قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثاني

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثاني

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثاني

لست أسعى إلى تغييرك، لا أحب أن أمتلك هذه القوة الفجّة وبصراحة أكثر أنا أحببتك هكذا ربما أكون وقعت في شباك عيوبك قبل نجومك، ولكنني أؤمن أننا مخلوقات صلصالية وحين نحب نتشكل بطريقةٍ تلقائية يحتوي فيها كل منا الآخر، حتما سيأتي اليوم الذي ستكون فيه كل ما اتمنى وانا جزء منك، في حضرة الحب تكمن المعجزات يا عزيزي.

(حبينا نبارك لك بطريقتنا )
تلك كانت أخر جُملة اشعلت نيران لم تقل حرارة عن النيران التي تأكل في كل ركن من المنزل، ألف سؤال تزاحم في رأسه بطريقة يجن لها العقل، فكيف ومتى اندلعت تلك النيران؟ ومن السبب وراء ذلك؟ وما هو الحل! وما المقصد وراء تلك الرسالة؟ وإلي أين المفر من ذلك الجحيم الذي وقعوا فيه!
ما أن قرأ هشام رسالته الاشبه بقذيفة العدو على مخيم عسكري، صاح مجدي حينها بذهول وهو يركض صوب الباب.

-نهار أسود! ألحق يا هشام.
تابع هشام خطاه دون ما يرتدي سترته التي ألقاها أرضًا هائمًا علي وجهه كالمجنون نحو أصوات الاستغاثة المنبعثة من كل مكان، وصلت أقدامه إلى درجات السلم ليتفاجئ بجحيم من نوع اخر، الخوف أطاح بقلوب الكل فأصبح يحركهم أمام عيونه كالسكارى، خرج الجميع من غرفهم يتسائلون
-هشام ايه اللي بيحصل ده!

كان صوت رهف مفعم بالذعر والضجر، وحمرتها التي لم تكتمل زينتها على وجهها تبدلت لحمرة الرعب والفزع، ومن الناحية الاخرى ركض زياد خلف مجدي بسرعة فاتبعته أوامر هشام صارخًا
-فضي البيت كله يا مجدي.
ثم استدار ناحية بسمه ورهف والبقية، ونهرهم
-بسمة هاتي مفاتيح عربيتك واطلعوا من باب المطبخ على الجراج على طول.
صرخت رهف قائلة
-ماما وعمو منير هما فين!

اوقفها هشام المرتبك بصوته القوي الذي ينافس ارتفاع النيران التي تعلو النوافذ ونهرها قائلًا
-خُدي البنات واطلعي زي ما قولت يا رهف، وانا هشوفهم، يلا مفيش وقت.
وصل مجدي وزياد إلى حديقة منزلهم والنيران تحاصرهم من كل ناحية حيث تحتضن ما يقابلها لتحوله لرماد وفحم متساقط فوق رؤوسهم، فصرخ زياد محذرًا
-خلي بالك يا مجدي!
وما أن ركض مجدي ليلحق العمال فوجد أحدهم في حالة متعسرة، فاندفع نحوه ليساعده صراخًا.

-زياد تعالى ساعدني الحديد واقع على رجله.
فر أغلب العمال من فوق الأسوار ومن حالفه الحظ خرج من البوابة قبل ما تحاوطها النيران، ومنهم من أصابته لعنة النيران فتركت لعنتها على جلدهم.
صوت آخر من الصراخ أوقف موكب الفتيات وهن يركضن اندلع من حنجرة عايدة مستغيثة
-ألحق عمك يا هشام هيروح مني!

كان منير مرمي أرضًا إثر حساسية صدره التي هاجت مع ثوران الحريق فضاق نفسه حد الاختناق، وصلت رهف وبسمة إلى الغرفة وإذ بهشام يعافر ليحمله، فاندفعت بسمه بجسدها نحوه لتساعده وهي تتحسس صدره بخوف و متمتمه
-عمو، عمو، أهدا وحاول خد نفسك براحة.
-بسمة اسندي معايا ننيمه على السرير.
فشاركتهم عايدة التي غرقها وجهها بالدموع وهي تعطيهم علبة صغيرة
-بسمه دي بخاخة الحساسية لقيتها مرمية، شوفي كده فيها ولا خلصت.

تناولت بسمه منها الدواء وعادت إليه متأمله أن تجد سائل بالعلبة وهي ترجها بقوة
-افتح بؤك يا عمو، متقلقش هتعدي.
تدخلت رهف باكية
-مفيش حل، انا هنزل انادي على مجدي يشيلو معاك، لازم يخرج من هنا.
اندفع هشام معارضًا
-مفيش وقت، بسمه خدي خالتك ورهف واخرجي قبل ما الوضع يسوء وأنا هتصرف.
صرخت عايدة معارضة وهي تجلس بجوار منير
-أنا مش هروح أي حتة حتى لو هموت هنا.

لا زالت بسمة منشغلة بالاسعافات الاولية ولحسن الحظ وجدت في العلبة ما يكفيه ليعدي نوبته فتنهدت بارتياح بعد ما فرغت المحتوى بفمه، فاتسعت مُقلتيها منتظرة النتيجة ولكن بات الوضع يخالف توقعاتهم خاصة بعد تساقط النوافذ المحترقة ورائهم وباتت النيران تتشعب بداخل البيت، صاحت بسمة مرتعدة
-لازم يروح مستشفى حالًا.

نهض هشام مسرعًا وفتح خزانة عمه وشد أقرب قميص بوجهه ولبسه سريعا دونما يكترث لقفل ازراره واقترب منه ودار جسده للخلف وحنى ظهره وأمسك بذراعي منير ووضعهم على كتفه ليحمله فوقه، فصرخت عايده خائفة وهي تسنده
-خلي بالك يا هشام، خلي بالك.
صرخ هشام بصيغة آمره وهو يرى النيران تقترب منهم أكثر وأكثر
-اطلعوا قدامي يلا.

ركضت رهف مسرعة وخلفها بسمة، أما عايدة فتجاهلت أوامره وفضلت أن تبقى خلفه لتسند من الخلف وهي تتوسل لهشام أن ينتبه.
وصل الجميع الى درجات السلم، فركضت أخصائية التجميل مسرعة بصحبة مساعداتها حيث وجهتهم بسمة قائله
-المطبخ من هنا.
توقفت رهف تترقب حال البيت الذي يحمل ذكرياتها وهو يتحول لرماد فانفطر قلبها حزنًا حيث تجاهلت ذكرياتها وباتت مقلتيها تبحث عن مجدي وقالت
-مجدي فين! مجدي وزياد ملهمش أثر.

فاض كيل هشام فنهرها وهو يتألم من ثقل عمه فوق ظهره
-اتحركي يا رهف.
تجاهلت أوامر هشام وصراخه واندفعت نحو الباب الخلفي للحديقة حيث حجبت الأدخنة الرؤية أمامها فصرخت منادية وهي تسعل بقوة
-زياد! مجدي! انتو فين!

أكمل هشام طريقه مسرعًا حتى وصلوا إلى الجراج الكائن تحت الأرض، سبقته بسمة وهي تفتح باب السيارة وعادت لتعاونه في وضع عمهم بداخلها، وما بين أصواتهم المرتعد وتحذيرات الفتيات وضعه هشام في المقعد الأمامي وقفل الباب بسرعة وقال وهو يسحب نفسه بعناء
-بسمه اكيد عارفة هتخرجي منين، يلا مفيش وقت وصليه المستشفى.
تمتمت عايدة بخوف وتوسل
-أخواتك، أخواتك ياهشام ألحقهم، استر يارب سلم.

انتظرت بسمه للحظات صعدوا فيها البقية وأومأت متفهمة
-متقلقش يا هشام، روح بس شوف المجنونة اللي مشيت دي.
لم ينتظرها هشام أن تكمل جُملتها حيث اندفع راكضًا عائدًا إلى منزلهم حيث بات الوضع أكثر سوءًا، جهر بصوته الأجش مناديًا وهو يسعل بقوة
-رهف!
اقتحم مشعل النيران ليبحث عنها ولكن دون جدوى، جن جنونه فاندفع ناحية الخلاء يبحث عنهم حتى صادفه أحد العُمال في مأزق يطلب مساعدته، فأسرع إليه وعاونه في تخلص ساقه وسأله.

-ماشوفتش حد عدى من هنا.
تحمل الرجل على ساقه السليمة بعناء وملامحه تتقلص
-الف شكر يابيه، ألف شكر.
انطلق هشام نحو حوض السباحة ليناول قطعه قماش ملقاه بجانبه، فأخذها ووضعها فوق رأس الرجل لتغطي جزئه العلوي وقال
-أخرج من الباب ده وروح اقرب مستشفي.

ذهب هشام بعشوائية يفتش في أنحاء المكان باحثًا عن أحد متعسر يحتاج لمساعدته وأيضًا رهف إلى أين ذهبت وبين كل هذه الحيرة لمح صف من السيارات الفارهه يحركون حول البيت بطريقة مروعة، فركض كالشهاب الثاقب في حلقة النيران التي تلتف على الباب الحديدي ليكتشف هويتهم.

وجد نفسه على الرصيف يترقب بمقلتيه مؤخرة آخر سيارة فاتسعت عيونه التي طوقتهم الحيرة وهو يفكر في هوية الرسالة المرسلة إليه وحقيقة تلك السيارات، قطع حبال حيرته صوت أنثوي يجهله من الخلف يتحدث العربية بصعوبة
-كيف لرجل مثير مثلك لا يمتلك عقل فطن يرشده لطريق الصواب؟

استدار ناحية مصدر الصوت بعيون فاحصة كالسهم، إذن بفتاة غاية من الجمال، ملامحها لا تنتمي للعرب، زرقة غدر البحر انصبت بمقلتيها وحُمرة النيران التي التهمت بيتهم كانت بلون شعرها وبياض بشرتها المثير شوش أنظاره، ولكن يبدو أن مقصدها ليس بخير مثل لون ثوبها الاسود اللامع الذي ينحت تفاصيل جسدها بمهارة، جميعها صفات جمالية ولكنها وصف أفاعي رغم ألوانها الخلابة إلا أنها تحمل السُم بفمها، انعقدت ملامحه باستغراب.

-إنت مين!
رسمت ضحكة ماكرة على وجهها ودنت منه خطوة وقالت
-سنلتقي كثيرًا لا داعي للعجل يا عزيزي.
تلاقت أعينه الحائرة بعيونها الماكرة وقال وهو يجز على فكيه و يتأمل السلسال الغامضة المعلقة برقبتها
-مين باعتك!
اقتربت منه أكثر وهي تتفتنه بإعجاب
-تحدثوا عن عنادك كثيرًا ولكن اللعنة عليهم جميعًا لم يتحدثوا عن جمالك الذي شق قلب إمرأة قوية مثلي لنصفين.
ثم ضحكت بثقة عارمة
-ستكون السبب في فصلي من عملي يا رجل!

-واضح أن الأوامر اللي عندك بتقول أنك متجاوبش على أسئلتي، بس أنا هديكي كارت أصفر واحذرك من إنك تظهري في طريقي مرة تانية!
كانت جملته قوية للحد الذي جعل عيونه تحمل التهديد ولسانه ينطق بنبرة تخيف من يقف أمامها، ولكن قوته لم تزيدها إلا عناد فتغنجت أمامه بهدوء وثعر مبتسم واثق وقالت بشغف
-لا أعلم هذا لسوء حظك أم لحسن حظي أن رجل مثلك هو مقصدي!أعدك أن تلقاني في أماكن لن يخيل لك فيها اللقاء.

تلك كانت جملتها الاخيرة وهي تنسحب من أمامه واثقة الخطى لتصعد سيارتها الفارهة في اللحظة التي أتت فيها سيارة الاطفاء واحتشد العامة حول البيت وشرع في إطفاء الحريق الذي قضى على الأخضر واليابس.
نفض هشام عن رأسه كل ما يتعلق بظهورها المثير للغرابة واندفع نحو سيارة الاطفاء متلهفًا وما أن وصل إليهم كانت قوات الشرطة محيطة بالمكان فتقدم إليه الضابط وقبل أن ينطق بكلمة صافحه هشام وهو يعرفه بنفسه.

-أنا المقدم هشام السيوفي، وده بيتي!
بادله الضابط السلام بترحيبٍ
-هشام بيه غني عن التعريف، معاك النقيب نورالدين سليم
واتبع وهو يستكشف المكان
-بس أنا ملاحظ أن الحريق بفعل فاعل مش مجرد حريق عادي، حضرتك شاكك في حد.
فكر هشام للحظة وكأنها أراد إخفاء شيء
-دي مهمتك ياحضرة الظابط تعرفنا إيه سبب الحريق.
لم يستطع الضابط أن يُجيبه قطعهم دخول مجدي المفاجئ
-هشام أنت بخير!
-مجدي فين رهف وزياد طمني؟!
ربت مجدي على كتفه.

-كلهم بخير، ورهف مع زياد في المستشفى، واحد من العمال حالته صعبة أوي، المهم وصلتو لحاجة!
وجه هشام حديثه للضابط المختص
-دي مهمة حضرة الظابط، تعالى نسيبه يشوف شغله و نطمن على عمي والباقي سهل.
لاحظ الضابط نور تهرب المقدم هشام من أسئلته ولكنه تجاهل ذلك سريعًا وانتقل إلى مسرح الجريمة مع القوات.
انتهى هشام من قفل أزرار قميصه بعجل وهو يوقف سيارة أجرة ويستقلها بصحبة مجدي الذي سأله
-أبويا ماله ياهشام؟!

زمجر بهدوء ليطمئنه
-قولت لك سهله بإذن الله، اطلع يا اسطى.

(في المشفى )
غريب أمر الحياة غرابة بُستان من الورود يبدو جميلًا ولكن يحاصره الشوك فإذا أردت زهرة عليك تحمل ألم شوكها اللعين، هكذا هي الحياة لا تعطي قبل أن تأخذ، والمضحك في الأمر إنك لا تنال إلا ما تختاره لك، ولا تأخذ منك سوى ما استحلت العيش بدونه، أهذا هو العدل أم هكذا هو عدلها! فكن ذكيًا وتعامل بفطنة مع جبروتها، أيام الحزن هي نفسها أيام الفرح فليأتي ما يأتي، كله سيمر.

اقتربت بسمة من خالتها وهي تنزع الماسك الطبي من فوق أنفها وربتت على كتفها
-الحمد لله عدت.
جففت عايدة دموعها بسرعة وهي تتشبث بمعصم بسمة
-بجد يا بسمه يعني فاق وكلمك كده زي منا بكلمك!
أومأت بخفوت و ابتسامه هادئه
-والله بقي زي الفل..
قطعتها عايدة متوسلة
-طيب أنا عايزة أشوفه.
-اطمني هندخله كلنا دلوقتي، بس الدكتور يخرج من عنده، اهدي بقي!
رفعت عايده عيونها لأعلى لتشكو حزنها.

-أي اللي حصل ده بس ياربي! ايه المصايب دي! ومين عمل كده وازاي!
-يا خالتو الكلام ده مش وقته، المهم أن كلنا بخير والحمد لله.
تأوهت عايدة بصوت مبحوح
-الفرح باظ والبيت ادمر وكل حاجه جواه ضاعت، طيب أحنا هنقعد فين ونعمل إيه! يارب حلها من عندك يارب.
-هنقعد في شقة بابا أو عند هشام لحد ما البيت يجهز وحضرتك تقدري تسافري مع عمو متقلقيش، متشليش هم أنت بس.

راقبتها بسمة بصمت تام حتى لاحظت ظهور بنية مجدي وهشام الشامخة في أخر الساحة فنهضت ملهوفة لاستقبالهم
-خير يارب، أهو هشام ومجدي جم.
تسارعت خطوات مجدي لتسبق هشام بقلق يتقاسم معالم وجهه
-بسمة بابا عامل أيه!وهو فين؟
-اطمن يا مجدي كل حاجه زي الفل، المهم زياد ورهف فين.
-كلنا بخير يابسمة، الحمد لله عدت على خير.
جلس هشام بجوار عايدة وحاوطها بذراعه فوضعت رأسها على صدره منتحبة.

-كان مستخبيلنا كل ده فين ياربي! مين اللي عايز ينكد عليا فرحتنا يا هشام، مين!
زفر بضيق وهو يربت على كتفها
-كله هيبان، المهم عمي بقى كويس!
لم تستطع بسمة الجواب فسبقها خروج الطبيب ويبدو علي ملامحها علامات الرضا، فانضم حوله جميعهم بلهفة، فصرخت عايدة
-جوزي عامل ايه يا دكتور، طمني
الطبيب بهدوء أردف قائلا
-مفيش حاجه مستاهله القلق، منير بيه حاليًا نايم شوية أول ما يفوق يقدر يروح البيت معاكم.

تنهدت عايده بارتياح وهي تشكر ربها، بينما الطبيب استأذن الذاهب فافسح له مجدي الطريق وهو يتنهد الأخير بارتياح، تدخل هشام قائلًا
-بسمة خدي خالتك ترتاح، وأنا هستنى عمي يصحي ونجيلكم.
عارضت عايده اقتراح بحزم
-لا يا هشام أنا مش هتحرك من هنا.
تلاقت أعين مجدي وهشام للحظة حتى اتفقا بنظراتهم التي قطعها هشام متحمحمًا وهو يقول
-أنا هنزل اطمن على فجر شوية وراجع، خليك معاهم يا مجدي.

بمجرد ما انهى جُملته استدار مغيرا وجهته ذاهبًا إلى وطنه العنيد، حانت من عايدة نظرة انزعاج وبوجه ممتقع قالت
-عاجبك كده يا مجدي! عاجبك عمايل ابن عمك!
-سبيه، هشام مش بيرتاح غير عندها.
ضرب الأرض بقدمها وعقدت ذراعيها أمام صدرها وأشاحت بوجهها في استهانة
-ااه يرتاح عندها! هي حاسه بوجوده أصلا!
تتبسمت بسمة في هدوء عجيب مناقض لمجرى الحديث بعد ما رمقت مجدي بنظرة سريعة، وقالت.

-حاسة وسامعة كل حاجة يا خالتو، وزي ما قال لك مجدي هو بيرتاح عندها، بيرتاح لما يحكيلها كل حاجة، متزعليش نفسك أنت بس وادعيلهم ربنا يجمع شملهم على خير.

هُناك طاولة في مكان ما كانت تنتظر لقائنا، هناك طريق ينتظر شجارنا الطويل الذي حتما سينتهي بعناق، هُناك فنجان قهوة أصابه البرود لتأخرك القارص، هناك حديثُ طويل ينتظرنا في شرفة منزلنا، سيجارة لم تكتمل بسبب قُبلة منك، نتناول البيتزا معًا، نسهرّ طويلاً، تُميلين رأسك على كتفي ونحن نشاهد النجوم، ذلك الميّل الذي يعيد لحياتي التوازن من جديد.

وصل إلى باب غرفتها وأنياب الذكريات تنهش بقلبه، وقف مصلوبًا على بابها نادمًا عن كل كلمة وكل فعل خرج منه يعاكس هواه، وها الآن أصابته لعنة التمرد على أعراف الحب بكرباجها في قلب رجل اقحم نفسه بكارثة الانتظار، انتظار ما رفضه عندما آتاه راكضًا من العالم إليه!

تنهد بحرقة وهو يضيع قبضته على حافة الباب حيث أغمض عيونه بسبب ملامحها التي اجتاحته فجاة وامتدت أنامله لمقبض الباب حتى فتحه ببطء وعيناه تقتنص حالها التي يأست منه، المؤلم أن كل النيران الكافية لحرق العالم تقطن بصدره لوحده، وتلك الحقيقة التي لا مفر منها فالصدمه في الحب تحدث بعدها دمار شامل للشخص لا يتحدث عنه الإعلام ولا يكترث العالم له أي أهمية، وحدك تنهار في ثبات تام.

انبسقت دمعة من طرف عينيها المنغلقتين طويلاً كأنها توصل له رسالة كل إنش بجسدها يرفضها
ببالغ الأسف أعلن إننى أتمنى ألاّ نلتقي مُجددًا .

جُملة مهما حاولت على ابقائها مصلوبة أمامك لأبعد مدى ولكنك دومًا ما تصفعك الهزائم وتعانقنك الخيبات، فلا يتغير من أمرك شيئًا سوى إنك بتُ تحبه أكثر فأكثر، فكلما استحالت العودة، كلما تكاثر الحب بقلبك وأنجب شبحًا عنيدًا يدعى الانتظار مستعدًا أن يمكث أمام بابه لأعوامٍ حتى وإن لم يجن من حدائق آماله إلا أشواك.
اقترب هشام منها وهو يسحب مقعده و يهمس إليها
-وحشتيني، هو مش كفاياكي قسوة لحد كده يا هانم!

مد أنامله ببطء ليحتوي كفها وأكمل ممازحًا
-شوفتي ياستي أدي الفرح باظ، اتمنى يكون لك نصيب تحضريه معانا.
ثم ادلي رأسه ليطبع قُبلة طويله على كفها حتى رفع رأسه متبسمًا وأكمل
-تعرفي ان جوايا كلام كتير محتاج اقولهولك رغم إني عمري ما كُنت رغاي، أنا اتغيرت كتير يا فجر! اظن بقيت الشخص اللي حبتيه، ياريتك كنتي معايا عشان تشوفي غيابك عمل فيا أيه.
ضغط برفق على كفها يعبر عن ألمهزالمكبوت وواصل مبتسمًا برضا.

-مش عايزك تتصدعي لاني ناوي أرغي كتير، النهاردة حصلت حاجة غريبة أوي.
شرع في قص ما حدث بحذافيره وهو يطالع اركان الغرفة تارة وملامحها طورا حتى غفا علي كفها إثر قبلة طويلة كانت على كفها أصابته بمخدر النوم.
- تعرف إنك تشبه الغروب!
اردفت ( فجر ) جُملتها وهي تنهض من فوق مقعدها الخشبى وتتقدم صوب الامواج المتلاطمة كصخب قلبها وهي تعقد كفوفها خلف ظهرها وتفتح صدرها لتملأه بنسيم البحر.
- ودي حاجه وحشه ولا حلوه؟!

اعتدل هشام من فوق الشازلونج مرتديًا قميصًا باللون الأبيض مفتوحة أزراره الأمام وهو يلقى سؤاله متعجبًا، فتبسمت وولت وجهها نحوه وتدللت في ردها
- انت شايف ايه؟!
- انا مش شايف غيرك، شايفك الشخص اللي بيجي في الحياة مرة واحدة.
تبسمت بإعجاب واردفت
- بقينا نقول كلام حلو اهو يا ابن السيوفى.
- مش كلام حلو، ده اللى أنا حاسه ؛ انت بقى حاسه بايه!
داعب الهواء شعرها المنسدل واتبعت
- هكمل كلامى.

- إنى أشبه الغروب!هو ده كلامك!
بللت حلقها ورسمت على شدقها ابتسامة خافتة واردفت.

- الشمس فالوقت ده بتكون دافيه شعاعها هادى، تقدر تبص عليها براحتك، ملامحها واضحة وجميله اى حد يشوفها يقع في غرامها، اول ما تبص فيها هتحس انك فهمت كل حاجه وحفظتها خلاص كشفت سرها و سلمت الراية واننا بقينا صحاب، بس بعد لحظات بتختفي ورا الضلمة وترجع لغموضها مرة تانية تخليك تبص فالسما تدور عليها متلاقيهاش، مشيت بعد ما أمنت لها.
ثم بللت حلقها وتبسمت وهي تقدم نحوه، وواصلت متحيرة.

- هي بكده كانت قاصدة تخدعني يا هشام!
تدلت اقدامه العارية لتلمس الرمال وسألها
- بس انا عمري ما خدعتك يافجر.
- أحيانا ببصلك بحس انى باصه على نفسي فالمراة من كتر منا وعيونك صحاب واثقة إنهم ما هيكذبوا عليا. ، واوقات تانية ببصلك بشوف قدامي شخص يخوف، حد انا معرفهوش، اول مرة اشوفه، بفضل بصالك كتير واقول مين ده!
وثب قائما خلفها ودنا منها وكرر جملته
- بس أنا عمري ما خدعتك يا فجر.

امتدت أناملها لتداعب وجنته بحنو وواصلت
- تعرف اننا لايقين على بعض جدا، حاسه اننا بنكمل بعض.
رجع خصلة من شعرها وراء اذنها و
- ازاى!
- نهاية الغروب اى غير فجر ينور عتمته!
- فجر، الموج عالي، كفاية كلام و تعالي ندخل جوه.
- بس انا عايزة انزل الميه دلوقتى يا هشام!
تقاسمت معالم الحيره ملامح وجهه
- دلوقتى؟! ومش هتخافى!

- مش هخاف، على الاقل البحر واضح وصريح والموج عالى وبيحذرنى قبل ما انزله، عكسك ؛ غامض مخيف! حبيتك وكل يوم بلقى حد جديد غير اللى حبيته؟!
قبض على معصمها ليمنعها من النزول
- فجر خدى هنا ؛ هتغرقي!
- فيك ولا في البحر؟!
تجاهل سؤالها
- استني هنزل معاكي.
سحبت معصمها معانده
- انا رايحه هناك عشان اهرب منك، مش عايزاك معايا.
- بس أنا عايزك معايا.
- عشان تخدعني تانى؟!
- لا انا مخدعتكيش يافجر، فجر انا بحبك!

جهرت بردها وقالت
- الأهم من حبك هو إنى أحس إنك كفاية، مشاعرك كفاية حُبك كفاية ووجودك دايمًا كفاية، تغيب الناس كلها بس إنت لا ولو غبت الحياة ملهاش طعم بدونك، الحُب عُمره ما كان كلمة، الحُب بيبان في التفاصيل الصُغيرة في الإهتمام وفي الحنّية إنك تحس دايمًا إنك مطمن إن مفيش ليك بديل ان في حاجات بتاعتك انت وبس متتعوضش وماينفعش تتعاش مع حد غيرك، الحُب معاهدة سلام بين طرفين ماينفعش حد فيها يخون.
صرخ مبررا.

- انا ما خنتنش يا فجر.
تجاهلت نداءه وصياحه المتكرر بجملته الممزوجة بهواء البحر الشديد واتبعت سيرها حتى وطأت أقدامها مياه الشط، متجاهله نداءه العالى
- ارجعي يافجر، كفاية، كفاياكى كده، هتغرقى.

اكملت سيرها في البحر حتى غطت المياه ثلثى جسدها ولازال يتابعها بجسده المكبل مناديا عليها بصوته الجمهوري متوسلا ان تعود، فتسارعت نبضات قلبه وارتجف جسده وتصبب العرق من مسامه، ففتح عيناه شاهقًا من كابوسه المزعج مناديا عليها بلهفة ام فقدت ابنها.
- فجر!
كانت تلك آخر كلمة رددها وهو يرفع رأسه من غفوته التي أخذها على كفها الممد فوق فراش المشفى إثر كف سلمى الذي احتوى كتفه على غفلة وهي تقول.

- انا سلمى يا هشام ؟!
هدأت أنفاسه تدريجيا وهو يراقب نبضها على الشاشة امامه حتى وثب بهدوء وسحب سلمى خلفه بقسوة مخفية وخرج الثنائى من غرفة المشفى، فدفعها هشام بكل قوته حتى ارتطم ظهرها بالباب المقابل لباب غرفة فجر، واحتدت نبرته
- انا مش قولتلك مش عايز اشوف وشك هنا تانى!
- وانا مش هينفع اشوفك بتضيع نفسك واقف اتفرج عليك، هشام فوق بقي فوق من وهمك!
تغلغلت أنامله في منتصف خصيلات شعره محاولا تمالك غضبه.

- افوق من ايه!انتى مالك بيا أصلا، ما سيبينى في حالي يا ستي!
نصبت عودها ودنت منه قائله بلوم
- انت مش واخد بالك انك على الحال ده ليك ٧ شهور وانت قاعد جنب واحده عايشه تحت الأجهزة! لو اترفع عنها جهاز لدقيقة بس هتموت! عاجبك شغلك حياتك اللى مأهمل فيه وسايبه ولا مامتك اللى مموته نفسها عليك! ولا اخواتك اللى حياتهم واقفه من قلقهم عليك! كل ده ليه! عشان واحده بين ايدين ربنا ايامها معدودة في الدنيا!

التهبت عيناه بجمر الغضب وجهر
- اسكتي! اسكتي واطلعي من حياتي خلاص.
تجاوزت حدود المسافات بينهم وضربته على كتفه عدة مرات وصرخت
- انت ليه مش عايز تفهم انك بتضيع نفسك! ليه مش عايز تشوفنى ولا تشوف الأيام اللي رسمناها سوا! تقدر تقول لي سنك دلوقت وصل كام! مصمم تضيع في عمرك عشان واحده ملهاش اصل من فصل، فلنفترض ماتت! أي هتموت وراها، هتوقف حياتك عشانها؟!

ولى ظهره مستندا بذراعه على الحائط رافضًا أن يسمع المزيد من حديثها المرهق لقلبه، بدأت اناملها تحتوى كتفه وانخفضت نبرة صوتها متوسله.

- اسفه ياهشام، مش قصدى ازعلك بس دى الحقيقة اللى رفضت تسمعها من الدكاترة، فجر مش راجعه تانى، ولو نفترض يا سيدي انها راجعه احنا مش عارفين امتى! اعرف ناس بتقعد سنين في الغيبوبة دي، اعقل يا هشام وتعالى نتجوز ونبدأ حياتنا من اول وجديد ومش هنسيبها بردو معاها للاخر وهنسفرها بره بس واحنا سوا، وانت جمبي، وانت لاقي حضن يطبطب عليك آخر يومك، حرام عليك قعدتك جمبها الشهور دى كلها من غير فايده، حب نفسك لو لمرة يااخي!

ثم استدارت لتستند بظهرها على الحائط وتقابلت عيونهم، فامسكت اناملها بسلسال معلق بعنقها وقالت
- فاكر دى! كانت أول هدية منك انا مقلعتهاش من عشر سنين وكنت متأكده اننا هنبقى لبعض واهو الفرصة جات، انت ساكت ليه، رد عليا.
جز على فكيه ممتعضًا
- قلت اطلعى بره يا سلمى ومش عايز اشوف وشك هنا تاني.
اغمضت عينيها للحظة متأففة بجزعٍ. ، وسرعان ما تابعت حديثها بسم الانانية.

- طيب انت مفكرتش ده كله يحصل ليه! هي تحصلها حادثه في الوقت اللى انا ارجع فيه وتوصل للحالة دي، مش يمكن اشارة من ربنا! إشارة أننا نكمل، فجر دى عمرها ماكانت بينا، واهو ربنا اراد يبعد آخر عقبة في طريقنا عشاننا، عشان نرجع، نرجع ونجيب يوسف وياسمين ولادنا ياهشام اللى اخترنا اسماءهم من ١٠ سنين، فكر في الذكريات الجميلة اللي ما بينا اللي تستاهل نديها فرصة كفاية عذاب ووجع بقا كفايه قلوبنا استوت من الغياب!

انخفضت نبرة صوتها اكثر واتبعت بحنو بالغ وهي تداعب وجنته بحب ودموع مترقرقة
- وحشتنى! وحشتك! مش كده؟! فاكر أول مرة خدتنى فيها في حضنك وزعلت منك وقتها وانت وعدتني انك مش هتكررها تاني غير في بيتنا، اهو انا دلوقتى حاسه بوجعك وشايفة انك اكتر حد محتاج الحضن ده، نفسي احضنك ياهشام، نفسي اصلح كل اللى بوظته الحياه في غيابى! عايزه اثبت لك انك محبتش ولا هتحب غيري!عايزه افكرك بطعم حضن سلمى!

التزم الصمت وهو يأكل بأهدابه من خلف الزجاج تلك النائمه بسببه التي لا حول لها ولا قوة، فألجمها بصاعق جُملته وقال
-مش أي حد ينفع يكون مكان الشخص اللي أنت محتاجه، كفاياكي محاولات فاشلة
واحتوت سلمى كفه وقبلته وقالت بأمل
- كفايه بقي يا هشام، انا رجعت وسبت الدنيا كلها عشانك.

حينها ارتفع صوت صفير الجهاز المتصل بنبض قلب فجر يوحى باستقامة خطه الذي يعكس منحنى ضربات القلب ويعلن توقفه، حركة مريبة من الممرضات اقتحمن غرفتها ثم تابعهم الطبيب المسئول عن حالتها، فأوقفه هشام لبرهة ملهوفا
- دكتور هي مالها، طمنى!
دفعه الطبيب واندفع نحو غرفتها معتذرا وهو يلقى كلمة واحدة
- لو سمحت.

ثم اعلن أوامره للممرضات وهو يفحصها بعناية خلعت قلب هشام من الداخل متذكرا حلمه وهو واقف على الشط مكبل غير قادر على منعها من الغرق فصاح صارخا وهو يضرب بقبضته القوية على الزجاج اثناء وضعها تحت جهاز الإجهاد لانعاش القلب مرة اخرى.
- لا مش هسمحلك تمشي وتسيبني في الضلمة دى لوحدي، قومي يا فجر متعملش فيا كده، قومي.

هناك جزء قديم بُتر منى رغم عنى افتقد تفاصيله، اشتاق اليه، اجوب الشوارع بحثًا عنه! لتلك اللحظة ابحث عمن علمنى التحليق حتى نبتت لى أجنحة وهويت الطيران معه وعندما طرتُ أصاب أجنحتي واختفى! تالله ابحث عنه لاحلق معه لست لانتقم.
اتكأت سلمي بظهرها على الجدار خلفها محاطة بلهيب الحقد والشر وغمغمت لنفسها متوعدة
-طيب ياهشام، ودع الهانم بتاعتك عشان اخر يوم ليها النهاردة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة