قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثالث

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثالث

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثالث

أنا بطبيعتي مُقاتل، ولكنني بلغت قدرًا من النضج يسمح لي بالتمييز بين معركة يمكن أن تحقق أهدافها، ومعارك لا جدوى من خوضها.

لم تكن مجرد ثواني ودقائق تمر، كانت عقارب تلدغ بكل قطعة بجسده، صمت رهيب يحاصره القلق والخوف والآلاف من الصرخات المكبوتة، برزت عرق عنقه ويده واتسع بؤبؤ عينيه وهو يراقبها من خلف الزجاج، قاوم باستماتة غليان روحه الذي أوشك أن يسحبه لقبره قبلها وظل يبتهل الى الله برجاء ألا يكون ذلك صحيحا، حملق بفحص الأطباء المؤلم وهو يشاهد جسدها يصعق مع وضع الجهاز، رغم ثباته إلا أنا دمع قلبه خدعه فشوش الرؤية أمامه ولم ير إلا حياته تحولت لسراب بعدها، تحطمت آماله التي بناها معها طيلة الشهور الماضية، جف حلقه حد فقدانه للنطق للبوح عن العاصفة التي تنحت بصدره، وظل واقفًا بثقل حقائب الصبر على محطات الامل ينتظرها رافضًا فكرة غيابها للابد.

أصعب ابتلاء كُتب على البشر هو موت الأحبه! أن تمنحك الحياة أشخاص كهداية لتهون عليك صعوبة أيامها وتأخذهم منك بدون إنذار مسبق، قبل أن يرتوي القلب بوجودهم، بعد ما منحتك بعيونهم الابدية تصعقك بغيابهم الأبدي، لعبة سخيفة تلعبها معنا الحياة والأدق أنها تتلاعب بنا كعرائس خشبية تحركنا كيفما شاءت ولا زال الوجع لا يحل مكانه إلا وجع أشد ألمًا.

الموت ينزع روح أحبتنا مرة واحدة، و يترك أرواحنا منتزعة بعدد لحظات غيابهم، هم تنتهي كل أوجاعهم في دار الخلود ونحن نعيش في موت لا ينتهي.
ارتخت عروق هشام المتشنجة تدريجيا عندما رفعه انظاره للشاشة المقابلة وجد قلبها عاد لينبض مرة أخرى وتغيرت حركة الممرضات، وما هي إلا دقائق وخرج الطبيب من الغرفة، فاندفع إليه وسأله
-حصل لها إيه!
-أحمد ربنا يا هشام عدت، بس هتبقى تحت الملاحظة الفترة دي.

بد الحزن يقاسم معالمه وقال
-يعني ده طبيعي ولا إيه فهمني، ده نبضها وقف فجأة
ربت الطبيب على كتفه ليطمئنه
-٤٨ساعة دول لو عدوا على خير يبقى لسه في أمل.
رصاصة أخرى صوبها قناص ماهر صوب قلبه تحديدا فشقته لنصفين
-وإن معدوش! هتموت؟
-محدش عارف هيحصل إيه، ادعي لها أنت .
وصلت بسمة آنذاك حيث تبدلت ملامحها الفارحة لتعجب
-هو في إيه! سلمى أنت ممشتيش لسه؟

انصرف الطبيب بهدوء ورمق هشام سلمى بنظرة محرقة ثم تجاهل وجودها ووجه حديثه لبسمه
-في حاجة حصلت.
ما زالت عيون بسمة حائرة يمينا ويسارًا، وردت
-ااه كله تمام وعمو خرج ومستنينك نروح سوا.
مسح على وجهه حتى أحمر وقال بغضب
-معلش يابسمة خليهم يروحوا هما، أنا هفضل هنا شوية، ووصلي الدكتورة سلمى معاكي، عشان وقت زيارتها انتهى.

تضاعفت حيرة بسمة واشتعلت نيران سلمى أكثر وأكثر وهي تتوعد له سرًا، أومأت بالإيجاب كهدنة المحارب وقالت بغل
-مفيش داعي، أنا همشي لوحدي يا هشام.

( في شقة بسمة )
فتحت سعاد باب الشقة بفزغ وهي تستقبل رهف وزياد ترمقهم بذعر ونبرة صوت مرتجفة
-ازاي حصل ده كله يا زياد يا بني فهمني!
تقدمت رهف ببطء وهي ترتل الشهاده ثم ارتفعت نبرتها وقالت بارتياح
-إحنا شوفنا الموت يا عمتو، الحمد لله أنها عدت.
ضمتها سعاد إلى صدرها وربتت على كتفها وقالت
-عين وصابتكم يا حبيبتي، الحمد لله انكم بخير، تعالوا تعالوا ارتاحوا جوه اعملكم حاجة تهدي اعصابكم.
اطرق زياد بصوت مؤسف.

-ادخلي أنت يا رهف وانا هنزل استنى أمي ومجدي تحت زمانهم على وصول.
فبادرت سعاد قائلة
-انا جهزت الاوضة زي ما بسمة فهمتني.
أومأ زياد متفهمًا
-بسمة اللي صمتت يجي هنا عشان ترعاه بنفسها بدل قعدة المستشفى.
ما لبث ان انهى جُملته فارتفع صوت هاتفه
-بسمة بتكلمني، آكيد وصلوا، أنا نازل.
ضربت سعاد كف على الآخر ودندنت
-هات العواقب سليمة يارب، مالكم بس يا ولاد مش مكتوبلكم فرحه ليه بس، استرها معاهم يارب.

غمغمت رهف بحياء مفتعل
-طنط أنا جعانه، عندك أكل
رمقتها سعاد بذهول انتهى بابتسامة ساخرة وقالت
-حالا يا حبيبتي تعالى تعالى.

في احد صالات ( البلياردو) هناك رجل أصلع ذو بنية جسمانية قوية يقف على رأس الطاولة وبيده العصا المخصصة لللعبة وما لبث أن سدد هدفه صاح جاهرًا
-يس.
فتابع حماسه صوت أنثوي وهو يقول بفخر
-الحريق لم يرحم شبرًا بمنزله.
-ونحن أيضًا لم نرحمه.
ثم عاد ليلعب مرة آخرى وواصل
-ميان خرجت من مصر؟
-الآن على الحدود الفرنسية، لا تقلق مسيو.

وما أن انتهت من قول جملتها دخلت رجل آخر في اواخز الثلاثين من عمره يمتاز بعيونه الخضراء كالأفاعي بإشارة واحدة من يد الرجل الاصلع إليه هتف الأخيرة
-وقتك انتهى.
أومأت هذه الأفعى ذات الثوب الجلدي متفهمة بعيونها اللامعة وقالت وهي تتراجع بإجلال
-تمام.
وما أن اختفت من مجلسهم بات الحوار دائرًا بين الثنائي الآخر وهو يسأله بالمصرية
-البت مراته عامله ايه!
تناول مساعده العصا الأخرى وشرع في اللعب وقال.

-اعتبرها في سجل الأموات من دلوقت إذا معاليك أمرت.
ضرب الاصلع الأرض بقدمه وصرخ معترضًا بضجر
-غلط، كده غلط.
اهتز الآخر وتراجع خطوة للخلف
-اللي شايفه معاليك طبعا صح هيتنفذ.
ترك العصا من يده وتحرك بفظاظة تحت خيمة المكر وقال بصيغه آمرة
-نفذت أوامري.
أومأ بطاعة
-كله تمام يا بُص، زي ما أمرت.

مالت الشمس إلى المغيب حيث انتهت بسمة من فحص منير واطمئنت على وضعه حتى خرجت من الغرفه وزاحت الماسك عن وجهها فوجدت الجميع في حلقه منعقدة بالصاله، اقتربت منهم وقالت بكلل
-ايه ده كله، مين ورا اللي حصل.
نثي مجدي سيجارته بالمطفأه بعدما سحب منها آخر نفس وقال.

-ليا شهور بقول لهشام في لعبة بتحصل حوالينا بس هو كان في عالم تاني، من بداية الرسايل الطايشه اللي بتوصله والتهديدات والجوابات اللي كانت تدخل اوضة نومه لحد حريق البيت، في حاجه مش مظبوطة.
جلست بسمة بجوار زياد متنهدة وقالت
-احنا مش مكتوبلنا نرتاح ولا إيه.
تدخل زياد في الحوار محاولا تلطيف الجو وقال
-طيب بالنسبة للفرح اللي ماتمش ده اي نظام الليلة! هي كمان مش هتتم!
ركلته بسمة في قدمه معاتبة
-ما تتلم بقى.

أخفى تأوهه ضاحكًا وقال
-مجدي ابن عمي الوحيد اللي هيحس باللي أنا حاسس بيه ولا ايه يا سيادة الرائد.
اجابه مجدي
-هموت واعرف مين اللي نبر في أم الليله دي، ولا دي لعنة وحلت عليكم يا ولاد عماد السيوفي، مفيش حد فيكم ناوي يحل عقدة البيت ده ويتجوز!
صاح زياد متحمسًا
-انا جاهز، بس الحلو لو يهاودني بس ويبطل نمردة.
طفح كيل بسمة من مزاحه الذي في غير وقته ونهضت.

-والله انت فاضي، انا هروح اساعد عمتو فالأكل، جايه معايا يا رهف ولا هتقعدي مع الصيع دول.
ضحكت رهف بصوت مسموع وقالت
-لا هقعد مع الصيع دول اصلهم بيضحكوني أوي.
بمجرد ما انهت جُملتها رن جرس الباب فعكست بسمة وجهتها وذهبت لتفتحه فأذن بهشام يقف أمامها بصلابة بنيانه وهشاشة روحه التي نبشها الفراق، هتفت رهف فارحة وهي تركض صوبه
-هشام، اخيرا جيت.
ربت على كتفها بملل ثم سحبتها بعفويه للداخل وقالت.

-تعالى تعالى اقعد معانا، لينا كتير أوي متجمعناش.
تابع خُطاها ثم قفلت بسمة الباب خلفه فسالها هشام
-عمي اخباره ايه!
اجابته بعجل
-حالته استقرت، وخالتي معاه جوه.
داعب زياد مجدي ممازحًا
-والله ما حد طلع نمس في العيلة دي غير عمي منير.
جلس هشام بجواره بإرهاق وهو يقول
-ما انت كمان متجوز.
-بس حظي زفت، واخد بالك إني مش عارف اخد كل اللي الاديان السماويه محللاها والقانون والعرف وقاعد زيي زيكم كده أعد نجوم الليل.

همس له مجدي منازحًا
-شرسه أوي بسمة دي.
فصاح زياد معترضًا
-لاااااا حاسب انا راجل أوي في بيتي.
سرعان ما اختتم جُملته فصاحت بسمة منادية باسمه فوقف على الفور مجيبًا
-اااه ياروحي جايلك أهو.
انفجر البقيه في الضحك الذي يختبىء وراءه محيطات الحزن الفائضه واتبعه مجدي ساخرا
-راجل راجل مفيش كلام
ثم وجه حديثه لرهف معاتبًا
-مش الحضن ده أنا اولى بيه طيب!
طوقت اخيها بدفء وقالت رافضة
-اتش غير.
ابتسم هشام رغم عنه وقال بشماته.

-بتحط نفسك في مواقف بايخة.
-يابنتي خافي على مصلحتك، أنا اللي باقي لك.
اجحظ هشام مقلتيه ونهره
-ما تلم نفسك يالا، أنت عاوز تحضن أختي قدامي!
اجابه مجدي ببرود
-مش احسن ما أحضنها من وراك!
وضع حدًا للجدال الذي يشب النار بقلبه
-لا ياخويا ولا من ورايا ولا من قدامي، واصلا كويس ان الفرح اتفشكل يمكن تعقلوا أنتو الاتنين وترجعوا عن اللي في دماغكم! ا
قطب مجدي حاجبيه حائرًا
-وأن رجعنا هتسيبها للغريب يحضنها عادي.

احمر وجه هشام بغضب
-ولا غريب ولا قريب أختي هتفضل جمبي العمر كله كده مش هجوزها ياعم أنا حر.
عض مجدي على شفتيه متوعدا وهو ينهض تدريجيا
-ورحمة ابوك يا سيوفي بس اكتب كتابي عليها، ومش هكمل آكيد الباقي أنت فاهمه، انا هروح اشوف ابويا وانتي خليكي كده جمب اخوكي.
همس لأخته بضيق
-عاجبك فيه أيه الواد ده؟
رفعت انظارها اليه وهي تكتم ضحكتها وقالت
-شبهك.
-انا شبه الولا ده! انت حوله؟
ابتعدت عنه ضاحكة وقالت.

-سيبك منه وخلينا فيك، عامل ايه ياحبيبي، ليا كتير أوي متكلمتش معاك.
نكر مراجل الحزن بقلبه بضحكه مزيفة
-مالي منا زي الفل اهو!
-تعرف من وانا صغيره بحلم اوي امتى هكون عمتو كده لولادك و نسختك، كان نفسي اشوفك وانت بابا أوي وولادك بيدلعوا عليك، واثقه إنك هتكون بابا رائع زي ما كنت لي احن اخ واعظم أب، بس أمتى، أنت ليه مش عايز تفرحنا وتفرح قلبك، هشام عمرك فكرت في ولادك وانك ازاي تتعامل معاهم كأب.

سيف الألم سن حوافه ليمررها على قلبه، حيث نبشت بجملتها صميمه، صمت ليس بقليل ثم قال بهدوء
-الأهم من إني ابقى أب أكون مع واحده تستاهل تكون أم ليا قبل ولادي.
اندفعت رهف قائله
-والبنات على قفا من يشيل انت بس اللي رافض تطلع بره الصندوق وتجرب.
انحنى ظهره ليستند بمرفقيه على ركبتيه وقال رافضًا لسماع المزيد
-رهف، قفلي على الحوار.
أبت أن تطاوعه حيث اقتربت منه أكثر ولامست وجنته بكفوفها.

-مشبعتش عذاب يا هشام، أنت لازم ترتاح شويه يا حبيبي، عشان خاطري أدي قلبك فرصة، فجر كل يوم وضعها بيسوء ووو
قاطعها بحزم وهو ينصب قامته معترضًا
-آخر مرة تفتحي معايا الموضوع ده فاهماني.
وقفت خلفه بأسف
-أنا خايفة عليك.
-الخايف على حد يقتله عشان يطمن عليه!
تحركت بخفه لتقف أمامه بضيق
-يا هشام افهمني بس.
تجاهل طلبها وصاح قائلًا
-بسمة الاكل جهز ولا أمشي.
راقبته بعيونها اللامعة التي تراقب ملامحه الغاضبة وتمتمت.

-متزعلش مني طيب، وبلاش الوش الخشب ده، أنت عارف أنا بحبك أد ايه.
ضمها لصدره بحبه وطبع قُبلة طويله على رأسها وغمغم بكلل
-عارف يا رهف.
شرعت بسمه في تجهيز الطاولة بعجل تحقيقا لرغبة هشام وهي تقول
-خلصنا يا هشام، يلا.
ظهر مجدي مرة ثانية فوجد رهف لا زالت بحضن أخيها، فجهر معارضًا
-جرعة المحن دي ملهاش أخر، يا عم قلت بغير، ما تتلموا بقا.
تحولت معالم وجه هشام من الحزن للغضب وهتف متوعدًا.

-تصدق ما حد عايز يتلم غيرك، يا بني انت لسه ملحقتش تفرح بالنجمة الزيادة، خاف عليها بدل ما اطيرهالك.
تدخلت سعاد آنذاك وهي تضع الإناء على الطاوله وقالت
-انتو هتبطلو مناقرة أمتى!
فسألها مجدي
-يعني أنتِ عاجبك الوضع المُخل اللي هما فيه ومش مراعيين أن فرحي اتفشكل.
ضحكت سعاد بصوت مسموع وقالت ممازحة
-ما تراعي مشاعر ابن عمك يا هشام.
-ما يتحرق هو ومشاعره، وأنا مالي أختي واحب فيها براحتي، واللي مش عاجبه مليزموش.

تناول مجدي قطعة خضار من على الطاوله وألقاها بفمه وقال متوعدًا
-ده يلزمني ونص، اومال هاخد حقي منك ازاي.
-بطل برطمة يالاا.
ختم جملة هشام الاخيرة صوت جرس الباب، حيث تحركت سعاد صوبه وهي تضرب كف على الآخر وتدندن
-ياربي العيال دول هيعقلوا امتى بس.
وما لبثت أن فتحت الباب فوجدت أمامها اللواء نشأت بهيبته الشامخة وبابتسامته التي لم تفارق ثغره عندما يقابلها وقال
-حضرتك فاتحه ليا الباب بنفسك يا هانم.

تبدلت ملامح سعاد الضاحكة لاخرى أكثر ارتباكًا وقالت
-نشأت بيه اتفضل نورتنا.
مد مجدي أنظاره صوب الباب ليتعرف على هوية الطارق ثم اقترب من هشام واتكئ على كتفه وتمتم
-سي قيصر بيه بتاعنا وصل، هي الرجالة دي جايبه صحة منين تحب وهي فالسن ده!
فردت رهف وهي تكتم الضحك
-لا ركز كده على ملامح طنط سعاد هتلاقيها تغيرت ١٨٠ درجه، حقيقي شكلهم حلو أوي.
فأعقب هشام ساخرًا.

-أنتو الجوز فاضيين وبتألفوا أوهام من دماغكم، والله نشأت بيه أعقل من هبلكم ده وطنط سعاد دي ولا في بالها التفاهات دي.
رمقه مجدي بنظرات ساخطة
-ياخي كل يوم بتأكد أنهم خرجوك من كلية الشرطة مُجاملة لعماد السيوفي .
ضغط هشام على قدمه بانتقام وهدده
-حسابك تقل معايا.
كتم مجدي تأوهاته وهو يجز على اسنانه مرحبًا بنشأت بيه
-اتفضل اتفضل معاليك يا جنرال نورتنا.
فهتف نشأت
-أخيرا اتلايمت عليك يا هشام!

(في المطبخ)
-كنت بتكلم مين!
هتفت بسمة جُملتها الأخيرة وهي تنتهى من غرف الاطباق أمامها حيث ألتقمت أعينها ارتباك زياد الملحوظ وهو يختصر قائلًا
-ابدًا.
لا زالت تغار من أشياء ربما لا تعبر ذهنه، ثار بركان الشك برأسها فأومأت بضيق
-براحتك.

فاضت عيونها بمياه العتب وهي ترتل ‏كل الحب الذي يحمله قلبي لك لم يعد شفيعًا للطمأنينة التي انتزعتها منه ولت بسمة ظهرها وأكملت مهمتها بدون تركيز فأصبح تعاملها معه بصيغة النسيان بدلًا من صيغة التأمل حيث فاقت على يده التي تطوقها بحنو وصوته العذب
-ليه القمص طيب!
تملصت باختناق
-زياد ماينفعش كده، لو سمحت أبعد.
-مين قال إنه ما ينفعش؟!
بدا على ملامحها الضيق من دعابة زياد السمجة وابتعدت عنه بعد عناء.

-روح شوف كنت بتكلم مين وسيبني في حالي.
ظهر الانشراح على اساريره
-دي غيرة ولا قلة ثقة؟!
-انعدام ثقة.
تجهم وجهه بغضب مفتعل
-انعداام! ايه الكلمة اللي تخض دي، المهم عايزك جوه.
-مش فاضية..
دخلت سعاد المطبخ آنذاك وأول شيء فعلته تجرعت كأس من المياه بأيدي مرتجفة ثم قالت
-استعجلي يا بسمة يا حبيبتي، اللواء نشأت بره ولازم يتغدى معانا.
تبسم زياد في هدوء خبيث مناقض لمجرى الحديث ومد نطق الكلام بثغره.

-اللواء نشأت!، أنا ملاحظ أن رجله خدت على المكان! لولا أنه عارف إنك مراتي يا بسمة كنت قولت عينه منك، ولا أنت ايه رأيك يا سُعادة يا هانم!
انشغلت بتحضير الأطباق لتفر من حديث زياد الساخر وهي تقول
-ما تلمي جوزك يا بسمة!
دارت بسمة وهي تحمل بيدها الأطباق ووضعتها بين يدي زياد بعنف
-هو هيخرج يحط دول بره ويلم نفسه لأنه واضح أننا مش طايقين وجوده معانا.
تلقى زياد الأطباق ضاحكًا وغمز بعينه بمكر قائلًا.

-يابت لمي نفسك معايا، أنا سايبك عايشة في جو الإندبندنت وومن ده بمزاجي أصلا! متخليش الواحد يحن لأساليبه اللي بيحبها معاكي.
هزت كتفيها بتحدٍ
-ولا تقدر تعمل حاجة.
عض على شفته السفلية بتوعد وهو يرمقها بنظرات المكر قائلًا
-صدق اللي قال ؛ عاكس القطة تخربشك.
كانت تلك آخر جُملة رماها على آذانها ثم غادر مختالاً فهمست لها سعاد
-والله الولد شربات ما كفاية تقل عليه استوى، أكتر من كده هيطير منك.

وضعت يديها في خصرها متوعدة له
-منا بقصقص له ريشه أهو.

لن يفهمك، فأنت تتحدث عن أمرٍ قطعت فيه آلاف الأميال تفكيرًا ولم يمشِ فيه خطوة واحدة، لن يشعر بك، فأنت تشرح شعورًا جال في قلبك كل ليلة ملايين المرات ولم يطرق قلبه ليلة، ليس ذنبه، بل هي المسافة الهائلة بين التجربة والكلمات.!

اقتحمت سلمى غرفة فجر الراقدة لاحول لها ولا قوة خفية بعد ما أحدثت صخبًا في مقود المشفى واشعلت أجهزة الإنذار بوجود حريق لم يقل حرارة عن الحقد الذي يتأكل بحواف صدرها، وقفت بجوارها تتأملها طويلًا بنظرات الكُره الفظة حيث حدثتها بنبرة مرعبة
-أنت السور الوحيد اللي واقف بيني وبين هشام.
ثم انحنت بظهرها لتصبح كلماتها بقرب اذان فجر وأكملت.

-زمان عماد السيوفي هددني بأبويا وأنه هيحبسه لو أنا ما بعدتش عن هشام مكنش قدامي حل تاني غير إني اختفي، دلوقت مبقاش فيه عماد السيوفي ومعرفش أنت طلعتي لي منين، بس أنا مش هسمح لأي حاجة تبعدني عنه.
زحفت اصابعها ببطء شديد فوق ذراع فجر لتصل لرباط يدها الطبي وأكملت بصوت كفحيح الافعى.

-أنا حبيت هشام فوق ما أي بني آدم يتخيل بس للاسف الدنيا كانت معندانا، أنا نفسي أعرف إنتِ عملتي له إيه عشان ينساني ويفضلك عليا أنا، أنا اللي كنت مخلياه خاتم في صباعي لدرجة إنه اتحدى عيلته كلها عشاني وكان مستعد يخسر منصبه بس عشان ابقى مراته، مش معقوله تكوني حبتيه أكتر مني.
ثم اطلقت ضحكة ساخرة مُحاطة بنار الغل.

-سمعت إنك مجرد فلاحة لا راحت ولا جات حبك على إيه مش فاهمة! متكونيش سحرتي له، أنا عارفه أن الامور دي عندكم مفيش أسهل منها.
ثم ضغطت على كف فجر بانتقام وارتفعت نبرة صوتها وقالت
-بس مستحيل ده يحصل، أنا لو بعدت عن هشام ممكن أموت، وموتي مربوط بحياتك، فلازم حد فينا يموت.
ثم انخفضت نبرة صوتها وتحولت إلى بَحة مخيفة حاره بدخان الشر وواصلت.

-أنت كده كده في سجل الأموات مع وقف التنفيذ، مفيش داعي للعذاب أكتر من كده، أنا هنا باعتني ليكي ملك الموت، أنا السبب اللي هيريحك ويريح هشام ويريحني من الوجع ده كله.
شرعت في رفع لزق (الكانيولا ) ببطء وهي تقول
-تعرفي لو عماد السيوفي لسه عايش كان عملها بنفسه، بس أنا أهو بعمل له جميلة تغفرلي عنده قربي من ابنه، مش قدامي حل غير إني اخلص منك، الله يرحمك يا فجر هانم.

(نتخلى عن الأحلام ونسمّيه نضجًا، نتقبّل كل شيء ونقول: الحياة. )ولكنها قررت ألا تستسلم لأحكام ومواعظ وعزمت على أن تحفر طريقها بأيديها مهما كان الامر مكلفًا، نزعت سلمي كل الاجهزة الموصولة بفجر وقامت بتعطيلها حتى لا يبقى لها سبيلًا للنجاة، نصبت قامتها مستندة على ضحكات هستيرية من الانتقام وهي تردد
-أنت خلاص بح، وهشام خلاص هيبقى ليا، هيبقى ليا وبس ومفيش حاجه هتفرقنا.

شرعت الاجهرة بإصدار اصوات استغاثة من حولها كادت أن تكشف أمرها وما كان لديها حل أخر سوى الهرب قبل مجيئ أحد.

لا أعرف ما الذي يُعيد الفراشة نحو النار مجددًا‏ بعد كل لسعة، هل قدرةٌ كبيرة على المسامحة، أم ذاكرةٌ رديئة، أم حب عظيم يغفر فاحشة، ظلت حائرة تقف أمام باب غرفته بعد ما ترك على اذانها رسالة بانتظارها بالداخل لأمر هام، أخيرا دفعت الباب بقوتها وهي تقول
-أنت مش هتبطل حركات العيال دي!
خفض ساقيه الممتدة فوق الطاولة ونهض بهدوء
-لا المرة دي بجد.
حكت عنقها بارتباك وهي تقول.

-خدت بالي إنك سرحان على الأكل ومكلتش كويس.
-أموت أنا في المراقبة الصامتة دي.
زفرت بسمة بضيق وما لبثت أن تدور لتفارق الغرفة فجأها بقفل بابها عنوة
-اخترتي تبقي استرونج استمري للاخر وخليكي واثقة في نفسك أكتر من كده.
-انجز يا زياد مش عايزه حد يلاحظ غيابنا.
اتسعت ابتسامته الساحره وهو يتكئ بيده على الباب خلفها الذي تتخذ منه مسند لظهرها وقال بنفاذ صبر.

-ياريت يا ستي ياخدوا بالهم ويحسوا بيا ويحننوا قلبك عليا شوية.
-بلاش الجو البلدي ده.
-طيب بلاش الجو ده، تمشي بحبك.
تحول تمردها لغرور، فكيف لرجل ساحر مثله فُصل ثوب الأحلام على مقاسه أن يعترف بأعتراف خارق لكبريائه كهذا ويعلن أمتلاكها بمنتهى الود، رجل بات على وسادتها كحُلم والآن أصبح لقلبها حقيقة، عقدت ذراعيها أمام صدرها متدلله
-ده أمر طبيعي، شعورك مش محتاج لجهد تجاه واحدة زيي.
غمز بعينه اليسرى وقال
-يعني!

-يعني أنا كدا كدا اتحب، المهم أنا هحب مين؟!
-ما كفاية بقى تقل دم واعترفي.
انكرت فهمها لمغزى كلماته و
-أعترف بأيه؟!
-أنك بتحبيني! وإنك ولا استرونج معايا ولا نيله!
انفجرت ضاحكة بصوت فزع قلبه وهي تفحمه بجمودها
-ده كان زمان، دلوقت الموضوع غير!
تشبث بطرف كلماتها كالغريق
-أيوه بقى أنا عايز اسمع منك اللي كان بيتقال وبيحصل زمان.

‏يتدفق من ملامحها كُل ما رغبت في قوله ومنعته عنه نفسها ولكنها تمردت كعتدتها، داعبت ازرار قميصه بخفة وهي تقول بهدوء
-كنت ازرع الورد عند ناس ما بتشمش وجايين دلوقت يزعلوا.
برقت عيونه ببريق الإعجاب وداعبت شفتيه ابتسامة الهزيمة التي حاول إخفاؤها قدر الاماكن وجز متوعدًا
-مسير الجمل في يوم يقع ووقتها هتكتر سكاكينه.
-شوفت بقى إنك جايبني هنا عشان أنت فاضي ومش على بالك المصيبة اللي إحنا فيها!

تغيرت نبرة الحديث بينهم حيث تبدلت ملامح زياد عندما تذكر ما يشغل عقله وقال
-بسمة، أنا مسافر ومش راجع قبل سنتين .
حاولت استيعاب جملته الحارقه بنبرة مرتجفة يحاصرها الخوف والقلق والرجاء
-هما ردوا عليك!
أغمض عيونه بقلة حيلة وأجاب
-مكنتش متخيل أن المنحة هتيجيلي بالسرعة وكنت فاقد فيها الأمل أصلا، وأنت اللي شجعتيني عليها، النهاردة ردوا عليا، ولازم اكون عندهم أخر الاسبوع ده.
بللت حلقها الجاف.

-طب وأنا؟! هنبعد تاني يا زياد! هو العمر بقى فيه كام عشان نقضيه في غُربة وفراق!
وضعته في وضع محير، فسألها
-عايزاني ارفضها؟
اغرورقت عيونها بنهر الحزن وقالت
-أنا مش أنانية عشان أقولك كده، بس أنا مش هقدر، مش هقدر اتحمل بُعد تاني؟
يُقاس الألم بأثره لا بسببه، فكم بد العالم مُرعب لغيابه، باتت الايام بمخيلتها ظُلمة عافرت كي تنجو منها، اقتربت منه بخطوات سُلحفية حتى تلاقت انفاسهم في نقطة ما وأكملت.

-مش عايزاك تسيبني، ومش هقدر أقف قدام مستقبلك.
مسح على شعرها بحب
-باقيلك كام شهر على الامتياز، أول ما تخلصيهم هبعتلك على طول.
انخفضت انظارها بدمعه انخرطت منها على قميصه وقالت رافضة
-متشغلش بالك، مبروك يااا
ثم بللت حلقها لتكمل جُملتها بلين
-يا حبيبي.

يعزّ علي بعد أن قطعنا كل تلك السنين معاً أن لا نلتقي إلا في ذكرياتنا، وكأنك الحب الذي خُلق ليعيش معلقًا في انتظار دائم مع الوقت الذي يأتي بك لأعتابي، اختتمت كلمتها بعناقها المؤجل لشهور فعدم قدرتها على الصراخ تجسدت في عناق هد جبل التمرد المنصوب بينهما، تخيل ماذا سيكون الحضن الاول بعد كل هذا التباعد، لكنها أعلنت مهزومة أنتَ محقٌ نحنُ مختلفانِ، أنت من تملكُ ساقينِ للهربِ من الحبِّ وأنا حوريةُ بحرٍ، كلُّ ما أقدرُ عليهِ هو الغوصُ في أعماقِ ذاك الحب..

طوق زياد خصرها بقوة فتلك أول مرة يجتاح فيها لهيب العشق قلبه حيث تحولت اصابع يده لفراشات عندما لامست جسدها، غرز انفاسه بعنقها محتفظًا كل منهما بصمته المليء بالكلام، ولكن قبضته عليها كانت تقر بحقيقة قلبه ( ‏أحتاج أعتزِل العالَم بينَ ذراعيك..!)
همس لها بعمق شوقه لها
-مفيش حد عاقل يسيب الحضن ده ويجري ورا منحة.
ضمت قبضتها على قميه الذي انكمش في يدها وهي تمازحه بحزن شديد
-وأنت عمرك ما كنت عاقل.

ابعدها عن حضنه قليلا وهو يحتضن ملامحها بعيونها ويجفف دموعها بابهامه
-بس بقيت عاشق، دا ما يشفعش؟!
أغمضت عيونها بحزن بالغ وهي تهز رأسها نافية
-وأنا حبيبي لازم يكون متميز في كل حاجه، وبقولهالك أهو ما يشفعش!
سالت دموعها أكثر
-يلا عشان نبتدي نحضر الشنط سوا، ويكون في علمك هجننك وأنت هناك، هنتكلم فيديو كول اليوم كله حتى وانت نايم فاهم.
داعبها منازحًا
-ده جو اطمئنان ولا جواسيس.

اتسعت ابتسامتها تدريجيا وكأنها على وشك أن تُقر بحقيقه
-قبل دقيقتين بالظبط ممكن يكون جو جواسيس، بس بعد ما قلبك دق في حضني بقى اطمئنان، تعرف إني أول مره أسمعه! كنت مخبيها فين بس!استنيتها كتير أوي.
حول مجرى الحديث من الحزن للمداعبات وقال
-منا ليا ست شهور بزرع الورد عند ناس ما بتشمش وجايين دلوقت يزعلوا.
ضربته بقبضة يديها بخجلٍ
-رخم أوي.
قبض على يدها التي ضربت صدره وقبلها بحب وقال
-قلبك مسامحني مش كده.

-يووه ده من زمان أوي، ولا عمره عرف يزعل منك أصلا!
رفع حاجبه مستنكرًا
-أومال الوش الخشب ده كنتي جيباه منين.
-استرونج اندبندنت ومان بقى وكده.
أسبل عيونه بتخابث
-ودلوقت!
-لسه زي ما أنا طبعًا.
-متأكدة؟
ارتبكت من فيض أسهم حبه المصوبة ناحية قلبها، حيث تراجعت خطوه للخلف وهي تقول
-آه، لأ، مش عارفة، يوووه زياد أنت موترني على فكرة.

انتهى هشام من قص كل ما حد معه منذ بداية الحريق وحتى تلك اللحظة للواء نشأت ومجدي وشرع الثلاثي في ربط الخيوط ببعضها، ورضع اسئله بصوت مسموع حتى اختتم مجدي الحديث بجملته قائلاً
-الذئب لما تقتل ولاده لابد له من عودة لينتقم.
فواصل اللواء نشأت.

-كل يوم شكوكي بتأكدلي أنه قلم بيترد على اللي حصل لمنصور الشاذلي ورجالته، بس مين، وهيستفاد ايه من التلاعب بينا بحركات هبله زي دي! والغريب إننا مش عارفين نمسك عليهم حاجه ملموسة.
كعادته يستمع أكثر ما يتحدث فكان يفكر في كل كلمة تقال أمامه دون إبداء أي رأي حتى وجه له مجدي سؤال
-سيوفي بتفكر في ايه!
شبك كفيه ببعضهما وقال بهدوء متناهي
-ميان ولسه متقبضش عليها، وملهاش اثر.
قطعه اللواء نشأت مجيبًا.

-ومش بالغباء اللي يخليها تظهر قدامنا تاني.
أيد هشام جُملته بالموافقة واكمل
-ولا رجالة منصور بطبعهم يضربوا ويجروا، دي ناس بتضربك فالوش وتقنعك إنهم مالهمش يد.
أعقب مجدي
-والبنت اللي ظهرت دي كانت عايزه منك إيه.
تنهد بحيرة وقال
-أهي البنت دي لوحدها لغز تاني خالص، كل العك اللي بيحصل في كفه، وهي لوحدها كفه تانيه خالص.
مازحه مجدي قائلًا
-هي حلوة أوي كده! ياخساره كان نفسي أشوفها.
-ماتشوفش وحش يا اخويا.

كانت جملة هشام الاخيرة ساخرة ردًا على ممازحة مجدي، فسأله اللواء نشأت
-غريبة ازاي يا هشام! ماهي آكيد بنت زي أي بنت.
-لا، مش زي أي بنت، دي أفعى، افعى متعرفش مخبية سمها فين ولا هتلدغك أمتى.
رن هاتف المنزل عقب انتهاء هشام من جملته فتناولت يده السماعة مجيبًا
-ايوه.
اتاه صوت انثوي محاوطة بالاستغاثة
-تليفون الدكتوره بسمه؟
-ايوه مين معايا!

-انا زينب جليسة مدام فجر والدكتور مش عارف يوصل لجوزها، لو سمحت ممكن اكلمها بسرعه
نهض كالملدوغ من مجلسه
-أنا جوز فجر، مالها حصل ايه؟
-هشام بيه ألحق مصيبة، لازم تيجي حالًا محدش هنا فاهم اي حاجه!
صرخ بها قائلا
-مراتي حصلها حاجه انطقي.
-مفيش وقت لازم حضرتك تيجي بسرعه قبل المصيبة ما تحصل فعلا.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة