قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثاني عشر

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثاني عشر

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثاني عشر

أعلم أنني قد وصلت لنهاية العلاقة، ولنهاية الرسائل ولنهاية الشغف واللهفة، لكن إصرار الحنين مؤلم لذلك لم أغلق الباب خلفه حين رحل، تركته مواربًا، رُبما يشتد عليه البرد في ليلةٍ لا يجد فيها معطفًا، على أن آويه دون أن أحبه مجددًا، صدقني لم أحبه أبدًا ولكني انتظره دائمًا.

كيف يعيش المرء عندما يكتشف أن الحقيقة المطمئنة التي آمن بها، هي مجرد وهَم آخر، صفعة خذلان جديدة؟
عاد هشام إلى مكتبه وكان في أعظم درجات غضبه من نفسه، أنياب الحزن تنهشه بدون رحمة، وحوافر الحب تمزق في قلبه عتابًا، ومناقر الندم ينخر في رأسه كطير عنيد عاد لينتقم منه..

كانت الحقيبة التى تحمل الطعام موجوده فوق مكتبه حيث اقترب منها بتثقال وهو يفتحه فاقدًا للشغف، أخر العُلبة وفتحها وكانت صدمته الكبرى عندما وجد الطعام الذي يحبه، طهي الكبدة بالطريقة التي يفضلها وبجوارها السلطة الخاصة به التي لا يأكل غيرها، وفي الصف الأخير من قاع العُلبه الرز الأبيض طعامه المحبب..

هنا تغلغلت حوافر الحب إلى صميمه وهو يلعن نفسه في العلن، وتحولت مناقير الندم لمنشار حاد قادر أن يقسم رأسه لنصفين، وبات حزن ميتم قابل للتعازي.
ركل المقعد بقدمه وهو يسب في نفسه بمصطلحات الحماقة واختتمها بقوله
-غبي وهتفضل طول عمرك غبي..

لم يتحمل البقاء لدقيقة واحدة في تلك البلدة التي اكتشفها بها مدى حبه وحماقته، ألتف حبل الحب الشائك حول عنقه، فأخذ مفاتيحه وأشياءه وقرر الهرب من تلك الأشباح التي هاجمته دفعة واحدة.
****.

انشق صباح يوم جديد بدأ هشام بمنزلهم بالقاهرة يشرف على العمال وما وصلوا إليه لاستلام البيت بعد حدوث الحريق الذي حوله كل ما به لأنقاض، وبعدها عاد الي القسم ليتابع اجراءات التحقيق التي لم تتوصل لأي شيء بخصوص تلك الكارثة التي أداها اشخاص محترفين، ظل يجوب طويلًا بدون مقصد ولا هوية، يتخيل جملتها التي جعلته كالأحمق أمامها فقد عقله وقلبه واستيقظ بجوفه الرجل الشرقي الذي تعرف عليه منها..

كم هو أحمق الرجل الذي يظن أن الغياب يجعل المرأة نادمة ومطيعة، والحقيقة أن الغياب يخلق امرأة أخرى منها أكثر صلابة وقسوة، هنيئًا لأحمق ظن أن الغياب سيسترد ودائع حبه بقلب إمرأة!
بعد ساعات من التجول العابث رست سيارته تحت منزل بسمة اللاتي يسكنْ به رهف وأمها وسعاد التي عادت لبلدها لأمور طارئة خاصة بالميراث..
دلف من سيارته بكلل وما أن قفل باب سيارته رن هاتفه فرد متأففًا
-ايوا يا رهف..

أتته نبرة صوتها المتحشرجة
-الحقني يا هشام ماما هنا متعصبة خالص، ومجدي مش بيرد وأنا مش عارفة اتفاهم معاها..
اختصر الحديث في جملة قصيرة
-رهف أنا تحت البيت، وجاي أهو.
دقائق قليل وكان هشام واقفًا أمام غرفة عايدة وتخلفه رهف القلقة، طرق الباب بخفة وما أن صرخت رافضة رؤيه أحد فتحه جبرًا وقال
-مش هتفضلي حابسه نفسك كتير كدا.
بمجرد ما لحظته ابتل ريقها ونهضت بلهفة لتعانق وتنفجر باكية.

-شوفت يا هشام شوفت اللي حصل فيا! شوفت عمك منير عمل فيا أيه؟ هشام انا مش مسامحة وانت لازم تجيب لي حقي ياحبيبي.
ما زالت عايدة نفسها حتى الحزن ذاته لا يكسرها، انها تلك المرأة التي لا تلتفت لما يسقط منها ابدًا، ربت هشام على ظهرها
-طيب اهدي وكل حاجة ليها حل.
ابتعدت عنه كالملدوغة وهي تلومه
-حل ايه يا هشام! انا مستحيل ارجع له تاني بعد اللي عمله، دا أهاني وقلل مني، مفيش حلول ما بينا هو اللي ساب.

استغرب هشام على امرها
-اومال ايه سبب الحالة اللي أنت فيها دي!
عادت مرة أخرى لتنوح غرورًا
-اهانته ليا يا هشام، انا اتوجعت أوي، هو ازاي اتغير كدا ولا أنا اللي ماكنتش أعرفه.
تدخلت رهف في حديثهم
-طيب يا ماما مال مجدي بقا؟!
انفجرت الروح الغجرية بعايدة وهى تحدجها
-انت تخرسي خالص بلا مجدي بلا ابوه مش عايزين نشوف وش العيلة دي تاني.
ضربت رهف الارض بقدميها وهى تطالع هشام بقلة حيلة طفلة وتقول
-ما تتكلم يا هشام!

تنهد هشام بكلل لان حمله ليس بحاجة لشيء يزوده ولكنه تريث وحاول التحكم في لجام الأمور وطلب من رهف بهدوء
-رهف روحي على اوضتك وانا جاي لك..
لبت رهف مطلبه وبمجرد خروجها دار هشام ناحية عايدة التى لم تمهله أن يتحدث و أشارت بسبابتها محذرة
-لو كنت فاكر انك هتقنعني أوافق متحاولش يا هشام.
أمسك يدها بهدوء شديد وسحبها برفق لأقرب مقعد وهو يهدئ من روعها
-اشش ايه اهدي من أمتى عايدة هانم بتتعصب كدا!

كان هدوئه كالسحر ليسيطر على انفعالها، حيث جلست أمامها منتظرة ما سيقوله، ولكن عويناته سبقت لسانه قبل أن يقول
-هااا هديتي خلاص!
-عايز تقول إيه يا هشام؟!
-منا مش هعرف اقول حاجة وانت شايطة كدا!
-اهو هديت، اتفضل؟
حاول أن يُلاطف الأجواء معها وقال ممازحًا
-ايه كل العصبية دي! أهو أنا دلوقت عرفت أنا جايبها منين.
ابتسمت عايدة رغم عنها وهى تحاول أن تخفي ابتسامتها عنه وقالت
-انت زياد علمك البكش قبل ما يمشي ولا ايه؟!

-العرق دساس يا دودو، المهم بقا نتكلم بالعقل، مجدي تعالي نبص له من بره أيه عيبه هااا
اشتعلت العصبية الجنونية مرة أخرى وهي ترفض قطعًا
-هشام ملناش دعوه بيهم هما في حالهم واحنا في حالنا وانا معنديش بنات للجواز..
-وتطلعيني عيل صغير مش أد كلمتي قصاد عمي اللي متفق معاه ع المعاد من شهر!
اتسعت عيونها بذهول
-انتوا كمان بتتفقوا من ورايا! شهر وانا معرفش حاجة!
ثم هدأت تدريجيا لتستوعب.

-شهر إيه يا هشام انت بتستغفلني؟! دا فرحهم كان من اسبوعين!
انعقد جابين هشام كمن وجد نفسه بين فكي المأزق وقال
-اهو من وقتها بقا يا دودو؟! هو انا فيا دماغ احسب؟!
-وكمان بتتفقوا من ورايا؟! بنتي دي ولا مش بنتي!
-دا كلام رجاله يا ست الستات؟! ينفع بردو ست شيك زيك تقعد تتفق في جوازه! اومال انا روحت فين؟!
رمقته عايدة باندهاش لغرابته وهدوئه ودبلوماسيته غريبة الأطوار، فكرت لبرهة وقالت معاندة
-بردو لا يعني لا.

-تمام عندك عريس تضمني انه يستحمل رهف اختي وميطلقهاش من تاني يوم؟
اندفعت في القول
-ايييه ليه مالها بنتي ان شاء الله؟!
-زي الفل، انا هطلع العيب كمان في اختي!
ثم اخفض نبرته بهدوء ووشوش ليها
-بس مجنونه حبتين يا عايدة وجنانها دا عايز واحد مننا يداري عليه.
هدأت مفكرة
-معاك حق.
-واحنا لقينا الشخص دا، ايه نسيبه؟!نطفشه؟
-لا طبعًا.
تنهد هشام بارتياح وتبسم
-يعني نكتب الكتاب يوم الخميس؟!
صرخت عايده بوجهه بالرفض.

-على جثتي، مجدي ابن منير السيوفي لا، انتوا اصلا كلكم على بعضكم عيلة تجيب صداع وانا غلطة عمري اني اتجوزت فيها، هشام اقفل على الحوار، الموضوع منتهي..
أغمض عينه بكلل ولكن لمصلحته وفرصته الأخيرة أن يقنع عايدة، أخذ نفس عميق ورسم ابتسامته قسرًا وهو يسب في سره ويردد
-ماشي يا مجدي ال*** اخرتها أنا اللي بتحايل على ع جوازتك!
ثم جهر بحماس في وجهها
-نقفل ايه بس، استهدي بالله، أحنا نبدأ من الاول
*****.

بعيدًا في أمريكا
وصل زياد وبسمة الي الشقة التي استأجرها زياد، وما أن دلف الثنائي بالداخل، فاستدار زياد الي الفتاة المسئولة عن تأجير العقارات، و بأسلوبه الناعم مع كل امرأة حدثها بامتنان وهو يشكرها ويصحبها الى الباب، تصرفه اللعوب اشعل نيران الغيرة بجوف بسمة التي استلمته بمجرد ما رحلت الفتاة وهي تنهره
-والله؟! اروح اجيب لك رقمها؟!
انعقد جبين زياد مصدومًا
-تجيبيه ليه ماهو معايا!
صرخت بغيرة شديدة.

-زياد متعصبنيش.
اقترب منها بهدوء وحاول أن يمسح على رأسها ولكنها ابتعدت رافضة
-ابعد يا زياد..
-يابنتي انت بتقولي يا نكد تعالى؟! حصل ايه لكل دا؟
-حصل أن عينك كانت هتطلع على البت؟!
رفع حاجبه بإعجاب
-ما انت عارفة نقطة ضعفي البنات الملونه!
فاض صبرها وصرخت لتوقفه عن عبثه
-زيااااااد! قول الحق.
اقترب منها خطوة وأجاب بمزاح
-نقطة ضعفي البنات كلها، هو دا الحق.
-تصدق انا غلطانه إني سبت حالي كله وجيت هنا معاك!

ثم اندفعت نحو حقيبتها وتأهبت للرحيل
-انا همشي وخليك أنت مع الالوان بتاعتك.
وقف أمامها معارضًا، هنا شرع بنسج خيوط شبكته حولها وقال
-هو الواحد مينفعش يهزر معاكي أبدا؟!
ثم اقترب منها أكثر وتعمد تطويق خصرها وهو يداعب خصلة من شعرها
-بقا بذمتك يا شيخة القمر دا يغير من النجفة اللي كانت هنا!
حاولت التملص من قبضته لكنه ملك لجامها وانتهى الأمر وأكمل
-احنا بنتكلم! هتهربي على فين!

-زياد أنت ماشوفتش نفسك بتبص لها ازاي؟!
-دي هلاوس في دماغك أنت وبس يا بسمة!
زفرت بعيدًا وهى تردد باختناق
-ااه هلاوس!
داعب أرنبة أنفها بقُبلة خفيفة وأكمل
-هتبطلي نكد أمتى
رمقته بضيق استقبله بمزاح كعادته
-لا بقولك أيه انا في غُربة وبتهدد ومش فاهم أي حاجة وكمان هتنكدي دا باين له مرار طافح! هرجع للنجفة اللي لسه ماشيه دي! انا محتاج ادلع كده.

لديه طريقة ساحرة ليسيطر على بركان مشتعل في جوف كل امراة ولعله هو ذلك السبب الذي جعل بسمة غير قادرة على مُفارقته للان، حاولت إخفاء ابتسامتها عنه ولكنها فشلت، استغل زياد الأمر سريعًا ومال على جدار عنقها بقبلتين متتابعتين وبعد ذلك انتقل الي رأسها بقبلة رقيقة وطالعها بحب
-مرضي كدا!
تدللت أمامها بتمنُع
-يعني مش أوي، لسه في حتة صغيرة كدا..
اكتسحت اهدابه جسدها سريعًا وقال
-هي فين وانا اقرقشها بسناني..

مسحت على وجنتيه بكفوفها وطالعته بحب
-زياد متوجعنيش تاني، يمكن أكون أوڤر بس معرفش في خوف ملازمني!
طبع قبلة طويلة بباطن كفها ووعدها بحب
-أنا وعدتك أن مفيش وجع تاني وكل اللي جاي عوض عن اللي فات..
لم تمنع نفسها من طبع قبلة خفيفة على ثغره أوشكت أن تحطم ما تبقى من حصونه التي نصبها بينهما ولكنه استقبلها بقُبلة سريعة في رأسها وابتعد متحججًا
-تعالي نفرغ الشنط..

أحمر وجهها بغضب للطريقة الغامضة التي ابتعد بها عنها مما جعلها تثور مرة أخرى
-طيب وحياة خالتي يا زياد عينك دي لو لمحت واحدة تاني لهكسر البيت دا كله على دماغك انا بحذرك اهو ..
*****
طرق هشام على باب غرفة رهف التي تتفحص المواقع باحثة عن فستان لمناسبة كتب كتابها، وما أن دخل هشام بوجهه المكفهر فزعت من مرقدها ملهوفة
-طمني عملت ايه؟! هشام انت معرفتش تقنعها..
زفر هشام بضيق وهو يجلس على الاريكة فلحقت به رهف.

-هي رافضه خالص كدا! يعني خلاص مفيش كتب كتاب!
انشقعت غيمة وجهه الغاضب تدريجيًا وهو يقول
-انا هشام السيوفي أفضل ساعة كامله اقنع في أمك عشان تتجوزي أنت والزفت التاني؟!
جلست بجواره بحماس والكثير من القلق
-انجز يا هشام، عملت ايه؟!
اتكئ بفظاظه وهو يفك زرار من قميصه وقال
-عيب عليكي، طبعًا لازم تقتنع، هو انا أي حد؟!
انهالت عليه رهف بالكثير والكثير من القبلات العشوائية كالطفلة الشقية وهي تهتف.

-أنت اجدع واجمل اخ فالدنيا كلها، ياخي لو تعرف أنا بحبك أد إيه، حلاوته ياناس اخويا قمر..
ابعدها عنه عنوة وهو يهندم في ملابسه
-اهدي بقا والله هرجع في كلامي..!
-ترجع ايه؟ لا انت تثبت كدا لحد يوم الخميس، بص اطلب مني اي طلب وانا هنفذه حالًا، ولا اقولك طلبين، لالا تلاته عشرة كدا بص انا بتاعتك من النهاردة..
تحمحم هشام بشموخ وأسبل عيونه بتخابث
-أي طلب اي طلب؟!
اندفعت رهف بشقاوة.

-انت معاليك تأمر أمر كدا وشوف رهف هتبهرك ازاي.
تريث لبرهه ثم عاود وسألها
-يعني هتنفذيه!
-يا عم جربني بس! كبرت على فكرة وبقيت أد المسئوليه..
فرك هشام كفيه بمكر وافتعل وضع التثاقل
-كنت عايزك تروحي لفجر وتعزميها بنفسك، و
شهقت رهف بصدمة
-انت عايزني اروح الصعيد واتبهدل البهدلة دي يا هشام! لالا انسى، اطلب اي حاجة غير اني اروح البلد اللي فيها قتل ودم دي؟!
رفع قدمه فوق فخذه بتعالٍ.

-خلاص براحتك، منا مش هجبرك، بس انسى حوار أن في حاجة تتم يوم الخميس دا
اتسع بؤبؤ عيني رهف بصدمه
-اييييييه؟!
هشام بتحدٍ
-هو كدا، اقناع فجر قصاد اقناع عايدة! قولتي ايه؟!
-دا هزار؟!
نصب هشام قامته الشامخة وسن سيوف التحدي
-وانا بعد السن دا ههزر مع عيلة زيك!
صمتت رهف طويلًا وهي تفكر في ذلك المأزق الي أن يأس هشام من ردها فتقدم خطوة للأمام
-يعني مش موافقة! تمام، ألحق عايدة بقا..
توقفت أمامه بلهفة.

-استني استنى، طيب انا موافقة اروح افرض ماقتنعتش؟!
مط شفته بهدوء وملامحه الصلبة التي يندس ورائها اللين
-قلت ايه، موافقة فجر قصاد موافقة عايدة، اتشقلبي واستخدمي اساليبك كبنت زيها، ماليش دخل أنا في حواراتكم دي..
رفعت رهف عيونها باستسلام
-ماشي، أمري لله..
ثم تبدلت نظرتها لغل
-أنت أخ أنت!
-مالي؟!
من خلف أنيابها
-قمر، قمر.
******.

انتهى اليوم سريعًا دون أحداث تستحق الذكر، انشغل الجميع في الاستعداد لكتب الكتاب، وبالأخص منير الذي استغرق مجدي وقتًا طويلًا لإقناعه حتى وافق..
فما زالت فجر على حالتها المؤسفة، تشعر بخجل شديد من نفسها وفي نفس الوقت شعور حزنه منه كان طاغيًا..
( صباحًا )
اصطحب هشام اخته للعودة الي بني سويف، وما أن وطأت أقدامهم اعتاب الشقة توقفا إثر نداء عايدة
-انتو رايحين فين بدري كدا؟!

تحمحم هشام مع نظرة ثاقبة لرهف التي توترت كثيرا وهي تقول
-مشوار يا ماما..
-مشوار فين ٦ الصبح.
لكزت رهف أخيها المتقمص التجاهل خلف نظارته السوداء وهمست له
-جاوب..
تنحنح هشام بفظاظة
-رهف مصممه تروح تقرا الفاتحة على روح بابا..
ثم حدجها بتخابث
-ولا ايه؟!
ارتبكت اكثر
-ايه؟! صح بابا حبيبي، اااه ياماما منا اصريت على هشام لازم يوديني..
اقتربت عايدة منهم.

-ياحبيبتي أنت عروسة ومفيش وقت، في حاجات كتير مهمه محتاجين نعملها..
تدخل هشام
-العصر هتكون فالبيت، ها يلا يارهف.
اهتز جسد رهف
-ها يلا ياهشام..
اوقفتهم عايدة
-استنوا هنا، فاتحة ايه اللي هتقعدوا تقروها للعصر؟!
هز هشام كتافه وسبقت خُطاه خطوة رهف الساكنه مكانها وهي تقول سريعًا عندما لاحظت ابتعاد هشام عنها
-منا اكيد مش هقرأ لبابا الفاتحة بس! انا ناوية اختم المصحف..
ثم ركضت سريعًا
-يا هشااااااام.

احتمت بظهره أمام المصعد للهرب من شكوك عايدة، وما أن صعد الثنائي، انفتح الموقد المدفون بجوف رهف..
-بالمناسبة عايزه اشتيكي لك من ابن عمك..
لم يتكرم ويلقي نظرة اليها، ما زال محافظًا على صلابته
-ماله.
-شوفت يا هشام مستخسر ٥٠ الف في فستان هموت عليه، وامبارح اتخانقنا خناقة كبيره أوي؟
هشام بهدوء
-هو هيبتدي بخل من أولها..
تعلقت رهف في حبال الكلمة وقالت بثرثرة.

-اهو شوفت ادي اللي قولته بالظبط، انا يا هشام عايزني البس فستان بسعر أقل من بنت طنط ابتسام، ولا انت ما شوفتش فستان بنت طنط هويدا كان تحفه ومعدي السعر دا، وانا اخترت حاجة وسط كدا، بص عايزاك تكلمه تبهدله، يلا هات لي حقي حالًا..
فُتح باب المصعد فخرجوا منه وكانت خطوته اوسع منها ولكن كانت تلحقه بصوتها واتبعت
-يلا كلمه دلوقت عشان الحق أطلب الفستان ويوصلني على بكره، يلللا ياهشام..

اخرج هشام هاتفه وهاتف مجدي بكبرياء
-انت ازاي مش موافق تجيب لاختي الفستان اللي هي عايزاه؟!
أخذ مجدي يسب في سره ثم قال
-يادي الزفت؟! حد يصحي حد كدا يا هشام!
اقترب من سيارته وفتح بابها وصعد واكمل مكالمته مع مجدي
-الفستان اللي قالت عليه اختي يتجاب من غير نقاش!
ضرب مجدي بكفه على وجهه بنفاذ صبر
-اهدى بس انت عرفت سعر الفستان اللي عايزاه بكام؟!
اصر هشام على موقفه.

-حتى ولو بمليون مش خساره فيها، وبعدين أي يعني ٥٠ ألف، دي البنت مطلبتش كتير يعني؟
ثم وجه حديثه اليها
-عقلتي يا رهف.
ارسلت له قُبلة في الهواء
-حبيبي يا أتش
اعتدل مجدي في نومته متأففًا
-حلو، اسالها بقا وهي جمبك كدا الفستان اللي عايزاه ب ٥٠ الف ايه؟!
شدت رهف الهاتف من اخيها وانفجرت
-سمعني بيقولك إيه كدا، الو، وبعدين يعني فيها ايه لما البس فستان ب٥٠ الف دولار هو اللي بيلبسه أحسن مني؟!

تبدلت معالم وجه هشام مذهولاً
-كاااام يا ختي؟!
ضعف موقف رهف تدريجيا واهتزت
-مالك يا هشام! انا قولت ايه؟!
شد منها الهاتف وقال
-مجدي اوعي تطاوعها في الجنان دا؟!
-وحياتك هو دا اللي قولته اتفتحت في وشي ابواب جهنم، بذمتك يا هشام اختك دي لو فكيتها قطع وبعتها في سوق العبور هتجيب التمن دا؟!
نهره هشام.

-ولاه اظبط نفسك؟! وقوم يلا تخلص كل حاجة النهارده والمكان والأكل والا هبوظ الليله مفهوم ، دا امر يا سيادة الرائد نفذه..
-خد هنا هي مش الليله دي ع العروسه وانا مالي! ياهشاااام .
اغلق هاتفه والقاه بضيق ثم وجه حديثه لرهف متوعدًا
-عايزه البسي فستان ب ٥٠ الف دولار لييييه زينات صدقي ياختي!
-ياهشام بس..
-اششش نفسك مسمعهوش طول السكه، هااااا نفس بس انت فاهمة.
-طب والفستان!

-قلت ولا نفس تقعدي زي الكرسي اللي انت عليه .
كانت الساعك قرابة العاشرة صباحًا حيث عاد هشام لقسم الشرطة وأعطى المفاتيح لأحد العساكر امره أن يوصل رهف للمنزل الذي به فجر..

فقدْ تتحوَّلُت الأوجاعُ لأغنيةً واصبح خنجرُ الفقدانِ ناياً في أصابعها، على ألحان أم كلثوم وهي تروي عن سيرة الحب، تفشي فجر غضبها في أثاث المنزل وهي تقلبه رأسًا على عقب وتنظف هنا وهناك، وهي تقول لنفسها ( ‏دومًا اعتمد الهروب، أحيانًا لأنقذ نفسي من شيء، وأحيانًا أكثر، لأنقذ شيئًا مني. ).

يركض في رأسها كطفل عابث لا يدرك نتيجة ركضه حتى توقف عن التنقل في رأسها إثر صوت الباب الذي فتحته سريعًا وتحولت ملامحها الحزينة لدهشه وهي تقول
-رهف؟!
-هتسبيني واقفه على الباب!
-اتفضلي طبعا، بس اتفاجئت.
دخلت رهف وهي تفحص البيت بعيونها فوجدته ليس بقديم متهالك وليس بحديث كما اعتادت حيث انقلبت نظراته لنسخة مُصغرة من أمها، كان كل ركن فيه كلاسيكي يرمز للطباع الصعيدية، جلست على أقرب أريكة وابتسمت لفجر.

-وحشتيني!
طوقتها فجر بحب
-والله وانت كمان يا رهف، وحشتيني أوي.
ثم ابتعدت عنها
-واخر حاجة اتوقعتها أنك تيجي هنا، تشربي ايه!
-نتكلم الاول وبعدين هشرب، تعالي اقعدي.
جلست فجر وما زال الفضول ضيفًا بينهما
-رهف انت كويسه؟!
شرعت رهف في تقطر دموع التماسيح وهي تقول
-انت عارفه اني وحيدة ومعنديش صحاب كتير، وبسمة كمان سافرت وحاسه اني لوحدي ومحدش جمبي، ومالقتش غيرك يكمل فرحتي..
تضاعف بكاءها المفتعل واكملت.

-كتب كتابي بكرة، وانا جايه اتوسلك كأخت عشان تقفي معايا فاليوم دا..
وضعت فجر في مأزق لا مفر منه بين قلبها وعقلها حيث سألتها
-هشام اللي باعتك!
لم تكف رهف عن بكاءها
-انا من امبارح بتحايل عليه، وهو بيقول لي لا يعني لا، انتوا اطلقتوا انا ايه ذنبي! حرام عليكم تكسروا فرحتي ليه..
انكمشت ملامح فجر
-وهو قالك لا ليه!

-معرفش بقا دي خلافات ما بينكم، انا مالي يا ناس، وبعدين هو قال لي ان مجيتي من غير فايده وانك هترفضي فأوفر محاولاتي..
اندفعت فجر مذهوله
-هو قال كدا؟!
تناولت رهف منديلا من حقيبها وجففت دموعها الماكرة واكملت
-انا حسيت إنه مش حابب يشوفك و
غلت الدماء بجوف فجر
-كمان مش عايز يشوفني! يا بجاحته؟!
أكملت رهف بتخابث.

-انا مش قصدي أفتن ولا أعكر الدنيا ما بينكم، بس هو مأكدلي انك هترفضي وانا صممت واتخانقنا ومجدي اقنعه بالعافية، ووو
اقتربت فجر منها
-ممكن تهدي يا رهف، كملي وووو ايه!
-اللي حسيته كدا أن ماما جامعه له عروسة وهو مش حابب وجودك فعشان كدا بيتلكك..
طعنت خنجر الغيرة بقلبها وتراجعت بظهرها قليلًا
-اااه عروسه! طييب مبروك..
زحفت رهف قليلا لتلتصق بها وترتمي في حضنها وتجهش بالبكاء.

-احنا ملناش دعوه بيهم، انا نفسي افرح واطمن ويكون حوليا صحابي اللي بحبهم وانت اكتر من اختي يا فجر.
ربتت فجر على كتفها وقالت بحيرة
-والله يا رهف نفسي بس، أسفه مش هينفع ..
ارتفع نحيب رهف كالاطفال وهي تأبي ما سمعته وتصيح معارضة
-يعني هشام كان عنده حق لما منعني! كدا هتخذليني يا فجر! اخص عليكي!
*****
( في اليوم التالي ).

حان ميعاد كتب الكتاب بأحد السفن المخصصة لتلك المناسبات، وبعد الحشود من المعازيم والفتيات اخترق هشام صفوفهم باحثًا عن مجدي الذي يهاتف المأذون جنبًا، اقترب منه حيث انتهى مكالمته
-أنت يا بني ايه المعازيم دي كلها؟! دا كتب كتاب ولا فرح؟!
ضرب كف على كف.

-اختك يا سيدي عازمة سكان المعادي كلهم، والست عايدة هانم عازمة جروب الفمينست بتوعها كلهم، وسعت المحافظ منير بيه عازم كل حبايبه! عرفت بقا الليلة دي كلها جات منين؟!
-دانتو ليلتكم فل معايا.
-وسع صدرك كدا يا اتش لسه الليلة هتبدأ!
ثم نصب قامته
-عجبتك وانا وعريس؟!
تمالك هشام غضبه وهو يجز على فكيه متوعدًا
-بص انا ولا طايقك ولا طايق الزفته اللي فوق دي، انا ادفع مبلغ زي دا في فستان!
انفجر مجدي ضاحكًا.

-بصراحة طلعت صايعة وعرفت تستغلك، تربيتي؟!
كور هشام قبضته بغل وتأهب أن يلكمه ولكنه تراجع للخلف
-اي يا اتش ابن عمك وعريس اهدا كدا..
-ماهو لسانك دا عايز القطع، انا اتساوم من حتة عيلة يا اجيب الفستان يا أما هتقول لفجر إني رديتها، كله من لسانك الفالت دا.
قهقهه مجدي بتفاخر
-لعيبة بنت لعيب! عرفت تصطادك، بصراحة هرفعلها القبعة.
-طيب اختفي من وشي والحق افرح بقا عشان الجوازة دي اخرها بكرة..

فر مجدي من أمامه ليرحب بالمعازيم وهو يدندن
-أهو اسمي اتجوزت حتى ولو ليوم.
رمقه هشام متوعدًا
-ماشي يا كلاب.

في أحد الغُرف بالسفينة تجلس عايدة أمام المرآة وترسم بنفسها كُحل العين بحرافية، مرتدية فستان يبرز معالم جمالها بدقة، حيث تعمدت أن تبث النيران بقلب منير بفستانها القصير المُجسم الذي يعلو ركبتيها، خالي من الأكمام لا يمتلك إلا خيطين رفيعين ملقيين على ذراعيها مما يبرز مفاتن نهديها بإثارة، ولديه ذيل طويل من الخلف، من يراها يعطيها سن الثلاثين لا أكثر..

تركت قلم الكحل وتناولت عُلبة المجوهرات من أفخم من يكون وطوق عقد الماس عنقها وهي تطالع جمالها في المرأة وتقول متوعدة
-طيب يا منير، هنشوف مين فينا اللي هيقول حقي برقبتي..
مهما وصلت المرأة إلى مكانة مرموقة ونجاحات متتالية وأصبحت قوية ولديها اسطول من الحراسة، إلا أن لديها أسلحة فتاكة لتهزم أي رجل بأنوثتها الطاغية التي تعمدت الرقص فوقها بحرافية.

في الغرفة المجاورة تجلس رهف بين الفتيات وبين صياحهم وانبهارهم بفستانها الراقي الجميل، طرق هشام باب الغرفة واستأذن من الفتيات كي يتركوه مع رهف لوحدهم، وما أن خرجوا هجم على اخته بغضب وقال
-مجتش لحد دلوقت، اتفضلي شوفيها فين!
انكمشت ملامح رهف المتدللة وقالت بعتب
-الله يا هشام! وبعدين مش تقول الأول رأيك في فستاني، مش عايزه اقولك البنات مبهورة بيه أد ايه..
جز هشام على فكيه بغضب وقال.

-اااه الفستان اللي بفلوسي! دانا هطلعهم من عينك أنت والبغل اللي تحت، بس الليله تعدي!
اقتربت منه بدلال وهي تداعب وجنته ممازحة
-يااغتتتي بحب وشك أوي وهو متعصب، حاجة كدا كلها هيبه بس بتضحكني.
زمجرت رياح غضبه
-رهف! انجزي..
-وانا مالي ما تكلم السواق اللي بعته وتشوفه وصل فين!
زفر هشام باختناق
-يابت هو أنت حمارة؟! منا لو كلمت السواق هي هتعرف أن انا اللي بعته!
اقتنعت رهف بوجهه نظره وأصدرت إيماءة موافقة.

-ااممم انت صح، بس قول لي يا هشام انت لو صالحت فجر الليلة هتاخد مننا تمن الفستان بردو؟!
لمعت عيونه بضي التنمي والأمل وأوشك سيف الرجاء أن يشق شفتيه المكتظة ببسمة واسعة ولكنه تمالك الأمر سريعًا وقال بعنف
-أنت بتدخلي في مواضيع أكبر من سنك ليه؟! نفذي من غير رغي..
اقترب رهف من التسريحة لتأخذ هاتفها وهى تدندن في سرها
-الواحد كان عايز يطلع بمصلحة بس نقول إيه حويط!

خفق قلب هشام بمجرد سماعه صوت رنين الهاتف الذي اتبعه صوت السائق
-ازيك يا ست هانم
تحمحمت بشقاوة
-ايوة يا عم عبده، فينكم كدا..
-انا جيت ومعايا ست فجر زي ما أمرتي مجيش من غيرها، كلها ١٠ دقايق وتلاقينا عندك..
-تسلم تسلم يا عم عبده..
قفلت المكالمة ونظرت لهشام
-أهو سمعت بنفسك جايه ؟! هديت؟! ممكن تسيبني اكمل لبس بقا!
تحولت ثورته لدفء يطوقه الغيوم وهدأ بصورة ملحوظة وهو يقول.

-بس انت اقنعتيها ازاي؟! مكنتش متوقع الصراحة؟!
تناولت رهف فرشاة ( الميك أب ) و مررتها على وجنتها بدلال
-طبعاً مش هقولك، دي طرقي الخاصة! بسسس
ثم حملقت به طويلًا
-لو مسامح في تمن الفستان أنا ممكن أقولك عادي؟!
رمقها بسهام الخسه ثم انصرف وهو يسب في سره التي صاحت من الوراء
-سمعتك على فكره؟!

صعد هشام للطابق العلوي يجوب بلا مقصد يتفقد المعازيم ويرحب بهم وما زالت نظراته مُعلقة بمقدمة السُلم الذي هتطل من عليه، أثناء انشغاله بالأفلام التي تدور في ذهنه للقائهم قطعتها صوت أنثوي من الخلف وهى تناديه
-هشام!
دار نحوها بفظاظه
-أفندم! المقدم هشام!
أخفت الفتاة خجلها وأطرقت لأسفل لبرهة ثم قالت ملاطفة
-ااه سوري، فكرت اننا في بارتي وكدا رفعت التكليف.
-لا أنا تكليفي ملازمني مكان ما روحت، وفي كل الأوقات.

سهم أخر سدد في وجه الفتاة حيث قال جملته واستدار مغيرًا جهة انظاره، ولكنه وجدها أمامه وهي تمد يدها لتصافحه
-قولت سوري بقا، هاي أنا ميار بنت اللواء يحيي فهيم..
لم تتكلف يده ليصافح الفتاة ولكنه بشموخ كالنخل قال
-اهلا اهلا..
ثم تحجج بأنه ينادي على مجدي وسرعان ما اختفى من أمامها، انكمشت يده الفتاه بخجل فاقتربت منها والدتها وهي تلكزها
-عملتي ايه طمنيني؟!
اكتست معالم وجه الفتاة بالضيق
-ماله الطور دا؟!

-بنت عيب؟! ماهو قمر أهو وجان في نفسه
-بقولك طور يامامي ولا يفهم في الذوق ولا اي حاجة
-لا حاولي! الواد يستاهل ولقطه، وانا هلاقي لك فين نسب يشرف زي دا.
أففت الفتاة بضيق
-مامي شايفه كل البنات اللي هنا دي عينها منه وهو زي ماانت شايفه دا بيقول لي افندم؟! بقولك فكيني من المعقد دا ودوري على حد غيره انا خُلقي ضيق وقفلت منه.
علي الناحية الأخرى يقف مجدي وهشام بعيدًا فساله الاول
-مالك مش على بعضك ليه!

-قال ١٠ دقايق ولسه مجتش؟!
منع مجدي نفسه من السخرية بصعوبة وأختفى بنظرة خبيثه فهم هشام مغزاها
-بس المأذون جيه أهو يا حنين، تعالى نستقبله.
اوقفه هشام مغلولا
-لعلمك قلبي مش راضي على الجوازه دي، لولا انها مصالح بس بتمشي مصالح..
غمز له مجدي بطرف عينه
-أنا لو أطول ابوس المصالح دي في بقها مش هتردد.
بمجرد ما ألقى جملته اختفى من أمامه لانه أعلم بجنون ابن عمه..

أخيرًا خرجت عايدة بإطلالتها على المعازيم وأخذت تمر عليهم وتبادلهم التهنئات حتى مال مجدي على أذان هشام الجالس بجواره على الاريكة بعد ما لحظ فستان عايدة
-عايده هانم ناوية على أجل منير السيوفي النهاردة!
ذهل هشام بصدمة
-دي نهارها مش فايت! ايه اللي لابساه دا..
منعه مجدي من التحرك
-اهدا ابوس ايدك، دا كيد نسا انا عارفه كويس، وكلامك مش هيجيب نتيجة سيب الليله تعدي..
-دي اتجننت يا مجدي؟!

-ست ليدي وشيك وصاحبة براند تصاميم من اعلى ما يكون، لازم تكون كدا! اهدا ولم الليله وليها جوز يتصرف..
جهر المأذون
-فين العروسة يا هشام بيه ويلا عاوزين نسمع زغاريد..
-حالا جايه أهي..
على الجهة الأخرى سن الغضب سكاكينه على عنق منير الذي يطالع عايدة السيدة الانيقة من بعيد وهي تضحك وتتمايل وتتدلل وتصافح الرجال وتصاحبهم الضحكات العالية..

بركان ثائر اندلع في جوفه لجمالها الذي كبله في مكانه ولأعين الرجال التي تأكلها وتتأمل جمالها ويحسده كل من وقعت انظاره عليها اقتربت منه بهدوء وأناقة ومدت يدها لتصافحه
-مبروك يا منير..
مد يده حفاظًا على المظهر العام حيث دنا منها معاتبًا
-ايه الأرف اللي أنت لابساه دا؟!
بدت خطتها بالنجاح فتفاقم غرورها
-بقولك مبروك مش اي رايك في لبسي؟!
لم تمهله أن يحيبها ولكنها قطعت كلامها سريعًا.

-هشرف على البوفيه واطمن أن كل حاجة مظبوطه، بااااي..
تلك البريئة التي ظن انها لا تعرف المكر أبدا كادت أن تقتله بسحر جمالها، اهتز منير بعض الشيء ولكن من طباع آل السيوفي التمرد والتفنن في إظهار عكس دواخلهم، تحمحم منير منتويًا أن يرد الصاع صاعين
-فينا من كدا يا عايده؟! طيب انت اللي اخترتي .

جاءت رهف بصحبة الفتيات الاتي طوقن مجلسهم، حيث جلست ملاصقة بأخيها كأنها كالفراشة تكاد من شده الفرح ترفرف فرق بساتين الحُب، وجلس المأذون بالمنتصف وعلى الجهة الاخرى مجدي ووالده ورفقائهم والشهود..
شبك هشام يده بكف مجدي ووضع المأذون المنديل الأبيض على قبضتهم وشرع في ترتيل مراسم الزواج، احتضنت رهف أخيها من الخلف فقطرة عينه بدمعة أفصحت عن لين قلب وأكمل قول ما يقوله المأذون..

في تلك اللحظة ظهرت فجر التي تجمد الدم بعروقها عندما رأته ورأت تلك الدمعه المتمردة التي فرت من عينه، اختلج قلبها بحبه و لرؤيته، ظلت تتابع مراسم الزواج بفرحة لا توصف وتراقب ملامحه بحب لا يوصف هو الآخر..
توجه المأذون الي مجدي كي يتمم المراسم لكنه تتدخل ممازحًا
-معلش بقا يا مولانا ترجع للسيوفي وتأكد عليه انه ما يقرفناش في عيشتنا وانها بقيت مراتي خلاص..

انفجر الجميع في ضحك جمهوري على مداعبة مجدي الذي استقبلها هشام بنظرات الوعيد
-دانا هبقى عملكم الرضي، اتقل بس اللي مستنيك تقيل.
وما أن انتهى من جملته رفع انظاره صدفة فعلقت بتلك الحورية صاحبة الفستان الأسود التي تتطوقها هالة الحب ولمعة النجوم التي ترمقه بها..

جف ريقه للحظة وأحس أن الجو بات حارًا فجأة، تناسى الجميع من حوله وسلبته عيون أمراة، فكم كانت رائعه وهو يتأملها ويتساءل في نفسه، كيف لأمراة لديها كل ما يمكن أن تتباهى به ولكنها لا تفعل ذلك!
اخفت جمالها الساحر في فستان أسود من خامة القطيفة ينحت تفاصيلها من أعلى حتى اتسع اسفله ويعلوه حجاب رائع يجعل وجهها كالبدر في ليلة تمامه، كانت تشبه حوريات البحر ببساطة مظهرها وجمال صورتها..

رغم عنه انشقت منه ابتسامة ارتياح التقمتها عينها سريعًا ولكنها تجاهلتها وألقت أنظارها بعيدًا عنه، كانت نظرته إليها بها شيء من الأسف كعصفور في قفصه يلاحق بأنظاره فراشة..
أتم المأذون اجراءات الزواج واختتم جملته بالدعاء للعروسين، وخطف المنديل وصفق الجميع، نهض مجدي مهللًا
-الله اكبرر واخيرًا
ثم فتح ذراعيه وعانق هشام
-كدا بقيت ابو نسب رسمي..

اندلعت اصوات الصخب والغناء و تبادل الجميع القبلات والاحضان وانشغل الجميع ببعضهم وحاول قدر الإمكان ألا تسقط من تحت عويناته ولكن إثر الزحام فشل..
واخيرا وبعد انتظار طال كثيرًا، اقترب مجدي من رهف وحضنها بكل جيوش حبه وشوقه وصبره عليها وما أن امتلكها دار بها كثيرًا في منتصف الساحة حتى جهر هشام بغيرة
-ما كفاية بقا وتلم نفسك أنت هتستهبل يعني عشان بقيت مراتك!
صاح مجدي مستغيثًا.

-يا مولانا ابوس ايدك فهمه أنه حلال واحضن براحتي..
ضغط هشام على مشط قدمه كي يصمت وهو يقبل رأس أخته بحب واندفعت لصدره وانفجرت باكية
-انا مبسوطه اوي يا هشام، وزعلانه أن زياد وبسمة مش معانا..
-انت مش كلمتهم فيديو تحت؟! روقي بقا وفالفرح هنتجمع كلنا متقلقيش..
تدخل مجدي بغضب
-نعم استنى سنتين عشان اتجوز يكون زياد رجع ؟! لالا مولانا الغي الجوازه دي انا سحبت كلامي.

انسحب هشام بهدوء بمجرد ما انطلق الجميع في الرقص والغناء يبحث عنها بعيون متلهفة لعناقها وما أن لمح ظهرها في مكان بعيدًا تطالع فيه البحر أوقفته فتاة أخرى
-هاي هشام؟!
توقف وهو يرمقها بذهول
-افندم!
انكمش وجه الفتاة بعبث من كلمته الجافة
-افندم؟! اممم انا نوران صاحبة رهف ومن كلامها عليك م
قطعها قبل أن تكمل وقال
-تشرفنا يا فندم، استأذنك..

انطلق نحو مقصده وهدفه الذي كلفه الكثير والكثير مقابل أن يلقي عليها ستائر محبته، افتعل قصة رائعة ليحضرها، حقًا يصبح المرء بارعًا في كل شيء عندما تكون نقطته الأساسيه هى الحب.

كانت تقف في ركن هادئ في أحد أطراف السفينة بعيدة عن صخب المغني والصخب الذي أحدثته عيونه بها، كان البدر في ليلة تمامه وأنواره منعكسه في البحر، أحست بأنفاسه خلفها ولكنها لم تملك الجراءة لتتطالعه، ستهزم حتمًا بسهم عينه، انقشع عنها سماءها قبح العالم وأصبحت الفراشات تطوقها هنا وهناك، أغمضت عيونها متمنية
( تحت عبء هذه الأيام التي لا نجرؤ ل نقول فيها شيء تمنيت احتضانك للابد ).

وضع كفه في جيبه بعد ما تحمحم بخفوت وقال بهدوء
-مش خايفة يعني من البحر، وسبتي كل حاجة وجيتي لعنده.
لقد ضاق صدرها من كثرة الاخفاق فلم يسمح حتى بمرور تنهيدة، ما زالت محافظة علي ثباتها ولم تلتفت
-عارفه إنك مش حابب تشوفني وأن وجودي ممكن يزعجك، عشان كدا سبت المكان، بس متوقعتش انك تسيب كل الناس دي وتجي لي..
اقترب منها خطوة وقال
-عشان أنت في عيني كل دول وأكتر يا فجر.

كمن أهداها صّبارةً في تصرفاته الجافة، وخبأ لها نعومة الورد في طباعه، لم يكف قلبها عن الإخفاق حتى أوشك أن ينخلع، وجوده آمن كهدوء النهر ولكنه يُغرق وهي تجهل العوم في المياه، فما هي وسيلة النجاة من رجل مثله؟!
كرر سؤاله مرة أخرى
-بطلتِ تخافي من البحر!
-الخوف الوحيد اللي بقا يلاحقني هو أنت..
اتسع صدره لكميه هائله من الاوكسجين ثم قال
-هنبطل عناد أمتي؟!
رفعت انظارها للقمر وقال بسخرية.

-عناد! صعب، كإنك واقف جمب النار وبتطلب منها متتحرقش.
غير مجرى الحديث الحزين هذا وقال مداعبًا
-امممم الكبدة كانت جميله على فكره، بس انت متأكده انها كانت لخالد.
ارتبكت قليلًا واستدارت لتهرب من حصاره
-هسلم على رهف عشان أمشي.
عاق سيرها بذراعه القوي فالتقت اعينهم المخزونة بالحب
-اسف.
انتفضت من مكانها وبدا ذلك على عيونها المتراقصه فلم يمهلها أكثر وأتبع.

-اسف، هفضل اقولهالك طول عمري، غلطة إني مديت إيدي عليكي دي هتفضل متعلقه في رقبتي زي حبل المشنقة لو مغفرتيش هيخنقني..
تمنت ولو أنها تستطيع أن تغمض قلبها عنه تلك المرة بدلا من عيونها، لكنها شعرت من كثرة الضعف أن تنهيدة واحدة منه ستسقطها، بللت حلقها الجاف إثر وجوده الطاغي وفقدت القدرة نهائيًا على الحديث ولكن عيونها فاض منها الحب..
-هتفضلي باصة بعيد كدا كتير! للدرجة دي مش طايقه تبصي في وشي!

‏كم سنعيش على هذه الأرض؟ ونظل ننكر أنفسنا وما نرغب به ونتوق إليه؟ما هي نتيجة العناد الغير مُجدي! تفوهت بهمس
-لو سمحت لازم أمشي
-وانا لازم اتكلم؟! ليه يا فجر كدا؟! ليه البعد والعذاب والعند؟ ليه بتقاوحي ولحد أمتي؟! فين المبرر للعذاب دا كله؟
تقطرت دمعه من عينيها واجابت
-انت ليه مش مستوعب إننا خلاص مش لبعض!
-مين خلاه ماينفعش يا فجر! قوليلي مين! انا عايزك وانت عايزاني؟ فين المشكلة؟!

-الدنيا هي اللي مش عايزانا يا هشام! انا منفعكش، مش مناسبة ليك
-ااه الدنيا!
كانت كلمته الاخيره بعدم اقتناع، طوق معصمها برفق واستدار مشيرًا على الناس والحضور وانفعل قليلا.

-هما دول الدنيا اللي قررتي تسيبيني عشانهم، متغركيش البدل والمظاهر والمناصب، دول عالم فاضيه، بلونه منفوخة كله بيتنفخ على حساب كله، دول ناس حياتهم مقرفه كلها كذب ونفاق ووهم، كلهم دول اللي بره بنات مناسبه بس انا هعمل ايه بالمناسب وانا قلبي عايزك أنت.

مرة واحدة نفقد الثقة بأحدهم، مرة واحدة تعني للأبد، أشياء كهذه لا تُسترد مهما حملت الحقائب اعتذارات، امتلأ وجهها بدموع لا تعرف من أي جهه تسربت واجهشت قائله
-جرحتني أوي يا هشام!
-قصدك على علاقتي بميان! بتتحججي يا فجر، انت اصلا غفرتي من لحظه ما فوقتي، بس دلوقت بتدوري على ثغرة تكملي بيها فى وجعك وتحلل ضميرك للغياب..

تأهبت للذهاب أو الهرب منه فهي اصبحت هشه وفي حاجة إلى عناق طويل منه لتُرمم، ولكنه وقف أمامها بنظره تحمل كل تعابير التوسل
-هخلص كلامي واسيبك تمشي..
ثم سحبها بعيدًا عن العيون ووقف أمامها
-اللي حصل مع مايان
فزفرت بضيق جعلته يغير مجرى حديثه
-مع الزفته دي والله يا فجر ما تجاوز اللي في بالك.
انشق السرور علي قلبها ولكن عقلها ما زال راسخًا عنيدًا
-مش عايزه اسمع حاجة يا هشام..

-هتسمعي ومش بمزاجك عشان نقفل زفت الموضوع دا، انا لما جيت اعترفت لك قولت ايه؟!
اكتفت بنظرة واحدة ثم صمتت فأكمل
-قولت اني زنيت يا فجر، وانت خطفتي الكلام وجريتي؟!
اجابته بسخرية
-كان في تفاصيل هتحكيها ناقص اسمعها!

-انت ليه عقلك واقف عند حتة معينه مش عايز يلين؟! هي الزنا دي مش ممكن تكون بالعين او بالقلب او بالايد، معاكي انا دخلت معاها اوضة نومها وعملت كل دا، بس وصلت عند نقطه معينه واترجيت يا فجر، شوفتك قدامي، وشوفت حبي ليكي اللي وقف عائق بين الغلطه قبل ما تبقى جريمة، تليفوني رن انقذني، اتحججت اني في مصيبة في البيت، وهربت وانا قرفان من نفسي، ريحتها كانت هتخنقني، الذنب كان هيموتني خوفي من ربنا وخوفي عليكي، خوفت اتعاقب بحرمانك عمري كله، فجر ابوس ايدك انسي وتعالي نفتح صفحة جديدة مع بعض، كله عك وماضي مش هنجيب سيرته.

وضعت في مكانه محل للشفقة، أخذت الاسئله تخبطها هنا وهناك وبين بركة المياه المنفجرة من عينيها قالت
-فاكر لما تضحك عليا بكلمتين هصدقك وارجع لك ياهشام! غلطان!
-ورحمة أبويا يا فجر هو دا اللي حصل..
العلاج المتأخر جُرعة فعالة لتعجل بموت الانسان مثلها كمثل الاعترافات المتأخرة، تنهدت بمرارة
-عايزة اروح يا هشام.
-لسه مخلصتش كلامي يا فجر..
-هشام عايزه أروح من فضلك.
-تمام هوصلك.
-لا اصل.

-مفيش زفت، مش هسيبك تروحي مع السواق، اتفضلي..
ثم احتدت نبرته
-اتفضلي يا فجر هروحك.
على الجهة الاخرى تشتعل عايدة غضبًا عندما وجدت منير يتسامر مع أمراة من أكثرهن كراهية لعايدة، اصوات ضحكهم كانت ترج قلبها، جعلتها كالمجنونه تتجول هنا وهناك بدون وعي، سحبت رهف من بين البنات وسألتها
-هشام اخوكي فين؟!
رفعت رهف صوتها إثر صخب الموسيقى
-معرفش يا ماما، اكيد بيتكلم مع فجر في مكان هادي!
صُعقت عايده.

-احنا مش كنا خلصنا من ست فجر دي وطلقها وبعدين اي جايبها هنا!
تتراقص رهف على الموسيقي بجنون وقالت بدون وعي
-ماهو ردها خلاص يا ماما.
تلك كانت الجملة التي أصابت قلب عايدة في مقتل ولم تتحملها حيث صرخت شاهقة قبل أن تسقط فاقده وعيها متغيبة عن الواقع
-ايييييييه.!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة