قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والعشرون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والعشرون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والعشرون

اتجهت عاملة نظافة الغرف الملتحقة بالعمل في ذلك الفندق إلى موظفة الاستقبال لتحصل منها على إذن رسمي يسمح لها بالدخول إلى الغرف الغير مشغولة لتنظيفها كما هو معتاد، وخصوصاً غرفة ما بعينها.
أشارت لها الموظفة بعينيها متساءلة بنبرة عملية: -انتي متأكدة؟
أجابتها العاملة مؤكدة: -ايوه حضرتك، هما بقالهم يومين مش موجودين، والأوضة محتاجة تتروق، والملايات تتغير، وآآ.

قاطعتها الموظفة بجدية: -اوكي اعملي شغلك وروقيها، وأنا هاشوف مع المدير هانتصرف معاهم ازاي
أومأت العاملة برأسها مرددة بهدوء: -ماشي، عن اذنك
-اتفضلي
انصرفت بعدها العاملة لتسحب عربة التنظيف الخاصة بها، واتجهت نحو المصعد لتواصل عملها في تنظيف الغرف بالطوابق العليا.
بعد برهة، وصلت إلى الغرفة المنشودة.
فتحتها بإستخدام النسخة الإلكترونية الاحتياطية التي بحوزتها، وولجت إلى الداخل.

كان كل شيء كما تُرك منذ أكثر من يومين، فبدأت هي في تنظيم وترتيب الشراشف، ثم غيرت المناشف القطنية بأخرى جديدة.
لفت أنظارها الحقائب المفتوحة، فعمدت إلى إلقاء نظرة سريعة على محتوياتهم قبل أن تغلقهم. ولكن وقعت أنظارها على كيس بلاستيكي داكن.
دفعها فضولها لإختلاس النظر إلى ما به. وبالفعل فتحته بحذر شديد.
اتسعت حدقتيها في إندهاش عجيب، وسيطر على حواسها رغبة طامعة، لقد كان الكيس يحتوي على أموال كثيرة.

ازدردت العاملة ريقها بتوتر كبير، وحدثت نفسها قائلة: -كل الفلوس دي معاهم! تيجي ازاي وهما شكلهم كُحيتي!
عضت على شفتها السفلى، وبرقت عيناها بوميض غريب. سريعاً ما اتسعت ابتسامتها الخبيثة لتحدث نفسها بطمع:
-مش هيجرى حاجة لو أنا خدت الفلوس دي، ولا من شاف ولا من دري!
هزت رأسها نافية محاولة إقناع عقلها بالعكس: -لالالا، أنا ممكن أتمسك وأروح في داهية لو اتعرف إني أخدتهم!

لعب شيطان رأسها بها، ووسوس لها أن تأخذ ما لا تستحقه.
بدا الطمع جلياً على نظراتها إلى تلك النقود، وفي الأخير استسلمت لإغرائه، وسحبت كيس النقود بالكامل، وأفرغت ما به، ثم دسته في عربة التنظيف بعد أن لفت الأموال بملاءة متسخة حتى لا تلفت الأنظار إليها.
أسرعت بإتمام عملها وهي تتصبب عرقاً من فرط التفكير في طريقة تمكنها من إخراج النقود من الفندق دون أن تثير الشبهات أو الريبة حولها.

تعمدت ترك الحقائب كما هي حتى لا يظن أي شخص أنه تم التلاعب بها، ووضعت بالكيس البلاستيكي إحدى قطع الثياب المتسخة ليبدو حجمها طبيعياً.
تنفست العاملة بعمق لتضبط إنفعالاتها قبل أن تخرج من الغرفة ويفتضح أمرها. ثم أسرعت بمواصلة تنظيف بقية الغرف وهي تمني نفسها بتحقيق أحلامها بأموال غيرها.
بقي منذر بالصالة جالساً بإسترخاء على الأريكة مترقباً وصول أبيه للحديث معه.

بالطبع لم يسلم من غمزات ولمزات والدته المنزعجة من تهوره بإحضار تلك الغريبة إلى منزلهم محطماً كل القواعد والتقاليد والأصول التي تربوا عليها.
طلب منها بهدوء وهو يطالعها بنظرات حادة: -طُلي عليها يا أماه
ردت عليه بإكفهرار بائن: -عاوزني اعملها ايه؟
مال للأمام بجسده، وتجمدت أنظاره عليها، ثم أجابها وهو يضغط على شفتيه بضيق: -اكسبي فيها ثواب، دي غلبانة ويتيمة!

لوت فمها للجانبين بحركة مستنكرة وهي تضيف بضجر: -لا حول ولا قوة إلا بالله، أمري لله! أما نشوف هترسى على ايه في الأخر!
لم يقل المزيد، وأعاد ظهره للخلف وهو يحدث نفسه بحيرة: -محدش عارف ايه اللي جاي!
كان يتناول الطعام بفتور غير مهتم بما يدور حوله من ثرثرات فارغة، فقد كان باله مشغولاً بالتأكد من ذلك الخبر الخطير.
جاءته البشرى من أحد جواسيسه الذين جلسوا إلى جواره، وانحنى عليه برأسه ليهمس له:.

-طلع الكلام صح يا كبير
توقف مجد عن ابتلاع الطعام، والتفت ناحيته بوجهه الصارم ليسأله بإقتضاب: -اتأكدت؟
هز المسجون رأسه بالإيجاب قائلاً بحماس خفي وهو يجاهد لإخفاض نبرة صوته: -ايوه، اسمك طلع في الكشوفات، وقريب أوي هتخرج من هنا يا معلمنا
انفرجت شفتي مجد لتبرز أسنانه الصفراء من خلفها، وربت على كتف جاسوسه بإعجاب، ثم استدار عائداً برأسه ليحدق أمامه بنظرات مظلمة.

أردف قائلاً بغموض مخيف: -وأنا مستني اليوم ده من زمان أوي عشان أصفي حساباتي القديمة كلها!
تحركت جليلة بخطى ثقيلة نحو غرفة ابنتها أروى لتتفقد أحوال تلك الغريبة النائمة على سريرها.
اقتربت من الفراش وهي تتفرس في شحوبها الحزين، وسكونها المقلق. دققت أكثر النظر في ملامحها البسيطة، فلاحظت جمالها البسيط، وضعت إصبعيها على طرف ذقنها، وتمتمت مع نفسها بإمتعاض وهي تمصمص شفتيها:
-صحيح شكلك حلو بس حظك وحش!

جلست على طرف الفراش إلى جوارها، ومدت يدها لتمسح على وجنتها الباردة برفق.
رأت تلك العبرات العالقة بأهدابها فأشفقت عليها نوعاً ما. فهي لا تزال شابة صغيرة، ملامحها تشير إلى ضعفها، وخذلان الحياة معها، ربما هي لم تكن سوى تعيسة حظ عاندتها المقادير وألقتها في أصعب الطرق وأقساها.
أزاحت الغطاء عنها قليلاً لتجد ثوبها مهدلاً شبه ممزق، ومتسخ. فتبدلت تعابيرها للضيق والتأفف.

همست لنفسها بعزم: -انا هاشوفلك جلابية عندي كده ولا قميص بيت طويل بدل الهدوم دي، مش هاتفضلي نايمة بيهم!
وبالفعل اتجهت إلى غرفتها لتسحب من خزانة ملابسها إحدى عباءاتها المنزلية لتعيرها لتلك اليتيمة.
انتقت عباءة ملائمة لها، ثم أغلقت الضلفة.
توقفت في مكانها تفكر في شيء أخر، وهمست بحسم: -ايوه، أما أعمل كده، هي بردك محتاجة شوية نضافة!

راقب منذر والدته وهي تتحرك بغموض في أرجاء المنزل تحضر بعض الأشياء دون أن تصرح بأي شيء.
أراد أن يستفسر منها عما تفعله ولكنه خشي أن يزعجها أو يثنيها عما تفعل خاصة حينما رأها تلج لغرفة أروى أكثر من مرة.
عادت جليلة للغرفة ومعها صحن مليء بالمياه الساخنة ومنشفة قطنية صغيرة لتستخدمها في تنظيف وجه أسيف وكفيها.

عمدت أولاً إلى نزع ثوبها عنها، فرأت ما بذراعها من خدوش وأثار جروح سطحية، فعبس وجهها، وهزت رأسها هاتفة بإستنكار:
-ده مين المفتري اللي عمل فيكي كده! معندوش قلب ولا رحمة!
نظفت جروحها بلطف، وأزاحت حجاب رأسها عنها.
وبرفق شديد ألبستها عباءتها المنزلية ولفت حول رأسها ما يشبه عُصابة الرأس.
راعت جليلة أن تكون الألوان داكنة مراعاة لشعورها الحزين بفقدان أمها.

وما إن انتهت حتى أعادت تغطيتها، ثم خرجت من الغرفة وهي تنفخ بإنهاك.
أقبل عليها منذر متساءلاً بفضول: -ايه اللي أخرك جوا يامه؟
أجابته بنبرة متعبة: -مش عقبال ما غيرتلها ونضفتلها وشها وايديها وجسمها
هز رأسه بحرج، وأخفضت نظراته نوعاً ما وهو يفرك رأسه بكفه، بينما تابعت هي بسجيتها:
-البت يا نضري مافيهاش نفس تتحرك أصلاً، ده غير ما شكلها هفتان وسوفيفة ولا فيها شحم ولا آآ..

قاطعها قائلاً بصوت شبه متحشرج: -مافيش داعي يامه للتفاصيل دي!
هتفت والدتها قائلة بإشفاق: -أنا بأفكر أعملها شوربة خضار ولا فراخ حاجة تتقوت بيها كده
ابتسم منذر لتبدل حال والدته من الضيق إلى الرفق واللين، وهتف مشجعاً إياها: -وماله، اللي يطلع من ذمتك أنا راضي بيه!
تعجبت هي من ابتسامته الغريبة، وهتفت مستنكرة عفويته: -ليك نفس تضحك؟!
تجمدت تعابير وجهه، ورد عليها متذمراً: -هو أنا عملت حاجة!

نظرت إليه بقلق وهي تجيبه معللة: -الخوف من اللي جاي يا بني، محدش بيسيب حد في حاله!
أخذ نفساً عميقاً، وزفره دفعة واحدة ليجيبها بتبرم: -أنا عارف ده كويس، وإن شاء الله خير
-يا رب
في نفس الأثناء فتح الحاج طه باب منزله ليلج سريعاً للداخل وهو يتساءل بإهتمام:
-ها يا بني؟ عملتوا ايه؟
ردت عليه جليلة بعتاب جاد وهي تتحرك صوبه: -مش تقول الأول سلامو عليكم يا حاج.

أشار لها طه بعكازه قائلاً بصوت شبه لاهث: -معلش يا جليلة عقلي مش فيا دلوقتي!
نظرت إليه وإلى ابنها البكري بنظرات ذات مغزى وهي ترد بغموض مريب: -ايوه، ماهو باين عليك انت وابنك!
لم يفهم أحدهما المقصود من نظراتها تلك لذلك لم يعطياها أي اهتمام.
تساءل طه مجدداً بجدية: -البت جوا؟
أجابه منذر بصوت آجش محركاً رأسه بالإيجاب: -اه يا حاج، وأمي عملت معاها الواجب!

أشار له والده محذراً بسبابته: -مش لازم تفضل هنا كتير، كده غلط
رد عليه منذر بتفهم: -ما أنا عارف يا حاج الأصول كويس!
ثم قست نبرته وهو يكمل: -بس كنت هاتصرف إزاي وقريبها الحيوان ده مستقوي عليها وآآ..
قاطعه أباه قائلاً بتوجس: -ده موال لوحده، احنا محتاجين نفكر هنتعامل معاه ازاي، اللي زي الناس دي مش سهل يسيبوا حقهم
-عندك حق.

استأنف طه حديثه بصرامة أشد وهو يشير بعينيه: -قَبَلة ( الأول ) بس كلم عمتها تيجي هنا، لازم تعرف ان بنت أخوها عندنا!
هز رأسه قائلاً بإيجاز: -ماشي!
فتح دياب باب المنزل قائلاً بصوت مرتفع: -سلامو عليكم!
استدار الاثنان نحوه متعجبين من وجوده في ذلك التوقيت.
تساءل طه بنزق: -دياب! خير يا ابني؟ رجعت بدري ليه؟ في حاجة حصلت؟

أجابه ابنه بفتور وهو يهز كتفيه: -عادي يعني، أنا قولت أريح شوية وأشوف الواد يحيى، هو في حاجة؟
أجابه طه بتجهم كبير: -اه في!
قطب دياب جبينه متساءلاً بإهتمام قليل: -خير
جلس على القهوة الشعبية المقابلة لذلك الفندق المتواضع ووجهه ينذر بما لا يحمد عقباه.

فقد تمت إهانته والتحقير من شأنه وكأنه نكرة بسبب ذلك الغريب الذي انتزع أسيف من بين يديه كما لو كانت صيداً سهلاً. أخذ الأمر على عاتقه واعتبرها مسألة كرامة ورد اعتبار.
أسند العامل بالقهوة قدح الشاي الساخن، وإلى جواره الأرجيلة، ثم اعتدل في وقفته متساءلاً بنبرة عملية:
-تؤمر بحاجة تانية يا شيخنا؟
نظر له الحاج فتحي شزراً وهو يجيبه بإزدراء: -لأ!

هز العامل رأسه بإيماءة واضحة وهو يتحرك مبتعداً صائحاً بنبرة مرتفعة: -ايوه جاي!
تأمل الحاج فتحي أوجه المارة بنظرات فاترة، فتفكيره منصب حالياً على أمر واحد وهام. ولن يحدْ عنه أبداً مهما كلفه الأمر.

أخرج من جيبه ورقة صغيرة مطوية، وحدق فيها بنظرات مطولة، فقد دَوَّن فيها عنوان المنطقة الشعبية القاطنة بها عمة أسيف المزعومة، والذي استطاع الحصول عليه من استعلامات المشفى التي أعطته بيانات الجهة التي وفدت منها سيارة الإسعاف.
لمعت أسنانه بشراسة وهو يسب قائلاً: -كلها شوية وهتعرف قيمتك يا..!
كلف الحاج طه ابنه دياب بالذهاب فوراً إلى منزل عواطف ليبلغها بوجود ابنة أخيها بمنزلهم ويحضرها معه.

قبل الأخير بالمهمة على مضض، ولكن ليس أمامه خيار أخر، فأخاه منذر تولى مهمة استدعاء طبيب العائلة للكشف على أسيف لتفقد صحتها، كما وجب عليه البقاء بالمنزل تحسباً لوقوع أي طاريء فيتصرف على الفور.
تحرك دياب بسيارته في اتجاه البناية القاطنة بها عواطف، وصف السيارة بالأسفل، ثم اتجه صاعداً للأعلى.
لم ينكر أنه فكر للحظات في بسمة، والسؤال عن أحوالها، لكنه نفض الفكرة سريعاً عن رأسه واكتفى بتنفيذ أمر والده.

-حاضر، جاية أهوو
هتفت بها عواطف بصوت مرتفع وهي تسحب حجاب رأسها المنزلي لتلقيه على رأسها لتتجه بعدها إلى باب منزلها.
فتحته فوجدت دياب واقفاً على عتبته، أمسكت طرفي حجابها بيد واحدة، وابتسمت بتكلف وهي تقول:
-أهلاً بيك يا سي دياب! اتفضل!
أشار لها بكفه قائلاً بجدية: -متشكر، بس أنا عاوزك في موضوع مهم
استنكرت وقوفه على عتبتها قائلة بعتاب: -من على الباب كده، مايصحش أبداً
رد عليها بإقتضاب: -معلش.

ثم شدد من نبرته وهو يقول: -من غير ما أضيع وقت، الموضوع يخص بنت أخوكي!
شهقت قائلة بخوف وهي تضرب على صدرها: -مين؟ أسيف!
أومأ برأسه قائلاً بثبات: -ايوه، فيا ريت تلبسي وتيجي معايا!
هتفت متساءلة بتوجس وهي تبتلع ريقها: -البت حصلها حاجة؟
هز رأسه نافياً مجيباً إياها بغموض: -لأ، بس هي عندنا!
خفق قلبها من عبارته، واتسعت حدقتيها في ذهول، ثم رددت بنزق: -عندكم فين؟!

أجابها بهدوء حذر بعد أن لاحظ تبدل تعابير وجهها للخوف: -هافهمك في السكة!
هزت رأسها بإيماءات متتالية وهي تردد بتخوف: -حاضر يا ابني، اديني بس 5 دقايق ألبس فيهم
-ماشي، وأنا هستناكي تحت!
قال تلك العبارة وانصرف بعدها تاركاً إياها في حالة تخبط وحيرة.
تساءلت مع نفسها بعدم فهم وهي مسرعة في خطواتها: -ايه اللي ودا بنت أخويا عندهم؟ سترك يا رب.

ارتطمت دون وعي بإبنتها التي تعجبت من حالة الصدمة البادية عليها، وسألتها بفضول:
-خير يا ماما؟ في حاجة؟
دفعتها من كتفها لتمرق لداخل غرفتها قائلة بإرتياب: -رايحة أشوف المصيبة اللي حلت علينا
زاد فضول نيرمين لمعرفة التفاصيل عقب تلك العبارة الغامضة، وتبعت والدتها مرددة بتساؤل:
-مصيبة ايه دي؟
فتحت ضلفة الخزانة لتجذب أقرب عباءة طالتها يدها، وأجابتها بحدة: -معرفش، محدش يكلمني السعادي!

تقوس فم نيرمين بضجر بسبب رد والدتها الفظ، وهتفت قائلة: -الله! مش أفهم طيب في ايه
دفعتها أمها مجدداً من كتفها قائلة بتبرم: -وسعي يا نيرمين!
ظلت أنظار ابنتها معلقة بها والفضول يأكلها لتفهم طبيعة الأمر.
التفتت عواطف برأسها نحوها لتأمرها بجدية وهي تشير بسبابتها: -خدي بالك من أختك لحد ما أرجع تاني! سامعة
لحقت بها نيرمين متساءلة بإستغراب: -طب أفهم انتي لابسة كده ليه ورايحة فين بالظبط؟

لوحت لها بذراعها وهي تقول: -بعدين. بعدين!
هرولت عواطف في اتجاه الباب وصفقته خلفها بقوة، بينما توقفت نيرمين في الصالة مرددة بسخط:
-جرالها ايه؟!
أبلغ الطبيب الحاج طه بالحالة النفسية السيئة لأسيف، ونصحه بضرورة المتابعة مع طبيب متخصص خلال الأيام التالية ريثما يكتمل شفاؤها على خير.
شكره الأخير، وأعطاه أجره قائلاً بإقتضاب: -ربنا يسهل
ثم التفت لإبنه منذر وتابع بصوت آمر: -وصله يا ابني.

رد عليه منذر بعبوس: -حاضر!
تأكدت جليلة من انصراف الطبيب لتخرج إلى زوجها من غرفتها متساءلة بنبرة مهتمة: -قال ايه الضاكتور؟
أجابها بتجهم: -البت حالتها ماتسرش!
ردت عليه قائلة بإشفاق: -ماهو باين عليها!
ثم أخفضت نبرتها لتتساءل بجدية أكبر: -وهنعمل ايه معاها؟ مايصحش تفضل هنا والبيت في عُزاب وآآ..
قاطعها طه قائلاً بتجهم وقد قست تعابير وجهه: -عارف يا جليلة من غير ماتقولي، وأديني بأتصرف بالأصول.

أشارت بحاجبيها قائلة بإرتياح: -وماله يا حاج، الأصول ما تزعلش حد!
لاحقاً،
سرد منذر من جانبه ما دار بالمشفى وما تبعه من تطور للأحداث ومشادات كلامية حادة وبوادر اعتداءات عنيفة من قبل من يدعى الحاج فتحي على ابنه أخيها، فتفهمت عواطف الدوافع التي دعته للتصرف بتلك الطريقة الجادة معها.
بكت متأثرة لعجزها عن فعل أي شيء لها، وهتفت قائلة بصوت مختنق: -كتر خيرك يا سي منذر.

ثم جابت بأنظارها وجوههم متابعة: -والله أنا ما عارفة من غيركم كان ممكن يحصلها ايه
رد عليها طه بجدية وهو يرمقها بنظرات صارمة: -مش وقت شكرانية والكلام ده، احنا عندنا مشكلة مع قريبها، وواضح كده إن مخه جزمة!
أضافت عواطف قائلة بنبرة بائسة: -أنا معرفوش الصراحة!
رد عليها منذر بتهكم: -هي معرفة ماتسرش!
أسندت جليلة صينية المشروبات الباردة مرحبة بالضيفة وهي تقول بود: -مدي ايدك يا عواطف وبلي ريقك.

ردت عليها وهي تنتحب بصوت متحشرج: -هو الواحد ليه نفس لحاجة بعد اللي سمعته!
ربتت جليلة على كتفها مواسية إياها: -معلش ياختي، ربنا يصبرك ويعينك، إنتي بردك عمتها وفي مقام أمها، وبنتك في الحفظ والصون عندنا!
هزت رأسها لتضيف مجاملة: -اكيد، ما هو ده بيتها!
لم تعلق جليلة بالمزيد واكتفت بما قالته.
تساءل منذر بصوت قاتم وقد ضاقت نظراته: -المهم هانعمل ايه في دفنة أمها؟
نظرت إليه بحيرة مرددة: -أمها.

علل دياب قائلاً بهدوء: -بإعتبارك المسئولة دلوقتي عنها!
صمتت لتفكر فيما صرح به الاثنين من حقائق غير قابلة للشك.
هي بالفعل عمتها الوحيدة، وتعد بدرجة كبيرة من لها الحق في التصرف في الأمور العالقة وتقرير مصير ابنة أخيها الغير واعية.
تبادل الجميع نظرات حائرة، فسكوت عواطف لا يبشر بخير على الإطلاق.
وفجأة هتفت عواطف بنزق وهي تجفف عبراتها بكف يدها: -هتدفن هنا، في التُربة بتاعتنا!

ضيق طه عينيه ليردد بإندهاش: -تربتكم!
هزت رأسها بالإيجاب مؤكدة: -ايوه، و إكرام الميت دفنه!
ضغط طه على شفتيه قائلاً بحذر: -صح، ده المفروض يتم! بس آآ..
قاطعته قائلة بحزن: -أنا فاهمة اللي انت عاوز تقوله يا حاج طه، بس محدش ليه ملك في روحه، كله عند اللي خلقه دلوقتي!

استصعب الجميع مسألة دفن حنان في المقابر التابعة لعائلة عواطف، وخاصة أنها تتحدث بالتحديد عن مقبرة والدتها عزيزة، تلك التي كانت بينها وبين زوجها خورشيد وابنه رياض عداوات ثأرية وصلت للقتل.
استشعرت عواطف حرجهم من اقتراحها، لكنه الأمن بل الأسلم حالياً لتضمن سلامة أسيف في الوقت الراهن.
هتفت هي قائلة بإصرار: -ده اللي هايمشي، وأنا مسئولة عن كده
رد عليها منذر بحسم: -طالما انتي شايفة كده فاعتبريه حصل!

أضاف طه مدعماً إياها: -ماشي يا عواطف، انتي عمتها وليكي كلمتك بردك!
تدخل دياب في الحوار قائلاً بعزم: -وأنا هاتفق مع الفراشة وهخليهم ينصبوا الصوان عند بيتك!
تشكل على ثغرها ابتسامة باهتة بعد موقفهم الرجولي معها، وشكرتهم ممتنة: -ربنا يباركلكم يا رب ويجازيكم خير، وما يوريكم حاجة وحشة أبداً
ردت عليها جليلة مجاملة: -هو احنا عملنا حاجة يا حبيبتي، ده كلنا أخوات ولازماً نقف جمب بعض!

ردت عليها عواطف ببكاء خفيف: -الناس الجدعة مش بتبان غير وقت الشدة، وأنتو ولاد أصول والجدعنة والشهامة في دمكم
وافقتها جليلة في رأيها وهي تنظر إلى زوجها وابنيها بتفاخر: -اه والله، تسلمي يا عواطف!
ترددت عواطف للحظة في طرح سؤالها، ثم استعادت ثباتها الزائف لتقول بإرتباك ملحوظ:
-هو. هو أنا ممكن أشوف بنت أخويا؟
ردت عليها جليلة بتلهف: -اه طبعاً، هو انتي محتاجة تستأذني!

أضاف طه قائلاً بترحاب: -اتفضلي يا عواطف، ده بيتك
ابتلعت ريقها وهي تقول: -متشكرة، بس آآ. آآ. عاوزة أخدها معايا البيت
وافقها طه في رأيها قائلاً بجدية وهو يوميء بعينيه: -حقك، انتي عمتها، والصح تفضل في بيتك انتي
لم يعقب أي أحد على كلمته الأخيرة، فقد كان صائباً في رأيه من وجهة نظرهم، والأفضل أن يتم الالتزام بماهو معروف ومتبع.

توقفت حافلتي أجرة من الحجم المتوسط أمام القهوة الشعبية ليترجل منها عدد من الرجال ذوي الأعمار السنية المختلفة، لكن أغلبهم من كبار السن.
ابتسم الحاج طه لنفسه بتفاخر، ثم أخفى بسمته ليحل بديلاً عنها التجهم، وصاح مهللاً:
-حمدلله على السلامة!
دنا منه أحدهم ليرد بنبرة شديدة الجدية: -الله يسلمك يا حاج فتحي!
صافحه الأخير بود كبير، استطرد الحاج اسماعيل حديثه قائلاً بصرامة وهو يرمقه بنظرات لا تبشر بخير:.

-قولنا فين مكانها يا حاج فتحي!
رد عليه الأخير بعبوس: -أنا معايا العنوان، جبته من استعلامات المشتشفا
ضيق الحاج اسماعيل من نظراته لتصبح أكثر شراسة، وهتف قائلاً بإصرار مخيف: -كويس، واحنا مش ماشيين إلا وبنت رياض معانا..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة