قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل التاسع عشر

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل التاسع عشر

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل التاسع عشر

استيقظت اليوم وبداخلي شعور غريب
فجأة وجدت قلبي يعترف باقتناع إنني لم أحب ذلك الرجل الذي انتظرته لمدة سبع سنوات، أعلن شفائي التام منه، وأعلن أيضًا إنني فشلت أن أخوض تجربة عاطفية واحدة في حياتي، وأن قلبي ما زال بكر لم يفقد عذريته بعد ؛ ما زال بنقاء الثوب الأبيض..
انتهيتُ من إعداد قهوتي الصباحية
وفتحت صندوق الذكريات
تناولت يدي أحد رسائلي له بعشوائية، فضحكت ساخرة بنكهة الأسف.

لم تكن ذلك الشخص الذي رسمه ليلي، وحضنته في أحلامي، وبحثت عنه طوال نهاري، لم تكن إطلاقًا..
أنت شخص بعيدٌ كل البعد عن كل هذا، أنا أحببت الفارس الذي نسجه خيالي في قالبك ولكن لم تكن أنت.
طويت صندوق الأعوام وقررت
لم أعد بانتظار أحد، لم يُخلق شخص يستحق انتظاري و وقتي ومجهودي، لا أحد يستحق كل هذا الا أنا، أنا أحق، لم يعد هناك وجود لأي شيء يؤلمني، وبالأخص لم يعد هناك أي وجود لك بقلبي.

لا أعلم ما هو مصدر تلك القوة المفاجئة ولكن ربما السبب الحقيقي يعود إلى إنني نمت بالأمس مقررة
أن أحب نفسي أكثر من أي شيء..
نهال مصطفي.

أعترف لقد كانت الحياة كريمة معي إلي حد كبير، لم اتخيل ليوم بعد تلك العراقيل التي واجهتها، وأيامي القاحلة من البشر، وحزني الذي كان مطوي في سريري بدلًا من غطائي أن يتبدل كل هذا ويتلون على خارطة يديك، وأكون الآن مستندة على كتف أعظم رجل بالعالم، لقد كذبت هو العالم بأكمله، أعترف بإنني خسرت الكثير ولكن كُنت أنت مكسبي العظيم..

غفوت فجر على كتف هشام وفي صالة الانتظار بالمطار وهى تناجي ربها بألا يكون حلمًا تفزع منه على حقيقة واقعها الذي هربت منه، كان يطالع وجهها النائم بمنتهى الحب، تعمد أن يحافظ على ثباته كي لا يزعجها، اتخذت من كتفه مسندًا لغفوتها ولكنه أعلن بأن سيكون لها سندًا للعمر بأكمله..
أُلعن في مكبرات الصوت بوصول الطائرة المتجهة نحو مقصدهم، فأيقظها بلطف وهو يمازحها
-تصحي دلوقتى ولا نستنى الطيارة اللي بعدها!

فركت عيونها بتثاقل شديد مع ضحكة خفيفة
-هو موقف اتوبيس.
وثب قائمًا بحماس وهو يحتوي كفها
-طيب يلا قومي!
سار الثنائي معًا بخطوات هادئة ومُريحة ؛ ولكن لم تخل من فضولها
-مش هتقول لي رايحين على فين بردو!
أنزل نظارته الشمسية من فوق رأسه لعينيه وقال باختصار
-لا
-طيب لو خاطفني قول!
طالعها بنظرة شفقة على براءتها وضم أكثر على كفها واتسعت خطوته عما بدأت، فأغضبها سخريته
-هشام!
ببرود
-نعم!
-مش هتقول!
-هتعرفي لما نوصل.

توقفت فجأة وبد القلق يسري على ملامحها عندما رأت الطائرة، بخوف
-بقولك إيه، احنا هنركب دي! لالا رجعني، اقولك تعالي نرجع عند عايدة مش هعترض والله.
ابتسامة خفيفة اجتاحت وجهه وقال
-متخافيش، أنا معاكي!
تابعت خُطاه مجبرة وهي ترتعش حتى وطأة أقدامها سُلم الطائرة.
-أيوه يعني يا فندم! أنا صاحي على مكالمتين يقطعوا الخلف، ومفهمتش معاليك تقصد إيه لحد دلوقت!

أردف مجدي جُملته وهو يجز على أسنانه إثر حديث نشأت الغير مترابط ببعضه، حتى أجابه نشأت
-إحنا وصلنا لفين!
كظم مجدي غضبه و
-لحد مراة معاليك يا فندم اللي اتوفت بعد جوازكم بسنة.
اتكئ نشأت للخلف على مقعده الجلدي وهو يطالع السقف مسترجعًا الذكريات
-اااه يا مجدي! اه، من ساعتها أخدت قرار على نفسي، اعيش للشغل وبس، جربت حظي في الجواز ومنفعش.
-وبعدين يا فندم!
عاد مستندًا بمرفقيه على المكتب وتنهد.

-لحد ما قررت أخد خطوة وأعيش اللي معشتهوش زمان!
مط مجدي شفته
-قرار سليم معاليك؟! إيه نويت تخطب وعاوزني أجي معاك!
انكمشت ملامح وجه نشأت بغضب وعاتبه
-أيه يا سيادة الرائد أخطب وجو العيال دا! أنت نسيت نفسك!
اعتدل مجدي في جلسته معتذرًا
-مقصدش طبعًا يا فندم، بس معاليك اللي مش واضح، وبعدين فيها أيه لما تخطب!هي الخطوبة عيب
اندفع نشأت في الجواب
-لا أنا عايز اتجوز على طول.
هلل مجدي.

-دا يوم المنى! دا القرار السليم، يالف ميت مبروك يا فندم!
حدجه نشأت بعنفوان
-ياسيادة الرائد!
تراجع مجدي
-اسف يا فندم، بس مين العروسة؟! ولا عايزني ادورلك.
نهض نشأت من مكانه ليجلس على المقعد المقابل لمجدي و
-شوف يا مجدي يا بني، انت في مقام ابني بردو، وحبيب قديم وهتفهمني، انا منمر على واحدة كدا، بس مش عارف إيه ردها، وخايف احسن ترفضني!
جامله مجدي بعفوية.

-متستجراش يا فندم! وهي تطول، أشر بس وأنا اجيبهالك لحد هنا، اخد البوكس واتنين عساكر وقلم مخبرين كدا، هتلاقيها تحت أمرك!
نهره نشأت بحزم
-طيب استجرى أنت بس اعملها وانا اطيرلك نجومك اللي فرحان بيهم دول، جرا ايه يا حضرة الظابط!
-اسف والله يافندم، بس الحماس أخدني شويه، واقصد أقول يعني هى مين العروسة اللي مغلبة معاليك كدا!
فرك نشأت يده بتوتر لا يناسب سنه
-أول ما شوفتها الحيوية والشباب ردوا كدا في روحي!

-بركاتها يا فندم! طيب وايه المانع انك تاخد خطوة؟
-ترفض..
-طيب ودي هتعرفها ازاي من غير خطوة!
-ما أنت يا مجدي هنا، عشان تجس لي نبضها؟!
أصدر مجدي إيماءة خبيثة وطويلة من حنجرته وهو يتذاكر علاقته المتطورة مع سعاد والاهتمام المبالغ عن الحد، ولكنه تعمد التجاهل
-هو انا اعرفها!
-بصراحة كدا انا عايز اطلب أيد سعاد هانم!
صاح مجدي بأعلي صوته
-دا يوم المنى يا فندم!
فزع نشأت بحرص
-أشش، يابني متخلنيش اتغابى عليك! أعقل.

ضحك مجدي بصوت عال حتى قطعهم صوت رنين هاتفه، فأمره نشأت
-شوف مين بيكلمك.
-دي رهف.
ثم أجاب عليها بصوت مندفع بتلقائية
-نن عين مجدي من جوه.
حدجه نشأت بصارمة فأشار بيده معتذرًا ونهض نحو النافذة وبصوت خفيض كرر
-نن عين مجدي من جوه.
تجلس وهف أمام المرأة وتداعب خصلة من شعرها
-مصبحطش عليا النهاردة، قلت أما اشوفك فين!
-اسف والله، بس هاجي احكيلك، عندي اخبار في الجون.
-بجد! انا اصلا مكالماك عشان أقول لك.

ثم قطعت الكلام بخجل، وصمتت، سألها
-سكتي ليه!
تحمحمت بخفوت
-مامي مشيت وقالت انها هتتأخر وكمان طنط سعاد راحت النادي، وانا كنت مجربة أكلة جديدة كدا ونفسي تدوقها! هتيجي؟!
اتسعت ابتسامته بمرح و
-عشان ادوق الأكل وبس!
اصدرت صوت بالنفي و
-تؤ، عشان أنا خايفة أقعد لوحدي.
-نص ساعة وهكون عندك، مش هتأخر، طيران كدا..

قفل المكالمة مع رهف التي قفزت بحماس وهى تتأهب لاستقباله ووقفت أمام الخزانه تختار ملابسها، أما عن مجدي فعاد مرة آخرى الي اللواء نشأت الذي سبقه غاضبًا
-ما كنت اجيبلك لمون في مكتبي كمان!
ضحك مجدي وعاد لمكانه
-دانا يا فندم جايب لك خبر لوز اللوز.
تلهف نشأت للرد
-ايه وافقت!
-وافقت إيه بس يا فندم! بس العروسة حاليا لوحدها في النادي! أي رايك تكبس عليها وتقدم عرضك..
-أنت شايف كدا؟
-أنا مش شايف غير كده!

فض منير اجتماعه بعد ساعة من الانتظار قضتها عايدة في مكتبه حتى جاء إليها بعد ما فاق غضبها وقررت تفتح الباب معلنة المغادرة ولكن فشل مخططها عندما وجدته أمامها، سألها
-على فين!
-كنت ماشية! واضح إنك مش فاضي!
دلف منير إلى الداخل متجهًا نحو مكتبه
-تعالي يا عايدة، اتفضلي.
اتبعت خطاه بضيق، جلس كل منهما على مقعده حتى اشعل منير سيجارته و
-ماقولتيش إنك جايه يعني؟
استدار كعب حذائها بتوتر و.

-جيت اشكرك على تعبك معايا، ومساعدتك لرهف.
-رهف بنت أخويا ومن دمي يا عايدة، مفيش ما بينا الكلام دا، دا واجبي!
انكشفت حجتها أمامه ثم فكرت لبرهة وبندم
-سوري يا منير!
-علي أيه!
بللت حلقها الذي جف من شموخها الذي لم ينخفض أبدًا وأُجبرت أن تواصل
-إني ما كنتش الشخص اللي ف بالك، بس أنت والله فاهم غلط.
هرب منير من أنظارها الثاقبة التي ما زالت تسطو عليه حتى الآن وتحرك ليقف أمام النافذة وبفظاظة آل السيوفي المعتادة.

-مايفرقش معايا يا عايدة
قامت خلفه واقتربت منه محدثة صوت طرقعات حذائها الذي لم ينخفض عن ضربات قلبها وقالت راجية
-منير أنا هنا عشان أقولك أسفة واعتذرلك، وجايه لك بنفسي عشان أطلب منك فرصة أخيرة.
دنت منه أكثر وتعمدت تلك المرة أن تتشبث بيده وكفها الآخر فوق قلبها وطالعته بنظرة انكسار واتبعت بنفس نبرة الضعف.

-بعترف إني كنت غلطانة، والحمد لله هشام مسمعش كلامي ورجع هو ومراته، وخلاص بقا واقع ولازم اتقبله، وكل حاجة اتصلحت، يبقي ليه البُعد، مفيش سبب، أرجع لي يا منير، أنا مش قادرة اتحمل غيابك أكتر من كدا، كفاية اللي فات من عمرنا.
لامس كفها يدها الموضوعة فوق قلبه فبث الأمل في روحها وسرعان ما أحرقه وهو يدها عنه وقال
-اتعلمت حاجة في الدنيا دي، إن الإنسان مهما حاول مش هيقدر ياخد كل حاجة.

انعقد حاجبيها بامتعاض إثر وخزات الحزن بقلبها
-يعني أي.
ابتعد منير عنها وواصل
-يعني حافظي على اللي معاكي يا عايدة ومتجريش ورا حاجة مشيت منك، حبي ولادك أهم هما محتاجين دا.
-بردو مش فاهمة الكلام دا أيه علاقته بينا!
تنهد منير بضيق
-لما فكرت في موضوعنا لقيته غلط من البداية! الحياة مستحيل تديك نفس الحاجة الصح مرتين.
انفجرت عايدة معاتبة
-انت بتعقدها ليه!

-هي معقده لوحدها! لا أنت هترجعي عايدة البنت اللطيفة اللي حبيتها وحبتني وهى ١٨ سنة، ولا انا هنسى عذابي ووجعي من اليوم اللي كنت واقف فيه في ضهر أخويا وانتوا بتدخلوا شقتكم وتقفلوا الباب، الموضوع صعب لا يتنسى ولا يتحكي، هو بياكل جوايا وبس.
أغرورقت عيونها بالدموع
-أنت ليه عايز توجعني، ليه بتقلب في الماضي مع أن الأيام لسه قدامنا.

-كل واحد فينا وجع التاني بطريقة سخيفة، إحنا متعادلين، ماينفعش نرجع وأحنا الجرح لسه جوانا، سوري يا عايدة بس أنا معنديش أي نية للرجوع.
فاقت بداخلها أشباح الكبرياء وتناولت حقيبتها بقوة تلعن كل ما ساقها إليه وهي تكبح عبراتها ألا تسقط وقالت بعند
-ولا أنا عايزة ارجع لك أساسًا.

رن جرس باب ( الڤيلا ) فركضت رهف مسرعة لتفتحه وهى تحمل قلبها على كفها، وبمجرد ما فتحت الباب تتدلت أنظار مجدي عليها من حيث رأسها وشعرها القصير المنسدل وفستانها القصير الممسك من ناحية الخصر وواسع لأسفل واصلًا حد ركبتيها، ومع إطلاق صفارة عالية
-هو القمر نزل من السما ووقع بين أيديا ولا أيه!
تغنجت بحبها أمامه وهى تضع تضيع يديها في خصرها وتقول
-هتكون متربي وتسمع الكلام ولا اقفل الباب!

رفع حاجبه بعدم اقتناع
-يعني أنت جيباني على ملا وشي ومفيش حد ف البيت عشان اكون متربي! وسعي كدا أنا اللي هقفل الباب.
قال جملته الأخيرة وهو يبعدها من الباب ويتظاهر بقفله
-وسعي وسعي!
شدت الباب للعكس معارضة
-أيه الهزار البايخ دا!
دلفت قدامه بخطوة داخل البيت وسألها
-منا يا أكون بايخ يا قليل أدب، اختاري!
انفجرت ضاحكة ثم هربت سريعًا من أمامه متجهة نحو المطبخ وهى تقول
-والله أنت بقيت حالتك مستعصية!
ثم جهرت مقرة.

-تصدق بدأت تصعب عليا!
قفل مجدي الباب خلفه ولحق خُطاها وهو يقول
-إحنا هنتجوز أمتى!
اخرجت بعض الخضار من الثلاجة واستدارت إليه
-لما هشام يرضى عليك!
-يييي يبقى مش هتنيل، أنت عاجبك كدا.
تركت ما بيدها واقتربت منه بحب وزعته بأناملها على وجهه، ثم ضحكت
-بصراحة يعني، عاجبني جدًا!
ثم طبعت قُبلة على وجنته وهرولت نحو الموقود لتطفئ النار وهي تقول
-تصبيرة أهي!

نهض مجدي من مكان بهيئته الرشيقة وقامته المرتفعة تعلوها بكثير، فلم تلحظ اقترابه منها وما أن استدارت لتمازحه وجدت نفسها تحت ظله ترتعد، بللت حلقها الذي جف إثر تلك الصاعقة وباتت ضربات قلبها مسموعة
-انت سبت مكانك ليه؟
-أنا هفضل أعلم فيكي لأمتى!
بخوف تراجعت خطوة
-وأنا كنت عملت أيه؟
-ما مشكلتك هي إنك مش عملتي!
استجمعت قوتها وأشارت بسبابتها محذرة
-مجدي، روح أرجع مكانك لو سمحت.

طوق خصرها بغتة فردت صرختها بصدرها وهى تتملص منه متدلله
-ممكن هشام يجي على فكرة.
رجع خصيلة شعرها وراء أذنها
-ولا يفرق معايا، أنا خلاص قررت أكسب التحدي بتاعهم وأغفل الاتنين..
شهقت مبتعدة بنصفها العلوي عنه
-انت اتجننت، مجدي سيبني لو سمحت!
-عايزني أبعد!

أخذت تبلل حلقها عدة مرات وهى تطالعه بعوينات الرفض وتقر حقيقه أنها لم تتذوق معنى الطمأنينة إلا على يديه، قطع مجدي تلك المسافة بينهم بقبلة بجانب شفتيها ثم ابتعد ملقيًا نظرة عليها فلم يجد منها أي رد فعل سواء بالرفض أم بالقبول، همس لها
-وحشتيني!
أومأت بالإيجاب وهى تتحاشى النظر إليه، فضحك بصوت ثم سألها
-مفيش وانت كمان!
بدأت تفيق من دوامتها هاربة بطلبها و
-مش هناكل ولا أيه؟!
-لما أخلص شغلي الأول!

أوشك أن ينفرد بمراده ولكنها فرت كالملدوغة من بين يده وقالت مرتعدة
-إحنا مش اتفقنا مفيش الكلام دا خالص غير في بيتنا!
ابعد عنها مجبرًا وهو يحك ذقنه الأملس مؤيدًا
-اه ياستي متفقين!
-أومال رجعت في كلامك ليه بقا!
-ماهو الفستان دا اللي جرجرني، هو السبب!
حملت الأطباق ووضعتهم بقوة في يده
-طلع دول على السفرة وبطل حجج فارغة .

إثر ليلته المتعبة التى قضاها بدون نوم، سيطر عليه النعاس ليغفو ساعة بالطائرة حتى فاق على صوت المضيفة بإقتراب هبوط الطائرة، رفع جفونه بتكاسل فوجدها معلقه بكتفه من شدة الخوف وسابحة في نوم عميق..
انشق ثغره بابتسامة خفيفة وهو يداعب وجنتها
-ايه النوم دا كله! جايب طفلة معايا؟!
رفعت جفونها ببطء شديد وقالت بفزع
-لسه موصلناش
-اش اش اهدي، اهدي، ضحكتني علينا الناس، حلو الطيران مالو!

أومأت بقبول ثم تغلغلت اصابعها بين أصبعه وسألته
-مش هتقول رايحين فين!
-ربع ساعة بالظبط وهتعرفي!
-هستنى ربع ساعة كمان!
-معلش..
استسلمت لإرادة فصمتت لدقيقة لا أكثر ثم عادت وسألته
-اسأل سؤال عميق!
-لا
-هو أنت ممكن لما تضمن وجودي جمبك تبطل تحبني؟!
تبادل الثنائي النظرات ثم ضحك معًا، حتى اردف حائرًا
-هو أنت بتطلعي بأسئلة كدا تجن الواحد؟! أيه يا ماما أنا صحتي على أدها.

تململت في مقعدها وهى تستند على جانبها المطل عليه وقالت
-بجد جاوب، طبع أغلب الرجالة لما بيضمنوا وجود الست معاهم بيبطلوا يحبوها، هل أنت كدا؟!
فكر للحظة ثم قال
-أنا هرد بلساني بصرف النظر عن أغلب الرجالة اللي مبوظين سمعتنا دول، بصي يا ستى!
انتبهت لحديثه أكثر منتظرة منه رد يطمئنها، تحمحم بخفوت ثم أتبع.

-أنا بالنسبة لي الحب استقرار، والاستقرار ده مش هحسه غير لما اطمن، وانا مش هطمن غير لما اضمن وجودك، مش منطقي لما استقر اهرب! دي تصرفات عيال، أو بالأخص تصرفات فئة معينة من الرجالة مينفعش التعامل معاها غير بأساليب التلاعب والحيلة، فأول ما الست اللي قدامهم تستنفذ كل الحيل يملوا، فيهربوا، فهمتي!
بد السرور على وجهها الملونه بالأمان وقالت بهمس
-بحبك!

كرصاصة صوبتها نحو قلبه مخصوص فأصابت هدفها، لم يتحرك بملامحه سوى شدقه بابتسامة هادئة وأحست بضغطة قوية على كفها الصغير حلقت بقلبها فوق قمم العشق..
قطع خلوتهم صوت المضيفة وهى تعلن بهبوط الطائر بمطار الأقصر، تبدلت ملامحها في لمح البصر واختلج قلبها من مكانه وهى تسأله بقلق
-أحنا جايين الأقصر ليه يا هشام؟
-هتفهمي كل حاجة!
كررت ندائها بنبرة أكثر خوفًا
-هشام!
قبل ظهر اصابعها بلطفٍ
-اصبري لحد ما ننزل، ممكن!

نفذت أوامره مضطرة، شاردة في مخاوف عقلها التى ظلت تتقلب هنا وهناك، ملتزمة الصمت تمامًا، كل ما بها يؤيد ذهابها لأهلها ولكنها سرعان ما ينفي عقلها الفكرة، فكيف ولماذا يفعل ذلك، تأملت من ربها أن تكون مجرد نزهة سريعة وسيعودان منها.
هبطت الطائرة وسارت فجر معه بصمت مريب حتى وصل الاثنان إلى بوابة المطار، فوجدت أحد الرجال في زيه الصعيدي يستقبلهم مرحبًا ويشير نحو سيارته المصفوفة.

-يألف مُرحب يابيه، لأقصر كلياتها نورت، اتفضل اتفضل!

كُنت أظن أن الحياة سترضى علينا عندما يرضخ جبروته لي وإن غفرت له، هكذا ستتلون الأيام ونحيا أيامًا نغرد في نعيمها، ولكن كنت مخطئة فللزمان ذاكرة لا تنسي ولم تغفر ولن ترضخ لأحد، لا تنسى حقوقها ولم تغفر وترد الصاع صاعين، وكلا لا تنكسر ولا ترضخ لمخلوق مهما اعتذر، ذاكرة الزمان لا ترحم..

ارتمت بسمة في منتصف فراشها وهى تشهق وتبكي بحرقة وبصوت عالٍ، تشعر بإنسحاب روحها، تلتقط النفس بصعوبة فيأبى الخروج، يصرخ الصمت بجوفها فتنهمر منها عبرات لا حد لها.
ظلت تنحر باسئله متتابعه، لماذا أنا اتحمل معه نتائج اخطائه، لماذا افقد أخر امل في البقاء معه؟ لماذا يحوم الأثم حولهم وعقد حلقته فوق رؤوسهم؟! ظلت تناجي ربها بأي ذنب قُتلت؟!
عاد زياد أنذاك من عمله، ظل ينادي عليها بمرح
-بسبس، بسبوسه، يا بسوووم..

استغرب من عدم ردها، القى عليها نظرة بالمطبخ ثم المرحاض فلم يجدها، ساقه صوتها المكتوم الي غرفة نومهم، اسرع خُطاه قليلًا و اقتحم غرفتها مفزوعًا
-مالك؟
لم يتحرك بها ساكن سوى ارتفاع صوت نحيبها، رج قلبه من موضوعه واقترب منها وضمها لصدره متسائلا
-فهميني يا بسمة! مالك!
كانت ترتعش كالطائر المذبوح بين يديه، حمامة سلام تتخبط في دماء القهر، تضاعفت عصبيته وهو يمسح دموعها
-حصل ايه لكل دا مالك، حد في مصر حصله حاجة.

ظل صدرها يعلو ويهبض كأنه فوق مراجل تغلي، حاولت استجماع قوتها وهى تجهش باكية وتهز رأسها نفيًا، فسألها مجددًا
-طيب اهدي واحكي لي أيه حصل!
-ليا كام يوم تعبانة، فشكيت إنه ممكن يكون حمل وكدا.
ثم انقطع نفسها عن الكلام وانهمرت دموعها مجددًا وأكملت
-طلب مني اشعة وتحليل عملتها.
ربت على ظهرها وباليد الأخرى مسح على شعرها
-تمام، وبعدين!
صرخت بوجع عملاق انصب بقلبها و
-قال لي إني مش هخلف تاني بسبب الإجهاض المتكرر..

ثم ارتمت في حضنه بعد ما قذفت عليه صاعقة الخبر صارخة
-مش هبقى أم أبدًا يا زياد..

-أنا فاكرة المكان دا!
تسمرت فجر بداخل السيارة وهى تحملق بتفاصيل المنزل ذو الطراز الكلاسيكي والخضرة التى تحاوطه من كل صوب وحدب، والصبية اللذين يلعبون في أرجاء المكان ويلونون المكان بضحكاتها، شريط باهت من الذكريات دار برأسها افتكرت نشأتها، والمكان الذي كان يجلس فيه جدها، كثير من الذكريات انتشرت بعقلها حتى اطاح الدوار برأسها..

توقفت السيارة أخيرا، فهبط منها هشام ثم دار ليفتح الباب الخلفي لها وطلب منها بحنو
-انزلي.
حملقت بأسئلة كثيرة لم تلفظها، فاستقبلهم بقفل جفونه لبرهة واشار لها
-متخافيش، يلا انزلي..

خرج رجل ذو هيبة ووقار في أوائل الستين من منزله وخلفه اربعة من الشباب يحملون نفس الملامح، خفق قلب فجر بسرعة شديدة، وما استطاعت أن تخطو خطوة واحدة، فوجئت بدخول سيارة وراءهم وهبط منها رجل يبدو اصغر سنًا عن الاخير وخلفه اثنين من الصبيان، فهلل العم الاصغر
-يا مرحب يا مرحب ببت الغالي!
ارتجفت كليًا في مكانها والتصقت بهشام بضعف لا حول لها ولا قوة، ثم أجاب هشام بدلًا منها
-عمار بيه، اهلا بحضرتك.

اقترب منه عمار
-اهلا بيك يا حضرة الظابط، يا ميت مُرحب..
ثم وجه كلامه لفجر بعد ما فحص ملامحها التي تشبه نسلهم كثيرًا وفتح ذراعيه لاستقبالها مرحبًا
-يا أهلا ببت الغالي.
أتى صابر من الخلف وتدخل في حديثهم بعد ما تبادل السلامات وما زالت فجر منكمشه بذراع زوجها ترتجف، رمقها عمار بتسائل
-مالك اكده، خايفه من إيه!
حاولت أن تتذكر هيئته في الشباب، فنصرتها ذاكرتها الطفوليه وقالت بصوت خفيض
-عمي البشمهندس عمار!

قهقهه عمار باانتصار وفتح ذراعيه اكثر
-تعالي في حضن عمك يا غالية تعالي.
أخذت الأذن من عيون هشام قبل أن تحضنه، فخيمت الطمائنيه على جسدها واندلعت اصوات الفتيات من أعلى بهتاف والزغاريد..
انفجرت عيون فجر ببركة من الدموع ما بين الفرح والأمان والشوق والخوف، خيمت عليها المشاعر من كل نوع، ابتعدت عنه متنهدة
-انا لسه فاكرة ملامح حضرتك وفاكرة اول يوم جبت فيه مجموع كلية الهندسة، وفرحة جدتي في اليوم دا.

هلل صابر واخذها في حضنه
-تعالي في حضن عمك يا بت اخوي، تعالي..
حضنته فجر مجاملة، حضن بارد، خالٍ من كل المشاعر، عندما تذكرت تلك اللحظة التي تخلو فيها عن أبيها، ابتعدت عنه وصافحت أولاده بحب، ثم عادت إلى اولاد عمار وصافحتهم بمرح ومداعبة، جهر صابر
-هنقضوها سلامات على الباب اكده، تعالو تعالو اتفضلوا..
شبكت فجر يدها ومشت على خطاه خلفهم، دخل الجميع إلا هى تعمدت أن تبطئ قليلا وسألته
-أنت عملت كدا ازاي!

غمز لها بطرف عينه لتصمت
-شششش
ارتفعت لمستواه لحظة وألقت كلمتها الاخيره قبل ما تلحق خُطاهم
-بموت فيك..
عادت لمكانها كأنها لم تقل أي شيء متحاشية النظر إليه تمامًا، جلس الجميع بساحة المنزل الواسعة، وأقدمن النساء من أعلى ومن الخلف وتبادلت السلامات والترحيبات بينهن..
اشار لها عمار لتجلس بجواره
-تعالي، تعالي يا فجر يا بتي اقعدي جاري.
بدون تردد نفذت طلبه وجلست بجانبه فضمها لصدره وطبع قبلة خفيفة وقال.

-من هنا ورايح انت هتسكن إهن.
تدخل هشام ممازحًا
-هو من لقى احبابه نسى اصحابه!
ارتفعت قهقهات الجميع، وعارضه عمار
-العفو يا بيه، بس إهنه بيتها وهي غايبة بقالها كتير..
هللت زوجة صابر مرحبة
-نورتي بيت ابوكي وجدك يا فجر..
وأقدمت ابنة عمها التي تشبهها كثيرًا
-كلهم كانو بيقولوا إني شبهك وانت صغيرة، وكان نفسي اشوفك قوى..
تفاجأت فجر للشبه الكبير بينهم وقالت بذهول
-وشبهي وانت وكبيرة كمان، شايف يا هشام شبه بعض ازاي!

أطلق بتعجب
-سبحان الله..
تدخل صابر لسرد الأحداث
-اقسم بالله يابتي اليوم اللي جيه فيه جوزك وقالنا إنك لسه عايشة وعايزة تتعرفي علينا ردت فينا الروح.
ذرفت دمعه من عيونه بأسى واستأذنت هشام بعيونها قبل أن تتفوه، وأردفت معاتبة
-انتو ازاي يا عمي محدش حاول حتى تدوروا علينا!
لمعت عيني صابر بأسف
-ازاي يا بتي عتقولي إكده! مش إحنا اللي نرموا لحمنا في الشارع..

-أومال كنتو فين طول السنين دي! ليه أبويا عاش خايف منكم كدا!
أطرق صابر بحزن
-للاسف عمك جابر فضل شايل السر لوحده عشان يسكت البلد عن اللي حُصل، وقال إن العربية وقعت بيكم في المية وكلكم موتوا، وعشنا مصدقين الكدبة، ليه يابتي سكتوا كل دا ليه؟
تدخل هشام
-أحنا اتفقتا على إيه يا عم صابر، قولنا اللي فات مات واحنا ولاد النهاردة.
هتف عمار.

-حصل خير يا جماعة، كل مسطر ومكتوب بلاش نفتح في الماضي، المهم انك رجعتي لناسك وأهلك يابتي.
ابتسمت بامتنان ثم هتفت زوجة عمها
-اشكروا هشام بيه بقا هو السبب في اللمة دي.
اردف صابر
-حقيقي يا ولدي الله يسعدك ويراضيك زي ما حافظت على بنتنا وعرضنا.
اخفق قلب هشام بحب
-دي شريكة عمري كله يا عمي..
نادي صابر على ابنه الأكبر الذي يمتهن المحاماة وقال
-يا ثروت، هات الورق من جوه بت عمك تاخد حق ابوها ونصيبها.

تبدلت أعين السيدات بحقدٍ، منهن من عادت الى المطبخ و الأخرويات تطلعن بحسد ونقمة إلا زينة التى أحبت فجر من البداية وهتفت
-اهو هو دا الكلام المظبوط يا ابوي، عشان تيجي وتتابع مصالحها بنفسها عاد..
ثم نهضت وجلست بجوارها
-متتخيليش انا حبيتك اد ايه..
عبث وجه هشام بضيق ثم تحمحم معتذرًا
-اسف يا عم صابر، مراتي مش محتاجة حاجة غير وجودكم في حياتها.
طالعته بإعجاب شديد وهو يكمل
-كدا انت بتزعلنا.
عارضه صابر.

-الحق حق، ومحدش هيعيش اكتر من اللي عاشه، وانا عايز اقابل وجه كريم وانا مطمن..
فجر بخجل
-يا عمو انا مش هاخد أي حاجة، دا تعبكم ومجهودكم، زي ما قال هشام كدا انا مش محتاجة غير وجودكم.
احضر ثروت الأوراق المكتوبة المتوقفة على أمضتها واعطاهم لأبيه
-اتفضل يا بوي
بصم صابر بإبهامه في المكان الذي أشار إليه ابنه، ثم أعطى الأوراق لفجر كي توقع، رفضت أن تمسكهم وقالت لعمها
-انا مش عايزة حاجة يا عمو، اسفة.

أصر صابر بإلحاح
-وقعي يابتي وريحي قلبي، ماهو نصيبك بنديره ووقت ما تحبي تستلميه تعالي، الاسم ان حقك مسجل.
ظلت مترددة لفترة الى أن طالعت هشام بنظرة الحيرة فبادلها بنظرة الحرية في قرارها، واخيرًا وقعت بناء على رغبة عمها، فصاح صابر بارتياح
-مبرووك عليكي يا بتي!
ثم أشار لزينة
-خديهم يغيروا خلجاتهم في الاوضة يا زينة يلا ويرتاحوا شوية على بال ما الحريم يجهزوا العشا.

لم يمنح صابر الفرصة لأي أحد منهم ان يعترض، فنفذ هشام طلبه مضطرًا، اما عن الشباب منهم من عاتب والده على تصرفه ومنهم من كظم غيظه في نفسه ومنهم من لا يعطي للأمر أي اهمية..

أصر اللواء نشأت ان يوصل سعاد بنفسه الى المنزل بعد ما قص لها اسطورة حياته بمنتهى الفوضى والعشوائية، دون فهم، حديث بلا هدف، لم تخرج منه جملة مفيدة..
صفت سيارته أمام الفيلا فقال بفظاظة
-حمد لله على السلامة.
-الله يسلمك، مكنش له لزوم والله، تعبتك معايا..
-متقوليش كدا، مكنش هينفع اسيبك ترجعي في أوبر.
تأهبت سعاد للنزول ولكنها تراجعت
-نشأت بيه، هو حضرتك جيت النادي النهاردة كمان صدفة!
تحمحم نشأت بتردد و
-لا.

استغربت سعاد وسألته
-اومال!
-سعاد تتجوزيني!
ألقى الجملة بدون تفكير، تحرر اللفظ من بين شدقيه دون ارادة منه، امطرت السماء ثلجًا على قلب سعاد وأمطرت قذائف من الخوف على قلب نشأت، ظن إنه تسرع في طلبه، ساد الصمت لدقائق حتى ذبحه نشأت
-هسيبك اسبوع تفكري واتمنى الرد يكون زي ما متوقع.
رُج قلب سعاد بصخب من المشاعر المتداخلة، كأنه ابنة العشرين التى لا تدرك أي خبرة في التعامل، شرعت أن تعارضه ولكنه أصر.

-مش عايز اسمع حاجة دلوقت، خدي وقتك..
على الباب يقف مجدي ورهف والحيرة تنعقد فوق رؤوسهم، فقالت رهف بتنهيدة حارة
-ماما مش طبيعية يا مجدي، دي حتى مسلمتش عليك.
أخرج مفاتيح سيارته من جيبه وأجابه بقلة حيلة
-والله ما بقيت فاهم حاجة يا رهف كل ما تفك من ناحية تتعقد من التانية..
-ربنا يستر..
ثم هللت
-طنط سعاد جات!
غمز لها مجدي بهمس
-اسمها العروسة جت!

اقتربت سعاد منهم مغيبة تمامًا عن العالم شاردة في عرض نشأت، حائرة بين مشاعر المراهقة التي تفجرت بها، حتى لم تلتفت لهتافات رهف وضحكات مجدي، مرت بجانبهم تائهه حتى صعدت لأعلى دون أن تبدئ كلمة واحدة..
مالن رهف على أذانه
-هو نشأت بيه عمل فيها إيه!
انفجر مجدي ضاحكًا
-دا شكله نزل بكل أسلحته، مع إني قولتلها اديها فلاش بس.
رهف بمزاح
-ميجو حبيبي، ممكن تبعد عن الموضوع دا عشان يتم!
بذهول
-يعني العيب طلع فيا في الاخر!

راوغته متعمدة
-اهو اديك شايف حالنا، متعلقين زي فوانيس رمضان!
طالعها بنظرات المكر
-بتلقحي صح!
-خالص، وانا اقدر..
ثنى كمه بتوعد وهو يميل نحوها
-أنا همشي عشان مش عايز اتغابى، سلام يابت السيوفي.
-انت هتسيبني مع مامي وطنط وهما كدا!
ارسل لها قبلة في الهواء
-سلااام
-بتتخلى عني!
حدجها آمرًا
-خشي جوه يلا.

دون تردد دخلت وقفلت الباب بوجهه وراقبت سباته من العدسة ضاحكة على حالته، توجه مجدي نحو سيارته وخرج سريعًا من البوابة وما أن لامست عجلاته الرصيف فوجيء بسيارة تعوض طريقه فتوقف فجأة وهو يسب علنًا..
نزلت سلمى من سيارتها متغنجة على جمر الشر
-أعصابك يا سيادة الرائد!

انغلق عليهم باب الغرفة وكل منهم بداخله مشاعر لا توصف بالكلام، شعور من الراحة عظيم طوق قلب هشام وأنه نفذ ذلك العهد الذي اتخذه بينه وبين نفسه، وشعور من الانتصار حلق بها لأعنان السماء، ذبحت كل الشكوك المتأرجحة بجوفها وقضت على كل تلك الأوهام التى يمكن أن تفصلهم مرة آخرى..

ارتدى هشام ولأول مرة بعمره الجلباب الصعيدي، وارتدت هى الاخرى القفطان الصعيدي، وحررت شعرها الطويل الذي غطى ظهرها لأخره، طالعته من بعيد بإعجاب شديد، هيئته، جسده الرياضي الذي تبرز العباءة ببراعة، تفقدت تلك الغرفة التي تضمهم و الدفء المنبعث من أنفاسه، اقتربت منه بخطوات هادئة وطوقته من الخلف مستندة رأسها على ظهره وقالت
-أنت احلى حاجة حصلت لي يا هشام.

فك ذراعيها عنه وبدل الأدوار ولكن تلك المرة باتت كلها بين ذراعيه وتحت ظله وبعد ما استند بذقنه على كتفها قال
-انا مش عايز اشوف غير ضحكتك دي، عايز امسح اثار الحزن من فوق ملامحك.
طالعته بالمرآة المعلقة أمامهم بحب مفعم من انظارها
-وجودك كفايه والله..
ثم دارت إليه وعانقته متدلله.

-انا النهاردة حسيت بكل حاجة حلوة في الدنيا، اهلي، وانت، كل شوية ابص عليك اتاكد انك موجود ومعايا وفي ضهري، الدفء اللي حسيته في حضن عمو عمار، كان نفسى بابا يكون معانا، هيفرح أوي.
داعب ذقنها بحب
-يارب يطول في عمري عشان اسعدك وبس، في سر وفي مفاجأة كمان!
تنهدت بتعب وهي تضحك
-لأ، قلبي مش هيستحمل مفاجاة كمان، مفاجاتك حلوة أوي.
سحبها خلفه وجلس الاثنان على الاريكة و.

-السر هو، إن عمي صبري جاب لي سيرة الموضوع دا، بس أخر كلمة قالها قبل ما يدخل في غيبوبة رجع فجر لأهلها يا هشام، بس مقالش أي تفاصيل، خُفت اسالك اعلقك وأوهمك، احتفظت بالسر في نفسي لحد ما نفذت الوصية.
اتسعت ابتسامتها الممزوجة بدموع الفرحة حتى رفعت كفها لثغرها وقبلته طويلا ثم سألته
-هو الحب بيخلى الرجالة قمر أوي كدا؟!
مسح على رأسها ثم طبع قبلة خفيفة و.

-عشان نكون متفقين بس، انت القمر الحقيقي اللي نور حياتي..
وهناك حب يتوهج حد الرماد، هذا ما أدركته بمجاورته، أيقنت أن الحب صانع المعجزات حقًا، شرعت أن تتحدث ولكنه أوقفها وأكمل وهو يتابع الفحص في هاتفه ويعرض عليها صورة ما، طالعته بجهل
-اي دا؟!
-دي شهادة ببراءة عمي صبري، رجعت وفتحت الملف تاني، واتكلمت مع مُهجة واعترفت إن ابوكي بريء والتهمة متلفقة.
-مهجة عملت كدا!

هب الفرح بها من مكانها لترتمي بين ذراعيه باكية بفرح
-أنت عملت كل دا أمتى، هشام انا هفضل احبك لاخر نفس فيا، بات الحب يتراقص بكيانها، يضرب كل جزء بها دون ترجمة ذلك، ظلت معلقة بحضنه طويلًا وهى تملأ صدرها من عطره ولم تكتف، اصبح قربه ادمانها الوحيد، طوق خصرها ممازحًا
-طيب نلم دورنا احنا في بيت ناس.

دب الحماس في قلبها وخطفته من مكانه كطفلة شقية ووقف الاثنان أمام المراة، اتكأت على صدره باسترخاء، ورمقته بالمرآة التي تعكس صورتهم
-أنت النهاردة جبت الدنيا كلها بين إيديا، متخيل انت عملت في قلبي إيه؟
ضمها إليه ووزع قبلاته بعشوائية على شعرها حتى لاطفها بقبلة في جدار عنقها أثارت غيرتها فضحكت صارخة بصوت خفيض..
-استنى اكمل بقا.
-كملي يا ستي.

تنهدت بحرارة وهى تسحب كفه لتضعه فوق بطنها، وتفصح عيونها بشرعية امتلاكها له الأبدي و
-في حاجة مخبياها عليك ليا اسبوع كدا.
انعقد حاجبيه باستغراب
-مخبية ايه؟!
وضعت كفها فوق كفه المستقر على بطنها وقالت
-شكلك كده كسبت رهان زياد!
اتسعت عيونه المنعكسة في المرآة بخوف أن يخطئ الفهم لتلك المرأة التى تحتاجه في لحظة عشق واحدة بزلزال مدمر
-رهان ايه!
ضحكت بصوت مكتوم وهى ترفع كفها لجدار عنقه بولهٍ وقالت بتنهيدة طويلة.

-أنسب هدية ممكن أقدمها لك هى حتة منك ساكنة جوايا، انا حامل يا هشام.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة