قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثالث عشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثالث عشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثالث عشر

أرادت جليلة ألا تضيع الفرصة وتفاتح ابنها مجدداً في موضوع الارتباط والزواج.
هي وضعت عيناها على إحداهن، وترى فيها الزوجة المناسبة له، والأهم من هذا كله أنها تستطيع الانجاب لتضمن حصولها على أحفاد أصحاء في أقرب وقت.
-ممكن أدخل يا منذر؟
قالتها جليلة وهي تقف على عتبة باب غرفة ابنها البكري ومستندة بيدها على الحائط.

التفت منذر ناحيتها وهو يمشط شعره قائلاً بتعجب من طلبها للإذن: -اه طبعاً يا أمي، هو انتي محتاجة تستأذني؟
ابتسمت له ابتسامة عريضة، ودخلت إلى غرفته لتتأمله بفخر.
كان قد انتهى هو تقريباً من إرتداء ثيابه. ولم يبقَ لديه إلا وضع حذائه في قدميه.
جلست هي على طرف الفراش، وأمسكت بملابسه المنزلية تطويها، ثم رددت قائلة بحذر: -كنت عاوزاك في موضوع كده!
رد عليها بهدوء وهو يربط حذائه: -خير يا أمي!

تنهدت مطولاً وهي تقول بعتاب خفي: -مش ناوي تفرحني بيك وتتجوز تاني!
اعتدل في وقفته، وضحك عالياً وهو يردد بإندهاش: -انتي عندك عروسة ليا؟
انتابها الفضول لمعرفة ما يفكر به خاصة بعد أن رأت ردة فعله العادية، فهتفت بحماس:
-بص هو يعني في كام حد، بس انت مش في دماغك واحدة معينة، صح؟
رد عليها بجمود وهو يضع مفاتيحه في جيبه: -والله يا أمي أخر همي الموضوع ده!

نهضت من على الفراش لتقف قبالته، ثم ربتت على كتفه مرددة بحنو: -العمر بيجري يا حبيبي!
ثم أخفضت نبرتها قليلاً لتظهر حزنها وهي تضيف: -وأنا نفسي أفرح بعوضك وبعيالك!
زفر بضجر من تلميحها، وهتف قائلاً بجدية: -ومين هترضى بواحد زيي؟
شهقت مذعورة من جملته الأخيرة لاطمة على صدرها، وتبدلت تعابيرها للإنزعاج الكبير، ثم هتفت مستنكرة:
-الله أكبر، هو انت فيك حاجة تتعيب، ده انت سيد الرجالة كلهم ومتعلم ومعاك شهادة تجارة!

التوى فمه بإبتسامة ساخرة وهو يرد عليها: -ياه يا أمي، بقالي زمن ماسمعتش الكلام ده!
هتفت جليلة مرددة بحماس وقد لمعت عيناها: -وافق انت بس وأنا أدورلك على واحدة تتجوزها
رد عليها بفتور: -ربك يسهلها!
ثم دنا برأسه عليها ليسألها بمكر: -بس قوليلي انتي بتفكري في مين؟ شكلك عندك واحدة ليا، ها مظبوط؟
ضحكت بسعادة، ثم وضعت إصبعيها على طرف ذقنها لتقول بسجية: -هو أنا باينة أوي كده.

غمز لها منذر قائلاً بتسلية: -ده أنا عارفك يا أمي
أخذت نفساً عميقاً، وأخرجته دفعة واحدة من رئتيها، ثم هتفت فجأة دون أي مقدمات:
-عارف نيرمين؟
بدا الاسم مألوفاً نوعاً ما لديه، لكنه لم يستطع أن يخمن هوية صاحبته بوضوح، فتساءل مهتماً:
-مين دي؟
ردت بثقة: -بنت عواطف، البت الكبيرة!
تذكرها منذر، وأردف قائلاً بإستغراب وقد انعقد ما بين حاجبيه بشدة: -بس اللي افتكره انها متجوزة!

صححت له معلومته قائلة بتلهف: -لأ، هي اطلقت من جوزها من كام يوم
ضاقت نظراته إلى حد كبير، وتجمدت تعابير وجهه، ثم هتف مستنكراً تفكير والدته في تلك الزيجة:
-وده أنا أعمل بيها ايه؟ أروح أصالحهم مثلاً؟!
ردت عليه بحماس وهي تشير بعينيها: -لا خلاص معدتش ينفع ترجعله، هو طلقها للمرة التالتة!
فهم منذر سبب إشارة والدته لها تحديداً، ورد بتهكم وهو يلوح بذراعه: -اها قولتيلي، وانتي عاوزاني أكون لا مؤاخذة إريال، وآآ..

قاطعته قائلة فوراً قبل أن يسيء فهمها: -لالالا، مش كده خالص!
سألها بإقتضاب وقد بدا متأففاً: -أومال؟
أجابته بحذر: -البت كويسة وحلوة ولهلوبة وفوق ده كله مخلفة، بطنها شغالة يعني. فاهم قصدي!
أرجع رأسه للخلف، ورد عليها بصوت آجش: -بقى الموضوع كده! مخلفة عيال!
بالطبع لما لا تلجأ والدته إليها لتتأكد من وجود من تصلح للإنجاب خاصة أنها تعرف معاناته السابقة مع زوجته الراحلة.

هزت جليلة رأسها بإيماءة قوية وهي تضيف: -بصراحة أه، وكفاية إننا عارفينها ومضمونة ومتربية وسطنا! يعني لا في يوم هاتقل أدبها ولا آآ..
قاطعها منذر متساءلاً بجمود: -وتفتكري هي هترضى تتجوز تاني؟
أجابته مستنكرة تفكيره في احتمالية رفضها له: -وهي تستجري ترفض، هي هتلاقي أحسن منك فين؟

أيقن منذر أن والدته قد وضعت تلك المطلقة ضمن مخططاتها للزواج، وهو ليس به الرغبة للحديث في هذا الشأن حالياً، فعلى عاتقه الكثير من الالتزامات والمسئوليات، لذا رد عليه بحزم:
-بصي يا أمي، مش وقته الكلام في الموضوع ده، إنتي بتقولي مطلقة من كام يوم، يعني لسه في موال عدة ومشاكل وبلاوي مع طلقيها، وأنا مش عاوز وجع دماغ!

بررت له سبب تمسكها به قائلة: -ماهي مش هاتفضل على طول في القرف ده، وافق انت بس وأنا هاتصرف بعدها!
رد عليها بنبرة حاسمة وهو يتحرك صوب باب الغرفة: -أما يجي وقته!
ابتسمت قائلة بود: -طب يا حبيبي، على راحتك!
ثم خرجت خلفه وهي تتابعه بنظرات متريثة. لكنها كانت متحمسة لكون الفكرة قد لاقت استحساناً لديه. وما عليها فقط إلا التريث والانتظار ريثما تنتهي عدة نيرمين لتفاتحها في الزواج من ابنها..

أغلقت شادية باب المنزل خلفها، واتجهت صوب الصالة لتجلس على أقرب أريكة وعلى وجهها علامات جادة للغاية.
علقت أنظارها بإبنتها ولاء التي كانت تبحث عن هاتفها المحمول في حقيبة يدها.
وما إن وجدته حتى هاتفت زوجها مازن فبعد أن عادت من زيارة عيادة الطبيب النسائي كان حتماً عليها الاتصال به لتبلغه برأيه النهائي في مسألة التخلص من الجنين الذي ينمو في أحشائها.
سألها مازن مهتماً بعد أن رد على اتصالها: -ها عملتي ايه؟

أجابته بصوت قاتم: -الدكتور قالي صعب أعمل اجهاض
رد مستنكراً صعوبة تنفيذ تلك العملية: -ليه يعني؟ مافيش كام برشامة تاخديها وينزل مع نفسه؟
اغتاظت من استهوانه بالأمر، وصاحت بصوت محتد: -هي بالبساطة دي عندك؟
لاحظ ارتفاع وتشنج نبرتها الصوتية، فرد عليها بهدوء محاولاً السيطرةعلى نوبة عصبيتها قبل أن تنفجر فيه:
-أنا مفكر يعني الموضوع سهل!
هتفت قائلة بحدة: -لأ مش سهل خالص!

ثم صمتت لتلتقط أنفاسها قبل أن تتابع بصوت متردد: -وأنا. آآ. أنا مش عاوزة أجهض!
توقع مازن أن تتفوه بهذا، فحديثها السابق ما هو إلا مقدمات لنية مبيتة على التمسك بالجنين.
لذلك رد عليها بفتور: -براحتك، شوفي اللي عاوزاه واعمليه!
ثم زاد من قوة نبرته ليضيف محذراً: -بس افتكري كلامي لما آآ..
قاطعته قبل أن يتم عبارته قائلة بصوت متشنج: -مازن، أنا لو عملت اجهاض ممكن مخالفش تاني.

تعجب من كلامها، وسألها مستغرباً: -نعم، ليه إن شاء الله؟
أجابته بصوت محتد: -الدكتور قالي إنه فيه خطورة عليا، وأنا مش مستعدة أخسر حياتي عشان حاجة زي دي!
صمت مازن ولم يضف المزيد، فهي بحديثها هذا تظن أنها وضعته في خانة اليك لتضغط عليه، لكنه على العكس تماماً لم يكن مكترثاً بما تفعله.
ففي النهاية هو في تحدٍ مع غريمه دياب، ولن يعبأ إلا بما يكدره ويعكر صفو حياته حتى لو كان للأمر علاقة بولاء.

لاحظت هي صمته الذي طال، فسألته بضيق: -سكت ليه؟
رد عليها بصوت جاف: -اللي انتي عاوزاه اعمليه يا ولاء!
سألته بتوجس وهي تستشعر الخطر: -طب ودياب؟
رد عليها بتساؤل موجز يحمل الضيق: -ماله؟
هتفت متساءلة بتوتر: -هانتصرف معاه ازاي؟
صمت للحظات تاركاً إياها تظن أنه يفكر في حل للمشكلة، ولكنه صدمها بعد ذلك بالرد بجمود بارد:
-بصي يا ولاء، أنا عندي شغل دلوقتي، هاكلمك بعدين نتفاهم!

اغتاظت من رده الغير شافي، وتمتمت بصوت محتقن: -ماشي، براحتك!
ثم أنهت المكالمة معه، وألقت بهاتفها على أقرب أريكة.
نفخت بحنق وهي تدور بحيرة في أرجاء الغرفة مرددة من بين شفتيها بشراسة: -مش هتعرف تتهرب مني يا مازن! احنا سوا في الليلة دي لحد الأخر!
هزت شادية ساقها الموضوعة على الأخرى بحركة ثابتة وهي تتابع المكالمة الدائرة بين ابنتها وزوجها فقد أصرت على أن تجريها أمامها لتعرف بنفسها ردة فعل زوجها.

وصدق حدسها.
رمقت هي ابنتها بنظرات مزدرية قبل أن تقطع صمتها الإجباري قائلة بتوبيخ: -جالك كلامي؟ مش قولتلك من الأول إنه ندل!
زفرت ولاء بإحباط، ودست أصابعها في فروة شعرها المتناثر لتنفضه بعصبية وهي تتساءل:
-اتصرف ازاي دلوقتي؟
توقفت شادية عن تحريك ساقها، ثم أخفضتها لتتمكن من النهوض.
أصبح وجهها خالياً من التعابير، لكن نظراتها كانت مليئة بالوعيد.
ردت على ابنتها بثقة جادة: -مش انتي اللي هاتعملي حاجة، ده دوري!

سألتها ولاء بتوجس وهي تضم ذراعيها معاً أمام صدرها: -ناوية على ايه يا ماما؟
أجابتها شادية بغموض: -على الصح يا ولاء!
لفت حنان الشال الحريري المغزول يدوياً حول عنقها ليعطيها بعض الدفء رغم اعتدال حرارة الجو. لكنها كانت تشعر ببرودة خفيفة تضرب في جسدها المرهق، ربما نتيجة السفر وتغير الجو فأصيبت بأعراض البرد.

لم ترغب في إثارة قلق ابنتها، فعمدت إلى الوسائل القديمة والدائية في التدفئة من أجل التعرق وإخراج الحرارة الزائدة من الجسد.
أكملت بعد ذلك وضع حجابها على رأسها، وأمسكت بحقيبتها لتتفقد ما بها من أموال، ثم أسندتها على حجرها.
وقعت عيناها على حافظة نقودها الجلدية، فمدت يدها لتسحبها للخارج لتنظر بها.
كانت تضع في داخلها عدة صور مختلفة، أخرجتهم بحذر لتتأملهم بنظرات مشتاقة.

كانت الصورة الأولى تجمعها مع زوجها الراحل وابنتهما أسيف وهي في عمر مبكر.
ابتسمت بعفوية وهي ترى صغيرتها متشبثة بها بيد وجاذبة لياقة أبيها بقبضتها الأخرى، ضحكتها كانت بريئة صافية تسلب الألباب وتآسر القلوب.
تنهدت بعمق، وأزاحت الصورة لتشاهد التالية الموجودة خلفها.
كانت لأسيف وهي في المرحلة الثانوية بعد أن تحجبت.
لازل وجهها يحتفظ بملامحها الصغيرة رغم بلوغها.

ابتسمت لها، وأكملت تطلعها في الصورة الثالثة والتي التقطتها في استديو التصوير أثناء تقديم أوراقها للإلتحاق بكلية الزراعة.
تذكرت رغبتها آنذاك في الانضمام لتلك الكلية خصيصاً لتعاون أبيها في أعماله بأرضه على أسس علمية، و بالطبع فرح رياض بتفكيرها وحماسها، وساعدها في شرح بعض المواد التي كانت تتعذر عليها دراستها، وبعد تخرجها رفض أن تشاركه ذلك العبء، وأثر أن تظل إلى جوار والدتها.

أخرجت حنان تنهيدة حارة من صدرها وهي تتذكر شكل أسيف حينما منعت عن ممارسة ما تعلمته على أرض الواقع، لكن والدها كان محقاً من وجهة نظره، هو لم يرغب في إرهاقها وتحميلها مسئوليات ستؤرق ليلها وتكدر صفو نهارها. بل ستقلب حياتها جحيماً.
نعم هو أكثر الناس دراية بطبيعة شخصية ابنته الهشة و الرقيقة، والحياة تسحق بضراوة الغير قادر على مجابهتها، لذا رفض بعناد أن يلبي رغبتها في العمل، وبقيت في المنزل ترعى والدتها.

لم يمر الكثير على ذلك الأمر حتى مرض رياض، وساءت حالته، وتطور الوضع سريعاً ليلقى ربه في نهاية المطاف.
ترقرقت العبرات في عينيها حزناً عليه، وقاومت بشدة رغبتها في البكاء.
مدت أناملها لتمسح دمعاتها قبل أن تراها صغيرتها، وتنفست بعمق لتضبط حالتها النفسية.
خرجت أسيف من المرحاض الملحق بالغرفة لتسأل والدتها بإهتمام: -جاهزة يا ماما؟ أنا خلصت لبس!

عمدت حنان إلى رسم ابتسامة صغيرة على ثغرها، ثم رفعت أنظارها اللامعة في اتجاه ابنتها.
تأملتها بنظرات ممعنة لتتأكد من ملائمة ثيابها وحشمتها.
لم تكن أسيف بحاجة إلى هذا، فهي دائماً تحبذ إرتداء الثياب الفضفاضة التي لا تبرز معالمها الأنثوية.
كان فستانها بسيطاً مزركشاً بألوان مبهجة تسر الناظرين.
وحجابها من اللون الأزرق الباهت يتماشى مع إحدى درجات ثوبها.
ابتسمت لها قائلة بنبرة لطيفة: -اه يا بنتي، يالا بينا!

هتفت أسيف بمرح وقد بدت نظراتها متفائلة: -أنا نفسي أشوف شكل عمتي دي أوي، يا ترى شبه بابا ولا لأ؟
تلاشت ابتسامة حنان، وحل الوجوم على وجهها. نعم فهي تتذكر عواطف الصغيرة الواقفة إلى جوار أمها عزيزة ذات الوجه الصارم والنظرات الشرسة، تلك السيدة الجبارة المتسلطة التي لا تعرف للرحمة أي معنى في حياتها.
تمتمت بخفوت حزين وهي تنفض عن عقلها صورتها المخيفة: -يا ريت تكون زيه مش زي أمها!

لم تسمع أسيف جيداً ما رددته والدتها، فسألتها بإهتمام: -بتقولي ايه يا ماما؟
حاولت حنان أن تتصنع الابتسام وهي تجيبها: -مافيش حاجة! يالا يا بنتي
حركت أسيف رأسها بإيماءة موافقة، ثم اتجهت نحو والدتها لتقف خلفها، وتملكها الحماس وهي تدفعها من مقعدها قائلة بإبتسامة سعيدة:
-إن شاء الله هاتكون زيارة حلوة!
لم تعقب عليها حنان. فما مرت به مع عائلة زوجها لا يجعلها تستبشر خيراً مطلقاً..

استقبل الحاج مهدي السيدة شادية بداخل مكتبه الملحق بالمطعم.
وطلب لها مشروباً بارداً لتتناوله، لكنها رفضت أخذ أي شيء قبل أن تتطرق إلى موضوعها الخطير.
سألها هو بإهتمام وقد ظهر القلق على محياه: -خير يا شادية، زيارتك دي وراها ايه؟
أجابته بغموض وهي تنظر له بتأفف: -ابنك مازن!
تقوس فم مهدي للجانب مردداً على مضض: -ماله المحروس!
أجابته بصوت قاتم ونظراتها إليه لم تتغير: -ابنك متجوز بنتي، وعرفي!

اتسعت حدقتي الحاج مهدي بصدمة جلية، وفغر فمه مشدوهاً منها، ثم صاح مستنكراً: -ايييييه؟!
ردت عليه بهدوء مريب: -اللي سمعته يا مهدي!
نهض واقفاً من مقعده، وانحنى للأمام ليستند بمرفقيه على مكتبه ليحدق بها بنظرات مشتعلة.
صاح متساءلاً بصوت غاضب وهو يضرب بكفيه على السطح الزجاجي: -انتي جبتي الكلام ده منين وازاي؟

نظرت له شادية شزراً، وبدت أكثر بروداً وهي تجيبه بصوت قوي: -في ايه يا مهدي، ولاء بنتي ومش بتخبي عني حاجة!
زاد ذهوله من حديثها المشين، وكأن الزواج السري أمر عادي، فهتف مستنكراً برودها:
-يعني انتي عارفة إنها متجوزاه في السر؟
أجابته بثقة وهي تتعمد الحفاظ على ثبات انفعالاتها: -اه، من أول ما فكر في ده
ضرب مجدداً بعنف على السطح الزجاجي للمكتب هاتفاً بغضب: -ووافقتي على المصيبة دي يا شادية؟ طب ليه؟

أجابته بهدوء مستفز: -كانوا عاوزين بعض
بدا الأمر وكأنه قد تم الترتيب له بالكامل. وبالطبع كان هو أخر العالمين به.
تهدل كتفيه للأسفل، وارتخى جسده وهو يجلس مصدوماً على مقعده: -ازاي يعمل كده ومايقوليش؟
انتصبت شادية في جلستها، وأصبحت أكثر تحفزاً وهي تضيف: -مش مشكلتي إن ابنك مخبي عليك موضوع زي ده، مشكلتي معاه انه عاوز يجهضها!
انفرجت شفتاه بصدمة أغرب مما يسمع. وتمتم مذهولاً: -ايه؟ كمان!

تابعت هي قائلة بجدية مهددة إياه: -ومن الأخر كده أنا مش هاسمح لبنتي تضر نفسها وابنك قاعد ولا على باله!
ضرب الحاج مهدي كفاً على الأخر مستنكراً أفعال ابنه الغير موزونة، وهتف بصوت متحشرج:
-يخربيتك يا مازن، إنت عملت ايه يا متخلف!
كان مهدي يعلم جيداً أن فعلة كهذه إن وصلت إلى مسامع دياب فسوف تتسبب في إندلاع المشاجرات العنيفة من جديد بين العائلتين.
كز على أسنانه بحدة حتى كاد يحطمهم من فرط غضبه.

وحاول التفكير بتعقل في حل لتلك الكارثة الفجائية التي ربما –كما يقال في الدارج - تحطم المعبد على من به مدمرة كل شيء في طريقها.
لم تعبأ شادية بحالة مهدي المصدومة، واستأنفت حديثها قائلة بنبرة عدائية: -شوف لحد دلوقتي أنا هادية وبأتكلم بالعقل، فبلاش تختبر صبري يا مهدي، بنتي عملت كل اللي ابنك عاوزه، وخَسَّرت ابن حرب الجلد والسقط، لكن هي تخسر ولا تتأذى شعرة منها مش هاسكت، وإنت عارفني كويس!

ثم نهضت من مقعدها لترمقه بنظرات شرسة وهي تتابع بتهديد: -وأنا مش هاسيبها لوحدها!
هب هو الأخر واقفاً ليرد بحذر: -طب اقعدي نتفاهم!
ردت عليه بصرامة: -اللي عندي قولته، ابنك يعلن جوازه من ولاء قصاد الناس وإلا أعمامها هيدخلوا فوراً!
هو يفهم جيداً طبيعة عائلة شادية، والتي لا تحبذ اللجوء إليهم إلا في الشدائد لعنف طبائعم الشرسة.
ابتلع ريقه قائلاً بتوجس: -ماشي ماشي، اهدي بس وآآ..

قاطعته قائلة بحزم: -ده أخر ما عندي يا حاج مهدي، سلام!
ثم أولته ظهرها دون أن تضيف المزيد.
علقت أنظاره بسرابها الذي تلاشى سريعاً، وحاول أن يعي الموقف ويفكر بصورة عقلانية متريثة فيه. لكنه إلى الآن لم يكن ملماً بكافة التفاصيل. لذا عليه استدعاء ابنه المشاغب ليعرف منه كيف ارتكب أمراً كهذا دون استشارته.
فلو علم مسبقاً بنيته في الزواج من طليقة دياب لكان منعه على الفور. لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.

أخرج هاتفه المحمول من جيب جلبابه ليهاتف ابنه، وانتظر بفارغ الصبر رده عليه.
وما إن سمع صوته حتى صاح به بغلظة مهيناً إياه: -إنت يا زفت يا..!
صُدم مازن من سباب والده له، وسأله منزعجاً: -في ايه يا حاج؟
رد عليه بحدة: -اتنيل تعالى عندي تشوف الكارثة اللي عملتها!
بدا كلامه غامضاً للغاية، فسألها بعدم فهم: -كارثة ايه دي؟
أجابه أبيه بصوت شرس: -يعني مش عارف إنت مهبب إيه؟ ولابخ الدنيا وموقعني مع ولية شر؟!

سأله مازن مستفسراً: -قصدك ايه؟
صاح به مهدي بصوت هادر: -انجز وتعالى دلوقتي!
رد عليه مازن بإمتعاض: -ماشي بس هاخلص مصلحة في ايدي و آآ..
قاطعه الحاج مهدي بصرامة: -انت تسيب أي هباب وتجيلي على طول، سامع!
زفر مازن مردداً بإستسلام: -طيب!
أغلق مهدي الخط في وجهه، وغمغم بصوت محتقن متأفف وهو يجلس على مقعده: -يعني ضاقت بيك الدنيا وملاقتش إلا البت دي وتتجوزها! خلاص الحريم خلصوا!

نفخ بصوت مرتفع مردداً بضجر: -استغفر الله العظيم! استرها يا رب على عبيدك..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة