قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الأول

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الأول

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الأول

هب وافقاً من خلف طاولة مكتبه الخشبي العتيق – الموجودة في وكالته الخاصة ببيع الأدوات الصحية - بعد أن اتسعت مقلتيه على أشدهما حينما أبلغه السائق هاتفياً بإختطاف صغيرته.

اكتسى وجهه بحمرة مخيفة، وزاد بروز عروقه التي تغلي بالدماء. انفجر فيه صائحاً بزمجرة مخيفة:
-انت بتقول إيه
صمت ليستمع لصوت السائق المرتعد وهو يعيد على مسامعه بإختصار تلك الفاجعة، فتابع صارخاً بإهتياج:
-وكنت فين يا...؟! محصلتهومش ليه؟
رد عليه السائق بخوف: -ملحقتهومش يا حاج طه، ولاد الهرمة كانوا مظبطينها وآآ...

قاطعه طه هادراً بتهديد صريح: -وعزة جلال الله لو جرالها حاجة مش هايكفيني فيك رقبتك ولا رقبة عيالك!
أنهى معه المكالمة دافعاً مقعده بعنف فسقط على الأرضية محدثاً دوياً عالياً، ثم عبث بأزرار هاتفه ليهاتف ابنه البكري منذر الذي أجابه بصوت هاديء وشبه ناعس:
-ايوه يا حاج
هدر فيه أباه بعصبية جمة: -قوم فوق وشوف النصيبة اللي حصلت!
انتبه منذر لصوت والده المنفعل، وسأله متوجساً: -خير يا أبا؟ في ايه؟

رد عليه بكلمات مقتضبة لكنها غامضة: -ولاد أبو النجا!
سأله منذر بريبة: -مالهم؟!
أجابه بإندفاع يحمل الغضب الشرس: -خطفوا أختك أروى!
صاح منذر فور سماعه لإجابته بإنفعال كبير لاعناً إياهم: -ولاد ال، ، ازاي يتجرأوا علينا، مش هاسيبهم، وغلاوة أروى عنك هآآآ...

قاطعه طه قائلاً بعنف: -هات أخوك وأنا هالم الرجالة وآآ...
رد عليه منذر مقاطعاً إياه بنبرة عدائية: -الليلة دي عندي يا حاج، مش هايدن عليهم المغرب إلا وأنا مقطع من لحمهم نسايل، وأروى هاتكون في حضننا!

هتف طه بصوت محتد وقد استشاطت نظراته: -أنا مش عاوز رغي كتير، اتصرف يالا!
في نفس التوقيت ولج شاب في مقتبل العمر عريض المنكبين، ذو صدر عريض وبشرة سمراء وشعر حليق إلى داخل الوكالة فاركاً ذقنه النابتة بكفه ومتساءلاً بإستغراب من صوت أبيه المهتاج:
-في ايه يا بابا؟
التفت طه إلى ابنه الأوسط دياب ونظر له شزراً قبل أن يجيبه بحدة: -ماهو إنت مش دريان باللي حاصل لأختك!

أثارت كلماته الحادة ريبته، فتساءل بتوجس قليل: -أروى؟ مالها؟
رد عليه بحدة تحمل التهكم: -خطفوا أختك يا بيه!
ارتفع حاجباه للأعلى في صدمة كبيرة، وصاح غير مصدق: -نعم!
تابع أباه قائلاً بنبرة مشحونة بالحنق والغل الشديدين: -ولاد أبو النجا بيلوا دراعنا وآآآ...
وقبل أن يكمل عبارته للنهاية مفسراً ما حدث كان دياب قد اندفع للخارج وقد انتوى شراً أن يفتك بمن اختطف أخته الصغرى.

شردت بأعينها الدامعة في الحقول الخضراء أمامها تتذكر كيف كانت تلهو وهي صغيرة في أحضان والدها الذي لم يدخر وسعه لإسعادها هي وأمها غير مهتمة بالمياه المنهمرة على الصحون المتراصة في حوض الغسيل بمطبخ منزلهم القديم.
كانت كالصنم الخالي من الحياة، أنظارها متعلقة بتلك الشجرة الشامخة على جانب الحقل.
لم تذق طعم السعادة والآمان إلا معه والدها الغالي. وكان هو نعم الأب لها والزوج المحب الوفي لأمها.

ذبل وجهها كثيراً، كما تشكلت الهالات السوداء حول جفنيها منذ أن تدهورت حالته الصحية وساءت كثيراً.
حدث كل شيء في زمن قياسي، أعقبه انهيار حياتهم المستقرة، وتحولهم من دائنين لمدينين من أجل الانفاق على علاجه.

كل شيء يهون في سبيل عودته واقفاً على قدميه.
يكفيها ما أصاب والدتها من عجز دائم ليلحق بها أباها الحبيب.
انهمرت العبرات من مقلتيها دون أن تدري.
هي وحيدتهما، جوهرتهما الثمينة، وهما العالم كله
لم تمتلك جمالاً خارقاً، ولا مقومات أنثوية مميزة، فقط ما اكتسبته من صفات جينية من أبويها.

بشرة قمحية، أعين بنية تحاوطها أهداب غير كثيفة، وشعر عادي مموج، طول متوسط، وجسد غير ممتليء
ربما انحناءات جسدها تعطيها مظهراً رشيقاً، لكنها تخفيه ببراعة أسفل ثيابها الواسعة فتبدو بداخلهم نحيفة للغاية.

انتبهت لصوت والدتها يناديها: -أَسِيف!
ذلك الاسم الذي انتقاه والدها لها، رقيقة القلب كثيرة البكاء..
أحبته كثيراً لأنه مختلف ومميز، وأخبرها سابقاً عن سبب تسميتها به.
هي لم تتوقف عن البكاء منذ لحظة ميلادها، كما كانت هشة للغاية حينما حملها لأول مرة بين ذراعيه، فدار بخلده أن يسميها بذلك الاسم الغريب الذي قرأ عن معناه في إحدى المجلات الثقافية.

-أسيف!
تكرر النداء على مسامعها، فكفكفت عبراتها بيدها المبتلة، وركضت مسرعة خارج المطبخ مجيبة إياها بصوت شبه متحشرج:
-أيوه يا ماما
أدارت والدتها عجلتي المقعد المتحرك ليتحرك نحوها متساءلة بصوت هاديء: -خلصتي غسيل الأطباق ولا أجي أساعدك
ردت عليها أسيف بإبتسامة ودودة: -خلاص يا ماما، ناقص بس أنضف البوتجاز ويبقى كله تمام
نظرت لها حنان بإمتنان، وهتفت بصوت شبه حزين: -معلش يا بنتي تعباكي في شغل البيت!

ثم صمتت للحظة محاولة السيطرة على نبرتها قبل أن تختنق أكثر، وأخفضت نظراتها لتحدق في مقعدها المتحرك الذي يشير إلى عجزها.

خرج صوتها مهتزاً وهي تتابع بمرارة: -لو أقدر كنت آآ..
قاطعتها أسيف قبل أن تكمل جملتها قائلة بتنهيدة: -متكمليش يا ماما، أنا ماشتكتش من حاجة
ثم ارتمت في أحضان والدتها لتضمها إلى صدرها، فطوقت الأخيرة ذراعيها حولها، وهمست لها بصوت دافيء:
-ربنا يجازيكي عنا خير يا بنتي! انتي أحسن نعمة ربنا رزقنا بيها
بكت متأثرة وهي تستند بوجهها على كتفها قائلة: -ويخليكي ليا انتي وبابا!

اندفع كالثور الهائج ناحية سلسلة مطاعم الوجبات الجاهزة والمتواجدة على مقربة من وكالة عائلته..
لم يدع الهاتف من يده طوال ركضه المجنون نحوهم، واستدعى من رفاقه الأقرب في الوصول إليه دون إبداء السبب، لكنهم يعلمون أن طلبه العاجل هذا يقف ورائه خطب جلل.

لذا لم يتأخروا عنه، وتجمعوا بعد لحظات في بقعة تم الاتفاق عليها.
حملوا العصي وبعض الأسلحة البيضاء في أياديهم، ثم انطلقوا بخطوات مخيفة نحو تلك المطاعم.
رأهم المارة، فافسحوا لهم المجال دون اعتراض طريقهم. يكفي التحديق في أوجههم لمعرفة أن كارثة ما على وشك الحدوث.
صرخ دياب بصوت جهوري مهتاج ومخيف وهو يحفر بعصاه الغليظة الأرضية الإسفلتية: -مازن يا أبو النجا! اطلعلي يا...!

نهض رواد المطعم فوراً من على طاولاتهم الأمامية، وفروا هاربين قبل أن يسقطوا ضحايا في شيء لا دخل لهم به.

انتفض مازن – الابن الأوسط للحاج مهدي أبو النجا - من على مقعد مكتبه الداخلي، وتساءل بحدة من الداخل:
-في ايه اللي بيحصل برا؟
أجابه أحد رجاله بتوتر رهيب: -ده آآ، ده دياب ابن آآ...
قاطعه مازن قبل أن يكمل حديثه قائلاً بتوعد: -جه لحد عندي!
فتح درج مكتبه، والتقط منه سلاحه الناري المرخص، ثم سار بخطوات متعجلة نحو الخارج وهو يدسه في ظهره.

في نفس التوقيت هاتف أحد العمال الحاج مهدي – صاحب السلسلة - ليبلغه بالمصيبة الدائرة في مطعهم، فذعر الأخير، وأمره قائلاً بصرامة:
-امنعوا أي حد يدخل المطعم لحد ما أجي! مافيش حد يقرب لابن طه، أنا مش ناقص، سامع، محدش يتعرضله حتى لو كان ابني مازن!

لكن لا يمنع حذر من قدر، فقد سمع دوي تهشم زجاج قوي، حيث قذف دياب الواجهة الزجاجية بقالب طوب غليظ فحطمه على الفور. وبدأ بعدها التراشق بالعصي والحجارة وتكسير بعض الطاولات، وتحول المدخل لكومة من الزجاج والأخشاب المحطمة.

تراص الرجال على الجانبين متأهبين للاشتباك بين لحظة وأخرى مع عمال المطعم فقد توقفا للحظات عن العراك حينما خرج مازن من الداخل وعيناه تطلقان شرراً مخيفاً. هدر هو قائلاً بعنف:
-جاي هنا ليه يا ابن حرب؟
رد عليه دياب بعصبية شديدة وهو يتحرك صوبه ومهدداً بعصاه القوية: -فين أروى؟
نظر له مازن بإزدراء، وأجابه بعدم اكتراث ليثير من حنقه ويستفزه أكثر: -معرفش!

اشتعلت عيناه حنقاً، وهتف بصوت محتد ومتشنج: -محدش ليه دخل يخطفها إلا انت!
تقوس فم مازن بابتسامة غير مبالية، ورد عليه بفتور وهو يتعمد النظر إليه بإحتقار:
-وهو أنا بتاع شغل العيال ده؟!
هدر فيه دياب بصوت متشنج وقد احتدت نظراته
-ايوه بتردهالي عشان المحروسة؟
هز مازن رأسه للجانبين ببرود مستنكراً ما قاله، وهتف بسخرية متهكمة: -لالالا، عيب، دي مهما كان، آآ، المدام سابقاً، وأم الحفيد الغالي!

صرخ فيه دياب بهياج وقد تحولت عيناه للشرسة وبات قاب قوسين أو أدنى من الفتك به: -ماتجبش سيرة ابني على لسانك، وهاتنطق وتقولي على مكان أروى وإلا قسماً بالله هاشقك نصين وآآآ...

قاطعه قائلاً بإستخاف وهو يرمقه بنظرات دونية: -اهدى على نفسك، بلاش حلفنات إنت مش أدها
رفع دياب عصاه الغليظة للأعلى ليضرب بها خصمه، وقبل أن يهوى بها على رأسه سمع صراخاً هادراً – ومألوفاً -يناديه:
-دياب!
تجمد في مكانه للحظة، واستدار برأسه للخلف ليجد أخيه الأكبر منذر محدقاً به بنظرات جاحظة تحمل العداء والشراسة.

تحرك منذر – ذو الطول الفاره، الجسد الضخم، والبشرة السمراء – نحو الاثنين، ولم يبعد نظراته المخيفة من عينيه العسليتين عن مازن.
لم يتحرك الأخير قيد أنملة. فبالرغم من عداوته وكراهيته اللامحدودة لدياب إلا أنه لا يستطيع التجرأ على أخيه الأكبر.

ساد صمت رهيب في المكان، وتعلقت الأنظار كلها بمنذر – ذو الهيبة والسلطة المفرطة – ومن لا يخشاه أو يكن له الاحترام وهو يعد من أقوى رجال تلك المنطقة الشعبية.

وقف منذر قبالته، ورمقه بنظرات نارية، ثم بصوت هاديء يحمل القوة استطرد حديثه متساءلاً:
-فين أروى؟
ابتلع مازن ريقه بتوتر قليل من حضوره المخيف، وقبل أن يجيبه سمع الجميع صوت الحاج مهدي يصيح عالياً:
-في الحفظ والصون، اطمن عليها يا منذر يا بني
اشتعلت عيناي مازن غيظاً من أبيه، وقبل أن يفتح فمه لينطق حرفاً، تابع أباه قائلاً بابتسامة مصطنعة:
-هي أعدة مع الحاجة أم بسمة شوية، وزمانتها في طريقها لعندكم!

ضغط مازن على شفتيه بقسوة، فقد أفسد أباه خطته في إذلال خصمه. وظل يحدجه بنظرات مشتعلة دون أن ينبس بكلمة واحدة.

صاح منذر قائلاً بصوت مخيف وهو مسلط أنظاره على مهدي: -وانتو من امتى بتخطفوا عيالنا لما تحبوا تشوفوهم؟!
رد عليه الأخير بهدوء حذر: -غلطة يا بني، مش مقصودة
التوى فم منذر ليردد بتهكم ساخط: -أها، قولتلي بقى غلطة
صاح دياب مهدداً وقد التمعت عيناه بشدة
-يبقى حسابنا مع اللي غلط!
ثم تحركت أنظاره نحو مازن الذي لم يتوقع عن رمقه بحنق.
-مظبوط، حسابنا مع الغلطان.

هتف بتلك العبارة الحاج طه بصوت مرتفع وهو يتحرك من الخلف نحوهم
أيقن مهدي أن الوضع قد تأزم للغاية، ويحتاج لاستخدام الحكمة والتريث لتداركه قبل أن يتفاقم أكثر من هذا.

رسم ابتسامة زائفة على ثغره، ولوح بيده في الهواء قائلاً بنبرة ترحيبة: -أهلا يا حاج طه، نورت حتتنا!
رد عليه طه بغضب: -لا أهلاً ولا سهلاً، الكلام بينا خلص خلاص!
هدر دياب بصوت محتد وقد أوشك على التصرف بجنون: -انت لسه هتكلم معاهم يا أبا، سيبني آآ..
وضع طه كف يده على صدر ابنه مانعاً إياه من الحركة وقائلاً بقسوة: -دياب!
أراد مهدي التخفيف من حدة الأجواء، ورد بحذر: -حقك عليا يا حاج طه، أنا محقوقلك!

نظر له طه بغل، وهتف بإمتعاض: -كويس إنك عارف ده، لأن أنا ولا ولادي بنسيب حقنا!
تفهم مهدي تهديده الضمني، وحافظ على ابتسامته الهادئة قائلاً: -الكلام أخد وعطا، تعالى نتكلم جوا
لوح طه بيده في الهواء قائلاً بضيق: -لا برا ولا جوا، بنتي ترجع الأول!
رد عليه مهدي بجدية دون أن تطرف عيناه: -زمانتها عند الست جليلة، اطمن، دي كلمة شرف مني!
وبالفعل رن هاتف الحاج طه، فأجاب عليه بعد أن حدق في اسم المتصل..

بدا حديثه غامضاً وهو يردد: -وصلت؟ طب افحصيها كويس وشوفيلي آآ...
قاطعه مهدي قائلاً بعتاب خفيف مستنكراً ظنونه السيئة به: -عيب عليك يا حاج طه، دي زي بنتي بردك! هو أنا هأذيها؟!
نظر له بتأفف، ثم تمتم بعبوس: -طب اقفلي دلوقتي يا جليلة!
أشار مهدي بذراعه قائلاً بود: -اتفضلوا يا جماعة جوا!
اعترض منذر قائلاً بغلظة: -لأ، لحد كده واستوب
بينما أضاف والده بصرامة: -شوف يا حاج مهدي، باللي تعمل ده يبقلنا عندكم حق عرب!

توتر مهدي قليلاً من كلماته المقتضبة والتي يعي جيداً أنها بمثابة ميثاق شرف إن لم ينفذه فليتحمل العواقب.

وزع أنظاره على عائلة حرب، ثم ردد قائلاً بتلعثم: -اه طبعاً، هو، هو أنا بردك يرضيني حد يزعل مني ولا من عيالي!
ثم زاد من ابتسامته المجاملة قائلاً: -اتفضلوا اشربوا حاجة
رد عليه طه بجمود: -وقت الأعدة بينا!
ثم استدار برأسه ناحية ابنه البكري منذر، وهتف فيه: -يالا يا بني من هنا، خلينا نشوف مصالحنا
-ماشي كلامك يا حاج!
قالها منذر بإمتعاض كبير وهو يرمق كلاً من مهدي ومازن بنظرات ساخطة للغاية..

في حين لم يتوقف كلاً من مازن ودياب عن رمق بعضهما بنظرات نارية عدائية. فالكراهية بينهما ممتدة منذ فترة طويلة، لم تخمد إلا لفترات محدودة لكنها تعاود الاشتعال بقوة من آن لأخر لأسباب كثيرة ومتشعبة.

مال مازن برأسه على عدوه، وهمس له بتوعد: -الحساب بينا مخلصش يا ابن حرب
رد عليه دياب بصوت خفيض مهدد: -الحساب لسه في أوله، وفاتورتك تقلت أوي معايا!

لاحقاً، بداخل المكتب الخاص بإدارة سلسلة المطاعم، حدج مهدي ابنه بنظرات مغلولة، وعنفه قائلاً:
-شايف غباءك وصلنا لفين؟
رد عليه مازن بحنق: -يا بابا ما انت كتمتني، كنت عاوز أعلم على ال، دياب!
نظر له مهدي بغيظ، وهتف بنبرة مغلولة: -وانت كده علمت عليه ولا لبستنا في حيطة معاهم؟
ثم صمت للحظة قبل أن يضيف بإنزعاج: -عارف أعدة العرب اللي هاتتعمل هاتكلفنا أد ايه؟

هتف مازن محتجاً بغضب: -هو احنا ليه لازم نطاطي ليهم؟ ما تسيبنا آآ...
قاطعه والده بصوت صارم: -بس! انت مش فاهم حاجة، أنا مش محتاج أعادي ولاد حرب دلوقتي خالص!
اغتاظ مازن من تراخي والده واستسلامه لعائلة حرب مما يجعله يشعر بضعفهم أمامهم، فصاح بنزق:
-والله لو مجد كان هنا مكانش خلصه اللي اتعمل!
اتسعت مقلتي مهدي لتبرزا من محجريهما، فهو أدرى الأشخاص بطيش ابنه البكري، وتهوره الغير محسوب العواقب.

حاول السيطرة على انفعالاته قائلاً بصعوبة: -مجد أخوك في السجن بسبب مخه الناشف، وضيع نفسه بعنده، فبلاش أخسرك انت التاني! أنا محتاجك انت ومحمد جمبي!
لم يقتنع مازن بما ردده والده على مسامعه، فالبغض بينه وبين دياب لم ولن ينتهي..
فحبائل الكراهية ستظل موصلة بينهما حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
على الجانب الأخر، أجلس طه ابنته الصغرى على حجره، وداعبها من وجنتها متساءلاً بإهتمام:
-حد عملك حاجة؟

هزت رأسها نافية وهي تجيبه مبتسمة: -لا يا بابا، أنا أعدت عند طنط عواطف شوية وبعد كده نزلت معايا وجابتني في العربية لهنا!

حرك رأسه بإيماءة خفيفة متمتماً بنبرة مقتضبة: -ماشي
ثم ابتسم لها بألفة: -طب يا حبيبتي، روحي أوضتك ذاكري!
-ماشي يا بابا
قالتها ومن ثم قبلته من صدغه، ونهضت مبتعدة عنه لتذهب إلى غرفتها..
اقتربت زوجته السيدة جليلة منه، وأسندت صينية أقداح الشاي الساخنة على الطاولة المجاورة له. وقبل أن تجلس على الأريكة سألها بغموض:
-البت بخير؟
أجابته بثقة وهي تعطيه قدحه: -اطمن أنا فتشت في جسمها.

تناوله منها، ورد بإرتياح: -الحمدلله!
خرج منذر من المرحاض مرتدياً فانلته التحتية – السوداء – على بنطاله الجينز البالي اللون وهو عابس الوجه، نظراته منزعجة شبه متوترة.

التقطت أذنيه جزءاً من الحوار الدائر بين والديه، فتدخل فيه قائلاً بصوت قاتم وهو يجفف وجهه بالمنشفة القطنية:
-أروى ماتطلعش من المدرسة إلا ومعاها حد فايق، مش هنديهم فرصة يكرروها تاني!
رد عليه أباه قائلاً بجدية: -أه، ما أنا هاعمل كده
مط منذر فمه للأمام ولم يعقب، بينما تلفت طه حوله ليسأله بإهتمام بعد أن لاحظ تغيب ابنه:
-أومال فين دياب؟
رد عليه منذر وهو يلف المنشفة حول عنقه: -مش باين من ساعة الخناقة!

انتصب هو في وقفته، وضبط قلادته الفضية التي تطوق عنقه، وتحرك ليجلس على مقربة من والده.

تنهد طه بإحباط، ورد بصوت ممتعض: -أخوك جايبني ورا بعمايله!
حدق منذر في وجه أبيه بجمود، ورد عليه بقسوة: -بلاش نفتح في الماضي يا حاج، أنا وانت عارفين إنه اتاخد غدر!
كز طه على أسنانه بشراسة ليضيف قائلاً: -بنت الألبسة لعبتها صح عليه، ولولا يحيى كنت شارب من دمها!
هتفت جليلة بتوجس بعد أن لاحظت نظرات الشر متجلية في أعين زوجها: -كله بالعقل يا حاج، وحقنا هناخده منها!

نظر ناحيتها، وسألها بحدة: -أومال يحيى فين؟
ازدردت ريقها وهي تجيبه بحذر: -معاها!
زفر بصوت مسموع منزعجاً من إجابتها، وسألها بتهكم: -استغفر الله العظيم، والمحروسة هاتجيبه امتى؟
أجابته بهدوء: -أخر النهار إن شاء الله!
صاح بصوت محتد متذكراً فعلتها النكراء قائلاً: -ربنا ياخدها ويخلصنا منها!
لم يرغب منذر في فتح ذلك الموضوع الشائك مجدداً لما فيه من أمور مزعجة ومؤلمة للجميع، فهتف بتأفف:.

- فضنا من الحوارات دي يا حاج طه، عاوزين نشوف مصالحنا!

امتلأت الغرفة عن أخرها بسُحبٍ كثيفة من الدخان المنبعث من الأرجيلة التي لم يتوقف هو عن تدخينها.

نظر له رفيقه عماد بتوجس من تلك الكميات التي تناولها، وتشدق قائلاً بحذر: -مش كفاية يا دياب! إنت، إنت بقالك كام ساعة بتشرب!
رد عليه بصوت مختنق يحمل الغضب بين طياته: -محروق ياخي، إنت مش حاسس بالنار اللي جوايا
حذره رفيقه قائلاً: -عشان صدرك بس، كترها مش حلو
رد عليه دياب بمرارة وقسوة: -يا ريتني أقدر أطفي البركان اللي قايد فيا، بس مش قادر، مش قادر يا عماد!
تنفس عماد بهدوء، وردد قائلاً: -الموضوع إياه!

تحول وجهه للتجهم الشديد، وضاقت نظراته، ثم أجابه بنبرة عامضة تحمل القتامة: -هو في غيره، لعبتها صح أوي، ولبستني العمة، وأنا زي الدغوف شربتها على الأخر!

رد عليه عماد محاولاً التهوين عليه قليلاً: -هيجي يوم وتاخد حقك منها!
تابع دياب بشراسة وهو يضغط على أسنانه بقسوة: -لولا ابني يحيى وأبويا كنت دابحها!
أضاف عماد بصوت رخيم: -أنا عارف، بس ماتستهلش انك تعمل في نفسك كده!
هتف دياب بقوة بعد أن استشاطت نظراته للغاية وبرزت عروقه من عنقه: -اللي حرقني أوي ابن أبو النجا، عملهم عليا وأنا مشيت وراه من غير ما أديله خوانة!

رد عليه عماد بهدوء: -ليه يومه بردك يا كبير!
حدق دياب في الفراغ أمامه بنظرات تحمل الكثير، وهتف من بين فمه بتوعد: -ايوه، وكله بحسابه!

بعد مرور أسبوعين،
لم تقوَ قدماها على حملها، وتكفلت سيدتان بإسنادها وهي تسير في الخلفية مودعة أباها للمرة الأخيرة إلى مثواه الأخير.
تلقت خبر وفاته كالصاعقة، فأظلمت الدنيا في عينيها.
عجزت والدتها القعيدة عن الحضور، فمصابها آليم وأشد فجعاً، هي خسرت حبيبها وزوجها وحاميها، وكل شيء في حياتها.

شهقت أَسِيف بصعوبة غير قادرة على التنفس، إنه يوارى الثرى أمام ناظريها، يدفن مع من سبقه من الأموات. تركها بمفردها وحيدة ضعيفة في مواجهة الكثير من الأحداث.

انهارت باكية، وتعالت صراختها وعويلها رغم تحذيرات الجميع لها.
هو والدها الغالي، سندها في تلك الحياة، تركها ورحل بلا وداع.
صرخت بإهتياج: -سبتني ليه يا بابا، هنعيش لمين بعدك؟ انت وعدتني تفضل معايا
نهرتها سيدة ما ممسكة بها: -حرام عليكي يا بنتي، الله بتعمليه ده مايرضيش ربنا
صرخت بجنون أكبر غير عابئة بمن حولها: -ماتسبناش يا بابا، ماتسبناش
-لا حول ولا قوة إلا بالله!
قالتها سيدة أخرى وهي تنظر لها بإشفاق.

صاح الحاج فتحي قائلاً بصرامة بعدما أزعجه تصرفاتها الغير واعية: -خدوها من هنا ورجعوها دارها! كفاية فضايح
احتجت قائلة بصراخ عنيف بعد أن جذبتها السيدات بعيداً عن القبور: -لألألأ، مش هامشي من هنا، سيبوني معاه
صاح مجدداً بغلظة أشد وهو يشير بعينين قاسيتين: -يالا من هنا!

وبالفعل اقتادتها اثنتان من النساء بعيداً عن الحشد المتجهمر حول قبر العائلة، وجرجراها على الأرضية الترابية وهما تحاولان تهدئتها، لكن دون جدوى.

اعتصر قلبها آلماً، وزاد تهدج أنفاسها حتى باتت عاجزة عن التنفس بسهولة.
هاهو الكفن الذي يضم أبيها بين جوانبه يرفع عالياً عن المحفة ليوضع في مكانه الأخير.

تشكلت سحباً ضبابية حول عينيها وهي تسحب من ذراعيها بعيداً عن أغلى الأشخاص في حياتها.

ودعته بقلبها قبل أن تميد بها الأرض وتسقط في ظلام حزين...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة