قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التسعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التسعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التسعون

انهيارات متعاقبة شهدها معها ووقف فيها إلى جوارها حتى تستعيد ثباتها وتعاود النهوض على قدميها من جديد، أصعبهم كان رحيل أمها، وأقساهم كان الطعن في سمعتها، وأكثرهم وجعًا تمزيق ثوب عرسها، كل تلك العلامات الفارقة في حياتها أعطته هو مكانة خاصة في قلبها، تلك المكانة التي لم ولن يطأها أحد من قبله ولا بعده، تمكن بمواقفه الرجولية المختلفة الاستحواذ على كيانها، تغلغل في خلايا عقلها فتشبعت به حتى بات مسكنها لأي أوجاع محتمل أن تؤذيها، وباتت الشوكة بالنسبة له تشكل عقبة خطيرة عليه إزاحتها قبل أن توخزها مصادفة فتتألم.

حب ولد بين صدامات جدلية وصراعات فكرية، بين عناد مُلح وتحدٍ مستمر، حب اشتعلت جذوته في قلبيهما معًا حتى تحولت إلى شرارة أضاءت درب سعادتهما، فلم تكتمل فرحته إلا بها ومعها.
أبعد رأسها عن صدره ليحدق بعمق في عينيها الدامعتين قائلاً بثبات جاد: -أنا عارف إن الوقت مش هيسعفنا نخلص فيه كل حاجة، بس كوضع مؤقت أنا هاطلب منك..
صمت متعمدًا ليثير انتباهها أكثر، ثم أكمل بتأنٍ: -نتجوز في بيت أهلي!

تعقدت ملامح وجهها من طلبه المفاجئ، وحدقت فيه بنظرات جامدة مشدوهة بما تفوه به، لاحظ التغيرات الطارئة عليها، فطمئنها مضيفًا بهدوء:
-أنا مش عاوزك تخافي، وأوعدك خلال شهرين تلاتة بالكتير هايكون بيتك جاهز بكل حاجة نقصاه، ولو عاوزة ضمانات بده معنديش مانع!
أخفضت أعينها بعيدًا عن نظراته المتخللة لها مرددة بارتباك: -هاه، مش كده..

أحاط وجهها براحتيه ماسحًا ما تبقى من عبرات مبللة لوجنتيها هاتفًا بنبرة صادقة: -محدش هيضايقك ولا هيدوسلك على طرف، إنتي هاتفضلي معززة مكرمة عندي، خديها مني كلمة!
ارتعش جسدها من لمساته الحنون على بشرتها، فأغمضت جفنيها هامسة بحرج كبير: -بس أنا..
رد مقاطعًا بصوت رخيم: -وافقي انتي بس وأنا هاعمل كل حاجة عشان ماتحسيش بالفرق!

تجمدت أنظارها على أطراف ثوبها الممزق المتدلية من الحقيبة، فحدق فيما شردت فيه، أرخى يده عن صدغها ليمسك به قائلاً بنبرة مزعوجة:
-والفستان ده ارميه
قبضت عليه أكثر، ثم رفعت عينيها في وجهه قائلة باعتراض: -أنا وعدتك أحافظ عليه، و..
جذبه بقوة من يدها موضحًا بجدية: -أنا مايهمنيش الفستان على أد ما يهمني سعادتك، واللي يخليكي تنزلي دمعة واحدة من عينك مالوش لازمة عندي!

ظلت أنظارها مثبتة على وجهه، فابتسم لها مضيفًا بتنهيدة تحمل الكثير من الأشواق والرغبة:
-أسيف أنا بأحبك ومش مستحمل حاجة عليكي!
داعب وجنتها بإبهامه بحركة ثابتة ابتسمت بحياء على إثرها، عاد تورد بشرتها من جديد، ولمعت عيناها ببريق مشرق، تنهد بحرارة مقاومًا مشاعره التي تحثه على التودد أكثر معها، وقبل أن يعبث هوى نفسه بعقله انتبه لصوت عواطف الصائح:
-ربنا يسعدك يا ابني!

أبعد يده برفق عن وجهها ملتفتًا نحوها وهي تتابع بامتنان: -مش عارفة أقولك ايه، الحمدلله إنها قامت واتكلمت معاك!
نهض واقفًا من على طرف الفراش موجهًا حديثه لها بجدية: -ست عواطف أنا بأطلب منك رسمي وقصاد مراتي إننا نتجوز في أقرب وقت!
اتسعت عيناها مرددة بصدمة: -تتجوزوا؟!

هز رأسه بالإيجاب وهو يقول موضحًا: -ايوه، كوضع مؤقت عند أهلي لحد ما شقتنا تخلص، وأنا هاجيبلها أوضة نوم جديدة وهوضبلها المكان، ومستعد أقدم ضمانات عشان تطمن!
استنكرت كلماته الأخيرة التي تشير إلى عدم ثقتها به، فعاتبته قائلة: -ضمانات ايه، متقولش كده يا سي منذر، ده انت أبو الرجالة والشهامة كلها!

ثم ابتسمت متابعة بنبرة ذات مغزى وهي تشير نحو ابنة أخيها: -بس القرار في الأول وفي الأخر راجع ليها، فلو وافقت يبقى على بركة الله!
استدار برأسه نحو حبيبته التي كانت تطالعه بنظرات خجلة متسائلاً: -ها يا أسيف؟ قولتي ايه؟

بقيت شفتاها مطبقتين لا تنبس بأي كلمة، فظن أنها ربما تكون مترددة من القبول والمجازفة بالبقاء مع أهله في بيت مليء بالكثير من الأفراد، فلن تحظى بخصوصيتها كغيرها من الفتيات خاصة أنها عروس جديد ولم يسبق لها الزواج، جمد أنظاره عليها مؤكدًا:
-لو خايفة حد يتعرضلك هناك، فصدقيني هما مش كده، أهلي بيحبوكي، وهيحاولوا يسعدوكي زيي، وانتي دخلتي عندنا أكتر من مرة وشوفتي الدنيا ماشية ازاي هناك.

أكدت عواطف على حديثه قائلة: -دي الست جليلة تتحط على الجرح يطيب، ولا الحاج طه حاجة كده..
لم تلتفت أسيف نحو عمتها، وبقيت عيناها عليه هو فقط وهي تسأله بهدوء مريب: -انت هاتكون معايا؟
احنى نفسه قليلاً نحوها ليضع أنامله على طرف ذقنها قائلاً بثبات: -مش هاسيبك للحظة!
لم ترمش بعينيها، وشردت في نظراته المتأملة لخلجاتها، شعرت بصدقه، بيقينها بحفاظه على وعده الذي لن يحنثه أبدًا، فهمست بابتسامة باهتة:
-أنا موافقة!

اضطربت أنفاسه مرددًا بعدم تصديق: -موافقة؟!
أومأت برأسها إيجابًا ليزداد مع حركتها تلك خفقات قلبه المحب لها، لم يشعر بنفسه وهو يضم رأسها إليه، وحاوطها بذراعيه شاعرًا بتلك السعادة الغامرة التي تحررت أخيرًا من مرقدها لتغلفهما بسحرها الدائم، همس لها باشتياق راغب:
-بأحبك يا بنت رياض!

أطلقت عواطف زغرودة مدوية معبرة عن فرحتها بموافقة ابنة أخيها، فهي ستنعم أخيرًا بما حُرمت منه، ركضت بسمة نحو والدتها بعد سماعها لأصوات الزغاريد المتعاقبة لتقف إلى جوارها متأملة ذلك المشهد العاطفي بابتسامة خجلة، لفت ذراعها حول كتف والدتها ناظرة لها بأعين متوهجة فرحًا لابنة خالها، بينما ظلت نيرمين في الخارج تحترق كمدًا بنيرانها حتى غص صدرها بالبكاء المرير، لم تخفِ عبراتها المنهمرة بغزارة، فقلبها قد انفطر على حب مستحيل بقهر مؤلم.

مر يومان فشل خلالهما في الوصول إليها، فلم تجب على اتصالاته المتكررة متعمدة تجاهله، فتأكد من انزعاجها منه بسبب سوء حظه مع أخيه الذي كشف خطته ببساطة، وما ذنبه إن كان يمتلك فراسة حادة؟ بدا شبه متعصب مع أغلب من يتعامل معه خاصة أن الساعات تمر ثقيلة عليه، أراد أن ينهك نفسه في العمل عله يلهي عقله عن التفكير فيها، لكن لا يستمر الأمر طويلاً، فما يلبث أن تقتحم مخيلته بضراوة لتعذبه أكثر.

زفر دياب بإرهاق مرجعًا رأسه للخلف وهو يجلس خلف مكتبه محدثًا نفسه بتبرم: -امتى تحني عليا بس؟
ولج إليه أحد العمال قائلاً بتردد حرج: -ريس دياب. آآ. في واحدة مصممة تقابلك برا
عقد ما بين حاجبيه متسائلاً باندهاش غريب: -واحدة! مين دي؟
أجابه العامل وهو يشير بيده بتوتر ظاهر عليه: -دي الست..

اعتقد دياب للحظة أنها ربما تكون حبيبته قد جاءت إليه لتعنفه وجههًا لوجه، لم يهمه الأمر على قدر رؤيته لها، المهم أنها متواجدة عنده، لم يدع فرصة للعامل لإتمام جملته فقاطعه قائلاً بحماس:
-أنا طالع أشوفها بنفسي!
توجس العامل خيفة مما سيراه، فحتمًا سيتلاشى ذلك الاهتمام ليحل الوجوم كبديل عنه إن عرف هوية المتواجدة بالخارج.

قررت ألا تستسلم وتتودد إليه على طريقتها الخاصة رغم جفائه وغلظته معاها، أرادت أن تثير أعصابه نحوها وتحفزها للتفكير فيها حتى لو في الأمر مجازفة كبيرة، لذلك استقلت ولاء سيارتها وصفتها أمام وكالته متأنقة بثيابها الفاضحة لتحرك فيه حمية الرجال حينما يراها هكذا، لا ترتدي سوى بنطالاً مثيرًا لشهوات الرجال ومن فوقه كنزة قصيرة تكاد تصل إلى خصرها مكشوفة الصدر وبدون حمالات، بالطبع هي وسيلة رخيصة لكنها واثقة من نجاحها معه.

وحدث ما توقعته اختفت بسمته المتسعة من على ثغره ليكسو تعابيره الاكفهرار والنفور، احتدت نظراته وقست تعبيراته بشدة وهو يندفع نحوها بخطوات متعصبة، حافظت على ثباتها أمامه، وتمايلت بجسدها مستندة بمرفقها على جانب سيارتها هاتفة بدلال:
-هاي دياب!
قبض على ذراعها جاذبًا إياها بعنف لتعتدل في وقفتها المائعة مجبرة، وهدر فيها بصوت متشنج وعيناها تطلقان شررًا نحوها:.

-انتي اتجنني؟ ازاي تجيلي هنا عند الوكالة، لأ وبالمنظر ده؟!
مرر أنظاره المتقدة سريعًا على ثيابها الضيقة التي كانت تبرز منحنيات جسدها بطريقة فجة مهلكة للأعصاب، وبتأويهة مصطنعة همست له بعتاب:
-آي، بالراحة يا دياب إنت بتوجعني كده!
هزها بعنف صارخًا بها بشراسة من بين أسنانه المضغوطة بقوة: -اتكلمي عدل، بلاش طريقة ال، معايا!

ارتفع حاجباها للأعلى من سبابه الحاد لكنها لم تكترث به، فخطتها لابد أن تكتمل، لذا تجاهلت كلماته النابية المسيئة لها قائلة بنعومة:
-دياب، أنا محتاجة أتكلم معاك لوحدنا!
هدر بها بانفعال مهتاج: -مافيش كلام بينا نهائي، إنتي مابتفهميش
أسبلت عينيها نحوه مبررة: -ماهو كله عشان مصلحة يحيى!

أرخى قبضته عن ذراعها مظهرًا تأففًا صريحًا منها، ابتسمت متابعة بعبث: -أنا أمه ومحتاجاه معايا كام يوم، ولازم نتفاهم على ده ودي من غير ما نلجأ للأقسام، صح ولا أنا غلطانة؟
نظر لها باحتقار وهو يجيبها بازدراء مهين: -ده منظر أم، طب اتكسفي على دمك والبسي حاجة تسترك بدل ما انتي معرية لحمك لكل الناس!
تنهدت في وجهه بتنهيدة حارة متسائلة بصوت خفيض مثير: -لسه بتغير عليا؟

زادت نظراته نفورًا من أسلوبها المبتذل معه صائحًا باستنكار مزدري: -بأغير! انتي شكلك مبلبعة حاجة!
تجرأت أكثر معه فمدت يدها لتضعها على صدره متحسسة إياه برفق وهي تضيف بعبث: -لأ يا دياب، بس طريقتك بتقول كده، انت لسه بتغير، عينيك فضحاك!

في تلك الأثناء كانت بسمة قد ترجلت من سيارة الأجرة على مقربة من الوكالة، فرفعت عينيها عفويًا نحو مكانها، تجمدت أنظارها على ذلك المشهد الحميمي الملتهب في وضح النهار وأمام الجميع، رمشت بجفنيها غير مصدقة أنه يقف مع طليقته تداعبه وتلامسه بوقاحة وكأن شيئًا لم يكن بينهما، شعرت بدمائها تغلي بداخلها، واستعادت في ذاكرتها مشاهدًا سريعة من حديثه المعسول معها، وغزله المتواري لها، وأخيرًا عرضه بالزواج منها.

ورغم رفضها الصريح للارتباط به إلا أن وخزة قوية عصفت بقلبها جعلتها تصل إلى ذروة غضبها في أقل من ثوانٍ، كونها قد رأته على تلك الوضعية مع غيرها أصابها بالجنون.
وقفت مكتوفة الأيدي، عاجزة عن تحريك قدميها حتى لتبتعد، أجبرتها عيناها على متابعة المشهد للحظات حتى اكتفت مما رأته، رمقت الاثنين بنظرات مشتعلة، واستدارت بظهرها مبتعدة عن المكان برمته، فأي تصرف أهوج في تلك اللحظة سيحسب عليها وليس لها.

تفاجأ من حركتها المتهورة تلك على صدره، ونظراتها الماكرة التي تحاول استدراجه إلى فخها، فامتعض وجهه بشدة، وغرز أظافره في قبضتها نازعًا إياها عنه وهو يصيح بها بسباب قاسٍ:
-حاسبي ايدك ال، عني!
شهقت مصدومة من إهانته الجارحة لها، ومن أسلوبه العنيف في التعامل معها، تعمد إيلامها أكثر وهو يضيف باحتقار أشد:
-إياكي تفكري تلمسيني بقذارتك دي!

ظلت على وضعها المشدوه لثوانٍ محاولة استيعاب ذلك الكم الهائل من الإهانات الموجهة لشخصها، بدا أكثر اشمئزازًا منها، متقززًا من أسلوبها الرخيص في جذله نحوها، أكمل بعبوس نافر:
-أنا مايشرفنيش إن ابني أمه تكون بالمنظر ده!
دفعها بقبضته بعنف في كتفها مضيفًا بحدة: -ربنا ياخدك ونرتاح من فضايحك
ردت مستنكرة قسوته اللامحدودة محاولة استعطافه: -دياب!

فتح باب سيارتها ليجبرها على الدخول فيها قائلاً بشراسة: -امشي من هنا بدل ما أسيب عليكي كلاب الحتة، وصدقني مش هايفرق معايا اللي هايتعمل فيكي!
استشعرت قوة تهديده المصحوب بألم قبضته التي اعتصرت ذراعها، فتأوهت صارخة: -آآآآه، طب ابني؟
أجابها بجمود وهو يصفق باب السيارة عليها: -هاتشوفيه بس مع أمي!

ترقرقت العبرات في مقلتيها، فأزاحتهم سريعًا بأناملها قائلة بصوت شبه مختنق: -أعمل اللي انت عاوزه فيا، احنا هنفضل مربوطين ببعض، وجايز في يوم نكون سوا و..
قاطعها بسخرية متهكمة قاصدًا شتمها: -عشم ابليس في الجنة يا..!
اختنق صوتها أكثر مرددة بانكسار: -انت بتشتمني؟
أشار لها بيده هاتفًا باحتقار: -أقل واجب معاكي، طرأينا من هنا!

ضرب على سقفية سيارتها بقوة بكفه لتدير محركها وتتحرك بها من أمامه بنظرات محبطة خاسرة ذرة أخيرة في كرامتها المهدرة، تابعها بأنظاره المحتقنة حتى وصلت إلى ناصية الطريق فوقعت عيناه مصادفة على طيفها الذي يخفق قلبه معه، هتف مندهشًا:
-بسمة!

تحرك من مكانه بخطى سريعة مقلصًا المسافات ليتأكد من صدق ما رأته عيناه، ارتسم على ثغره ابتسامة عريضة تلاشى معها غضبه المبرر من تلك المعيبة التي أفسدت نهاره، أسرع في خطواته ليلحق بها صائحًا بلهفة مضاعفة:
-أنا حظي حلو إني شوفتك!
لم تنظر نحوه مطلقًا، فهي على وشك الانفجار فيه إن تركت لنفسها العنان لفعل ذلك ردًا لظنها الخاطئ في إساءته لشخصها، صاحت به متسائلة بوجوم صريح دون أن توقف سيرها:
-جاي ورايا ليه؟

استشعر من نبرتها وجود خطب ما بها، فسألها بحذر رغم معرفته إجابتها مسبقًا: -انتي كنتي هنا؟
تألمت قدمها من كثرة الضغط عليها حتى أنهكها الألم وأوجعها بدرجة ملحوظة، فتوقفت عن السير مجبرة لتلتفت نحوه بوجهها العابس المتشنج، نظرت له باحتقان وهي تجيبه بتهكم يحمل السخرية والاستهزاء:
-اه وشوفتك مع المدام، ربنا يخليكم لبعض!

كور قبضته متفهمًا سبب عصبيتها، هو تعيس الحظ معها، دومًا تضعفه الظروف في مواقف لا تخدمه أبدًا، استشعر تعقد الأمور، فهتف موضحًا بقلق:
-انتي فاهمة غلط، الموضوع فيه سوء فهم و..
رفعت يدها أمام وجهه ليقطم عبارته مضطرًا وهي ترد بجمود: -مش عاوزة أفهم حاجة، عن إذنك أنا متأخرة!
توسلها أن تبقى قليلاً ليزيل سوء الفهم الحادث، فهمس باسمها بنبرة مؤثرة
-بسمة.

أشاحت بوجهها بعيدًا عنه هاتفة ببرود جامد: -أستاذ دياب عيب كده!
التفتت التفاتة صغيرة لتنظر له بطرف عينها وهي تضيف بتساؤل ذو مغزى: -ترضاها لأختك إن حد يقف يضايقها كده؟
نكس رأسه حرجًا منها، ووضع يده على شعره عابثًا به وهو يرد بضيق: -لأ، بس ترضي انك تظلميني؟
تحرك قبالتها محدقًا في عينيها بقوة وهو يقول: -انتي بنفسك عارفة أنا بأكرها أد ايه! استحالة أفكر فيها تاني!

أخفض نبرته متابعًا بتنهيدة تحمل الكثير: -مافيش إلا واحدة بس جوا قلبي ونفسي تحن عليا، وإنتي عارفة هي مين!
تأثرت لثانية بنبرته المتوسلة لها، أكد لها حدسها نظراته المستعطفة لقلبها لكي ترفق به وتعطيه فرصة أخيرة، خشيت من افتضاح أمرها فعمدت إلى تجميد ملامحها، وردت ببرود متأهبة للتحرك:
-أنا متأخرة وتعبانة، فمن فضلك شوية!

يئس من إقناعها، فتنحى جانبًا لكي تمر من جواره زافرًا بصوت مختنق من فساد يومه بالكامل، ركل الأرضية بقدمه قائلاً بحنق:
-ربنا يحرقك يا ولاء! جيتك بالخراب عليا!

تابعت سيرها المتعجل كاتمة كم المشاعر الغاضبة المشحونة بداخلها بصعوبة بالغة، ما أزعجها وجعل همومها تطبق على صدرها تسلله إلى حياتها ليصبح جزءًا من يومها رغمًا عنها، لا تنكر أنها باتت تفكر فيه مؤخرًا، نعم ليس بالقدر الكبير في البداية، لكن مع الوقت نال قدرًا أكبر من اهتماماتها وترسخ وجوده في وجدانها فمنحته ما لا يستحق.

أخرجت من صدرها تنهيدة تحمل الكثير من الأثقال التي تكتم على روحها، ذهلت حينما رأت العبرات تخونها وتنساب برقة على وجنتيها، وضعت يدها على صدغها تتحسسه بصدمة، تساءلت بعدم تصديق:
-هو في ايه؟ أنا بأعيط ليه؟

كفكفت دمعاتها سريعًا قبل أن تراها الأعين الفضولية المدققة بأوجه المارة، تنفست بعمق لتضبط مشاعرها الثائرة، خشيت أن يكون حدث ما لم ترغب فيه، وهو وجود نبتة للحب شقت طريقها في قلبها نحوه، وإلا لما تأثرت هكذا بما رأته وانفعلت أحاسيسها، أصبح غضبها مبررًا مفهومًا بصورة كبيرة رغم إنكارها، هي تكن له شيء ما، وسيظهر مع مرور الأيام.

تجنبتها على قدر المستطاع بناءً على طلبه الخاص حتى يحين موعد زفافهما، وانشغلت مع عمتها في شراء ما ينقصها من احتياجات ولوازم العروس، سعدت الأخيرة بتجاوب ابنة أخيها مع مستجدات الأمور بصورة طيبة مطمئنة أراحت قلبها كثيرًا، وعمدت إلى تسخير جهدها بالكامل من أجلها هي فقط علها تعوضها عن غياب أبويها.

أفرغت أسيف على الفراش ما قامت بشرائه من ثياب جديدة لترتبها في حقيبة سفرها، شردت في الحقيبة الأخرى الخاصة بوالدتها الراحلة متذكرة كيف بدأت رحلتها من بلدتها الريفية حتى انتهى بها المطاف عروسًا تستعد ليلة زفافها، أطالت النظر نحوها فلم تشعر بعمتها وهي تلج إلى داخل الغرفة لتتفقدها، رأت ما تنظر إليه، فتفهمت سبب هدوئها الحزين، وضعت يدها برفق على كتفها قائلة بحنو:.

-ادعيلها بالرحمة والمغفرة، هي زمانتها مرتاحة عشان انتي مبسوطة!
أدارت رأسها نحوها متسائلة بصوت مرهق: -تفتكري يا عمتي؟
ردت مؤكدة بابتسامتها الصافية وهي تربت على ظهرها برفق: -طبعًا، أي أم في الدنيا نفسها تشوف عيالها في أحسن حال، والحمدلله ربنا كرمك بمنذر اللي بيحبك!

تورد وجهها من ذكر اسمه، فحضوره القوي بمواقفه الرجولية المختلفة يؤثر عليها بشكل ملحوظ، ناهيك عن حبه الجارف لها، ضمتها عواطف إلى صدرها متابعة بود:
-انسي الماضي وركزي في اللي جاي يا بنتي!
هزت رأسها بتفهم، فلا حاجة بها للبقاء حبيسة أحزانها، عليها أن تمضي قدمًا في حياتها.

لاحظت حالة التجاهل المسيطرة على من معها بالمنزل، وفهمت أسبابه ببساطة، باتت كالمنبوذة وهي تعيش بينهن، عقدت حجابها كعصابة لفتها حول رأسها كمحاولة بدائية لوقف ذلك الصداع المهلك إلى يكاد يفتك بعقلها، أجلست ابنتها على حجرها تهزها بتوتر وهي تقول:
-تقول بقيت جربة وسطهم!
حكت طرف ذقنها بخشونة وهي تضيف: -ده ولا واحدة عاوزة تعبرني ولا تقولي في ايه، وكل شوية ينزلوا مشاوير هنا ومشاوير هناك!

ضربت بيدها على فخذها متابعة: -ايوه، ما هو أنا بنت البطة السودة المغضوب عليها!
رفعت كفيها للسماء هاتفة بحنق: -إلهي ليلتك تبوظ عشان أفرح فيكي!
ولجت أختها إلى الداخل واجمة الملامح عابسة النظرات، لم تلقِ عليها التحية، واتجهت مباشرة نحو خزانة الملابس، أمعنت نيرمين النظر فيها متسائلة بفضول:
-خير، مش فرحانة ليه زي الشملولة اللي برا؟!

نظرت لها بحدة وهي تجيبها بانفعال: -ملكيش دعوة بيا يا نيرمين، أنا جاية أخد هدومي وأطلع، مش ناقصة سين وجيم!
لوحت لها بيدها هاتفة بازدراء: -طلعي غلبك فيا انتي التانية، ماهو كل هم في البلد يجي عندي ويتسند!
نفخت بسمة صائحة بنفاذ صبر: -يووه، أنا مش نقصاكي، أديني سيبالك الأوضة وطالعة!
سحبت أول ما التقطه يدها من على الرف صافقة ضلفة الخزانة بعصبية، ثم اندفعت للخارج مبرطمة بكلمات مزعوجة، ردت عليها نيرمين بغل:.

-غوري ياختي، بلا هم!
وضعت يديها على رأسها ضاغطة عليه وهي تقول بتبرم: -آه يا نافوخي، إلهي يجيلك صداع ماتعرفي تقومي منه!

تجول في أروقة مدرسته الجديدة بعد أن استقر بها متباهيًا بمآثره، فقد تمكن من ملامسة عدد لا بأس به من ضحاياه من صغار السن عديمي الخبرة في تلك الأمور الشاذة المشينة التي يرتكبها في حقهم، لكنه كان أكثر حرصًا على عدم افتضاح أمره بانتقاء السذج منهم والأصغر عمرًا ليلاطفهم ويداعبهم بعيدًا عن الأعين الكاشفة له.

وقع في يده ضحية أخرى؛ طفلة بريئة من الصف الأول الابتدائي، استدرجها ببراعة محنكة إلى غرفته الخاصة، فلم تنجو من لمساته المخجلة على جسدها الهزيل، عجزت عن النطق معتقدة أن ما يفعله بها شيء عابر سيزول مع الوقت، كانت ترتعد بشدة وهي تطالعه بنظراتها الخائفة، انحنى ناصر ليحملها من خصرها بيديه، ثم أجلسها على مكتبه، وأمال رأسه على وجهها طابعًا قبلة صغيرة على وجنتها هامسًا لها:
-ده أنا زي بابا يا كتكوتة!

بدت ارتعاشتها واضحة في نبرتها وهي ترد مستنكرة ببراءة: -بس بابي مش بيعمل كده
لامس خصلات شعرها بعبث موضحًا لها بدهاء ماكر: -عشان مش بيحبك، لكن أنا بأحبك أوي!
أخرج من جيبه قطعة حلوة مغلفة، ثم ناولها لها متابعًا بلطف: -خدي البسكوتة دي عشان انتي شاطرة وبتسمعي الكلام
هزت رأسها نافية وهي تقول: -مش عاوزة
وضع يده على فخذها الذي برزت من أسفل تنورتها القصيرة معمقًا لمساته نحو الداخل وهو يسألها:.

-طب نفسك في ايه؟ أجيبلك كيس شيبسي؟
حركت رأسها بالنفي وهي ترد: -لأ!
وضعت قبضتها الصغيرة عفويًا على يده لتبعدها عن مناطق جسدها المحظورة متابعة بنبرة مرتجفة:
-أنا عاوزة أروح الكلاس بتاعي
تقوس فمه للجانب مبرزًا ابتسامة شيطانية مهلكة وهو يرد: -ماشي يا كتكوتة! بس أنا هاساويلك هدومك زي ماما!

توهجت نظراته بوميض جعل الصغيرة ترتعش أكثر منه خاصة حينما تجاوز الأمر مخيلتها الضئيلة، هو بلغ ذروته ووصل إلى حالة من الانتشاء استصعب فيها السيطرة على نفسه.

في تلك الأثناء، أراد يحيى الدخول إلى المرحاض لكن تعذر على الصغار المتواجدين بطابق رياض الأطفال استخدامه لوجود صيانة حالية به نتيجة انسداد المواسير، فلجأت العاملات لاستخدام المراحيض المتواجدة بالطابق الأرضي، والقريبة من غرفة تدريس مادة الصيانة والترميمات، توجه بصحبة إحداهن نحو المرحاض، هتفت العاملة متسائلة:
-عاوزين التواليت
ردت عليها أخرى: -خليه يستنى، في 3 جوا، وبتاع البنات مشغول
-طيب.

التفتت العاملة نحو يحيى قائلة بجدية: -معلش يا حبيبي امسك نفسك شوية لحد ما يفضى واحد
هز رأسه بالإيجاب قائلاً: -طيب.

تلفت حوله متأملاً ذلك المكان الواسع بنظرات شمولية، انشغلت العاملة عنه بمعاونة طفلة أخرى في ارتداء ثيابها الداخلية، فدفعه فضوله لاكتشاف المكان من حوله ريثما يصبح المرحاض شاغرًا، وببراءة الصغار تجول في المكان مشبعًا فضوله البسيط، ضل طريقه ولم يعرف كيف يعود، دار حول نفسه بحيرة، ودلف إلى رواق منزوي مقارب للحديقة معتقدًا أنه طريق العودة، لمح تلك الغرفة البعيدة فاتجه نحوها راكضًا، كان الباب موصدًا فلم يرَ شيئًا، لكنه استمع إلى أصوات مبهمة تأتي من الداخل، فألصق جسده بالنافذة الزجاجية الداكنة، اشرأب بعنقه للأعلى محاولاً رؤية ما يدور بالداخل من ذلك الشق الزجاجي الصغير.

ارتجفت أطرافه بقوة حينما رأى ما يحدث للصغيرة التي تقبل بطريقة مريبة من وجهها وشفتيها، تجمد في مكانه مذعورًا حينما رأى من ذلك الشرخ شبح الشخص يستدير نحوه، أخرج صرخة مفزوعة من فمه متراجعًا للخلف، لكنه تعثر في خطواته المرتبكة فسقط على ظهره.

فتح ناصر الباب على مصراعيه ليجد ذلك الطفل محدقًا به، اغتاظ من كونه قد أفسد متعته في نهاية المطاف، والأهم من هذا هو احتمالية تشكيله خطرًا عليه، فإن باح بما رأه لأي شخص لانتهى أمره فورًا، بالإضافة إلى كشف المستور عن كل ما قام به، صرف الطفلة بهدوء وهو يبتسم لها:
-يالا يا حلوة على الكلاس!

ركضت الصغيرة مسرعة وهي ترتجف مما مرت به، نظرت إلى ما في كفها الصغير من حلوى بعبوس، ثم ألقتها على الأرضية لتدهسها بقدمها وهي تختفي من المكان برمته، دار في رأسه الشيطاني عشرات وعشرات من النهايات المخيفة له إن فضح ذلك الجرذ الفضولي أمره.

وبلا لحظة تأخير انحنى عليه ليمسك به من ياقة قميصه المدرسي رافعًا إياه نحوه، ركل يحيى بقدميه في الهواء مذعورًا، وفزع من نظراته المهددة بدرجة جعلته يبلل سرواله من شدة خوفه منه، صرخ به ناصر بحنق من بين شفتيه المضغوطتين:
-إنت بتعمل ايه هنا؟
بكى الصغير خائفًا: -مامي!

كظم غضبه بصعوبة كي لا يلفت الأنظار إليه، ثم أنزله على قدميه دون أن يحرره، تفحص ثيابه المختلفة نسبيًا عن المعتاد واستشف سريعًا أنه من أطفال قسم الرياض الملحق بالمدرسة، تنفس الصعداء لتيقنه من نجاته من كارثة وشيكة، ولكن مازال عليه أن يكون أكثر صرامة كي يضمن صمته الإجباري إن فكر في التفوه بأي حماقات لأحد أبويه كعادة الصغار حينما يسترسلون في حديثهم مع أفراد عائلتهم بالمنزل، قست ملامحه وباتت أكثر تهديدًا عن ذي قبل، جثى على ركبتيه ليصبح وجهه في مواجهة يحيى الذي كان على وشك الصراخ لكن يد ناصر كانت الأسرع في تكميمه، هزه بعنف وهو يهدده بنبرة أقرب لفحيح الأفعى:.

-شوف يا وله، انت مش عارف أنا مين، بس أنا العوو اللي هايطلعلك في كل حتة لو فكرت تفتح بؤك وتقول حاجة!
شعر بانتفاضة جسده بين ذراعيه المقيدين له، فتيقن من وصول رسالته إليه، تابع مضيفًا بهمس شرس:
-حتى وانت نايم هاجيلك على سريرك أخد روحك! فأحسنلك تنساني!
هزه بعنف وهو يسأله: -فهمتني ولا تحب أكل رجلك و..

حرك يحيى رأسه بالإيجاب خوفًا منه، فقد نجح ببراعة في بث الرعب في نفسه حتى كاد يموت من فرط الهلع الذي عاشه خلال تلك الدقائق العصيبة، أزاح يده عن فمه ليمسح على رأسه قائلاً بابتسامة مهددة:
-انت كده شاطر!
دقق ناصر النظر في بطاقة الهوية المعلقة حول عنقه مرددًا بهدوء: -مممم. اسمك يحيى دياب!
غمز له بعينه اليسرى متابعًا بتسلية: -شوفت أنا عرفت اسمك لوحدي ازاي، يعني هاجيبك هاجيبك لو اتكلمت!

رد عليه يحيى بصوت مختنق من بين بكائه: -أنا عاوز مامي!
قهقه ضاحكًا من براءته التي يستلذها في الصغار، ثم اعتدل في وقفته قابضًا على رسغه ليسحبه خلفه وهو يقول:
-وأنا عاوز اللي زيك!
ظن الصغير أنه سيضربه أو ما شابه خاصة أن أصابعه كانت تعتصره معصمه بشدة، فصرخ عاليًا مستنجدًا بأي أحد:
-مامي، أنا عاوز مامي! عاوز أروح، مامي!

جرجره خلفه بسهولة رغم تعمد يحيى إلقاء ثقل جسده للخلف عله يشكل عائقًا أمام قوته، لكن ما يفعله لا يشكل فارقًا معه، لمحتهما العاملة من على بعد، فركضت ناحيتهما مرددة بخوف:
-الحمدلله إنك لاقيته يا أستاذ ناصر، ده أنا دوخت عليه
جذب الصغير إلى حضنه بذراعه قائلاً بضجر زائف: -أه ماهو تايه وعمال يعيط وأنا مش عارف أفهم منه حاجة!
أشارت بيدها للأعلى مبررة سبب تواجده هنا: -ده من الحضانة فوق.

قطب جبينه مهتمًا، وتساءل بمكر ليبعد أي شبهات عنه: -وإيه اللي جابه تحت؟
أجابته العاملة بامتعاض مرهق: -التواليتات بايظة
هز رأسه متفهمًا وهو يضيف محذرًا: -أها قولتلي، طب خدوا بالكم كويس، مش كل مرة هتعدي على خير، جايز عيل يجري كده ولا كده وتحصل مشكلة!
لوت العاملة ثغرها مرددة بتوجس: -ربنا يستر، كتر خيرك يا أستاذ ناصر!

مدت يدها لتمسك بالصغير، فرأت سرواله المبتل، زاد تجهم تعبيراتها وهي توبخه بلطف: -كده بليت هدومك يا يحيى!
انفجر الصغير باكيًا وهو يصرخ بخوف: -أنا عاوز مامي!
ظنت العاملة أنه يبكي لإفساده ثيابه، ولم يأتِ في مخيلتها مطلقًا أنه لسبب أخر، أمسكت به من قبضة يده مرددة:
-استنى أما نشوف عند المس في غيار زيادة ليك ولا لأ، مش هاتفضل كده مبلول!

تنحى ناصر جانبًا مسلطًا أنظاره الشيطانية عليه، ثم لوح له بأصابعه قائلاً بثبات وقد برزت ابتسامته المخيفة على ثغره:
-باي باي يا يحيى..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة