قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والثمانون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والثمانون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والثمانون

كان محدقًا في سقفية غرفته حاضنًا لابنه الصغير الذي غفا من الإرهاق على صدره، فأبى أن ينقله للغرفة الأخرى وبقى معه، تنهد بتعب لكن تأهبت حواسه بالكامل حينما صدح اسمها على شاشة هاتفه المحمول، انتفض فزعًا من نومته المريحة ليجيب على اتصالها قائلاً بتوجس:
-بسمة!
ردت عليه بهمس حذر: -انت صاحي؟
سألها متلهفًا دون أن يترك لها مساحة للرد: -خير في حاجة حصلت؟ كلكم كويسين؟ في حد..

قاطعته مرددة بخفوت آمر: -ممكن تسكت لحظة وتسمعني!
صمت مجبرًا ليعرف سبب اتصالها المريب في تلك الساعة المتأخرة قائلاً باقتضاب: -ماشي!
سمع صوت زفيرها وهي تقول بهدوء: -أنا محتاجة منك خدمة
رد عليها بلا تردد: -خير، قولي اللي عاوزاه على طول
واصلت حديثها قائلة بغموض: -بص أنا عاوزاك تسأل أخوك كده بشطارتك عن المحل اللي جاب منه فستان الفرح
عقد ما بين حاجبيه متسائلاً باهتمام: -ليه؟

بدت نبرتها مضطربة نوعًا ما وهي تجيبه: -يعني، في مشكلة حصلت معاه واحنا محتاجين نشوف واحد شبهه بالملي
-ممممم
سألته بجدية حينما لاحظت صمته: -ها هاتعرف تعمل ده من غير ما يحس؟
رد عليها مضيفًا بفضول: -مش أما أفهم بالظبط ايه اللي حصل عشان أعرف هاخشله من أنهو دخلة!
أجابته بامتعاض وكأنها تستخف بقدراته: -مش هاتفرق يعني معاك، إنت بس..

انزعج من طريقتها المستهونة به مرددًا: -لأ معايا جايز تفرق، منذر ممكن يشك من سؤالي و..
لم يكن أمامها وقتًا للمجادلة، فردت مقاطعة على مضض: -بص هي نيرمين شدت مع أسيف والفستان اتقطع ساعة الخناقة!
وضع دياب يده على رأسه مصدومًا مما قالته هاتفًا بذهول: -أوبا!

تابعت قائلة بضيق: -وأسيف طبعًا زعلت عليه، وجايز تكون انهارت بسبب اللي حصل، أنا مش قادرة أوصفلك شكلها عامل ازاي دلوقتي، فأنا بأحاول أشوفلها بديل قبل ما الموضوع يكبر أكتر من كده!
هز رأسه متفهمًا وهو يعبث بخصلات شعره: -أها، تمام!
سألته بجدية متصلبة: -المهم هاتعرف تتصرف ولا لأ؟
تردد لوهلة في إيجاد طريقة ملائمة لحل تلك المعضلة في أسرع وقت، لذا أجابها بحيرة طفيفة فاركًا طرف ذقنه:
-هاجرب.

شعرت باحتمالية رفضه لمساعدتها فأردفت قائلة: -لو مش هاتقدر قول وأنا..
قاطعها منزعجًا من تسرعها الدائم: -يا ستي اصبري على رزقك شوية!
نفخت بصوت مسموع مرددة: -ماشي، بس يا ريت في أسرع وقت!
رد عليها بامتعاض مستنكر: -النهار له عينين، مش معقول هاروح أصحيه دلوقتي وأسأله عليه، ده أنا كده بأقوله شك براحتك!
هتفت قائلة بتنهيدة: -في دي عندك حق!

ابتسم لنفسه بغرور مضيفًا بنبرة موحية: -أنا طول عمري عندي حق بس اللي يحس!
استشعرت المغزى من كلماته المتوارية، فتنحنحت بخفوت مكملة بجمود زائف: -احم. عمومًا ابقى عرفني على طول أول ما يقولك
-أكيد طبعًا
-كمان اعرفلي المقاس وسعره، اوكي؟
هز رأسه بالإيجاب وهو يسألها بمداعبة طفيفة: -طيب، حاجة تانية يا جميل؟!
ردت بجمود مانعة إياه من مواصلة طريقتها تلك في الحديث معها: -لأ، وسوري إن كنت عطلتك، شوف وراك ايه.

أراد المماطلة معها عله يستميل عقلها ناحيته فيرق قلبها إليه، لذلك توسلها برجاء مهذب:
-ماتخلينا سوا نحكي ف..
قطعت عليه أحلامه الوردية هاتفة باقتضاب صارم: -سلام!
تفاجأ بها تنهي المكالمة معه دون أي مقدمات، فأبعد الهاتف عن أذنه ليحدق في شاشته مذهولاً من أسلوبها الفظ، امتعض وجهه باستنكار واضح مرددًا لنفسه:
-في كده!

تنفست الصعداء لعدم اكتشاف أمرها وهي تحدثه سرًا، وتسللت على أطراف أصابعها عائدة إلى الغرفة لتطمئن على أسيف هامسة لنفسها بنبرة متفائلة:
-يا رب تظبط معايا!
ولجت بسمة بحذر للداخل مسلطة أنظارها على أسيف التي بقيت على وضعيتها تلك لا تحرك ساكنًا، اقتربت أكثر منها لتتفقدها، فوجدتها قد غفت وعبراتها تبلل وجنتيها، مسحت على وجهها برفق هامسة:
-كل حاجة هاتبقى كويسة إن شاء الله!

انحنت على جبينها لتقبلها بنعومة قبل أن تزيح بحذر ما علق من دمعات موجوعة بأناملها.

فكر طوال الليل في طريقة تمكنه من استدراج أخيه في الحديث دون أن يثير ريبته ليعرف منه اسم المتجر الذي اشترى الثوب منه، فقد اعتبر المسألة أمرًا هامًا، فإن نجح في إنجازها سيحظى بفرصة طيبة عند حبيبته، ستتأكد حينها أنها يمكنها الاعتماد عليه في أصعب الأمور وأيسرها، بإرهاق واضح غفا قليلاً مستصعبًا النوم وقد أنهك عقله من كثرة التفكير، ومع إشراقة شمس اليوم نهض باكرًا مستعدًا لسؤاله.

استغرب جليلة من وجود ابنها بالصالة في تلك الساعة المبكرة، فاقتربت منه مدققة النظر في وجهه المرهق قائلة:
-حبيبي يا ابني! هو انت لسه صاحي؟
أجابها بصوت شبه متحشرج: -لأ يا امي، نمت وقومت
أمعنت النظر في تلك الهالات السوداء المتشكلة أسفل جفنيه، وكذلك في علامات التعب البادية على ملامحه، فردت بتوجس:
-بس وشك تعبان وعينيك حمرا، أوعى يكون فيك حاجة ومش عاوز تقولي!
هز رأسه نافيًا وهو يقول: -لأ يا ستي، أنا كويس.

-يا رب دايمًا يا حبيبي،
دفعتها غريزتها الأمومية للسؤال بفضول: -طب ايه اللي مصحيك كده؟
رد مقتضبًا في الحديث: -مافيش
غمزت له قائلة بمكر: -يا واد، ده أنا أمك وعارفاك!
تأكد أنه لن يسلم من إلحاحها المتواصل لمعرفة الأسباب التي جعلته يظل مستيقظًا في ساعة مبكرة كتلك، هي والدته، وهو يحفظ تصرفاتها عن ظهر قلب، فتنهد قائلاً باستسلام:
-كنت عاوز أسأل منذر في حاجة كده، إن فلحت معاه جايز قلبها يرق!

تابعت متسائلة بابتسامة عابثة: -مين دي؟
أجابها بعبوس: -اللي دماغها أنشف من الحجر!
أخفت جليلة ضحكة متسلية مرسومة على ثغرها بوضع يدها أمام فمها وهي ترد: -أها، بسمة!
-ايوه
سألته بفضول أكبر: -هي عاوزة ايه؟
رد باقتضاب غامض: -حاجة عادية
أصرت على معرفة الرد على سؤالها مضيفة بإلحاح أكبر: -اللي هي ايه؟
رد عليها مستنكرًا أسلوبها الفضولي المكشوف: -مش مريحة نفسك يا حاجة جليلة
هتفت مبررة: -مش بأطمن عليك، جايز..

قاطعها بجدية قبل أن تستنتج أمورًا وهمية من مخيلتها: -ماتقلقيش، دي بس عاوزة تعرف اسم المحل اللي منذر جاب منه فستان مراته!
هتفت مبدية إعجابها بالثوب: -أخوك طلع ذوقه حلو، الفستان كان جميل عليها والله!
أراد صرف انتباهها عنه كي يركز مع أخيه الذي أوشك على الخروج من غرفته بين لحظة وأخرى، فابتسم لها طالبًا بود:
-ماتكسبي فيا ثواب يا أمي وتعمليلي فنجان قهوة أظبط بيه دماغي.

ربتت على كتفه مرددة بحنو: -من عينيا يا ابني!
-ربنا يباركلي فيكي!
تابعها بأنظاره وهي تتجه نحو المطبخ، فاسترخى في جلسته مكملاً تحديقه في باب غرفة أخيه، بعد برهة ولج منذر خارج غرفته متجهًا نحو المرحاض فتفاجأ بدياب مستيقظًا على غير عادته، دنا منه متسائلاً بغرابة:
-مش مصدق عيني، دياب صاحي بدري كده، أخيرًا عشت وشوفت اللحظة دي!
ابتسم له ابتسامة باهتة وهو يرد: -الحمدلله.

تابع منذر قائلاً وهو يلف المنشفة حول عنقه: -يا رب تداوم على كده
حك دياب رأسه مترددًا في مفاتحته، فأخيه ليس بالساذج لتنطلي عليه مثل تلك الأسئلة دون أن تثير في نفسه شكوكًا ما، وبفرض نجاحه عليه أن يبدو عقلانيًا متأنيًا في حديثه، تنفس بعمق عاقدًا العزم على سؤاله، صاح قائلاً بجدية:
-بأقولك يا منذر
انتبه له الأخير فالتفت ناحيته هاتفًا باقتضاب: -ايوه!

تمط بذراعيه مدعيًا التثاؤب وهو يسأله بفتور زائف: -هو فستان مراتك ده جبته منين؟
أثارت جملته تلك فضوله بدرجة كبيرة، خاصة أنه لم يهتم مسبقًا بالسؤال عما له علاقة بثياب النساء، لذلك رد متسائلاً وهو يتفرس في وجهه بنظرات قوية:
-بتسأل ليه؟
لوهلة بدا مرتبكًا أمامه من طريقته تلك، فخرج صوته مضطربًا بصورة خفيفة وهو يقول: -هه، يعني عاجبني شكله وبأفكر أبقى أجيب من نفس المحل لما أخطب إن شاء الله!

بدا غير مقتنع بإجابته المريبة تلك، فرد بجمود: -لما ربنا يسهلك أنا هاجي معاك!
ألح عليه دياب مبتسمًا بسخافة: -يا سيدي قولي، مش هايخسر حاجة معاك، أهوو تفيد أخوك برضوه!
-ماشي
التوى ثغره بابتسامة متباهية لكونه قد نجح مؤقتًا في تنفيذ خطته، ردد بين نفسه بتفاخر مغتر:
-اشطا، كده بسمة هاتفرح، ده العملية طلعت سهلة أوي!

في تلك اللحظة خرجت والدته من المطبخ حاملة صينية صغيرة وضعت بها فنجان القهوة الخاص به، سارت نحوه متسائلة باهتمام:
-ها يا دياب عرفت منه اسم المحل والمقاس بتاعها ولا لسه؟
نظر لها مصدومًا من عبارتها الأخيرة التي جعلت منذر يرتاب سريعًا من سؤالها الغير مريح، ضاقت أعين دياب مضيفًا باستنكار:
-متشكر يامه، فعلاً الأم ما بتسترش!
وضع منذر يده على كتف أخيه هاتفًا بصرامة: -في ايه يا دياب؟

ابتسم ببلاهة وهو يجيبه: -ولا حاجة خالص!
ضغط على كتفه بقبضته متابعًا بحدة طفيفة: -دياب، شكلك مش مريحني!
فرك مؤخرة عنقه قائلاً بتوجس: -يا عم ماتحطش في بالك، ده كله تمام و..
صاح به الأخير بنفاذ صبر وقد قست ملامحه كليًا: -ماتلفش عليا، خشلي دوغري!
تيقن أن أخيه لن يكف أبدًا عن سؤاله حتى يحصل منه على الجواب الكافي له، فرد عليه متوسلاً:
-طيب، بس أمانة عليك ما تجيب سيرتي في الليلة دي، أنا كنت عاوز أخدم و..

هدر بانفعال آمر: -انجز!
ضغط على شفتيه مرددًا باستسلام: -ماشي!
تبلدت تعبيرات منذر حينما عرف السبب الحقيقي وراء تساؤلات أخيه الغامضة، وزادت قسوة نظراته عندما علم أن وراء تلك المشكلة نيرمين، أغضبه تعمدها إفساد ليلة زوجته المميزة، خاصة أنه يعرف مدى حساسية أسيف تجاهها، صاح هاتفًا بحدة:
-ملكش دعوة بالموضوع ده خالص، أنا هاتصرف فيه!
انتاب دياب القلق من نبرته المهددة، فاعترض عليه بتوجس: -بس يا منذر..

قاطعه بصرامة أشد وقد أظلمت نظراته: -سمعتني! ده يخص مراتي
لم يضف المزيد، بل تركه واقفًا في مكانه متجهًا نحو المرحاض وهو يبرطم بكلمات مزعجة نازعًا عن عنقه المنشفة القطنية، وضع دياب يديه على رأسه ضاغطًا عليها بقوة وهو يردد لنفسه بإحباط:
-كده الموضوع فكس معايا!

كانت تتصرف بصورة طبيعية كمن لم ينتزع فرحة أحدهم عمدًا بالأمس، فأثارت انزعاج بسمة التي ظلت ترمقها بنظرات مزدرية متجنبة الحديث معها علها تشعر بفداحة خطئها، ولكن خاب أملها، فنيرمين لم تكترث بها، وبدت سعيدة بتنغيص ليلة تلك البائسة وتكديرها خاصة حينما رفضت أسيف الخروج من الغرفة أو تناول الإفطار.

تمنت لو امتلكت أختها قلبًا لينًا لشعرت بمعاناة غيرها، تحركت من مكانها مبتعدة عنها، فوجودها معها في مكان واحد يثير رغبتها في المشاجرة، لذلك الأفضل لها حاليًا تجاهلها علها تصفو منها، قرع الجرس فانتبهت له نيرمين، ضبطت حجابها على رأسها وهي تخطو نحو باب المنزل قائلة ببرود:
-ثواني يا اللي بتخبط، أنا جاية أهوو!
ارتفع حاجباها للأعلى حينما فتحته ورأت منذر بشموخه المهيب أمامها، انفرجت شفتاها مرددة:
-سي منذر!

استشاطت نظراتها منها تلك المقيتة غليظة القلب التي تتعامل ببرود وكأنها لم تتسبب في تعاسة حبيبته، زاد إظلام عينيه من طريقتها المستفزة خاصة حينما ابتسمت له متعمدة إثارة أعصابه التي كانت تشتعل غيظًا منها، أخرجته من تفكيره الانتقامي عندما رددت بدلال:
-منورنا يا سي منذر، خطوتك بقت..
وقبل أن تكمل جملتها للنهاية صاح بها بنبرة أجفلت جسدها: -عملتي ايه في مراتي؟!

شحب لون وجهها سريعًا من صوته المخيف، وتراجعت مسرعة للداخل رغم بقاء عينيها مثبتة عليه، تحرك بثبات نحوها متابعًا بنبرته الغاضبة وهو يشير بيده مهددًا:
-مش أنا حذرتك مالكيش دعوة بيها!
ازدردت ريقها بخوف بائن، وقبل أن تفكر في الهرب منه، قبض على ذراعها بيده، شهقت مرعوبة منه، سببت نظراته المهددة بإحراقها حية الرعب لها، شعرت بقوة قبضته المعتصرة لذراعها، فتألمت وهي تجيبه بتلعثم:
-أنا. أنا.

هزها بعنف كبير صارخًا بها: -انطقي، ليه عملتي كده؟
فهمت على الفور أنه لم يأتِ في زيارة ودية بحكم كونه زوجًا لابنة خالها، لكنه جاء للانتقام منها بسبب ما فعلته معها بالأمس، ارتعش جسدها فزعًا منه، وجف حلقها تمامًا من مجرد التفكير فيما سيفعله بها.
أنقذها من انتقامه المهلك صوت والدتها المرحب: -أهلاً يا بني، نورتنا
أرخى قبضته مضطرًا دافعًا إياها بغضب بعيدًا عنه، ثم استدار بجسدته ناحيتها متسائلاً بتشنج:.

-فين أسيف؟
لاحظت حدته معها، فاستشفت سريعًا سبب غضبه دون حاجتها للتخمين، لذا أجابته بلا تردد:
-نايمة جوا يا ابني!
رد عليها بنبرة آمرة: -ناديلها يا ست عواطف، عاوز أتكلم معاها دلوقتي!
هزت رأسها بالإيجاب قائلة بتوتر: -ح. حاضر
التفت برأسه ناحية نيرمين التي كانت تفرك ذراعها مخففة حدة الألم المسيطرة عليه، صاح بها مهددًا بعدوانية مهلكة:.

-اخفي من وشي أحسنلك، لأني قسمًا عظمًا لو اتسابت عليكي ما هخلي فيكي حتة سليمة، يالا غوري!
انتفضت في مكانها مذعورة من عدائيته المخيفة، فأدارت جسدها مهرولة بقدميها لتختفي من أمامه قبل أن يتهور عليها وينفذ تهديده بها.

راقبته بسمة من المطبخ رافضة التدخل في هذه المسألة، فأختها تستحق ذلك عن جدارة، هي علمت على الفور مما رأته أن دياب فشل في مهمته التي طلبتها منه، وقدوم أخيه في تلك الساعة دليل صريح على معرفته بكل شيء، هزت رأسها نادمة على لجوئها إليه في وقت الضيق، خاب رجاؤها معه مرة أخرى.

مالت عليها عمتها محاولة إقناعها بالنهوض من الفراش لمقابلته لكنها رفضت بشدة، كيف تقابله وقد أخلت في أول وعودها معه رغم بساطته؟ كيف تبرر له فشلها في الحفاظ على ثوب زفافها؟ أجهشت بالبكاء الحارق مغمضة عينيها بقوة وهي ترد:
-لأ، قوليله مش طالعة، مش عاوزة أقابله!
زاد تمسكها بالحقيبة البلاستيكة رافضة حتى تركها من أحضانها، نظرت لها عواطف بإشفاق مرددة بتوسل:
-معلش يا بنتي، هو مصمم يشوفك.

أولتها أسيف ظهرها هاتفة بنواح: -خليه يمشي يا عمتي، عشان خاطري خليه يمشي!
يئست من إقناعها بالعكس، فهزت رأسها مستسلمة لبكائها الذي يحرك القلوب، وخطت نحو الخارج محاولة التفكير سريعًا في حجة مقنعة لتبرر له سبب رفضها.
لم يكن بحاجة إلى تفسير تعابيرها المتوترة حينما جاءت إليه تقدم قدمًا وتؤخر الأخرى، هتف بصرامة غير قابلة للنقاش:
-أنا عاوز أشوف مراتي، تسمحيلي ادخلها الأوضة!

شهقت مصدومة من طلبه المفاجئ مرددة بذهول: -ت. تدخل عندها؟
عقد ما بين حاجبيه بشدة قائلاً بنبرة قوية ذات مغزى: -هي مراتي ومن حقي أخدها دلوقتي وامشي! بس أنا ماشي بالأصول للأخر
تفهمت مقصده الحذر، والذي كان يتضمن نوعًا من التهديد بين طياته، فردت بحذر: -ايوه، بس هي ممكن آ..
قاطعها بصلابة جامدة دون أن تتبدل تعبيرات وجهه المشدودة: -أنا هاتصرف معاها!

كانت مضطرة للقبول بطلبه المشروع، فهي لن تستطيع منعه عما يريد خاصة أنها ترى بوضوح انفعاله المهدد إن أظهرت العكس، تقوس ثغرها بابتسامة باهتة قائلة:
-وماله يا ابني، اتفضل.
أشار لها بكفه مرددًا بشراسة خفيفة: -أنا عارف السكة كويس! خليكي مرتاحة!
ابتلعت عواطف ريقها هامسة بتوجس كبير: -استر يا رب!

ابتلت الوسادة بعبراتها الغزيرة بعد أن انخرطت في البكاء مجددًا معاتبة نفسها بقسوة لتراخيها في الحفاظ على أمانته، استدارت للجانب مولية ظهرها للباب وهي تئن بحسرة، زادت شهقاتها مع انهمار دموعها وهي تتشبث أكثر بالحقيبة البلاستيكة، استمع إلى صوتها وهو يدنو من غرفتها فاعتصر قلبه ألمًا عليها، وقف عند العتبة محاولاً ضبط انفعالاته قبل أن يلج إليها، هو مزعوج لتلك الحالة التي وصلت إليها، لا يعبأ بكون الثوب قد تمزق من عدمه، المهم عنده ألا تتألم أو تبكي مهما حدث، دق الباب الموارب بخفة مستئذنًا بالدخول، لكنها لم تنتبه له، فتجرأ وفتحه ليجدها على تلك الوضعية.

سحب نفسًا مطولاً حبسه لثوانٍ قليلة في صدره مانعًا نفسه من التهور والعودة للفتك بتلك التي جعلتها تعاني بقسوة، لفظه دفعة واحدة وهو يتحرك بخطوات شبه متعجلة نحو فراشها، بدا صوت بكائها واضحًا، لكن كلماتها المتقطعة كانت مبهمة بالنسبة له حينما قالت:
-ضاع مني. معرفتش أحافظ عليه، هو. كان، ده.

دار حول الفراش ليصبح في مواجهتها، جمد أنظاره المحتقنة على وجهها الباكي، فرأى ذلك الحزن الكبير الذي يسيطر على كل قسماتها، كانت أعينها متورمة، وأنفها منتفخًا وملتهبًا من كثرة البكاء، زاد ألم قلبه من رؤيتها هكذا، تحركت عيناه نحو تلك الحقيبة القابضة عليه، ولمح أطراف الثوب تتدلى من فتحته، خمن سريعًا ماهيته.

لم يطرأ بباله مطلقًا أن تنهار هكذا لمجرد تمزق الثوب، أدرك مدى أهميته عندها لكونه أوصاها فقط عليه، لم يكن في نيته حينما طلب منها ذلك الأمر سوى التلميح برغبته في التعجيل بزفافهما ليقينه بأنها ستخجل منه وتتعلل بأي أعذار لتؤجل الأمر إن أعلن مقصده صراحةً.

وخزة عنيفة ضربت صدره بقوة لمشاركته بصورة غير مباشرة في إيلامها، لو كان يعرف بنوايا نيرمين الدنيئة لما فكر في ذلك، جثى على ركبته أمامها، ومد يده نحو كفها ليضعها عليه هامسًا لها:
-حقك عليا
توهمت أنها تسمع صوته، فردت معتذرة: -معرفتش أحميه منها، غصب عني..
قاطعها قائلاً بحدة: -محروق أبوه ده فستان اللي يعمل فيكي كده!

تأكدت من نبرته القوية، لم تكن تخيلات اختلقها عقلها من شدة إحباطها كوسيلة هروبية للاعتذار منه، فتحت عينيها ببطء لتحدق فيه، رأت نظراته قريبة للغاية منها، نظرات طمئنتها، وبثت في روحها المزعوجة الأمل من جديد، شعرت بلمسات أصابعه الحنونة على كفها، رمشت بعينيها مزيحة تلك العبرات التي تغرق مقلتيها مرددة بصوت باكٍ:
-إنت هنا؟

مسح دمعاتها بيده الأخرى عن وجنتها قائلاً بصوت خفيض وهو يبتسم لها: -ايوه يا أسيف، أنا جمبك!
ارتجفت يداها وهي تتابع بأنين: -الفستان..
وضع إصبعه على فمها مانعًا إياها من مواصلة الحديث هامسًا بصرامة: -انسيه، مش عاوزه خالص!
ارتعشت شفتاها أكثر وهي تبرر له بحزن: -هي. كانت..
أمرها بصلابة رغم خفوت صوته: -خلاص، اللي حصل حصل!

اعتدل واقفًا في مكانه محدقًا فيها بنظرات مطولة، جلس إلى جوارها على طرف الفراش، وحرك يديه على ذراعيها ليجذبها منهما نحوه، ضمها إلى صدره، فاتكأت برأسها على كتفه دافنة وجهها فيه، لف ذراعيه حول جسدها لتشعر بقوة ضمته لها، مسح بيده على شعرها المكشوف قائلاً بجدية:
-جهزي نفسك يا حبيبتي، أنا هاظبط الوضع عندي!

استكانت أنفاسها المتهدجة معه، فتابع بثبات عاقدًا العزم على إنهاء ما بدأه: -أنا عارف إن لسه قدامنا وقت عشان أخلص شقتي وحاجتي، بس كل ده مش مهم، احنا خلال كام يوم هنتجوز عند أهلي، والشقة تجهز على مهلها!
ضاقت نظراته أكثر حتى باتت حادة للغاية وهو يكمل بصرامة: -بس استحالة تفضلي هنا معاها..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة