قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثالث عشر

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثالث عشر

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثالث عشر

مر عام كامل على آخر حديث بيننا، كنت أنا من بادر بذلك، تحدثنا طويلًا، وسمعتني كثيرًا، كنت افتقد مزاحك، مداعباتك أثناء الحديث، انصاتك المُلفت، صوت إيماءاتك الخافتة، تحمحمك الدائم مع بداية الكلام، هدوئك، تفكيرك، كل شيء يخصك كُنت افتقده بشدة، أنت والأيام والصدف التي جمعتنا، كُنت اتلهف لك حقًا، كُنت سأجن يا رجل!

يومها أفصحت عما يكنه قلبي إليك لأعوام طويلة، انفجر قلبي أمامك كانت مياسمه في شوق هائل لمُتك عيناك، جاء إليك بأيدي فارغة تمامًا وعاد مُثقلًا بالخيبات، وتكاثرت الهزائم بصدري ولكن ذلك لم ينفي أن هزيمتك كانت الفزعة الكُبرى
ظننت بأن اعترفي سيردك لي، ولكنه لم يكن اعتراف بل كان وداعًا بنكهة الشفقة
وها أنا الآن، رغم يقيني بفراقك الأبدي، ما زلت انتظر قطارك ليأخذني إليك..
ولكن عتبي على.

تلك الشهور الخرساء التي مرت دون أن تحمل منك جوابًا ولا مكالمة هاتفية واحدة اروي بها قلبي بغيث صوتك متحججًا
-أخبريني كيف حالك؟!
ما زال قلبي يحمل الغفران مهما أخطأت، عد.

-هاتوا برفيوم بسرعة..
تلك الجُملة التي صرخت بها رهف بعد أن فشلت في محاولة إفاقة أمها، نزع مجدي سترته ومكث على ركبتيه ليحملها وقال
-وسعي يا رهف، هوديها الاوضة تحت..
انفجر رهف في البكاء كالطفلة الصغيرة وساح كُحل الغم على وجنتيها، أما عن منير أصاب القلق قلبي فكان كافيًا أن يُنسيه غضبه منها، اردف مفزوعًا
-خلي بالك يا مجدي يا بني.
أما عن رهف فأصبحت كالمجنونه تبحث عن هاتفها وتقول
-هشام فين يلحقنا!

كان الثنائي قد غادر الحفل قبل سقوط عايدة ببضعة دقائق وبعد إلحاح شديد الي فجر أن تجلس بجواره انتهى النقاش بينهم على أن يلتزم الصمت خلال الطريق، وهو تقبل الأمر سريعًا دون جدال، ولكن هناك فارق بين تقبله للأمر قسرًا ووعده لها بذلك، اقتنص فريسته بذكاء وما أن دخلت القفص شرع بأول جملة
-ممكن تلبسي الحزام.

ما زالت مُحافظة على صمتها التام واستسلمت لطلبه مع تنهيدة قوية اندلعت من صدرها تلقاها الأخر بضحكة انتصار واسعة وشرع في القيادة، لم يتحمل لسانه الصمت أكثر من دقيقتين وسألها
-أنا مزاجي عالي أوي النهاردة، وعايز اسمع حاجة، ترشحي لي.
-معرفش.

اكتفت بجُملتها الاخيرة وهى تعقد ذراعيها أمام صدرها وتعاود لتتأمل الطريق وهى تفكر في كلامها أفعاله وجوده بجواره الذي أوشك أن يُطيح بها من مكانها لبين ذراعيه، كانت تصبر نفسها
-اتقلي يا فجر بلاش هبل وجو مراهقين..
طالعها هشام بطرف عينه وما زالت بسمة الانتصار مقيمة على شفتيه حيث ردد
-شكلك مش حابه، أوك نشوف حاجة على ذوقي بقا..
فتح هاتفه وأخذ يقلب بمحرك البحث بعشوائيه فسألها
-تعرفي أني بحب بهاء سلطان أوي..

-معرفش..
-أديكي عرفتي أهو..

ربط الهاتف بسماعات سيارته الفارهه وشغل أغنيته المفضلة وترك الهاتف وعاد كرة آخرى الي السواقة، لحن الأغنية كان يلين له الصخر حتى شرع بهاء سلطان بكلماتها فانهارت صخور العناد، كأنه أراد أن يصف شعور قلبه باغنية ويصالحها بأغنية ويسترق قلبها بكلمات كتبها شخص أخر رغم إنه لا يحب الوسيط بالحب ولكنه أذعن مستسلمًا لأي حجة تأتي بها وتتخذ من مقام قلبه مطاف، أراد عتابها بطريقة تليق بكبريائه..

( وعامل فيها مش شايف، ومش عارف إيه معنى الحب
وعايش كل أيامك وأحلامك في وهم وكذب، خلاص دلوقتي يا خسارة بقيت واحد معندوش قلب، حاجات كتير جواك ماتت
وأنا ساكت ماقولتش لاء، وسايب دمعي يتكلم وبتآلم وانا على حق
حقولك كلمة من الآخر، أكيد قلبك ده عمره مادق
قلبك يا حول الله بقي دلوقتي فاضي، )
ألتفت كلمات الأغنية حول قلبها حتى أردف آخر كوبليه
(-كل شيء مات من جواه وأنت كدا راضي ).

شعرت بالاختناق فقفلته عنوة كمن جاء حاملًا مدرعة وهزمته صرخة، هذا هو حال قلبها، رحمت قلبها من وجع الكلمات التي يقصدها به وقالت
-هو دا مزاجك العالي؟! بيعلى ع النكد؟!
دار مقود السيارة و بفظاظة
-الله! يابنتي مش أنا سألتك؟! اسمعي أنت وساكته بقى.
ثم مسك هاتفه وشغل أغنية آخرى وقال
-الأغنية دي معلقة معايا أوي، هى لسه نازله بس لا عجبتني..

لم يمهلها الفرصة للاعتراض، فانفجر صوت حسين الجسمي بأغنية ( دلع واتدلع ) ليشعل الحب بينهم بأغنيته الجديدة التي لا يسمعها متخاصمان إلا وتصالحا، مهما انكرت عدم تأثرها إلا أن ملامح وجهها استرخت لا اراديا وانسجمت بكل كيانها مع الكلمات حتى شق الفرح ثغرها ببسمة خافتة جدًا لم تشعر بها ولكن إلتقمتها عيناه فأحس لذة الانتصار بقلبه، استمرت الاغنية طويلًا حتى اشتغل كوبليه واجه ضعفها.

(فوق مابقاش في ما بينا فروق، ولا في غلاوتك مخلوق، يا معلي في قلبي الشوق، يووم يوم ندي الدنيا طناش! انا وانت لسه معشناش )
سريعًا قفلت المسجل وزمجرت باختناق لانها احست بعتابه في كل اغنية قاصد أن تسمعها ويلين بها قلبها، فتمردد على قلبها وتلميحاته و
-مش عايزه اسمع حاجة، مصدعة وهنام ممكن!
-دي عربيتي على فكره..
-ايوة يعني ايه عربيتك؟!
-يعني اسمع فيها اللي يعجبني..
انكمشت ملامحها غاضبة.

-والله! طيب نزلني وانت اسمع براحتك..
ضحك بصوت عالٍ قليل ما سمعته يضحك به فحملقت بذهول وهى تتأمله، حتى فاقت على سؤاله
-أنتي بقيتي عصبية أوى كدا من أمتى؟!
-من يوم ما عرفتك، اف!

تلقى كلمته دون أي تعليق حيث أخذ عهدًا على نفسه يسيطر أمامها على أعصابه مهما انفعلت ومهما قالت، سيتلقى كل قذائفها بابتسامة هادئه، صمتت هى وصمت هو لدقائق حتى وقف أمام صيدلية ما ودلف منها دون أن يقول كلمة، ودخل ابتاع بعض الأدوية وخرج منتقلًا الى محل العصائر بالقرب منه وأحضر لها عصير من المانجو والكثير من الأطعمة والمقرمشات والحلوى حتى عاد إليها ووضع الحقائب بالخلف ثم رجع مكانه وقال معتذرًا.

-سوري لو عطلتك..
تعمدت التجاهل
-مفيش حاجة بس تليفونك من الصبح مابطلش زن وصدعني..
مد لها كاسة العصير وقال
-لا رهف مين دلوقت، خدي اشربي روقي أعصابك..
-مش عايزه!
احتدت نظرته
-اكيد مش هرميه ولا انزل ارجعه؟!
اخذته متأففة
-وانا يعني كنت طلبت منك حاجة! اف؟
-افردي بوزك دا، عشان مابعرفش اسوق وحد جمبي مكشر.
أسبلت عيونها بسخرية وارتشفت العصير بغل، وشرع الأخير في القيادة وهو يقول
-في برشام صداع ورا وأكل لو حابه..

لم ترد عليه حيث انغمست فى شرب العصير، فكرر جملته
-قولت افردي بوزك دا.
انفعلت بوجهه
-ممكن مالكش دعوة بيا، وكمان انا نسيت اسلم على رهف وهتزعل مني وانا جايه عشانها أصلًا، ياربي ينفع اللي انت عملته دا!
ببرود
-عملت ايه يعني؟!
-شوف نفسك بقا.
البسمة لم تقارق وجهه وأكمل بشكٍ
-عشان يعني شغلت بالك فنسيتي نفسك ونسيتي أنت جايه الفرح ليه، هو أنا مُربك للدرجة دي!
أحست بالصداع والهزل يسري برأسها ولكنها قاومت.

-أنا مش هرد عليك، انا هنام واسيبك كدا ترغي مع نفسك..
ثم دندنت في نفسها وهى ترجع المقعد وتأخذ وضعية النوم
-مش عارفه هيطلع أمتى من دور الديناصور المهدد بالانقراض دا، المادة الخام للغرور ماشيه على الأرض..

تلك كانت أخر كلمات هزت بها قبل أن يطغي مفعول المخدر على جسدها وتغوص في نوم عميق بجواره، صف سيارته على جانب الطريق والتفت إليها ومسح على وجنتها ثم طبع قُبلة خفيفه على كفها، ونزع جاكته ووضعه عليها وقال بأسف
-سامحيني، دي فرصتي الأخيرة عشان نرجع..

-مامي أنت كويسه؟!
تلك أول جُملة تفوهت بها رهف بمجرد ما فتحت عايدة جفونها وسألتهم
-هو أيه اللي حصل!
جز مجدي على فكيه بغل
-ليلتي باظت بس..
لم تخول له الفرصة بأن يقول المزيد، فقطعته رهف ملهوفة
-مامي حاسه بايه قوليلي؟! نجيبلك دكتور طيب!
ألم شديد ضرب رأس عايدة، فتفوهت بكلل
-دماغي هتفنجر، هوو فين هشام؟!
تدخل منير بفظاظة
-ارتاحي أنت يا عايدة وهتصحى زي الفل.
حاولت أن تعتدل من نومتها وقالت بصوت خافت
-منير!

تحمحم بصرامة
-كويس إني اطمنت عليكي، بعد اذنكم
ثم أشار لمجدي
-خليك جمب حماتك يا مجدي، ومبروك يا حبايبي..
ما أن اردف جملته انصرف قبل ما ينتظر رد أحد منهم مما جعل نيران عايدة تشتعل مرة آخرى وتنوح متحسرة
-اااااه شايف تصرفات أبويا يا مجدي!
قبل مجدي رأسها ثم انتقل إلى كفها وطبع قبلة أخرى
-ممكن تهدي! هااا اهدي بس وفوقي كدا..
رمقته بحب للحظة ثم ثارت مرة أخرى.

-مجدي انت مش هتكدب عليا ياحبيبي، ريح قلبي، صح ابن عمك رد مراته! قصدي طليقته..
جحظت مقلتي مجدي بغضب شديد هو يتوعد لرهف التي انعكس غضبه منها لخوف اربكها ونهضت متحججة
-طيب انا هروح اسلم على البنات، وانت اممم انت يامجدي خليك جمب ماما..
هربت رهف من نظرات مجدي المرعبة وما أن غادرت عاد مجدي لعايدة وقال مرنحًا
-ايه الكلام الفارغ دا؟! مين قال لك كدا
-هو حد جابني الأرض غير الخبر المهبب دا..

ضاقت عيون مجدي التى تطوى حيلة جديدة وهمس
-رهف اللي قالت كدا؟
-هي، مين غيرها بيجيب لي الاخبار دي.
-طيب يا دودو بذمتك حد يصدق رهف اللي بيتاكل بعقلها حلبسه؟!
قفز الأمل بعيون عايدة
-يعني مردهاش؟!
جهر مجدي مؤكدًا
-ولا طايق اسمها، تصدقي إني حاولت ارجعهم وهو مش طايقني من يومها! تقولي رجعها؟!
تنهدت عايدة بارتياح.

-ريحت قلبي يا حبيبي، ربنا يسعد قلبك يا مجدي ويرزقك بنت الحلال اللي تستاهلك ياهشام وتشوف اللي ما تتسمى دي قردة..
كتم مجدي الضحك بصعوبة حتى لكزته معاتبة
-ما تقول أمين..
جهر بطاعة
-امين، من بؤك لباب السما، اسيبك انا بقا
ثم دندن في نفسه متوعدًا
-اروح اربي البت اللي ماشافتش ليوم واحد تربية.

انتهى مجدي من فض الليله وشكر الضيوف وتوديعهم والاعتذار لهم عما حدث ثم اتجه نحو غُرفة رهف التي ودعت رفاقها البنات ولم يبق معها سوى اثنين منهن يعاونوها في نزع الفستان، اقتحم مجدي الغرفة دول أن يطرق بابها، ففزع الفتيات حتى رهف نفسها اطلقت صرخة مدوية وهى تتناول سترتها الحرير لتغطى نفسها عن عيونه بثرثرة
-اي الجنان دا يا مجدي مش تخبط!

اشار للفتيات أن ينصرفن ف رحلن فورًا، حيث انتهت رهف من ربط حزام الخصر وهى تهذي
-انا مش عارفه انت ازاي تدخل عليا كدا! كان مين سمح لك اصلًا؟!
تأكد مجدي من رحيل الفتيات ثم قال
-انت لسانك دا هيتربط أمتى!
-وانا كنت قولت ايه؟! عشان بزعق لك يعني؟! ازاي تدخل كدا؟!
زفر بضيق ثم أردف.

-لا مسألة إني ادخل عليكي دي ازاي انسيها! خلاص ياماما لبستي، الموضوع التاني انت ازاي تقول لي لامك أن هشام رد فجر؟! اتجننتي؟! انت متعرفيش تحفظي سر أبدًا.
رجعت بظهرها للخلف وبات الندم يقسم معالم وجهها
-معرفش هي طلعت كدا، والله يامجدي انا مكنتش هقول خالص حتى لما هددت هشام كنت بنكشه، بس معرفش يمكن معاك حق انا معرفش احفظ سر خالص..
ثم فركت كفوفها ببعضهم وتنهدت بتوتر بالغ.

-بص أنت ممكن ماتقولش اسرار تاني، سيبني مغفلة كدا معرفش حاجة، عشان انا هبله وبدلدق الكلام من غير ما أحس..
ثم تقطرت دمعه من عيونها
-انا حسيت إني عملت كارثه لما مامي وقعت والبارتي باظ يعني اممم انا غلطانه ومش عارفه اعمل ايه.
هدأت جيوش غضبه الثائرة في لمح البصر بسبب قطرة مياه من طرف عينها فتنسى كل أساليب عقابه لها واقترب منها حد قطع المسافات وقال بحنان بالغ
-انت بتعيطي بجد!

انفجرت باكية وهى تشعر بالخجل من فعلها
-مش عايزاك تفقد ثقتك فيا ولا ازعلك مني، انا اسفه والله.
لأول مرة يلمس روح الطفلة البريئة بها عكس تلك الشقية التي جنته، مسح دموعها بإبهاميه في حنان بلغ ذروته و
-في عروسة تعيط كدا في يوم زي دا؟!
أجهشت بحرقة
-اتخضيت على مامي أوي وكمان فرحي باظ.
استند بكفه على الحائط الذي اتخذته متكئًا لها وقال
-هنعوض في الليلة الكبيرة بقا..
رفعت جفونها بأسف
-يعني انت مش زعلان مني!

انعقد حاجبيه بتصنع وقال
-يعني شوية، بس انت ممكن تصالحيني!
-اعمل ايه واصالحك..
فكر مجدي قليلًا ثم وجه إليها خده وأشار نحوه بسبابته مصدرًا ايماءه خافته توحي بانتظاره لفعلها، كسا القلق كيانها وسالتها بارتباك
-هو لازم!
-ليا عندك واحده ولا نسيتي!
انتظر طويلًا وهى تحاول ان تلملم شتات قوتها لتفعل ما يأمرها به حتى قفزت بخفة وقبلته سريعًا وعادت منكمشه في الستائر خلفها، مسح مجدي مكان قبلتها ساخرًا.

-انت بتبوسي ابن خالتك؟! ايه جو خُده على أد عقله دا!
-يوووه يامجدي لو سمحت أخرج بقا..
استنكر كلمتها بسخرية
-أخرج أيه؟! مش غاب القط الكبير سيبي الفار الصغير يلعب شويه..
داعب الخوف والقلق جفونها فسألته
-قصدك إيه؟!
أسبل عيونه متأملًا جمالها من رأسها للكاحل و
-هي الحاجات الحلوة دي جات أمتى
-ها! مش فاهمه؟! مجدي يلا بليز اخرج عايزه اغير هدومي
-ماانت حلوه كدا!
-بجد؟!

دنا منها ببطء لم تلحظه حتى وجدت نفسها بين يديه وهو يغسلها بشهد كلماته المعسولة
-لا بس اي الجمال دا!
ما أن انتهى من جملته طبق قبله خفيفه على ارنبة أنفها لم يجد منها إلا أنفاس ضعف مهدد له سُبله التي يسعى إليها، كان صدرها يعلو ويهبط بشدة لدرجة منتظر منه المزيد الذي لا تعلم عنه أي شيء، كانت مستسلمة استسلام قطة وقعت في حقل أسود..

لم يكُف مجدي عن ذلك فصعد بشفتيه ليزيل بهما أثار الدموع من فوق اهدابها وما أن تطالعته مُخدرة وبجهل تام عن الخطوة التالية، همس شفاهها بدون وعي معترفة
-أنا بحبك!

كانت الكلمة بضعف ريشه ولكنها كانت مربكة كافية أن تحطم حصونه القوية التي بناها بينهم، للحظة نسى كل شيء ولم يتذكر سوى أنها تخصه الآن، فَجّر حبه المدفون لسنوات في فهمها حتى أرتعد قلبها من تلك القسوة التي يعبر فيها عن حبه، أنه لم يراها من قبل ولكن كان شعورًا مختلفًا، كل ما يرتشف منها يزيد عطشه..

لا يعلم الكم والمدة المحددة كي يمتلأ ولكن وجد نفسه ينحدر من قمة جبل لا يعلم لأين سيأخذه، كان انفصاله عنها بعناء يشبه خلع الروح من الجسد، فارق ملاذه بقُبله طويلة على رأسها ثم ربت على كتفها بحب وهمس..
-غيري اروحكم يلا..

ما أن ألقى جملته فر من أمامها دون أن يلتف، تركها مع صدمتها وذهولها وتلك المشاعر المبهمة التى تخبطها هنا وهناك، بللت حلقها وما زالت تحت تأثيره كليًا فقدت القدرة على التحرك وما أن طالعت هيئتها بالمرآة اقتربت بخطاوي سُحلفية وهى تمرر اصبعها على شفتها وتتساءل
-هو ايه اللي حصل!

سقطت قطرة دماء حبه على سبابتها والغريب انها لا تشعر بألم أو عناء، شعور غامض لم تفكر فيه من قبل، حاولت أن تسترجع الذاكرة لتعرف ما حدث ولكن ذاكرتها أيضًا خدعتها ولم تتذكر سوى أن هناك رجلٌ يمتلك نبيذ العالم بين شدقه، فأسكرها بلمسة..
عاد إليها وعيها تدريجيا حتى اهتزت كليًا وشعرت بالخوف يقضم قلبها ولمعت عيونها بدموع الرهبة وقالت لنفسها
-يانهار أسود! هشام هيدبحني.

( الساعة الثالثة فجرًا )
وصل هشام الي اسكندرية وبالأخص إلى ( الشاليه ) الذي اندلعت منه شرارة حبهم، المكان الذي انتسبت له فيه، المكان الذي يحفر ذكرياتهم معًا..
هبط من سيارته وذهب ناحية البيت الصيفي الذي اشتراه من صاحبه من ثلاثة أشهر عندما كان منتظرًا افاقتها فيبدأ الاثنان من هنا من جديد كما ابتدئا من قبل.

فتح باب الشاليه الذي لم يتغير به شيء ثم عاد الي سيارته ورفع الجاكت من فوقها وانحنى قليلا ليحمل تلك الحوريه بين يديه، ركل الباب بقدمه ودلف بها الى الداخل حتى وضعها في غرفة نومها وما زالت في عالم أخر إثر الحبوب المخدرة التي كانت بالعصير، ابتعد عنها قليلا ونزع حذائها بحرص شديد ووضعه اسفله بهدوء، ثم اقترب لحجابها ونزع الإبر منه فسرعان ما انزلق عن رأسها، انطلقت منه ابتسامة إعجاب خطفته ليزين جبهتها بقُبلة ناعمة تململ جسدها إثرها ولكنها ما زالت تحت تأثير المخدر..

طالع هشام ملامحها النائمة كأعمي استرد بصره ويتأمل الشمس لأول مرة، فالشوق نحت جوف قلبي وأصبح يتآكل من شراسة حنين.
كانت نظراته مصحوبة بلمسات يده التي تتنقل بحرية كبيرة على وجهه، حتى جدار عنقها لم ينج من شوقه، بل أراد أن يتحسس نبضها هل هادئًا كهدوء نومها أم ثائرًا كثوران قلبه..
سعلت بخفوت شديد وهى تتغنج في سباتها أمامه حتى حسد سلطان النوم على خضوعها الكامل له وتمنى ولو يكن مثله يومًا ما، زفر بأمل.

-استرها معايا يارب والعرق الصعيدي ما يهدش المكان دا فوق دماغي لما تصحى..
نهض هشام بعد أن ألقى عليها اللحاف وقفل الأنوار خلفه ثم عاد الي سيارته واخذ ما بها وقفلها، فرجع الي البيت وقفله جيدًا واشعل المدفأه ومدد على الأريكة مستسلمًا للنوم..

جاء صباح اليوم وانعكست أشعة الشمس من النوافذ على عيون فجر التى نهش الصداع رأسها، رفعت جفونها بتثاقل شديد كأن جبال الأيام رست فوقهم، ظلت تغمض وتفتح في عيونها لتعرف أين هى، فالرؤية من حولها مشوبه، ما أن اعتدلت وأخذت تسترجع ذكرياتها تدريجيا وهى تتجول بعيونها في ارجاء الغرفه، فتفوهت مندهشة
-اسكندرية! انا مين جابني هنا! ندى فين؟! هشام؟!

ثم تشبثت برأسها من شدة الوجع وتذكرت أخر شيء مر عليها عندما قالت لهشام انها ستغفو..
نهضت من فوق الفراش بتثاقل واتجهت صوب الباب وهى تتأمل المكانه بدقة شديدة، فما زالت تصم تفاصيله، كملت سير حتى وصلت للصالة ووجدته نائمًا في سبات عميق..

توقفت خُطاها وتجمد غضبها وهى تطالعه بحب اندلع منها دفعة واحدة، هدئت في مشيتها حتى جلست بخفه على المنضده بجواره وجاءت أن توقظه بغضب عنده علق الحديث بحلقها وصمتت تتأمله فقد، تركت عينيها تتأرجح بحرية على تفاصيله، انفجر حبها المكنون في نظراتها المتمنية قُربه، كل ما بها سكن عدا قلبها انطلق زمامه متحدثًا، طار من جسدها وفقدت السيطرة عليه، حملت بأنفاسه التى تعلو وتهبط صدره واندلع بوق الشوق من جوفها..

-( اااه لو بس الزمان كان يسمح؟! )
ثم وضعت يدها على قلبها الذي ينتفض من كثرة حبها له وتمنت
-( لو كان هناك قاضي للغرام ليحكم بالعدل على قلبك أن يحكم عليه بالسجن المؤبد و أن يقيم داخل قلبي وأحبه كما يروق لي الحب، ويحبني حتى اقول اكتفيت، ع كلٍ لم اقولها ولكنه حقًا شرط تعجيزي حتى لا يغادر أبدًا ).

ديت بقلبها نبضة جعلتها ترتعش واستردت وجهها الذي تستقبله بها حيث الملامح المكفهرة والشرار التقاذف من عيونها، ما ان تبسم هشام وهو يقول
-دا ايه الصباح القمر دا!
اكلت شفتها بغل وهي تجهر
-لا هو مش قمر، هو زفت على دماغك يا هشام!
أغمض عينه للحظة وهو يقول فيها بحماس ويتعهد لنفسه
-انت قولت مش هتتعصب تاني سيبها تكسر براحتها وانت كدا حافظ على هدوئك..
ثم اعتدل بنشاط وتبسم
-ليه بس ماهو حلو وزي الفل أهو..
بنبرة حادة.

-أنا هنا بعمل أيه يا هشام؟
-ما بتعمليش حاجة غير إنك بتجري شكلي ومتحاوليش انا واخد عهد على نفسي.
انفجرت بعصبيه
-هشام متنرفزنيش؟!
-عايزة ايه وانا اعمله!
-روحني حالًا..
هز رأسه بأسف
-لا دا مش فالمنيو.
زفر بضيق وبداخلها مندهشة من تصرفاته الهادئة التى انسكبت عليها تدريجيا
-انت مش شايف أن احنا ماينفعش نقعد في مكان واحد!
نهض من أمامها واقترب من الثلاجة واخذ قارورة المياه الباردة وعاد إليها بهدوء.

-ليه؟! لو مش واثقة فيا ف ده حقك، انا بصراحة مش واثق، بس المفروض تكوني واثقه في نفسك أكتر من كدا.
ثم غمز بطرف عينه
-ولا أنت كمان زيي مش واثقة؟!
ثارت مترنحة
-لا دا عشان حضرتك طلقتني لو كنت نسيت.
فتح قارورة الماء وتوقف عن الشرب ولكنه قال بهدوء عجيب وملامح ماكرة
-ممكن بكلمة أقولها دلوقت واختمها بختم النسر وترجعي مراتي عادي، مش حجة.

فهمت ما يشير إليه فارتبكت وفضلت أن تبعد عنه لتضمن سلامتها وما أن احتمت بظهر المقعد جهرت معاندة
-مش بمزاجك ع فكرة..
-لا هو بمزاجي شرعًا وقانونًا، بس حُبنا أنا منتظرها بمزاجك أنت.
لكَ الكلام بفهما وضربت الأرض بقدميها بقلة حيلة، واستسلمت
-عايز إيه يا هشام.
-كدا تعجبيني، نتكلم جد بقا!
زفرت بكبرياء يفرطه الشوق وهى تراه يدنو منها ويكمل.

-انت هنا عشان تهدي وتفكر وتقرري وتشوفي أنت عايزه أيه، تهدي! مش قطر معدي مش شايف قدامه..
ثم تحمحم بخفوت وأكمل
-فجر دي فرصتنا الوحيدة اللي هننسى بيها كل اللي فات ونبتدي من جديد، ياما كل واحد فينا هيروح لحاله بلا رجعه، انا واخد اجازة ٣ ايام طار منهم يوم، اليومين دول بتوعنا وبس..
تراجعت خطوة للوراء هي ترمقه بحيرة
-مش فاهمة؟!
هشام بثقة
-لا أنت فاهمة كويس أوي يا فجر..
أطلق جشأة قوية من صدره وأكمل.

-اقعدي في المكان اللي يريحك، فكري صفي دماغك من العالم والناس قدامك بحر وهوا وسما، حتى أنا اعتبريني مش موجود، وعد مش هزعجك ولا أثر عليكي في أي قرار، هنتكلم كتير، هنتكلم من يوم ما عرفنا بعض لحد اللحظة دي، هحكيلك حاجات أول مرة تعرفيها، أنا جبتك هنا عشان نغسل قلوبنا اللي تربت دي ونفكر بهدوء وروقان، وكل واحد فينا يشوف هو عايز ايه..!

اختلج قلبها باضطراب تعجز عن أخذ القرار حتى تعمد ان يدنو منها أكثر ووقف أمامها بحب
-بس وانت بتفكري وبتاخدي قرارك عايزك تعرفي إني بحبك وبحب فجر القطة الشرسة اللي خربشت على قلبي، و استحملتني واطمنت بوجودها واللي اتمنى اكمل الباقي من عُمري معاها وتكون أم ليا ولولادي..
احتوى كفوفها ورفعهم لمستوي ثغره وقبلهم بدفء لم تستشعر من قبل، دفعة مشاعر صوبت نحوها كافية أن تفقدها وعييها..

ضم على كفيها بكل الحب الذي قذف بقلبه وأكمل
-شوفي حابه تقعد فين تفكري، هخرج أجيبلك فطور بس و هسيبك براحتك ووقت ما تخلصي تفكير، قوليلي تعالى نتكلم وخدي راحتك على الآخر هنا جايبك هنا اسمعك وبس واحاول اطلع مني النسخة اللي ترضيكي العمر كله..
تنهد بحرارة وبعيون متوسلة ونبرة مثيرة للشفقة
-من اللحظة دي مصير حياتنا بكلمة منك انا محتاج ارسى على بر معاكِ، اتفقنا!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة