قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والستون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والستون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والستون

أظلمت نظراته واشتدت قتامتها حينما رأى غريمه يقف قبالته يطالعه بغرور مقزز.
أشعل حنقه نحوه أكثر بطريقته في استعراض قوته الزائفة، فبادله نظرات نارية مهددة بإحراقه حيًا إن تجرأ وأساء التصرف هنا.
أردف مجد قائلًا ببرود مستفز: -هدي أعضائك يا بونسب!
ثم مد يده ليضعها على كتف منذر لكن أمسك به الأخير من رسغه قبل أن تطاله أنامله القذرة ليبعدها عنها بنفور واضح على محياه، ثم رد بغل يحمل الصرامة:.

-مافيش نسب مع الأشكال اللي زيك!
قست نظرات مجد، لكنه ضبط أعصابه كي يثير انفعالات خصمه، فرد عليه ببساطة فجة: -ده أنا بأعملك قيمة يا بن طه!
هتف فيه منذر بصوت متصلب وهو يرمقه بتلك النظرات الدونية: -قيمتي عارفها كويس، الدور والباقي على ال، زيك!
أغاظه سبابه النابي، فرد عليه من بين أسنانه بنبرة عدوانية: -متخلنيش أعمل الدنيئة معاك هنا، ومش هايفرق معايا احنا في مستشفى ولا لأ!

التوى ثغر منذر للجانب ليبتسم مستخفًا من تهديده الفارغ، ثم رد عليه بثقة جادة متعمدًا رمقه بنظرات احتقارية:
-وحياتك ولا أنا، بالعكس المشرحة ناقصة واحد!
قبض مجد على باقة الورد فاعتصر فروعها بأصابعه فتحطم أغلبها، لكنها عاد ليرخيها حينما رأى الصيدلانية فاطمة.
وقعت عيناها عليه فارتبكت من رؤيته المزعجة.
صاح هاتفًا بطريقة محرجة وهو يفتح ذراعيه في الهواء: -أهلا بالضكترة كلها!

تسمرت في مكانها، ثم حانت منها نظرة خاطفة لمنذر وكأنها تستجديه قبل أن تستجمع نفسها وتهمس بتردد:
-عن. عن اذنكم!
سد مجد عليها الطريق بجسده محدجًا إياها بنظرات عدائية مقلقة.
استشعرت هي تهديده الخفي رغم صمته، لكن عيناه عكست نواياه السيئة.
جف حلقها تقريبًا، وأحست بتلك الرجفة تتسرب إلى أوصالها.
حدث مجد نفسه بوعيد مخيف وهو يطالعها بنظراته الشرسة: -يا ويلك معايا لو كنتي خالفتي أوامري!

ابتلعت فاطمة ريقها بتوتر ملحوظ، فقد رأت الشرر المتطاير من حدقتيه المخيفتين، ثم تحركت للجانب لتتمكن من الفرار من أمامه مرددة لنفسها بخوف:
-ربنا يستر!
أسرعت في خطاها وهي تدعو الله في نفسها أن ينجيها من شر ذلك المقيت، فهي لا تضمن ما يمكن أن يحدث لها إن وقعت في براثنه.
مرر مجد أنظاره على الجالسين بالمقاعد، فرأها منزوية مع نفسها.
برقت عيناه بوميض خبيث، وزادت ابتسامته المقززة اتساعًا.

لم يترك لنفسه أي فرصة للتفكير، بل صاح بنزق: -ده الحبايب كلهم متجمعين هنا!
اغتاظ منذر من أسلوبه المستفز في التصرف بوقاحة، وعدم احترام خصوصية تلك النوعية من الأماكن. فاعترض طريقه مهددًا بصوت قاسٍ:
-امشي من هنا أحسنلك!
دفعه مجد من كتفه بقوة قائلًا بتحدٍ: -ليه بس؟ ده حتى عيادة المريض واجبة!
أكمل خطاه في اتجاه عواطف وابنة أخيها التي بدت مصدومة لرؤيته.

اتسعت حدقتيها بخوف بائن، وتسارعت دقات قلبها لمجرد حضوره أمامها. كما تبدل لون بشرتها للحمرة المزعوجة، وانكمشت في جلستها رهبةً منه.
لم يغب عن بالها وقاحته، ولا خسته الفجة.
اقتحم عقلها عشرات المشاهد التي بدت كالومضات الخاطفة، فزاد قلقها منه.
وما أكمل مشهد فزعها منه تردد تحذيرات فاطمة لها في عقلها.
نهضت عواطف من مكانها لتستقبله، وشكلت دون وعي بجسدها حاجزًا أمامه لتمنعه من رؤيتها.

هتف مجد مبتسمًا بسخافة: -سلامو عليكم يا حاجة!
ردت عليه عواطف بحذر: -وعليكم السلام، شرفت يا معلم مجد!
تابع قائلًا بجفاء بعد أن تلاشت ابتسامته: -ألف سلامة على الأبلة، احنا بردك مخلصناش نعرف باللي جرى ومانقومش بالواجب!
ثم مد يده بباقة الورد مكملًا: -ده عشان الأبلة!
ابتسمت له عواطف مجاملة وهي تشكره: -كتر خيرك!

مال مجد برأسه للجانب ليحدق في أسيف بنظرات جريئة وهو يقول بنبرة فجة: -ازيك يا حلوة؟ مش تسلمي عليا، ده أنا حتى ضيفك!
ضغطت هي على أصابع كفيها بعصبية، ثم نهضت من مكانها قائلة بتردد: -أنا. أنا طالعة عند بسمة!
ضاقت نظراته حتى باتت أكثر حدة وهو يعاتبها بوجوم: -الله الله، هو اذا حضرت الشياطين!
قبض منذر على كتف غريمه بأصابعه الغليظة، ورد عليه بسخط متعمدًا الاستهزاء منه: -كويس إنك عارف نفسك!

تنفست أسيف الصعداء لوجود منذر هنا، فبعد ما عرفته عن جرائم ذلك الوقح باتت تخشى أن يجمعهما مكان واحد.
أفزعها صوته وهو يقول بجمود: -طب حيس كده بقى أنا آآ..
رفعت عيناها لتنظر إليه وهو يتابع بمكر عابث: -أنا جاي معاكي يا عسل أطل على العيانة!
انخلع قلبها في صدرها من تصريحه المخيف هذا، فعجزت عن الرد عليه.
هتف منذر مشدوهًا من جرأته الزائدة: -نعم!

رد عليه مجد بوقاحة عنيدة متعمدًا السخرية منه: -ابقى سلك ودانك عشان تسمعني!
استشاطت عيني منذر على الأخير، وبرزتا من محجريهما، فلو كانت النظرات تقتل لأودت بحياة غريمه توًا.
شعر بأن نيرانه تآكله من داخله لمجرد الحديث مع دنيء مثله، كما أن سماحه له بالتطاول عليه دون ردعه يستنفذ صبره بسرعة.
نظر له مجد ببرود وهو يبتسم قاصدًا استفزازه أكثر.

لم يتحمل منذر أكثر من هذا، فقبض على ذراعه، ثم هدر فيه بصوت متشنج: -وقت الزيارة خلص، اتفضل طرقنا!
أزاح مجد قبضته عنه هاتفًا بتحدٍ جريء: -وده اسمه كلام!
صرخ به منذر مشيرًا بنظراته النارية: -يالا من هنا!
رمقه مجد بنظرات قاتمة، ثم تبسم هاتفًا بنبرة خبيثة: -مش قبل ما أقول الكلمتين اللي عندي ل، آآ.
صمت للحظة ليدير أنظاره نحوها، ثم تشكل على ثغره ابتسامة مراوغة وهو يتابع بنبرة غير مريحة مُطلقًا:.

-للحلوة دي، وعلى انفراد!
انقبض قلبها برعب كبير من جملته المخيفة تلك، كما شحب لون بشرتها بفزع صريح. فشعرت ببرودة مفاجئة تجتاح خلاياها.
ظنت عواطف أن هناك خطب ما فتساءلت بتوتر: -خير يا ابني في ايه؟
تحولت نظرات منذر المظلمة إلى وجهها، فقرأ بوضوح – من خلال ملامحها – ما أشعل فتيل حنقه وأوصله لذروته، فهدر بعصبية جلية وقد تشنجت عضلات جسده بالكامل:
-مش هاسمحلك تقرب حتى منها!

رد عليه بهدوء قاس: -مش انت اللي تقرر يا ابن حرب، سامع!
خشيت أسيف أن يتطور الوضع بينهما لمشاجرة عنيفة فتتسبب برفضها في إحداث فضيحة بالمشفى، وهي في غنى عن هذا الأمر، فهتفت متساءلة بدون تفكير:
-إنت عاوز ايه؟
سلط مجد أنظاره عليها، ثم ابتسم لها بصورة جعلت جسدها يجفل منه.

جف حلقها حتى صار ما بقي من ريقها كالعلقم المر من فرط الخوف، وتسابقت نبضات قلبها كما لو كانت في سبق عَدِوٍ مما زاد من تدفق الدماء في جسدها ومن سرعة أنفاسها اللاهثة.
تحرك بؤبؤيها نحو وجه منذر، فرأت في نظراته ما عنفها بقسوة لمجرد تفكيرها في إتاحة الفرصة له للحديث معها.
هو بالفعل يخشى من تصرفها برعونة في تلك المواقف المهددة لسلامتها.

تراجعت سريعًا عما كانت تنتوي التفكير فيه، وهتفت بتلعثم: -ممكن تقولي عاوز ايه هنا، احنا. احنا مافيش بينا كلام!
اقترب منها قائلًا بإهانة متعمدة وهو يشير بأصابعه: -مش قصاد الواغش!
لكزه منذر بعنف في جانبه صائحًا بجموح: -اتكلم عدل بدل ما أقص لسانك!
التفت مجد برأسه ناحيته، وكتم ألمه من تلك الضربة المباغتة.
تنفس بعمق ليزفر بعدها ما حبسه من هواء داخل صدره ببطء، ثم رد بنبرة باردة متهكمة:.

-هي لا مؤاخذة الكلمة جت فيك!
شرارات الاشتباك بدأت تتراقص أمام عيني عواطف، وأدركت أن بين لحظة وأخرى ستندلع حربًا حامية الوطيس بينهما، لذلك تدخلت في الحوار قائلة بحذر:
-كلمني أنا يا معلم مجد، عاوز ايه من بنت أخويا؟ هي. هي ضايقتك في حاجة؟
رد بهدوء وهو يبتسم بسخافة: -كل خير يا حماتي!
انفرجت شفتاها قائلة بتعجب كبير: -حماتك!
حرك رأسه بالإيجاب وهو يضيف عن قصد: -اه، باعتبار ما سيكون يعني!

ثم غمز لمنذر بعينه اليسرى متابعًا بعبث ماكر: -هو حد ضامن ايه اللي ممكن يحصل بكرة!
ردد منذر بغيظ ظاهر على نبرته زافرًا بصوت مسموع
-أوووف، استغفر الله العظيم يا رب!
هتفت أسيف من الخلف بارتباك كبير: -قول يا أستاذ، حضرتك عاوز تتكلم في ايه؟
رد عليها بعبث خطير: -هانقول الكلام واحنا وافقين، مش ناخد جمب كده!
ارتعد قلبها من مجرد تخيل وجودها معه بمفردها، فانكمشت على نفسها أكثر، فردت بتوتر:.

-من فضلك أنا واقفت أتكلم معاك وآآ..
قاطعها قائًلا بإصرار: -يا حلوة مش هاخطفك، احنا هنقف كده هنا! دول بردك كلمتين يهموكي!
قضت كلماته الأخيرة على أخر شعرة من صبر منذر، فانقض عليه ممسكًا إياه من تلابيبه وهو يصرخ فيه بانفعال جامح:
-تخطف مين يا ابن ال..!
كتمت أسيف بيدها فمها لتمنع شهقتها المصدومة من الخروج نتيجة تلاحمهما سويًا، ناهيك عن السباب اللاذع الذي أنبأ باشتعال مشاجرة عنيفة.

احتقنت نظرات مجد من إهانته أمام المتواجدين، فوضع يده على قبضتي منذر محاولًا انتزاعهما وهو يرد بشراسة:
-الله! لأ كده أنا أزعل، مش شايفني واقف بأتكلم معاها، راجل أنا ولا هفأ عشان أخاف منك!
انتفضت أسيف في مكانها حينما رن هاتفها فجأة.
شعرت أن روحها ستخرج من جوفها لمجرد معايشة تلك التجربة المفزعة من جديد.
وبأيد مرتجفة رفعت الهاتف إلى عينيها لتنظر في اسم المتصل.
تمتمت لنفسها بنبرة مذهولة: -خالي فتحي!

شعرت أن اتصاله ربما يكون نجاة مؤقتة لها من ذلك الموقف المتأزم. فتحركت للخلف قائلة بجدية:
-خالي بيتصل، عن اذنكم!
أبعد مجد قبضتي منذر عنه، لكن لم يتحرك الأخير قيد أنملة من مكانه، وظل يقف بالمرصاد لغريمه.
أولت أسيف الجميع ظهرها، وأجابت بتلهف على اتصاله: -ألوو، سلامو عليكم، أيوه يا خالي!
جاءها صوته قائلًا بتأفف موجز: -وعليكم.

ازدردت ريقها بحرج كبير، ورغم هذا لم تظهر نفوره من حديثه معها، فتابعت قائلة بحماس مصطنع:
-أخبارك ايه؟ وإزي الناس في البلد؟ وآآ..
لم يمهلها الفرصة لمواصلة ثرثرتها الفارغة، فقطع استرسالها مرددًا بغلظة قاسية: -اسمعني يا بنت حنان أنا لا متصل أسلم ولا أسأل عليكي، ولا حتى عشان أرجع حبال الود!
توجست خيفة من اتصاله الغامض، لكنها حافظت على ابتسامتها الباهتة.

صدح صوته القوي في أذنها وهو يكمل بجحود: -اللي بينا اتقطع يا بنت حنان، وانتي السبب فيه، بس هاعمل ايه كنت مضطر أتصل بيكي عشان أبلغك بنفسي باللي حصل لبيت أبوكي
وخزة عنيفة عصفت بقلبها عقب جملته تلك، فشخصت أبصارها بفزع وهي تردد بلا وعي: -بيتنا، ماله؟
أجابها بتشفٍ متعمدٍ: -النار قادت فيه، وبقى كوم تراب!
خفق قلبها بعنف متواصل وهي تهتف غير مصدقة: -لألألأ. انت بتقول ايه!

حدق منذر فيها باستغراب كبير، أدرك من تصرفاتها المبالغة ومن ارتفاع نبرة صوتها المفاجئة أن هناك خطب ما بها.
لم يبدو مجد متأثرًا بها، فنظراته مسلطة فقط – وبتركيز مريض - على جسدها متخيلًا شكل انحناءاتها الطبيعية وهي متجردة مما ترتديه.
وضع يده على مؤخرة رأسه ليحكها عدة مرات متابعًا تخيلاته الغير بريئة عنها.

شعرت أسيف أن قواها خارت فور تلقيها تلك الصدمة العنيفة، فأخر ما كانت تتوقعه هو اشتعال أكثر الأماكن حبًا وغلاوة إلى قلبها.
ذلك المكان الذي عاشت فيه طفولتها، وحفرت في جدرانه المئات، بل عشرات المئات من الذكريات مع عائلتها الراحلة.
هي قضت كل حياتها به، بل لم تتركه إلا مضطرة، وإلا لعادت إليه مسرعة.
نعم هو أخر ما تبقى لها من روحهما الفانية.

كل ركن فيه يضم قطعة من ماضيها العزيز، هو يحمل رائحة اشتاقت لها كثيرًا، فكيف يخبرها ببساطة أنه لم يعد لذلك المكان أي وجود وكأنه بلا قيمة؟
اخترق صوته القاسي شرودها وهو يكمل بجفاء: -يعوض عليكي ربنا، سلام!
انهارت يدها الممسكة بالهاتف للأسفل وهي تهز رأسها مستنكرة: -لأ، محصلش!
تيقن منذر أن وراء تلك المكالمة فاجعة ما، فأسرع ناحيتها ليسألها بخوف: -حصل ايه؟

قطبت عواطف جبينها متمتمة بقلق: -خير يا بنتي؟ مين اللي كان بيتصل؟
دنا منها مجد بخطواته المتمهلة ليفرض نفسه عليها، ثم هتف متساءلًا بفتور: -مالك يا حلوة؟
لم تكن أسيف في وعيها، كانت نظراته شاردة في مكان أخر يبعد عنها بمسافات.
تلاحق في عقلها صور عشوائية لمراحل مختلفة من حياتها معهما فيه، فنهج صدرها باضطراب كبير.
وضع منذر قبضته بحذر على كتفها ليهزها برفق وهو يسألها بخوف: -في ايه؟

نظرت إلى يده على كتفها، فتراجعت خطوة للخلف وهي ترمش بعينيها.
سحب منذر يده للخلف لكنه لم يبعد عيناه المتفرستين عنها، كان يشعر بريبة نظراتها، بشحوب وجهها المقلق.
همست بصوت واهن مصدوم والكلمات تعجز عن الخروج من شفتيها: -ب، بيتنا. بيت بابا. ات. اتحرق!
فهم ما قالته رغم تقطع صوتها، فسألها مهتمًا وهو محدق بها بثبات: -وده حصل ازاي؟

أغمضت عيناها رافضة تصديق ما سمعته، وصرخت فجأة بعصبية: -لأ، كدب، استحالة يكون ولع!
خشي منذر من تكرار نوبة انفعالها، هو اختبرها من قبل، فهتف بحذر: -اهدي. مافيش حاجة!
وضعت يديها على أذنيها مانعة استمرار صدى كلماته المتشفية التي تثيرها بهما، وواصلت صراخها المصدوم:
-لأ. هو بيقول كده عشان يحرق قلبي، بيتنا زي ما هو، ايوه، هو زي ما سيبناه!

رفضت التصديق، أبت الإصاغ، بل نبذت بقسوة الجزن بحقيقة خسارة منزلها للأبد.
سحبتها عواطف من مرفقيها إلى صدرها لتضمها إليها وتحتضنها.
همست لها بتأثر: -شششش! مافيش حاجة إن شاء الله!
حاولت احتوائها قبل تنفجر باكية، فالفاجعة أقسى في كل مرة.
شعرت بثقل جسدها عليها، فهتفت بتوجس: -أسيف، ردي عليا!

انتفض منذر في مكانه حينما رأها متراخية الأطراف في أحضان عمتها، وأيقن أن الصدمة أقوى من قدرتها على استيعابها، فاستسلم جسدها أمام ضربات الحياة الموجعة
هو شعر بعنف معاناتها، فهي تتكبد كل خسارة وأخرى بما لا يترك لها المجال لتفيق أبدًا.
هرول ناحيتها معاونًا عواطف في إسنادها مما جعل مجد يتصلب غيظًا في مكانه.
هدر بصوت مكتوم يحمل الغل: -كده انت جيت عليا!

لم تتركها عواطف، بل ظلت محاوطة إياها بذراعيها، لكن لم يدم الأمر طويلًا، فقد تكفل منذر برفع جسدها عن الأرضية وحملها ليضعها على أقرب مقعد.
جثى على ركبته أمامها، وضرب على وجنتها برفق محاولًا إفاقتها: وقفت عواطف عند رأسها متساءلة بهلع: -بنتي، حصلك ايه بس؟
رد عليها منذر بصوت متشنج: -بس الظاهر الزفت قريبها قالها حاجة زعلتها!
ثم هب واقفًا ليصيح بنبرة مرتفعة: -دكتور بسرعة هنا!

لمحته ممرضة ما، فنظرت إلى حيث يشير بيده، فهزت رأسها بتفهم وهي ترد: -حاضر.!
تفاجأ منذر بقبضة عدوه اللدود تغرز في كتفه لتزيحه جبرًا للخلف. فاستدار ناحيته ليرمقه بنظراته المحتدة.
كز مجد على أسنانه هاتفًا بحنق: -عنك، دي حتى هاتبقى المدام، فميصحش تكون جمبها وأنا موجود!
لوح منذر بذراعه بقوة فأبعد قبضته الموضوعة عليه، ثم هدر فيه مهددًا بعدائية صريحة:.

-لو مغورتش في ثانية من هنا، وعزة جلال الله ما تطلع إلا على المشرحة، وده أخري يا..!
تحداه مجد قائلًا بجموح: -ماشي. إنت قولتها، وأنا هاخليك تنولها!
ثم تراجع بجسده للخلف ليسدد بقبضته المتكورة بعنف لكمة قاسية في وجه منذر الذي تلاقها دون انتباه.
صرخت عواطف مذعورة من اشتباكهما العنيف، فجلست على المقعد تحمي بجسدها ابنة أخيها وهي تتوسلهما باستعطاف:
-الله يكرمكم بلاش!

تلونت أسنان منذر بدمائه، لكنه لم يكترث بها، فثارت ثائرته، وانفجرت حمم بركانه المتأججة، وهجم على غريمه ليضربه بعنف أشد.
وجه إليه لكمات متعاقبة في أنفه وعينه اليسرى، ثم طرحه أرضًا، وجثى فوقه ليكمل اعتدائه الوحشي عليه.
اتسعت ابتسامة مجد المستفزة لتثير من هياج منذر أكثر، فدس أصابعه في فمه محاولًا كسر فكه.
استجمع الأخير كل قوته ليتمكن من دفع منذر للجانب فتحرر منه.

احتاج هو فقط لثوانٍ معدودة كي يستعيد اتزانه، ثم انقض عليه مرة أخرى ليضربه بشراسة في أسفل بطنه.
تأوه مجد صائحًا: -يا ابن ال..!
رد عليه منذر بألفاظ نابية، وهو يوجه له ركلة عنيفة في ركبته أسقطته أرضًا.
واصلت عواطف صراخها المتوسل فتجمع الممرضين ورجال الأمن على إثر صوتها المفزوع.
تفاجئوا بالتشابك الدائر بينهما فتدخلوا لإبعادهما عن بعض.

وبصعوبة بالغة تم فصلهما، واقتيادهما إلى غرفة الأمن الملحقة بالمشفى للتعامل معهما.
حضرت ممرضة ما ومعها الطبيب لتفقد حال أسيف بعد فقدانها للوعي.
شرحت عواطف على عجالة ما حدث، فتفهم الطبيب أن الموضوع نفسي أكثر منه عضوي، لذلك وجه حديثه للممرضة هاتفًا بجدية:
-خليهم يطلعوها فوق، وبلغي الدكتور محمد يجي بنفسه يشوفها!
أومأت برأسها قائلة: -حاضر يا دكتور!
صفقت بكلتا يديها بحماس عجيب بعد أن رأتهما يتشاجران سويًا.

تشكل على ثغرها ابتسامة شرسة تعكس نواياها الخبيثة.
اختبأت نيرمين بالزاوية، وسلطت أنظارها عليهم. هي لم تتدخل من البداية رغم غيظها المحتقن من دفاعه عنها، واكتفت بالمراقبة من على بعد.
احترقت أعصابها وهي تنتظر بفارغ الصبر تلك الجذوة التي أشعلت الحرب بينهما وجعلتها تحتد بضراوة مهلكة.
تنفست بارتياح كاتمة بصعوبة كركرة ضحكتها الشامتة.
لقد تحقق مبتغاها، وظفرت بجولة جديدة ضدها.

ظهرت الفرحة في نظراتها الشيطانية، وهمست لنفسها بنبرة تشبه فحيح الأفعى: -والله وجتلك على الطبطاب يا نيرمين..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة