قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية الحب أوس الجزء الأول تأليف منال سالم الفصل التاسع والعشرون

رواية الحب أوس الجزء الأول تأليف منال سالم كاملة

رواية الحب أوس الجزء الأول تأليف منال سالم الفصل التاسع والعشرون

( الجزء الرابع من ذئاب لا تعرف الحب )

انسابت عبراتها عفويًا وهي تشدد من ضمتها الحنون لوالدتها الجالسة على المقعد المتحرك ليسهل دفعها حتى مهبط الطائرة، ظلت "تقى" منحنية عليها رافضة تركها محاولة استيعاب أنها ستسافر خارج البلاد بدون وجودها معها، اعتدلت في وقفتها مكفكفة دمعاتها بظهر كفها، تحولت نظراتها نحو والدها ذو الوجه البشوش، رسمت ابتسامة باهتة على محياها وهي تراه يُطالعها بنظراته الحنون التي تهون دومًا عليها الكثير، تحركت خطوة واحدة لتغدو قبالته، ثم أردفت قائلة بصوتها المنتحب:
-بابا.

فتح "عوض" ذراعه كإشارة ضمنية لرغبته في استقبالها في أحضانه، ارتمت "تقى" على صدره تبكي بحرقة أشد، ربت والدها على ظهرها برفق وهو يعاتبها برفقٍ:
-ماينفعش كده يا بنتي
استندت برأسها على كتفه بعد أن قبلته قائلة له:
-غصب عني والله، أنا مش قادرة أصدق إنكم هتسافروا من غيري و...
قاطعها موضحًا بصوته الرزين:
-للضرورة أحكام، وكله عشان خاطر أمك.

تابع "أوس" الموقف العائلي في صمتٍ دون أن يبادر بأي تعليقٍ مكتفيًا بإملاء تابعه المتواجد خلفه بأوامره الصارمة بشأن الملازمة الدائمة للعائلة في كل المواقف حتى تنتهي الرحلة العلاجية، انسلت "تقى" من حضن أبيها لتنظر إليه بعينيها الباكيتين ثم أضافت بنشيجٍ:
-كان نفسي أكون معاكو
رد مبتسمًا:
-سبيها على الله، احنا قاصدين وجه كريم، وربك عليه جبر الخواطر
علقت عليها "تهاني" الواقفة بجوار أختها:
-يا "تقى" إنتي ظروفك تمنعك من السفر، ربنا يكملك على خير ويقومك بالسلامة
التفتت نحوها لترد:
-بس يا خالتي ...

قاطعتها مؤكدة:
-أنا موجودة معاهم، ورجلي على رجلهم، مش هايكونوا لواحدهم أبدًا، وبعدين "فردوس" أختي قبل ما تكون أمك
مصمصت أختها شفتيها قائلة بتبرمٍ وبوجهٍ خالٍ من التعبيرات:
-قوليلها ياختي، بدل المناحة اللي هي عملها،
ثم أخرجت زفيرًا مهمومًا من صدرها لتكمل بعدها برجاءٍ:
-ده أنا مستنية اليوم ده من زمان، نفسي أرجع أشوف تاني، ومحدش كان حاسس بيا، بس نقول إيه، الحمدلله!
أثرت كلمتها الأخيرة في نفس ابنتها التي جثت على ركبتيها أمامها، مدت يديها لتمسك بكفيها وهي تقول بتفاؤلٍ رغم صوتها الحزين:
-إن شاء الله هايحصل يا ماما.

ورغم امتعاض وجه "أوس" من أسلوب "فردوس" المستفز في استجداء شفقة الآخرين وتعاطفهم باستغلال مرضها إلا أنه تمالك أعصابه وضبط انفعالاته بشكل جيد ليبدو هادئًا أمام طريقتها الرخيصة، اقترب من زوجته ثم وضع قبضتيه على كتفيها ليجبرها على النهوض من جلستها غير المريحة والتي ربما تؤذيها بشكلٍ ما ثم هتف محذرًا بلهجته الجادة:
-خلاص بقى يا حبيبتي، أنا قايلك إني باعت معاهم حد ثقة هيخلص كل حاجة، ده غير إنه هيتواصل مع الدكاترة هناك ويبلغني بالجديد، فمتقلقيش
أدارت رأسها في اتجاهه لتنظر في حدقتيه الحادتين، همست له بامتنانٍ:

-ربنا يخليك ليا يا "أوس"، بس صعبان عليا ...
قاطعها هامسًا بجديةٍ:
-ششششش، ولا كلمة زيادة
انتبه جميعهم لصوت المذياع الداخلي الذي أعلن عن الاستعداد لاستقبال المسافرين، هنا تأهبت حواس "تقى" وبدت أكثر حساسية لتوديع أبويها وخالتها، وضع "عوض" كفه المجعد على ذراع ابنته مشددًا:
-خدي بالك من نفسك يا بنتي
أومأت برأسها هاتفة:
-حاضر يا بابا، وطمنوني أما توصلوا
ابتسم مرددًا:
-بإذن الله!

ودعتهم مرة أخرى وظلت واقفة في مكانها تتابعهم وهم يتجهون نحو الداخل بنظراتها الحزينة التي امتزجت مع عبراتها حتى اختفوا وسط الزحام، تنهد "أوس" قائلاً بتجهمٍ بسبب إصرارها على البكاء المتواصل:
-اهدي يا "تقى"، مش كده!
ردت عليه بتوجسٍ معكوس في نبرتها:
-أنا خايفة أوي عليهم، أول مرة مكونش معاهم في حاجة خطيرة زي دي، ده غير إني المفروض أكون جمب ماما في عمليتها و...

ضجر "أوس" من شكواها المتكررة بنفس الأسباب التي مل من سماعها طوال الفترة الماضية ليقاطعها بتذمرٍ:
-وأنا قولتلك هما تحت عينيا ومش سايبهم للحظة
كانت على وشك الرد فأوقفها قبل أن تنطق آمرًا:
-ويالا بينا من هنا، وقفتنا مالهاش لازمة.

كان محقًا في ذلك، فلم يعد هناك حاجة للبقاء في مكان خلى من وجود عائلتها، استدارت سائرة بخطوات بطيئة غير منتبهة إلى أين تخطو، كادت أن تتعثر في مشيتها وتنكفئ على وجهها، لكن أسندها زوجها جيدا من خصرها في ردة فعل تلقائية، شكرته هامسة لكن بدا وجهه عابسًا للغاية ونظراته مزعوجة على الأخير، أشار "أوس" نحو قدميها متسائلاً بصرامةٍ:
-هو مش الدكتورة قايلة ماتلبسيش كعب؟
أخفضت نظراتها لتحدق هي الأخرى في حذائها ثم عللت له بترددٍ:
-ده 2 سم بس، يدوب ملامس الأرض.

علق عليها بوجهه الحانق:
-وده مبرر يعني؟ مش هي قايلة حاجة رياضية ومريحة
ازدردت ريقها لتقول:
-أصلي كنت مستعجل...
قاطعها قبل أن تختلق عذرًا لتبرر تصرفها قائلاً:
-"تقى"، دي آخر مرة أشوفك لابسة كعب لحد ما تولدي، مفهوم؟
ضغطت على شفتيها قائلة بعدم رضا:
-طيب
حل الصمت بينهما طوال سيرهما إلى خارج المطار وحتى أثناء جلوسهما معًا في السيارة، لم تحاول "تقى" كسر الجمود السائد في الأجواء بسبب قلقها الواضح على عائلتها، في حين اكتفى "أوس" بالقيادة مركزًا حواسه على الطريق أمامه ليتجاوز تصرفها الطائش الذي ربما يضيع جنينهما في لحظة رعونة غير مدروسة.

نفخت مطولاً وهي تعيد جسدها للخلف لتستند على ظهر الفراش، أزاحت "ليان" حاسوبها المحمول عن قدميها لتفركهما بعد أن شعرت بالتنميل يغزو ساقيها بسبب استخدامها له لوقت طويل للانتهاء من التكليفات الخاصة بموادها الدراسية، تثاءبت بإرهاق وأغمضت عينيها لتستسلم للنعاس الذي بدأ يغلف جفنيها بعد أن تملكها التعب والإرهاق من كثرة الاستذكار مؤخرًا، انتفضت فجأة كاتمة شهقة عفوية انفلتت من بين شفتيها لتتحول لصرخة فزعة حينما هتف "عدي" عاليًا:
-"ليوو"..

نظرت له بغيظٍ وهي تسأله:
-في إيه يا "عدي"؟ خضتني أوي!
دنا من الفراش لينحني نحوها جاذبًا إياها من يدها قائلاً بغموضٍ آمر:
-تعالي معايا
لم تستطع مقاومة اندفاعه الحماسي فانساقت خلفه متسائلة بقلقٍ:
-حصل حاجة؟
أجابها باقتضاب ضاعف من ريبتها:
-تعالي بس
حاولت "ليان" اللحاق بخطواته الراكضة قاصدة مقاومته عله يتباطئ في هرولته وهي تحذره بنرفزة طفيفة:
-يا "عدي" في إيه؟ متجرجرنيش وراك كده.

أدار رأسه في اتجاهها دون أن يتوقف عن السير المهرول ليترسم على وجهه بسمة متشوقة، غمز لها قائلاً:
-هتفهمي دلوقتي
تبعته مضطرة حتى أوقفها أمام تلك الحجرة المغلقة، استدار كليًا نحوها ليأمرها بجدية:
-غمضي عينيكي
ارتفع حاجبها للأعلى رافضة الانصياع له، كتفت "ليان" ساعديها أمام صدرها تسأله بوجه جاد الملامح:
-ليه؟

رد بإلحاحٍ وهو يحل ذراعيها المعقودين:
-اسمعي الكلام بس وهتفهمي!
تنهدت مرددة باستسلام:
-أوكي
ثم أغمضت عينيها تاركة له مهمة اقتيادها لداخل الغرفة، حذرته بلهجة قلقة وهي تسير بخطواتٍ مرتبكة:
-حاسب لأتكعبل
طمأنها "عدي" قائلاً عن ثقة:
-متخافيش، أنا ماسكك كويس!
سألته بنفاذ صبر بعد مرور عدة ثوانٍ:
-ها أفتح؟
أجابها نافيًا:
-لأ، لحظة بس
ضغطت على شفتيها دون أن تعلق حتى هتف بحماسٍ كبير:
-يالا، فتحي!

استجابت له وفتحت عينيها لتحدق بنظرات جمعت بين الاندهاش والصدمة في الغرفة التي أعدها زوجها لاستقبال مولودهما القادم، جابت بنظراتٍ متأنية أغلب تفاصيل المكان، حيث تم تغيير الطلاء للونٍ أكثر بهجة وراحة للأعين، وتزيين الحوائط بملصقات للأطفال، ووضع ستائر مطبوع عليها رسومات طفولية، ناهيك عن كم الألعاب المناسبة للعمر الصغير، والسجاد المرسوم عليه شخصيات كرتونية شهيرة، انفرجت شفتها السفلى كتعبير عن دهشتها واستغرابها لقيامه بمثل تلك الأمور دون علمٍ مسبقٍ منها، تأمل "عدي" بشغفٍ ردة فعلها متسائلاً بفضولٍ زائد:
-ها إيه رأيك؟

ردت بتعجبٍ ونظراته مشغولة بتأمل ما أعده:
-إيه ده؟ إنت لحقت تعمل ده امتى؟
-كل يوم كنت بأعمل حاجة قبل ما ترجعي من كليتك، حبيت أفاجئك
لم تعلق عليه وظلت تدور بعينيها في الغرفة، توجس "عدي" خيفة من احتمالية عدم قبولها للتغييرات التي أحدثها فهتف بنزقٍ:
-لو مش عجباكي الألوان أو الديكورات ممكن نغيرها
ابتسمت قائلة بنبرة عادية وهي تهز كتفيها:
-حلوين يا حبيبي، أنا بس مستغربة إنك عملت ده كله لوحدك!

امتدت يداه نحو كفيها لتلتقطهما، مسح بإبهاميه على جلدها الرقيق ثم نظر مباشرة في عينيها متابعًا بتنهيدة عبرت عن حبه لها:
-المهم إنهم عاجبينك
بادلته بسمة ناعمة وهي ترد:
-أوي
أضاف بحماسٍ أكبر:
-كمان أنا حاولت أخلي الألوان تمشي مع البيبي سواء كان ولد أو بنت
عادت لتأمل الغرفة من حولها معلقة عليه:
-تسلم بجد
أرخى يده اليمنى عن راحتها ليشير بها وهو يضيف:
-لسه ناقص السرير، بس معايا كام صورة على التاب نختار ما بينهم، يعني ده مأجله شوية لحد ما يبان نوعه إيه
مطت فمها قائلة بإعجابٍ:
-إنت مخطط كويس لكل حاجة.

استقام أكثر في وقفته ليتابع بتلهفٍ لامسته بوضوح في إيماءات وجهه وحركات يديه ونظراته المشرقة:
-إنتي مش متخيلة سعادتي عاملة إزاي وأنا بأجهز بإيدي حاجة البيبي للي جاي، أنا كان ممكن أعيش عمري كله محروم من الخلفة، بس ربنا أكرمني، لأ ومن أكتر إنسانة بأحبها
ردت عليه ببسمة رقيقة:
-ده إنت بقيت شاعري وبتقول كلام زي "أوس" أهوو
كركر ضاحكًا من تشبيهها الأخير ليقول من بين ضحكاته:
-أدينا بنتعلم منه شوية، ما هو الخبير بتاعي!

داعبت "ليان" طرف أنفه بإصبعها مشجعة إياه:
-وماله يا بيبي
أضاف "عدي" مشددًا بجدية:
-عاوزك الفترة الجاية تركزي بس في دراستك عشان تخلصي امتحانات وبعدها نفضى كده ونشوف هنشتري هدوم إيه للبيبي
هزت رأسها بالإيجاب قائلة:
-أوكي
تجولت معه في الغرفة مستمتعة بشرحه لكل قطعة اشتراها من أجل طفلهما القادم، انتبهت "ليان" فجأة لتلك الكتلة الصغيرة التي تحركت من خلف الأريكة الموضوعة عند الزاوية لتختبئ خلف كومة من الوسائد الصغيرة، اتسعت حدقتاها في هلعٍ وهتفٍ بجزعٍ وهي تشير بسبابتها نحوهم:
-في حاجة ماشية هناك!

حاول تركيز أنظاره على ما تشير إليه متسائلاً:
-حاجة إيه؟
صرخت بفزعٍ:
-والله أنا شوفت حاجة، بص كويس
عادت تلك الكتلة الرمادية للركض في لمح البصر لتختبئ بين الدمي الموضوعة في الزاوية المقابلة، استطاعت "ليان" في تلك اللحظة أن تخمن ماهيتها، واصلت صراخها المرتفع وهي تلتصق به لتتعلق بذراعيها في عنقه:
-يااااي، ده mouse (فأر).

ظن "عدي" أنها تمازحه فرد ساخرًا:
-أنا اشتريت بطوط، مجبتش ميكي ماوس لسه
أدركت أنه يستخف بحالتها المذعورة فتجهمت تعبيراتها وهي توصف له ما رأته:
-بأقولك فار حقيقي من أبو ديل وشوارب
رفع حاجبه للأعلى مرددًا بتعجبٍ:
-شوارب؟ جبتي الكلمة دي منين؟!
زفرت هاتفة بنفاذ صبر:
-يوووه، مش وقتك.

ربت على كتفيها محاولاً تخفيف حدة توترها وهو يقول لها:
-اهدي بس!
صرخت فيه بعصبيةٍ:
-اتصرف
هز رأسه مرددًا بمزاحٍ وهو يجاهد للظهور بمظهر الجدية أمامها:
-حاضر، بس إيه اللي جابه عندنا؟
استاءت من استهزائه بها فصاحت بانفعالٍ:
-أنا مش بأهزر، أنا لمحته معدي من هناك
عاد ليحدق في الزاوية التي تشير لها متسائلاً:
-فين بالظبط؟ دي أكيد تهيؤات حمل و...
قاطعته بانفعالٍ:
-أنا مش بأكدب، ده فار، بص كويس!

رد عليها بهدوءٍ وهو يزيح يديها القابضة على عنقه:
-طب إديني فرصة أعرف أتحرك
ضربت بقدمها الأرض بعصبية قبل أن تستدير خارجة من الغرفة بخطواتٍ أقرب للركض:
-لالالا، أنا مش هاستنى هنا
عبث "عدي" بخصلات شعره مرددًا بامتعاضٍ:
-يا "ليوو" استني بس، يعني مش معقول هايجلنا فار
لم تستسيغ تعليقاته المستخفة بخوفها المبرر من تلك النوعية من القوارض فأكملت ركضها نحو غرفة نومها، حذرها بجدية وهو يسير متعجلاً:
-طب بالراحة ماتجريش كده.

ولجت إلى الداخل وأوصدت الباب من خلفها قاطعة على زوجها أي فرصة للحاق بها، ثم قامت بوضع الغطاء أسفل الباب لتمنع دخول أي شيء من عتبته، تعجب "عدي" من ردة فعلها المبالغ فيها، وما زاد من اندهاشه هو صراخها المهدد:
-مش هاقعد هنا ثانية واحدة
وضع يده على المقبض ليفتحه لكنه وجده موصدًا، دق الباب بلطف وهو يرجوها:
-اهدي بس وافتحي الباب
ردت بصراخٍ عنيدٍ:
-لأ، مش قبل ما تشوف صرفة مع الفار ده
زفر معقبًا بيأسٍ:

-بلاش تاخدي الأمور بحساسية، مش هايعملك حاجة يعني، ده فار صغير، حاجة كده ماتشفش!
هتفت باستنكار وقد بدا صوتها أكثر حدية:
-ليه كان من بقية عيلتنا؟
ابتسم وهو يجيبها:
-لأ من القوارض
توعدته بلهجة جادة:
-أوكي يا "عدي"، خليك فاكر إنت بتعمل إيه وأنا في الحالة دي
علق سريعًا مستسلمًا لما تريد:

-حاضر، هاكلم الشركة الألمانية لإبادة القوارض، ها كده هديتي؟
ساورتها الشكوك بمحاولته الفاشلة تلك فهاجمته بتهديد شديد اللهجة:
-إنت بتاخدني على أد عقلي، من الآخر كده يا "عدي" يا أنا يا الفار هنا!
علق ساخرًا:
-هو كان ضرتك ولا اتجوزته عليكي؟
صاحت بكلمة أخافته:
-"عدي".

لم يكن بحاجة للجدال معها، فهناك شعرة رفيعة بين الجدية والهزل مع امرأة في أوج عصبيتها نادت باسمه بصراحة مطلقة، تنحنح مرددًا بعذوبة ليمتص غضبتها:
-أيوه يا حبيبتي
هدرت به:
-اتصرف
رد بامتعاضٍ وهو يفرك ذقنه:
-ماشي، ماهو كائن زي أي كائن دخل عندنا بالغلط!
تحدته بقوة قاصدة استفزاز حميته الذكورية:
-طب اتعامل بقى يا حِمش، مستنية أشوف إنجازاتك العظيمة!
لوى ثغره معلقًا بتهكمٍ:
-فكرك هخاف من بتاع أد كده، معاكي أسد يا "ليوو"!
ابتعد عن الباب مبتلعًا ريقه في حلقه الجاف، حك مؤخرة عنقه متسائلاً مع نفسه بحيرةٍ:
-طب أجيبله قطة ولا أعمل إيه؟!

تحركت بتوترٍ أمام المدخل الرئيسي لمؤسسته العريقة عاقدة العزم على الالتقاء به فور أن يصطف بسيارته على مقربة منها، فبالرغم من معروفه الكبير معها إلا أن شعورها الداخلي بأنها تتلقى نوعًا من الإحساس والعطف أزعجها كثيرًا وأرق لياليها بشكل مستنفر رغم سعادة والدتها بهذا، فتلك النفحات المالية أدخلت عليها السرور وبدت كالإدمان بالنسبة لها على عكسها هي التي سعت جاهدة للتفوق في دراستها دون إرهاق كاهل والدتها بمتطلباتها الدراسية، لكن ما حدث مؤخرًا مع ذلك المقيت "منسي" أربك حساباتها بالكامل وأعادها لنقطة الصفر بل أدنى من ذلك بكثير ليغدو مستقبلها على المحك، ولولا تدخل "أوس" وشهامته لربما ضاعت أحلامها كليًا، تضاعف شعور "هالة" الرافض للتواكل على الغير واستسهال ما يُقدم لها مع إصرار والدتها على طلب المزيد من الأموال بحجة أن ما يمنح لابنتها لا يكفي مع غلاء الحياة.

وما أجج شعورها بالانتقاص والاختلاف هو رؤيتها لذلك الشاب الذي كان يلاحقها على فترات متقاربة ليراقبها مبتسمًا في صمتٍ، فقط كان يستند بجسده على جانب سيارته ليتابعها عن قرب ووجهه مشرق بصورة توترها، كانت ترتبك من حضوره وتشعر بخفقات قوية في قلبها، فسرت الأمر بكون وجوده يثير حفيظتها نظرًا لجرحه لكرامتها بتقديمه النقود لها ليشير لكونها فقيرة معدمة، أحرجها ببساطة ودون أن يشعر أوغر صدرها بهذا الإحساس المؤلم الذي ظلت آثاره محفورة بداخلها ليؤكد لها وجود الفارق الطبقي بينهما، عادت من شرودها المهموم على صوت بوق السيارة المميز، ضمت قبضتها على حقيبتها واستعدت للتحرك نحو "أوس الجندي"، لمحها الأخير وهو يترجل من سيارته، اتجه نحوها مدققًا النظر في ملامحها، ودون انتظار أي بادرة منها للحديث سألها باهتمامٍ:
-بتعملي هنا إيه؟ في حاجة حصلت؟

استجمعت شجاعتها لتجيبه لكنها شعرت بالتوتر من هيبته التلقائية التي تجبر من يُحادثه على الارتباك والخوف، ناهيك عن هروب الكلمات من على طرف لسانها، تابع "أوس" ملاحقته لها بالأسئلة قائلاً:
-ردي عليا، حد اتعرضلك من تاني؟ الكلب "منسي" قرب منك ولا ...؟!
قاطعته نافية بصوتها المتلعثم:
-لأ، أنا كويسة يا باشا
هدأ قليلاً لكن ظلت نبرته صارمة وهو يضيف متسائلاً:
-أومال في إيه؟

أدرك "أوس" أنه ما زال واقفًا عند مدخل مؤسسته وأن حراسته تتبعه بالإضافة لتأهب موظفيه لاستقباله، أشار ل "هالة" بيده آمرًا:
-تعالي معايا، هنتكلم في مكتبي
اكتفت بالإيماء برأسها لتسير خلفه بحذرٍ مختلسة النظرات نحو تلك الأعين الفضولية التي تنظر إليها باستغرابٍ، توقفت أمام المصعد منتظرة فتح بابه ذي اللون الذهبي لتستقله مع "أوس"، كان تركيزها منصبًا على ذلك الأمر البسيط فلم تشعر بذاك الذي وقف خلفها ليقابلها مُصادفة معتقدًا أن حظه الجيد قد خدمه تلك المرة، استدارت لتتفاجئ ب "يامن" أمامها فور أن ولجت للداخل، توترٌ رهيبٌ اعتراها وقد تجمدت نظراتها عليه، همس مبتسمًا:
-إزيك، صدفة حلوة!

وكأن بكلماته المقتضبة لمح إلى صفاء نيته في الالتقاء بها، بدا مستمتعًا للغاية بوجودها وتحولت تعابير وجهه للحيوية، أخفضت نظراتها متحاشية حملقته الجريئة بها، خفق قلبها بقوة وتضاعف اضطرابها حينما وقوف شبه ملتصقٍ بها، أحست بالدماء تندفع في عروقها، وبحرارة غير مبررة تصيب جسدها، رمشت بعينيها في خجل قلق، وزادت من ضمها لحقيبتها وكأنها وسيلتها الوحيدة لإفراغ تلك الشحنة الغريبة من الطاقة غير المفهومة التي انتابتها دون سابق إنذار لتضعها في ذلك الموقف المُربك.

على النقيض كان يشعر "يامن" بسعادة غريبة لتواجده معها وإحساسه بقربها منه، شردت نظراته في تأمل ملامحها الرقيقة وكأن العالم قد خلا إلا من كليهما متناسيًا رغمًا عنه وجود آخر من يرغب في حضوره، ما أفسد لحظته المميزة وأعاده لأرض الواقع فورًا هو قبض "أوس" على ساعده ليجذبه إليه ويجبره على الابتعاد عنها، صُدم الأخير من خشونة ابن عمه معه الذي كان وجهه الصارم التعبيرات أبلغ من الحديث بعشرات المراحل، تمتم باقتضابٍ حاسم:
-هنا أحسن.

تنحنح "يامن" بحرجٍ وهو يطرق رأسه قليلاً بينما أخفت "هالة" ضحكة ساخرة كانت تتراقص على شفتيها من معاملة ابن عمه الأكبر له، ربما تصرف "أوس" الحازم جعل توترها يخفُت قليلاً، ومع ذلك ظلت ترتب في عقلها ما سوف تتحدث فيه معه، تحركت عيناها لتحدق تلقائيًا في وجه "يامن" حينما آمره ابن عمه قائلاً بلهجته غير القابلة للاعتراض:
-ركز في شغلك، أظن إنت فاهمني!
حانت من الأخير نظرة سريعة خاطفة نحو "هالة" قبل أن يغمغم بتبرمٍ:
-حاضر، هو أنا بأعمل حاجة غير الشغل.

اشتعل وجه "هالة" بحمرة جديدة لا تعرف سببها، حاولت تبرير ذلك بأنه لحرجها من اللقاء غير المرتب مع من يسبب لها الإزعاج بتواجده، تحاشت النظر نحوه وركزت أنظارها على نقطة في الفراغ آملة في نفسها أن تسيطر على اضطرابها، تصلب جسدها مع صوت "أوس" القائل:
-تعالي يا "هالة"
تلفتت حولها لا إراديًا فلمحت "يامن" وهو ينصرف منزعجًا، ثم حدقت في وجهه وهي تهز رأسها مستجيبة لأمره، سارت خلفه حتى غرفة مكتبه باحثة عن الجملة المناسبة التي تستطرد بها الحديث معه، صاح "أوس" في سكرتيرته يأمرها بحزمٍ:
-مش عايز حط يقاطعني لحد ما أخلص مع الآنسة!

-تمام يا فندم
قالتها الأخيرة بابتسامة لبقة وهي تومئ برأسها انصياعًا له، تشجعت "هالة" للمضي قدمًا وولجت إلى الداخل متخذة المقعد الموجود على يسارها لتستوي عليه، جلس "أوس" في مواجهتها مسلطًا بصره الحاد على وجهها المرتبك، أردف قائلاً بهدوئه الذي يعيث في نفسها الاضطراب:
-اتكلمي، أنا سامعك
شعرت "هالة" بجفافٍ في حلقها، لكنها مضطرة للبوح بما عقدت النية عليه، لم تجرؤ على النظر إلى وجهه الذي كان مبهم التعبيرات، تنفست بعمقٍ لتقول له وهي تضغط بقوة على مفاصل أصابعها:
-أنا مش عاوزة حضرتك تساعدني تاني ...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة