسم عشان نكمل الإجراءات وتستلم فلوسها!
ارتبك منذر من جملته الأخيرة، وضغط على شفتيه بقوة، فهو لا يرغب في إبراز دوره في إظهار الحقيقة وإحضار نقودها المسروقة. لذا أردف قائلًا بحذر:
-طب معلش يا باشا هاتقل عليك في حاجة أخيرة
رد عليه الضابط بجدية: -قول يا منذر.

تنحنح الأخير بخشونة مرددًا: -إن مكانش فيها إزعاج تبعتولها عسكري باستدعاء رسمي يبلغها بإنكم لاقيتوا فلوسها، وبلاش أظهر أنا في الصورة
-ليه؟
ابتلع ريقه وهو يجيبه بتمهل: -يعني مش عاوز أحرجها وكده، هو الموضوع ده كان خدمة عشانها، ومش حابب إنها تعرف!
رد عليه الضابط بهدوء: -ماشي يا سيدي، عشان خاطرك بس!
هتف منذر ممتنًا لتلبيته لطلبه دون جدال: -ربنا يكرمك يا باشا، نقفلك في أي حاجة تعوزها!

أضاف الضابط قائلًا بهدوء: -وماله، سلام!
رد عليه الأخير بتنهيدة ارتياح: -مع ألف سلامة!
أخرج منذر زفيرًا عميقًا من صدره دفعة واحدة، ثم وضع يده على رأسه ماسحًا إياها عدة مرات بحركات متتالية.
أخفض يده، ثم فرك بها وجهه، وتلفت حوله بنظرات عامة قبل أن يثبت أنظاره على نقطة ما بالفراغ.
تجمدت تعابيره نوعًا ما، وردد لنفسه بعبوس خفيف: -أخيرًا. يا ريت بس تحسي بظلمك ليا..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة