قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والأربعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والأربعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والأربعون

استقبلتهما بألفتها المعهودة وعلى ثغرها ابتسامة عريضة.
دعتهما للدخول في غرفة الضيوف أولًا ريثما يستعد الصغيران لتلقي الدرس.
كانت ملامح بسمة متجهمة إلى حد ما، فقد استاءت من حضور أختها معها وملازمتها إياها خلال عملها دون أن تعرف السبب الحقيقي وراء تلك الزيارة.

وتعمدت نيرمين أن تأتي معها لغرض ما في نفسها، وأحضرت كذلك رضيعتها لتثير شغف جليلة إلى الصغار، خاصة أنها قرأت في عينيها رغبة مُلحة في الحصول على حفيد جديد لعائلة حرب.
يكفيها تلك النظرات الموحية والكلمات المتوارية لتزرع في نفسها الشك حول تأكيد تلك الرغبة.
ولما لا تعطي لنفسها الفرصة للتقرب أكثر إليها وقد أوشكت عدتها الشرعية على الانتهاء؟ فربما بطريقة ما تلفت أنظارها إليها.

قطعت بسمة الصمت السائد مستطردة حديثها بتبرم: -مش فاهمة انتي صممتي تجي ليه معايا
ردت عليها نيرمين ببرود وهي تهز كتفيها في عدم مبالاة: -مالكيش فيه
ثم أدارت جسدها للجانب لتقع عيناها على صورة عائلية لعائلة حرب. وبالطبع التقطتت نظراتها شخصه المهيب.
أخرجت من صدرها تنهيدة حارة فتعجبت بسمة من طريقتها.
دققت النظر فيما هي محدقة به بنظراتها الغريبة، وتساءلت بفضول: -متنحة في الصورة ليه.

أجابتها بلا وعي: -طول عمره راجل
سألته بحيرة: -مين ده؟
أجابتها نيرمين بتنهيدة مطولة: -سي منذر، شايفة واقف ازاي
ارتابت بسمة من طريقتها الغريبة في الحديث بتلك الهيئة، ورددت بتهكم: -ماله يعني، عادي!
ردت عليها نيرمين بإنزعاج: -ايش فهمك انتي في الرجالة
نظرت لها بسمة باندهاش أعجب، وتمتمت مستنكرة: -واحدة زيك المفروض تكون كارهة الصنف كله بعد اللي شافته في جوازتها الأولى.

عبس وجه نيرمين بشدة، وردت بسخط جلي: -هي دي كانت جوازة أصلًا، متفكرنيش!
بررت لها بسمة سبب اندهاشها قائلة: -ماهو عشان كده أنا مستغربة بصاتك ليه هو بالذات!
حدقت فيها نيرمين بنظرات ثابتة وهي تقول: -لأنه غير أي حد!
هزت بسمة رأسها للجانبين مانعة ضحكة ساخرة من الخروج من بين شفتيها، وهتفت مازحة: -لأحسن تكوني بتفكري تتجوزيه و آآ..

وضعت نيرمين يدها على فمها لتمنعها من إتمام حديثها، ورمقتها بنظرات حادة هامسة بتحذير شديد اللهجة:
-ششش. وطي صوتك، أمه تسمعك!
أزاحت بسمة كف يدها عنها مستغربة تصرفاتها المبالغة فيها.
استغرقها الأمر عدة لحظات لتتأكد أن أختها تتحدث بجدية تامة، فارتفع حاجباها للأعلى غير مصدقة نيتها المبيتة مسبقًا.
شحب لون بشرتها قليلًا وردت بصوت خفيض: -انتي بتكلمي جد؟ أنا بأقولك ده بهزار!

همست نيرمين بتوجس: -هزار أو جد ده موضوع يخصني! سامعة، وبطلي كلام بقى فيه.
نظرت لها شزرًا وهي تعقب باقتضاب: -انتي حرة! بس أنا بأحذرك إنه مش كل الهزار بيقلب بجد، وساعتها هتتسكي على دماغك وآآ..
قاطعتها نيرمين قائلة بازدراء: -بدل ما تحذريني شوفي نفسك الأول!
احتدت نظرات بسمة نحوها وهي ترد بغضب: -أشوف نفسي؟ ليه هو أنا زيك؟

تقوس فم نيرمين للجانب مشكلة ابتسامة تهكمية ساخطة، ثم رمقتها بنظرات حادة وهي توضح مقصدها بنبرة لاذعة:
-هه، انتي واحدة أنانية مش بتحبي إلا نفسك وبس، عايشة عشان مصالحك الخاصة، ومش مهم أي حد إلا انتي!
فغرت بسمة شفتيها مرددة بذهول مستنكر: -أنا؟
أومأت نيرمين بالإيجاب قائلة بفظاظة: -اه انتي، بصي لنفسك في المراية وشوفي طريقتك مع الناس وهتلاقي كلامي صح، انتي بس اللي عملالي فيها مُصلحة اجتماعية وآآآ..

قطمت عبارتها حينما لمحت طيف شخص ما يدنو من الخارج.
ظلت تعابير وجه بسمة مصدومة من حديث أختها الجارح. لقد تجاوزت حد المقبول معها.
ربما هي صارحتها بما تظنه عيوبًا بها، وقد تكون مصيبة في أغلبها، لكن هذا لا يُعطيها الحق لأن تكون فجة في حديثها، وتناست أنها تحمل أكثر منها في قلبها حقدًا وغلًا نحو الجميع.

بصعوبة بالغة كتمت غيظها في نفسها، وجاهدت لتبدو طبيعية في تصرفاتها لكن ذلك لا يمنع أنها باتت تضمر ناحيتها شيء ما.
عادت جليلة مرة أخرى للغرفة حاملة بيديها صينية مليئة بالمشروبات والحلوى، فنهضت نيرمين على الفور من على الأريكة لتساعدها قائلة برقة مصطنعة:
-عنك يا خالتي، مالوش لازمة التعب ده، هو احنا أغراب؟
ردت عليها جليلة بلطف: -دي حاجة بسيطة يا بنتي!

ضجرت بسمة من تصرفات أختها المصطنعة خاصة بعد أن كشفت نيتها الغريبة، فنهضت من مكانها متساءلة بجمود مريب:
-هي أروى جاهزة عشان أبدأ معاها الدرس؟
هزت جليلة رأسها نافية: -لأ، البت نايمة وهاصحيها، بس يحيى صاحي، خلصي معاه الأول، تكون أروى جهزت
حركت بسمة رأسها بالإيجاب قائلة بإيجاز: -ماشي!
أشارت لها بيدها وهي تصطحبها للخارج: -تعالي في أوضته!
ثم لمحت كلتاهما الصغير وهو يقفز بمرح مقتربًا منهما.

ابتسمت جليلة قائلة بحماس: -أهوو بنفسه جاي يستقبلك!
احتضن الصغير معلمته من خصرها بحب صادق نابع من قلبه هاتفًا بمرح: -مس بسمة!
مسحت الأخيرة على ظهره برفق مرددة بهدوء: -حبيبي يا يحيى!
تراجع الصغير بظهره للخلف متابعًا بسعادة: -أنا مخلص مذاكرة كلها، وحفظت كل حاجة وآآ..
قاطعته بسمة بابتسامة ودودة: -خلاص يا حبيبي، أنا هسألك عن كل حاجة جوا في الأوضة!
هز رأسه بإيماءات متتالية وهو يقول: -اوكي يا مس بسمة!

ثم حاوطت إياه من كتفيه وسارت معه بإتجاه غرفته الخاصة ليشرعا في استذكار الدروس.
تأكدت نيرمين من ابتعاد أختها لتبدأ هي الأخرى في تنفيذ خطتها الدنيئة. اقتربت من جليلة، وابتسمت لها قائلة:
-تسلم ايدك، الحاجة طعمها حلو
ردت عليها جليلة بابتسامة عريضة وهي تمسح على ذراعها: -بالهنا والشفا يا بنتي!
عمدت نيرمين إلى تسبيل نظراتها والرمش بجفنيها لعدة مرات لتظهر نفسها بالشابة المتحرجة وهي تقول:.

-خالتي معلش ممكن أطلب منك حاجة
ارتسمت علامات الجدية على تعابير وجه جليلة وسألتها باهتمام: -خير يا نيرمين؟
ادعت التوتر والارتباك وهي تقول بتعلثم: -آآ. أنا. آآ. يعني محرجة أقول كده وآآ.
هتفت فيها جليلة بقلق: -اتكلمي على طول ماتتكسفيش! في ايه؟
تنحنحت بصوت خفيض قائلة بخجل: -احنا لما كنا بايتين عندكم بنتي رنا كانت لابسة الحلق الحمصة بتاعها، والحلق ده هدية غالية أوي من أمي!

ثبتت جليلة أنظارها عليها متابعة بجدية: -أها، وبعدين!
استأنفت نيرمين حديثها بصوت خفيض يوحي بالتردد: -فلما رجعنا بيتنا، وجيت أغيرلها هدومها ملاقتش إلا البريمة شابكة في ودانها، فجايز يعني آآ. يكون. يكون وقع هنا في حتة كده ولا كده
قطبت جليلة جبينها مرددة باندهاش: -هنا فين؟ مافيش حاجة يا بنتي، ولو كنت لاقيت حاجة زي كده أكيد كنت هسأل وأعرف!

تابعت نيرمين قائلة بمكر وقد برقت عيناها بذلك الوميض الشيطاني: -عارفة يا خالتي، بس آآ. لو مافيهاش حرج يعني آآ. ممكن آآ. أدور في أوضة سي منذر، جايز يكون وقع تحت السرير ولا حاجة
حركت جليلة رأسها بإيماءة موافقة وهي ترد: -وماله، منذر أصلًا مش موجود دلوقتي، فتعالي دوري براحتك، وربنا يعترك فيه!
التوى ثغرها بابتسامة ماجنة: -كتر خيرك يا خالتي، والله ما في زيك أبدًا.

تحركت معها للخارج تاركة رضيعتها بغرفة الضيوف، لكنها توقفت عمدًا لتقول بضيق مصطنع وهي تضع يدها على جبينها:
-يووه، كنت هانسى رنا، دماغي مش فيا، أما أشيلها بدل ما تصحى وتعيط وتعمل دوشة وآآ..
قاطعتها جليلة قائلة بحنو: -لا خليها معايا لحد ما تخلصي!
ردت عليها بعبوس زائف: -مايصحش، كده أنا بأتعبك معايا يا خالتي
ابتسمت جليلة مرددة بحنو أمومي غريزي: -وهو ده اسمه تعب، ده الأطفال أحباب الله!

تنهدت نيرمين بصوت مسموع قائلة عن عمد: -اه والله، ربنا يعوض على سي منذر بالخلف الصالح يا رب زي دياب أخوه!
نجحت بكلماتها المنتقاة بعناية في إثارة مشاعر الضيق بداخلها، هي تعلم أهمية ذلك الموضوع بالنسبة لها، ومدى حساسيته، لذا ببراعة جراح ماهر ضغطت على الجرح دون أن تترك أثرًا.
ردت عليها جليلة بحزن واضح في نبرتها: -ايوه ادعيله يا بنتي ربنا يكرمه.

أضافت نيرمين بحياء مصطنع: -هو يستاهل والله كل خير، بس لسه وقته مجاش يا خالتي، ما انتي عارفة بقى!
لمعت عيناي جليلة تأثرًا وهي تردد برجاء: -ياما نفسي أشيل عوضه بإيديا
ضاقت نظرات الأخيرة لتصبح أشد غموضًا وهي ترد بحذر: -هايحصل يا خالتي، انتي بس دوريله على عروسة حلوة تليق بيه!
أشارت جليلة بكف يدها قائلة بامتعاض: -على الحلاوة في كتير، بس أنا في دماغي حاجة معينة!

بدت نيرمين مهتمة بمعرفة ما تفكر فيه، فسألتها بمكر واعٍ: -حاجة ايه دي يا خالتي!
رمشت بعينيها متحاشية الرد عليها، فقد عاهدت ابنها ألا تبوح بما تفكر فيه، خاصة وأنها المعنية بحديثها ذلك.
ومع ذلك لأنها كانت على سجيتها الطيبة، فلم تتخذ حذرها جيدًا، ونجحت نيرمين بطريقتها الماكرة في استدراجها في فخها، وإجبارها على كشف مكنون أسرارها.

بهدوء شديد غمزت لها هامسة بدهاء: -فضفضي معايا أنا بردك زي بنتك وجايز أفيدك! يا عالم، ده بيقولوا يوضع سره في أضعف خلقه!
استسلمت جليلة لإلحاحها البارع، وخالفت عهدها.
هتفت ناطقة وكأنها تريح إزاحة ذلك الثقل عن صدرها: -مخبيش عليكي، ومن غير حرج أنا بأدور لابني على واحدة تكون بتخلف، هو تعب مع المرحومة مراته، فضلوا سنين دايخين مع الدكاترة عشان يخلفوا، ومكانش في فايدة!

تراقصت نبضات قلب نيرمين طربًا لسماعها ذلك الكلام وكأنها تعزف به معزوفة فريدة على أوتار قلبها.
تنهدت جليلة متابعة بحزن محبط: -والعمر بيجري منه، وأنا خايفة أجيبله عروسة بنت بنوت تطلع مابتخلفش ونكرر الغلب ده تاني معاه!
برقت عيني نيرمين بوميض مثير بعد تأكد حدسها أن والدته تميل إلى البحث عن عروس بمواصفات معينة أغلبها تنطبق عليها.

أفاقت من شرودها السريع، وعمدت إلى رسم ملامح الجدية على محياها وهي تقول مدعمة إياها في الرأي:
-عندك حق يا خالتي، والتحاليل المضروبة بتاعة الجواز مش بتبين حاجة، يعني ممكن واحدة كده ولا كده تعجبه بس تطلع معيوبة ومش بتخلف!
هزت جليلة رأسها قائلة بتوجس: -مظبوط، وده اللي مخوفني!
التوى ثغرها بابتسامة لئيمة وهي تضيف: -اطمني إن شاء الله ربنا هيعوض صبرك خير.

ربتت جليلة على ظهرها مرددة بود: -يا رب أمين، ويكرمك يا ضنايا، انتي بردك لسه صغيرة وحلوة وفي ألف يتمنوكي!
تعمدت نيرمين العبوس بوجهها وهي تضيف بإحباط زائف: -لا خلاص، أنا خدت حظي من الدنيا، وهاعيش عشان بنتي وبس، هي الحاجة الحلوة اللي طلعت بيها!
عقدت جليلة ما بين حاجبيها هاتفة باستنكار: -لا متقوليش، وقريب ان شاء الله هاتسمعي اللي يبشرك
ابتسمت لها نيرمين بحياء: -يا رب أمين.

وضعت جليلة يدها على ذراعها لتدفعها برفق للأمام قائلة: -خشي انتي دوري على الحلق، وأنا هاقعد مع الكتكوتة
زادت ابتسامتها الصفراء اتساعًا وهي تقول: -ربنا يباركلي فيكي يا خالتي!
ثم تحركت بخطوات متمهلة نحو غرفة منذر لتنفذ الجزء الأخر من خطتها الشيطانية.
انتبهت إلى صوت تلك الدقات المتواصلة على باب منزلها، فنهضت بتثاقل من فراشها لتتجه نحوه وتفتحه.

تفاجأت بذلك الشرطي الذي يسد عليها الباب بزيه الرسمي، فانقبض قلبها إلى حد ما، وهتفت متوجسة وهي محدقة به:
-خير يا شاويش في حاجة؟
أجابها الشرطي بنبرة جادة دون أن تهتز عضلة واحدة من وجهه: -ده منزل المدعوة أسيف رياض خورشيد
ابتلعت عواطف ريقها بتوتر فور سماعها لاسم ابنة أخيها الراحل، وسألته بنزق: -اه ده بيتها! هي. هي عملت حاجة؟
أجابها الشرطي بجمود غير مريح: -معرفش، ده استدعاء ليها للبيه المأمور في القسم.

لطمت على صدرها مرردة بفزع: -استدعا! يا ساتر يارب
هتف فيها بصرامة وهو يوميء برأسه: -يالا يا ست ناديلها
تابعت بنبرة مرتعدة: -حاضر يا بني، هاقولها ونحصلك على هناك!
-أوام طيب
-ماشي يا شاويش!
أنهت معه الحوار متجهة بخطوات سريعة في اتجاه الغرفة الماكثة بها أسيف لتبلغها بذلك الأمر العاجل. والأهم من هذا كله أنها لن تتركها تذهب بمفردها، ستصطحبها إلى المخفر.

ولجت إلى داخل الغرفة وهي تسيطر بصعوبة بالغة على سعادتها الغامرة.
لم تتوقع أن تكون جليلة إلى ذلك الحد ساذجة في تصرفاتها وفي تصديقها لادعاءاتها.
أخذت نفسًا عميقًا لتضبط انفعالاتها قبل أن تفعل شيئًا متهورًا يُحسب عليها.
أوصدت الباب خلفها، والتفتت بجسدها لتتأمل الغرفة من حولها بنظرات عامة شمولية وعلى ثغرها ابتسامة عريضة لم تمانع في إخفائها، تجولت ببطء متعمد في أرجائها ممتعة عيناها بكل ما يخصه.

اقتربت من خزانة ملابسه، وفتحت إحدى ضلفه لتتلمس ثيابه الخاصة بأناملها. قربت أحد قمصانه من أنفها لتستنشق رائحته قبل أن تعيده إلى مكانه. ثم عبثت بالرفوف مدققة النظر في أشيائه الخاصة.
لمعت عيناها بوميض أشد لمعانًا وهي تتجه نحو الكومود لتفتش بداخل أدراجه.
وجدت صورة فوتغرافية صغيرة له، فحدقت بها بتمني ثم فكرت في سرقتها، وبالفعل لم تعارض الفكرة، نفذتها فورًا، وطوتها بيدها، ودستها داخل ثيابها.

وضعت نيرمين يدها على طرف ذقنها تحكه قليلًا وهي تفكر في الخطوة التالية من خطتها.
تذكرت أنها لم تخرج بعد القرط الذهبي من جيبها، فأدخلت يدها بالفعل فيه وأخرجته لتلقيه خلف أحد أركان الفراش.
جاءت للجزء الهام من مخططها الدنيء، ألا وهو إفساد العلاقة الودية مع أسيف.
كانت تدس في جيبها النسائي منشفة ورقية طوت بداخلها ورقة ما مطوية بطريقة مريبة. التوى ثغرها بابتسامة مقلقة وهي تحشرها بداخل المرتبة السفلية.

تعمدت نيرمين أن تصنع ما يشبه ال ( حجاب ) والمعروف بالمناطق الشعبية لتدعي بالباطل على أسيف أنها تمارس أمور الدجل والشعوذة على منذر لتفسد حاله. ولأن جليلة على فطرتها فستصدق فورًا تلك الأكاذيب.
تأكدت من إتمام كل شيء، ثم صرخت مهللة لتثير الريبة: -إلحقي يا خالتي!
ركضت ناحية الباب وفتحته متابعة صراخها المرتفع: -تعالي شوفي لاقيت ايه وأنا بأدور على حلق بنتي!

توجست جليلة خيفة من صوتها المرتفع، وهرولت نحوها حاملة الرضيعة متساءلة بقلق: -في ايه يا نيرمين؟ ايه اللي حصل؟
جذبتها الأخيرة من ذراعها بعد أن تناولت منها رضيعتها مرددة بخوف زائف: -شوفتي لاقيت ايه تحت مرتبة سي منذر!
قفز قلب جليلة في قدميها خوفًا مما ستراه وهي تلج لغرفة ابنها البكري.
توترت أنفاسها وهي تحدق في فراشه حيث أشارت لها نيرمين.
تجمدت أنظارها على تلك الورقة الداكنة اللون المحشورة بالزاوية.

شهقت مصدومة وهي تقول: -يا نصيبتي ايه ده؟
ردت عليها بصوت مرتجف وهي تضم رضيعتها إلى صدرها: -باين عليه عمل!
شهقت جليلة مرددة بارتعاد: -عمل؟ وده جه ازاي هنا؟
صاحت بها نيرمين فجأة لتفزعها أكثر: -اوعي تلمسيه بايدك يا خالتي، لاحسن يأذيكي!
أبعدت جليلة كفيها إلى جوارها، وتساءلت بصدمة: -ومين حطه أصلًا، ده مافيش حد غريب بيدخل هنا!
ردت عليها نيرمين بغموض مقلق: -أكيد مش غريب يا خالتي!

بحثت جليلة بعينيها عن قطعة قماش لتستخدمها في الإمساك بذلك الحجاب، وتمتمت من بين شفتيها بحنق:
-طب مين ابن ال، ده؟ هو ابني ناقص أعمال!
ردت عليها نيرمين بمكر لئيم: -يا خالتي الناس كلها بتحسده وحاطة عينهم عليه، ده غير إن اللي حط العمل ده أكيد واحدة مش واحد!
ضاقت نظرات جليلة نحوها، ورددت قائلة: -واحدة!
حركت نيرمين رأسها بالإيجاب مؤكدة: -ايوه، واحدة بتشاغله ومخلياه مش على طبيعته!

انفرجت شفتاها في تعجب أكبر، وارتفع حاجباها للأعلى وهي تصغي إلى ما تلقيه على مسامعه
تابعت نيرمين قائلة بنبرة أصابتها أكثر بالريبة والخوف: -شوفي مين بقى يا خالتي هاتعمل ده فيه!
لوحت جليلة بيدها في الهواء هاتفة باستنكار: -بس إزاي، ده. ده مافيش حد دخل أوضته خالص، وحتى الشغالين أنا ببقى واقفة على ايديهم وهما بينضفوا، يبقى مين حطهوله هنا!

دنت منها نيرمين، وثبتت أنظارها المظلمة عليها وهي تضيف بخبث: -انتي ناسية يا خالتي انا احنا كنا بايتين عندكم، وكان معانا بنت خالي، وهي جاية من بلد كده معروف عنها بالسحر والأعمال!
تراجعت جليلة بجسدها للخلف شاهقة بصدمة واضحة.
لم تصدق ما قالته، وهتفت معترضة وهي ترمش بعينيها: -بتقولي ايه؟ ايه الكلام الغريب ده؟ مش معقول!

هزت نيرمين رأسها بحركة مؤكدة لتثير ذرعها أكثر: -لأ يا خالتي صدقي، اوعي يخش عليكي محنها ولا السهوكة اللي هيا فيها، وبعدين ماهي الوحيدة اللي باتت هنا مع أمي! انتي ناسية يا خالتي ولا ايه؟
ثم أخفضت نبرة صوتها متعمدة أن تشير إلى قلة حيلة أمها وهي تكمل بأسف: -وأمي ست راقدة وغلبانة مالهاش لا في التور ولا في الطحين! وانتي عارفها بقالك سنين، مابتعرفش حتى تأذي فرخة!

اتسعت حدقتاها برعب واضح من عباراتها المخيفة، وارتجفت نبرتها وهي تردد: -يا نصيبتي! انتي بتكلمي جد بقى!
أجابتها نيرمين بصوت خفيض: -أنا مش بأهزر يا خالتي، أومال أنا واخدة منها جنب ليه؟
دنت منها أكثر لتؤجج من حالة الرعب لديها وهي تضيف بهمس كبير: -بيني وبينك كده بس الكلام ده مايطلعش لحد، أنا شوفتها وهي بتعمل حاجات كده استغفر الله العظيم تلبش الجتة!

ارتعاشة دبت في جسدها من كلماتها تلك، وهتفت مفزوعة: -أعوذو بالله من الشيطان الرجيم!
تنهدت نيرمين مضيفة بضيق حقيقي: -تخيلي دي ساحرة لأمي، مش بتصدق حاجة عليها خالص حتى لو عملت ايه، وكل حاجة تقولها عليها تقول أمين كأنه قرآن منزل!

كانت صادقة في وصفها، لم تكن بحاجة للإدعاء أو التأليف، فهي ترى بأم عينها علاقة والدتها بها. وكيف أنها تدافع عنها وتبرر لها كل شيء على الرغم من كون ابنة خالها لا تفتعل المشاجرات أو غيرها.
شعرت جليلة بجفاف حلقها، فحاولت بله بريقها المرير، ثم هتفت بنبرة مترددة: -يا ساتر، انتي خوفتيني منها يا نيرمين!

تابعت الأخيرة مؤكدة بلؤم: -انتي بس شوفي حد بيفهم في الحاجات دي ويفك العمل المربوط، جايز يكون هو اللي واقف حاله!
للحظة فكرت جليلة أنها ربما تكون مخطئة في اتهام أسيف، وبررت قائلة: -بس ازاي؟ وأنا ابني أصلًا مش راضي يتجوز من قبل ما يشوفها، يعني آآ..

قاطعتها نيرمين بجدية لتنفض عن عقلها أي نزعة للشك: -يا خالتي ركزي لو هو عاوز يتجوز، العمل المهبب ده يمنعه يفكر في الجواز والعيال، ويزغلل عينيه، ويسحره ويخليه يركز في آ، آآ..
عمدت إلى إظهار إرتباكها وترددها في إتمام جملتها للنهاية لتثير فضولها أكثر، وبالطبع حققت مبتغاها، فسألتها جليلة بتلهف:
-في ايه؟
أجابتها بهدوء مقلق: -في صاحبة العمل ده!
فغرت ثغرها هاتفة بهلع: -هاه، كمان!

أشارت نيرمين بكف يدها مكملة بصوتها الجاد: -أنا وعيتك يا خالتي، وإنتي حرة!
ثم أخفضت عيناها للأسفل لتصيح مهللة بفرح غريب: -الله، الحلق بتاع بنتي أهوو. الحمدلله يا رب!
انحنت لتلتقطه من ذلك الركن، وتابعت بتحذير: -بس شوفتي لولا ترتيب ربنا وضياع الحلق مكوناش عرفنا بالبلوى السودة دي!
ازدردت جليلة ريقها قائلة: -اه والله!
تحركت بعدها نيرمين في اتجاه الباب وهي تقول: -هاستنى برا أنا، عن اذنك.

ظلت جليلة متسمرة في مكانها لعدة لحظات مُعيدة في ذهنها ما حدث أمامها من كشف لذلك الحجاب المزعوم مرددة لنفسها بخوف بائن:
-سحر وأعمال! هو انت ناقص يا منذر!
لم تصدق عيناها حينما وقعت على محضر استلام أموالها المسروقة في مخفر الشرطة، واستمعت بإصغاء تام لما قاله الضابط هناك عن ملابسات الكشف عن اللص الحقيقي وكيفية القبض عليه.
كانت صدمتها حينما عرفت أنها إحدى العاملات بالفندق.

نظرت لها عمتها بنظرات تحمل اللوم لتسرعها في إتهام منذر بتلك التهمة الباطلة، وكانت محقة في هذا.
ولذلك عاتبت أسيف نفسها على تصرفها الأهوج دون التأكد من صحتته ببراهين مثبتة.
وها هي براءته قد ثبتت للجميع.
خرجت الاثنتان من المخفر تسيران بخطوات متهادية نحو منطقتهما الشعبية.
التفتت عواطف برأسها نحوها، وظلت تراقب صمتها الهاديء، ثم قطعته مستطردة حديثها بعتاب لطيف:
-مش المفروض نعتذر للي غلطنا فيه يا بنتي؟

تحرجت أسيف من جملتها، وتوردت وجنتاها خجلًا، ولم تعقب.
استمرت عمتها في تحفيزها على إصلاح خطئها قائلة: -مش عيب يا بنتي نتأسف لما نغلط، ده حقه علينا، صح ولا أنا غلطانة؟
هزت هي رأسها بإيماءة صغيرة دون أن تنبس بكلمة.
ارتسم على ثغر عواطف ابتسامة ارتياح لتقبلها لنصيحتها، وضمتها من كتفيها قائلة بإمتنان:
-ربنا يباركلي فيكي يا بنتي!

غيرت كلتاهما وجهتهما الحالية لتتجها نحو وكالة عائلة حرب، والتي كانت على مسافة قريبة.
في نفس التوقيت، وصل المحامي الخاص بالعائلة إلى الوكالة. جاب بعينيه سريعًا مكتب منذر فلم يجده. فنفخ بضجر، ثم هاتفه ليسأل عنه، فوجد أن هاتفه خارج نطاق التغطية.
اقترب منه أحد رجالة مرددًا: -أيوه يا أستاذ!
رد عليه المحامي بتساؤل جاد: -فين الأستاذ منذر؟ أنا دورت عليه جوا مش موجود، وبأطلبه مش بيرد.

أجابه الرجل بهدوء وهو يفسر بيده: -ده سافر من بدري يا حضرت الأفوكاتو!
عقد ما بين حاجبيه مرددًا باستغراب: -سافر، وجاي امتى؟
هز الرجل كتفيه في عدم معرفة وهو يقول: -على حسب ما يخلص اللي وراه في الميناء
وضع المحامي يده على رأسه ممررًا إياها بين خصلات شعره وهو يتابع بتذمر: -يا ربي، وأنا كنت عاوز أسلمه بقية فلوس الدكان! هاعمل ايه دلوقتي
سأله الرجل باهتمام: -تؤمرنا بحاجة؟
هز رأسه نافيًا: -لأ خلاص، متشكر.

-العفو.
بقي المحامي بالمكتب يرتب أوراقه، ويراجع ما لديه من ملفات بنظرات سريعة قبل أن يستعد للرحيل.
وصلت عواطف إلى الوكالة باحثة هي الأخرى عن منذر، وإشرأبت بعنقها لتراه، لكنها لم تجده بالداخل، فاقتربت من نفس الرجل الذي كان يُحادث المحامي قبل لحظات متساءلة:
-بأقولك يا بني سي منذر موجود؟
رد عليها نافيًا بهدوء: -لا والله يا ست عواطف، ده مسافر.

تعجبت عواطف من إجابته مرددة بصدمة خفيفة: -اييه؟ مسافر! خلاص نجيله وقت تاني!
لمحها المحامي من الداخل، فأسرع في خطواته ليلحق بها هاتفًا بنبرة عالية ليجذب انتباهها:
-حاجة عواطف!
التفتت برأسها نحوه متمتمة بهدوء: -ايوه!
التقط أنفاسه متابعًا بابتسامة عريضة: -بنت حلال والله، أنا كنت لسه هاجيلك
تبادلت هي نظرات حائرة مع ابنة أخيها وهي تتساءل بقلق: -خير في حاجة؟

أجابها المحامي بصوت جاد موضحًا بيده: -اه الأستاذ منذر مبلغني أسلمك باقي الأمانة
قطبت جبينها مرددة: -أمانة!
فسر مقصده محافظًا على نفس ابتسامته: -حقك في بيع نصيبك من الدكان!
انزعجت أسيف من تذكرها لتلك المسألة التي نغصت عليها سكونها، ولم ترغب في متابعة الحوار بينهما، لذا بتأدب واضح في نبرتها اعتذرت لعمتها قائلة:
-طب يا عمتي أنا. أنا هاتمشى شوية كده هنا لحد ما تخلصي ونتقابل عند الدكان بتاعي!

فطنت عواطف لضيقها من تلك المسألة، وضغطت على شفتيها قائلة بحذر: -ماتخليكي معايا، ده آآ..
قاطعتها أسيف بإصرار وهي تتحرك مبتعدة عنها: -لا معلش، بلاش!
فهمت عدم رغبتها في التواجد كي لا تثير ضيقها أكثر، فاستسلمت لرغبتها مرددة: -طيب يا بنتي! اللي يريحك!

عبست أسيف بوجهها وهي تسير مبتعدة عن الوكالة، أحزنها تخلي عمتها عنه بسهولة في تلك الظروف العصيبة، ودت لو تريث في قرار بيعها وأمهلتها الفرصة لتشتريه هي منها، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
فكرت بإجهاد في طريقة تستعيد بها ملكية دكانها بالكامل.
بالطبع لن يكون الأمر باليسير خاصة مع شراء منذر لحصة عمتها بمبلغ ضخم، وما معها حاليًا من أموال لا يكفي لسداد ما دفعه واسترداده.

تعبت من كثرة التفكير، ولم تشعر بقدميها وهما تسوقاها إلى الزقاق الجانبي المؤدي لورشة النجارة المملوكة للحاج زقزوق.
توقفت عن السير متلفتة حولها. ثم تنهدت بتعب، ولكن أضاء ذهنها فجأة بشي ما أصابها بحماس كبير.
هي فكرت في الاستعانة بالصبي حسن الذي يعمل بالورشة ليعاونها في توضيب الدكان وإزالة ما به من مخلفات متهالكة.
بدت الفكرة جيدة إلى حد ما، وقررت أن تشرع في تنفيذها، خاصة أن باستطاعتها الآن دفع أجرته.

أسرعت في خطاها نحو الورشة، ووقفت عند عتبتها متساءلة بحرج: -لو سمحتوا، ممكن أكلم حسن!
نظر إليها العاملون بالورشة باستغراب، وأجابها أحدهم بجدية: -برا مع الحاج زقزوق في مصلحة، ولو مستعجلة امشي هو احتمال يتأخر!
ابتسمت بتكلف وهي ترد: -طيب متشكرة!

استدارت بجسدها مستعدة للرحيل، لكنها فكرت في ترك رسالة للصبي حتى يتواصل معها عندما يعود من عمله الخارجي، فهتفت قائلة بهدوء موجهة حديثها لذلك الشاب الذي أجابها قبل ثوانٍ معدودة:
-طب ممكن بس أما يجي تقوله صاحبة دكان خورشيد عاوزاه في شغل
رد عليها الشاب بجدية: -ماشي يا ست!

تحركت بعدها في اتجاه الدكان وهي ترسم في مخيلتها عدة تصورات حماسية لما يمكن أن تفعله كي تستثمر أموالها في مشروع مربح يعود عليها بالنفع من خلاله.
ألقى بإصبعيه سيجارته المنتهية بعد أن لفظ منها أخر دخان يمكن أن ينبعث منها، ثم تحرك في اتجاه المحال الجديدة.
فقد أصبحت هذه المسألة شاغله الشاغل مؤخرًا، فهي الذريعة التي سيقضي بها على غريمه منذر.

لم ينكر إعجابه بفكرة إنشاء مطعم للمأكولات البحرية في المنطقة، ولكن ما لم يرضيه هو نسبة الربح حينما اطلع على العقود. شعر بالاستغلال وبتحكم عائلة حرب في كل شيء.
انتصب مجد في مشيته وهو يدب بقدميه على الأرضية الإسفلتية.
أدار رأسه للجانب ليحدق في أوجه المارة بنظرات مشمئزة، وغمغم مع نفسه بازدراء: -وشوش تقطع الخميرة من البيت!

حرك رأسه للأمام فوقعت عيناه مصادفة على إحداهن، تلك التي تتهادى في خطواتها المنظمة.
ثبت نظراته الحادة عليها، نعم هو عرف هويتها، فوجهها مألوفٌ له.
ضاقت نظراته المخيفة نحوها، وتقوس فمه بإلتواءة مريبة مرددًا لنفسه بنبرة ليست مريحة مُطلقًا:
-هه، وأخيرًا..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة