قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والثلاثون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والثلاثون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والثلاثون

لا يعرف كيف وصل إلى البناية القاطنة بها وهو يقود سيارته بجنون جامح، سيطر عليه غضبه كلياً، فلم يفكر بذهن صافٍ.
لم يتوقف عقله للحظة عن عتاب نفسه لوقوعه في تلك الخدعة بسذاجة.
لقد نجحت ولاء في تدبير مكيدة له، وساقته قدميه إلى مصيدتها مرة أخرى بدون تفكير واعٍ منه.
ضرب بيده على المقود بعنف كبير معنفاً نفسه: -أنا غبي. غبي، صدقتها، وفكرت إنها بني آدمة! بس هي..!

كز على أسنانه هاتفاً بتوعد شرس: -وربنا لأدفعها تمن عملتها دي غالي أوي، ومش هاتشوف ضافر ابني تاني!
ترجل من السيارة دون أن يعبأ بالتأكد من غلقها، وركض مسرعاً في اتجاه مدخل البناية.
ضرب بعنف على زر استدعاء المصعد، لكنه لم يكن على قدر كافٍ من الصبر لينتظره، فصعد على الدرج وهو ينفث ناراً..
وصل إلى الطابق المتواجد به منزلها، ودق الباب بعنف حتى كاد أن يخلعه صائحاً بصوت جهوري منفعل:.

-افتحي يا بنت ال..! فين ابني؟
ظل يطرق بقوة أكبر مسبباً إزعاجاً رهيباً للجيران، وتابع صراخه الهادر والمهدد: -مش هاسيبهولك، سمعاني، افتحي وإلا هاهد البيت على اللي فيه!
لم يجرؤ أي أحد من الجيران على التدخل، فالجميع يعرف هويته، وأي اشتباك معه لن ينذر بخير مطلقاً. فاكتفوا بالمتابعة في صمت. لأن الفضول في تلك المواقف الغير متوقعة يكن دوماً سيد الموقف.

فُتح باب المصعد ليلج منه والده الحاج طه، والذي أبلغته زوجته بحالة ابنها العصبية فور تلقيه خبر الإخطار فخمن على الفور مكان تواجده الحالي. وصدق حدسه.
اتجه ناحيته بخطى متعجلة قائلاً بصوت مرتفع وصارم: -دياب
لم يلتفت نحوه، بل استمر في دقه العنيف على الباب شاتماً ولاء بسباب مهين.
وضع والده قبضته على ذراعه مردداً: -اهدى يا دياب!
حاول تحرير ذراعه من قبضته قائلاً بهياج: -سبني يا حاج.

جذبه بقوة هاتفاً بصوت آمر: -تعالى معايا!
رد عليه بحدة: -مش هاسيبلها ابني!
حذره أباه قائلاً بضيق من تصرفاته: -الناس بتتفرج علينا!
صرخ فيه بإهتياج وهو ينظر إليه بطرف عينه: -خليهم يتفرجوا ويشوفوا بنت ال، اللي ماشية على حل شعرها
ثم ضرب بقبضته المتكورة بعنف على الباب متابعاً بتوعد شرس: -والجبان اللي اتجوزته هاعرفه وهوريه!

رد عليه والده بضجر محاولاً إمتصاص غضبه: -يا بني ماهي من حقها تتجوز تاني، وهي غارت في داهية وبعدت عنك، سيبك منها بقى!
صاح فيه بإنفعال: -تغور لوحدها، مش تاخد ابني معاها!
هتف فيه طه بصوت صارم يحمل الحزم: -ابنك هيرجعلك، اطمن، وخدها كلمة من أبوك!
وبصعوبة شديدة رضخ دياب لرجاء والده وترك المكان على مضض وهو مستمر في سبها والإساءة إليها.

على الجانب الأخر، أبلغ أحد الجيران الحاج مهدي هاتفياً – والذي يعد على صلة مقربة به ويعلم بمسألة زواج ابنه - بما يدور في منزل ولاء.
أنهى معه الأخير المكالمة مردداً بتوجس: -ولعتيها يا شادية انتي وبنتك وارتاحتي!
نظر مازن إلى أبيه بغرابة متساءلاً: -في ايه يا حاج؟
حدجه بنظرات مغلولة مجيباً إياه بصوت مزعوج: -الجيران اتصلوا يقولولي عن الفضايح اللي في العمارة!

ضيق نظراته متساءلاً ببرود وكأنه لا يعرف السبب: -فضايح ايه دي؟
أجابه مهدي بحدة وعيناه ترمقاه بنظرات محتقنة: -ما انت ولا على بالك، تعمل المصيبة ومش سائل!
انزعج مازن من طريقته الغريبة في توبيخه، ورد عليه قائلاً: -في ايه يا حاج، هاتكلمني بالألغاز كده كتير؟
رد عليه مهدي بعصبية: -اتأدب معايا!
ضغط مازن على شفتيه بقوة متمتماً بكلمات مبهمة، لكن قبل أن تخرج من فمه أضاف مهدي مردداً بتأفف:.

-طليق المحروسة عرف بجوازكم!
انتبهت جميع حواسه عقب تلك العبارة، وهتف قائلاً بإرتباك قليل: -دياب؟ وعرف انه أنا اللي آآآ.
قاطعه مهدي نافياً: -لأ لسه! بس أكيد هايعرف، هو في حاجة بتستخبى!
تجمع العمال بالوكالة على إثر صوته المرتفع، لكن بقوا بالخارج يراقبون الشجار الكلامي الدائر بين رب عملهم وقريبته عواطف وابنة أخيها.
همس أحدهم للأخر: -الدنيا والعة جوا.

رد عليه الأخر محذراً: -مالناش دعوة، دي مسائل عائلية، خلينا بعيد بدل ما الريس منذر يبستفنا!
أضاف ثالث مؤكداً: -على رأيك، دي لما الجنونة بتطلع مابيشوفش قدامه!
حدج منذر أسيف بنظرات نارية تعكس ما بداخله من ثورة غضب مشتعلة.
هي أهانته، اتهمته بشيء لم يرتكبه وهو الذي لم يتأخر عنها للحظة حينما كانت في أمس الحاجة إلى أي مساعدة.

انقذها من براثن قريبها القاسي، عاونها في العودة إلى أهلها سالمة، رد إليها اعتبارها وتأكد من ضمان ميراثها وعدم استيلاء الغرباء عليه.
وفي الأخير أنكرت كل هذا. فبدت جاحدة، ناكرة الجميل.
حافظت أسيف على تأجج حماسها الغاضب تجاهه، ربما هيأت الظروف لها الإعتقاد بأنه السارق، لكن لا يوجد ما يشير مطلقاً إلى أنه الفاعل. ربما كان أحد المشتبه به لكنه ليس اللص الحقيقي.

هي حسمت الأمر بأنه كذلك، وفكرت بصورة غير عقلانية نتيجة الضغط النفسي والعصبي عليها، ولم تحسب بتفكير حكيم عواقب تهورها الطائش واندفاعها الأهوج..
أخرجها من حالة الصمت صوته الخشن وهو يقول: -مش منذر حرب اللي يمد ايده ويسرق!
ثم أولاها ظهره ليتجه نحو خزينة النقود القديمة الموضوعة في الزاوية خلف مكتبه، وقام بفتحها ليخرج منها رزماً من النقود ثم جمعهم بين كفيه، وألقاهم أمامها على سطح مكتبها قائلاً بصوت غليظ:.

-ولو ناقصك كمان أحطلك أدهم عشر مرات!
نعم ألقى أمامها ما تخطى حاجز أحلامها الوردية.
فغرت شفتاها مصدومة من فعلته، وحدقت فيه بذهول تام.
كتمت عواطف شهقتها واضعة يدها على فمها.
خالف منذر كل توقعاتها، وفعل ما لم يخطر على بالها.
ظلت أنظار منذر جامدة مسلطة عليها هي فقط، متأملاً تعابيرها التي تحولت من القسوة للصدمة.
بينما شعرت هي بمهانة عظيمة وهو يقذف بالنقود في وجهها وكأنها تستجديه حقها الضائع.

رن هاتفه المحمول لأكثر من مرة، فتجاهله غير مكترث بالمتصل ولا بإلحاحه المزعج.
صاح بصوت قاتم آمراً أسيف وهو يحدجها بنظراته المزدرية: -مدي ايدك وخديهم، مالك متخشبة في مكانك ليه؟
ابتلعت إهانتها بصعوبة، ورفعت رأسها للأعلى في إباء وهي ترد: -أنا. أنا مابخدش غير حقي وبس!
هتفت عواطف بنزق مجاهدة لبذل أخر محاولة لها في ضبط الأمور: -فلوس ايه بس يا سي منذر، انت. انت كده آآآ.

التفت هو نحوها لينظر لها بقوة فصمتت على الفور خوفاً منه، ثم دنا من أسيف حتى صار على بعد خطوة واحدة منها.
نظر مباشرة في عينيها متابعاً بنبرة جافة لكنها تحمل الكثير من الحنق: -ولو ده حقك خديه!
ثم ضيق لنظراته لتصبح أكثر قسوة وهو يسألها متعمداً: -بس انتي متأكدة إن أنا الحرامي؟
اهتزت نبرتها من طريقته المهيبة في التصرف معها: -آآ. م. معرفش!
بدت غير واثقة من حكمها المطلق، تداخلت أفكارها وتخبطت..

إن كان هو اللص حقاً فلماذا يتكبد عناء دفع أضعاف ما كان معها؟
ازدردت ريقها مجدداً، وبررت هجومها المندفع عليه: -أنا. أنا ليا لي في اللي حصل قدامي، وانت الوحيد اللي روحت اللوكاندة وآآ..
عبس بوجهه مقاطعاً بصوت قاتم أرجفها: -انتي شوفتيني وأنا بأسرق؟
انفرجت شفتاها للأسفل ولم تستطع الرد بالجزم عليه.
زادت نظراته نحوها سخطاً وهو يضيف بنبرة ذات مغزى مستنكراً مجرد التفكير في كونه اللص:.

-فلوس ايه اللي هاخدها من واحدة يتيمة زيك؟ انتي متعرفنيش كويس!
خجلت أسيف من نفسها. وبدأت حمرة جلية تسري في وجنتيها لتزيد من حرجها أمامه.
لم يختلف موقف عواطف عنها كثيراً، بل كانت تشعر بالغباء وأنها ناكرة للمعروف.
عاتبت نفسها قائلة: -يا ريتني ما هاودتك يا بنت أخويا، أديكي وصلتينا لنصيبة سودة، ربنا وحده عالم أخرتها إيه!

ظنت أسيف أنه ربما لجأ لذلك التصرف لإشعارها بالحرج، وبالفعل نجح في هذا، لا تستطيع إنكار أنه صدمها.
لكن ما أملاه عليها عقلها – وتفكيرها الغير منضبط - أنه من المحتمل أن تكون محاولة أخرى للضغط عليها بوسيلة خفية لإجبارها على بيع الدكان.
هتفت بنزق مؤكدة: -لو بتعمل كده عشان أبيع الدكان، مش هايحصل!
همست عواطف قائلة بتوجس: -بردك يا أسيف!

رمقها منذر بنظرات غريبة متعجباً من تفكيرها المحدود وخبرتها المعدومة في الحكم على الأمور بروية، ثم ردد محذراً بعينيه:
-ماتدخليش المواضيع في بعضها!
وقبل أن تنطق بالمزيد أضاف بتحدٍ واثق: -ولعلمك لو عاوز أخد الدكان هاخده، بالذوق، بالعافية، أو بأي شكل!
بدت نظراته أكثر إظلاماً وهو يتابع مهدداً بقوة وملوحاً بكف يده: -وإنتي بالشوية بتوعك دول مش هاتمنعيني!

ارتعدت من نبرته العدائية، لكنها وقفت ثابتة في مكانها رغم تلك الرجفة الظاهرة عليها.
استدارت برأسها نحو النقود الملاقاة على سطح المكتب، وأشارت بكف يدها قائلة بكبرياء:
-أنا مش هاخد فلوسك دي!
هزت رأسها بإعتراض وهي تلوي ثغرها مكملة بكرامة: -هما مايلزمونيش، وحقي اللي ضاع هاعرف ارجعه سواء منك أو من غيرك!
نظرت له لمرة أخيرة بإزدراء، ثم أولته ظهرها مرددة بصوت مختنق: -يالا يا عمتي من هنا!

تحرك منذر سريعاً ليسد عليها الطريق بجسده فشهقت مرعوبة من ظهوره المفاجيء، وتسمرت في مكانها منكمشة على نفسها أكثر.
مال برأسه عليها ليهمس لها بقسوة مخيفة: -وحقي أنا كمان هاخده بطريقتي!
لم تفهم المقصد من عبارته الغامضة تلك. لكنها كانت كافية لتربكها وتدب الرعب في قلبها.
تسارعت دقات قلبها فجأة، وتوترت إلى حد ما.

هي كلمات مريبة تحمل بين طياتها الكثير، بها ما يهدد سكونها، وما ينذر بهبوب عواصف ستقتلع ما على الأخضر واليابس..
تنحى للجانب مشيراً بذراعه وهو يقول ببرود جامد: -اتفضلي، أظنك عارفة السكة ازاي!
التفتت برأسها نحوه لترمقه بنظرات أخيرة شبه مذعورة، ثم أسرعت في خطاها لتختفي من أمامه.

ظلت عواطف باقية في مكانها للحظة تتوسله بإستعطاف علها تستطيه إصلاح ما أفسد: -سامحها يا سي منذر، هي على نيتها ومش فاهمة حاجة، واللي. واللي ما يعرفك يجهلك!
بدت ملامحه جامدة وهو يجيبها بصوت مهدد بخطر مهلك: -اللي حصل ده يا عواطف مش هايعدي على خير، خليكي فاكرة ده كويس!
شهقت قائلة بهلع: -بس أنا ماليش ذنب وآآ..

قاطعها هاتفاً بصرامة وهو يشيح بوجهه بعيداً عنها: -ده أخر ما عندي، مات الكلام، بالسلامة يا بنت خالة أبويا!
لم تضف المزيد، وانصرفت لتلحق بإبنة أخيها مرددة بتخوف كبير: -عملتي كده ليه بس يا بنتي، استرها علينا يا رب في اللي جاي ا!
طالع الأوراق الرسمية الموضوعة أمامه بنظرات متفحصة، ثم رفع عيناه للأعلى ليستطرد حديثه قائلاً بنبرة جادة:
-مبروك يا مجد، اسمك مع اللي هايخدوا افراج!

ابتسم الأخير بمكر وهو يرد عليه بصوت رخيم وخشن: -الله يبارك فيك يا باشا
حذره المأمور قائلاً بجدية: -مش عاوزين مشاكل تاني يا أبو النجا، امشي عدل!
أومأ برأسه ممتثلاً: -اطمن يا باشا!
لوح له بظهر كف يده متابعاً بصرامة: -اتفضل، خده يا شاويش!
رفع الصول كفه أعلى جبينه مؤدياً التحية العسكرية وهو يرد بصوت رسمي: -تمام يا فندم!
ثم اقترب من السجين وقبض على ذراعه ساحباً إياه خارج غرفة مكتب المأمور.

تنفس مجد بإرتياح كبير، ودندن مع نفسه بسعادة بصافرات خافتة.
آمال الصول رأسه على مجد قائلاً بصوت خفيض: -هنيالك يا عم! افتكرني!
رد عليه مجد بخبث: -مش ناسيك يا شاويش، وقت ما أخرج من المخروبة دي عدي عليا في المطعم، انت معاك العنوان، صح؟
أجابه الصول هامساً: -اه كاتبه!
مسح على صدره عدة مرات، كما برقت عيناه بوميض غريب وهو يتابع مردداً: -حلو أوي! وهنتقابل كتير.

تنحنح الصول بخفوت قائلاً بإبتسامة صفراء: -احم. ماشي!
ثم خشن من نبرة صوته ليبدو أكثر صرامة وهو يصيح بحدة: -يالا يا مسجون، اتحرك شوية!
قام مجد بمجاراته في تلك التمثيلية المصطنعة قائلاً: -ماشي يا شاويش!
لم ترغب أسيف في العودة إلى منزل عمتها دون المرور أولاً على الدكان لتراه.
كانت في وضع نفسي سيء.

أرادت أن تخرج من تلك الحالة المتخبطة المسيطرة عليها وترى أخر ما تُرك لها من أبيها الراحل لعل ذلك يثلج صدرها الملتاع.
لم تجد صعوبة في البحث عنه، فقد وجدته بسؤال أحد المارة القاطنين بالمنطقة الشعبية.
اتجهت إلى حيث أرشدها، وهرولت مسرعة نحوه.
تباطئت خطواتها حينما وقعت أنظارها عليه.
التقطت عيناها تلك اللافتة المتهالكة التي تعتلي ذلك المكان العتيق.

دققت النظر في كلماتها الباهتة، وقرأتها بصوت خافت: -دكان الحاج خورشيد!
اضطربت ضربات قلبها، وتهدجت أنفاسها من الحماس.
كان الدكان واضحاً للعيان بسبب إحاطته بتلك المحال حديثة التجهيز.
بدا كبقعة أثرية قديمة تتوسط تلك التصاميم الحديثة.
قفز قلبها طرباً، ولمعت عيناها بعبرات خفيفة.
تنفست بعمق، وتقوس فمها بإبتسامة باهتة.
شعرت أنها وجدت جزءاً مفقوداً منها.
سارت بثبات نحوه مخرجة مفتاحه من حافظة نقودها.

لوهلة ظنت أنها عادت بالزمن لأشهر مضت حيث كانت في كنف أبويها.
سالت منها العبرات دون وعي فكفكفتها براحة يدها.
أخذت شهيقاً عميقاً، ودنت أكثر منه.
مدت أسيف يدها تتحسس ملمس بابه الخشبي الخشن. رجفة قوية دبت في أوصالها وهي تشعر بقوة الزمن.
إنه نفس ذلك الإحساس الفطري الذي يبعث على نفسها الهدوء حينما تستعيد شيئاً عزيزياً عليها.
زاد خفقان قلبها، ونهج صدرها من التوتر.
أغمضت عيناها مستعيدة ذكريات قديمة مطمئنة.

تنفست بعمق، ثم عاودت فتح جفنيها لتشرع في فتحه.
رأت ذلك القفل الصدأ الذي يزين بابه، فدست المفتاح به وأدارته بحذر شديد.
وجدت صعوبة في فتحه، فقد كان صدئاً للغاية.
استجمعت كل قوتها لتفتحه لكنها لم تستطع، كانت تحتاج لمجهود كبير لتتمكن من فتحه.
خشيت أن ينكسر المفتاح بالقفل فيتعذر عليها إخراجه لذا تراجعت مؤقتاً عن تلك الفكرة حتى تستعين بذوي الخبرة في فتحه.

أكثر ما أراحها أنها شعرت بأن لذلك المكان روحاً. روحاً تذكرها بماضيها الطيب، بحنينها إلى من تشتاقهم. بعائلتها الغالية..
ألقت نظرة أخيرة على الدكان قبل أن تودعه قائلة لنفسها بإصرار عنيد: -انت ملكي، مش هافرط فيك!
رأتها عواطف من بعيد بعد أن كانت تبحث عنها بخوف، فهتفت صائحة: -أسيف!
استدارت الأخيرة نحوها عقب سماعها لصوتها، وتحركت عائدة إليها بخطوات سريعة نسبياً.
أكملت عمتها هاتفة بتساؤل: -كنتي فين يا بنتي؟

أجابتها بصوت شبه مختنق: -عند دكان أبويا!
رفعت عواطف أنظارها للأعلى لتحدق خلف كتف أسيف فرأت بالفعل الدكان.
لقد وصلت إليه بمفردها. وبدا عليها التأثر من رؤيته.
تنهدت بآسى وهي تربت على ذراعها: -طب يالا بينا نرجع البيت!
لم تعترض أسيف، وأكملت معاها السير وهي تفكر فيما ستفعله فيما بعد..
لاحقاً، سردت عواطف على ابنتها نيرمين ما دار بين منذر وأسيف.
أصرت الأخيرة على معرفة كافة التفاصيل خلال تلك المشادة الحادة.

تلون وجهها بحمرة غاضبة واحتقنت عيناها بشدة عقب سماعها لتلك الإتهامات القاسية من ابنة خالها له.
فبغبائها أفسدت العلاقات بين الأسرتين، وربما حولته إلى عداء شخصي لأجل دكان لا يثمن ولا يغني من جوع، ناهيك عن زيف إدعائها الباطل بالسرقة.
صرخت في أمها بتعنيف وهي تكز على أسنانها: -وإزاي تسكتيلها يا ماما؟ مجريتهاش من شعرها ليه قبل ما تتنيل تبوظ الدنيا؟

ردت عليها عواطف بقلة حيلة وهي تضرب على فخذيها بكفيها: -مجاش في بالي انها هتعمل كده!
توعدتها نيرمين قائلة بشراسة: -أنا هاروح أموتها، مش سيباها!
أمسكت بها والدتها بصعوبة قائلة بنبرة حادة: -اقعدي انتي كمان، هو أنا كل ما أهديها من ناحية، تولع من الناحية التانية!
صاحت فيها نيرمين بإنفعال جلي مهينة إياها: -لأن البت دي غبية ومابتفهمش، عاملة نفسها ناصحة وهي جاية من ورا الجاموسة!

صرخت فيها عواطف بنفاذ صبر: -بس بقى كفاية، أنا معنتش قادرة
أصرت نيرمين على الإشتباك معها قائلة بعصبية: -مش هاسكتلها يا ماما، دي هاتسوق فيها!
تملصت من قبضة أمها، ثم اندفعت بجنون نحو الخارج صارخة بصوت مرتفع مهتاج: -انتي يا اللي اسمك زفت أسيف، إنتي يا وش البومة يا فقر، تعالي هنا كلميني!
التقطت أذن أسيف إهانتها اللاذعة من داخل الغرفة، فاستشاطت نظراتها، واصطبغت وجنتيها بحمرة مزعوجة للغاية.

لم تكبح ذلك الأدرينالين الغاضب المتدفق بشراهة في عروقها ليحفز خلايا جسدها على الإنقضاض والدفاع عن نفسها.
لذا نهضت من رقدتها متجهة للخارج صارخة فيها بصوت متشنج: -اكلمي عدل معايا!
لم تمهلها نيرمين الفرصة للحديث، بل غرزت أصابعها في خصلات شعرها متعمدة جذبها منه بشراسة وكأنها تريد اقتلاعه من جذوره صائحة بحنق كبير:
-مفكرة نفسك مين عشان تخلينا نعادي أسيادك؟!

صرخت أسيف متأوهة من شدة الآلم، وحاولت تخليص شعرها من يدها قائلة بجنون: -آآآآه، سيبي شعري يا متخلفة، آآآآه!
ردت عليها نيرمين بإهانة وقحة وهي تهز رأسها المأسور في قبضة يدها بعنف: -المتخلفة دي اللي هاتربيكي يا تربية الزرايب!
من المعروف أن أبسط وسائل الدفاع عن النفس هي المبادرة بالهجوم المباغت على الخصم في مواضع الآلم لتشتت تركيزه.

وهذا ما فعلته أسيف. تحاملت على نفسها ذلك الوجع الرهيب، وثنيت ركبتها قليلاً، ثم ركلت بها بقوة أسفل بطن نيرمين. فصاحت الأخيرة متآلمة:
-آآآه، يا بنت ال..!
أفلتت أصابعها نسبياً عن شعرها واضعة قبضة يدها الأخرى على بطنها.
نجحت أسيف في إلهائها، و حازت على فرصة أخرى لرد الصاع صاعين، خاصة أن إهانات نيرمين لها كانت وضيعة للغاية، وبلا أي مقدمات باغتتها بصفعة عنيفة على وجنتها قائلة بجموح:.

-إياكي تغلطي فيا تاني، مش هاسكتلك، والقلم ده يعرفك أنا مين!
صدمت نيرمين من صفعتها تلك. وبرقت عيناها بنيران محتدة للغاية.
في تلك اللحظة تحديداً شهقت عواطف غير مصدقة ما يدور بين الاثنتين.
أسرعت بالتدخل بينهما، وشكلت بجسدها حائلاً لتفصل بينهما قائلة بذهول: -انتو اتجننوا، بتضربوا بعض قصادي؟
وضعت نيرمين يدها على صدغها متحسسة إياه، وصارخة بإهتياج وهي تشير بسبابتها الأخرى:
-هولع فيها النهاردة، هاجيب أجلها!

ردت عليها أسيف بجرأة غريبة لا تعرف من أين جاءتها: -فكري بس تقربي مني وأنا هادبحك!
-بس!
صرخت عواطف بتلك الكلمة الموجزة وهي تضع يديها على أذنيها.
تابعت قائلة بصوت متشنج وهي توزع نظراتها المستنكرة على الاثنين: -اعملولي احترام، في ايه؟!
ثم ركزت أنظارها على أسيف وحدها. تلك الضعيفة التي تحولت فجأة من مجرد حمل وديع إلى وحش ضاري.
كانت صدمتها فيها أكبر من قدرتها على إستيعاب تبدلها المريب والمخيف في نفس الآن.

لقد برزت لها أنياب تهدد وتتوعد غير عابئة بتبعات أي شيء.
في لحظة ما فاصلة في حياة الفرد، تتعرض فيها شخصيته الطبيعية لضغوطات نفسية قاسية ومستمرة مصحوبة بإهانات تتجاوز حد المقبول من المحيطين به، فتدفعه دفعاً للإنفجار في وقت غير متوقع حينما يصل الأمر معه لذروته. وهذا ما صار مع أسيف.
لقد بلغت القمة بتحميل نفسها مالا تطيق. فإنهارت قواها المتماسكة، وتحفزت حواسها للدفاع عن نفسها بشراسة ضد من يهددها..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة