قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل السادس

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل السادس

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل السادس

دلفت الى غرفتها المشتركة مع شقيقتها لتفاجئ بها وهي تنهي ارتداء ثيابها على عجل، اقتربت منها وهي تتساءل بحيرة:
- إيه دا. أنتي خارجة يا نجوان؟
رفعت نجوان رأسها وكانت تنحني لارتداء حذائها فتهدلت خصلاتها النحاسية حول وجهها وأجابت وهي تزفر بعمق:
- أيوة يا سلمى، هقابل حمزة، لازم أشوف حل للموضوع دا...

ونهضت بعدها متجهة الى مرآة الزينة لتجمع شعراتها الثائرة في ربطة مطاطية كذيل فرس يتطاير خلفها بينما وقفت سلمى خلفها تطالع وجه أختها المنعكس أمامها في المرآة قائلة بيأس:
- يا بنتي أنت ليه مصرة أنك تعاندي بابا؟ أنت عارفة ومتأكدة أنه بابا مش ممكن يرجع في كلمة قالها أبدا.

التفتت لأختها هاتفة باعتراض وألم: - وأنا يستحيل أعمل حفلة وكتب كتاب وأفرح وصاحبتي في لظروف اللي هيا فيها دي!، سلمى أنا مش ممكن هتمم أي حاجة إلا بعد الغمّة اللي عند ريما ما تنزاح، اللي هما فيه مش سهل أبدا، دي كارثة بجميع المقاييس، وأظن كلكم عارفين مين هي ريما بالنسبة لي، وبابا عرف دا كويس أوي، يبقى ليه الاعتراض أنا مش فاهمه؟

تركتها متجهة لتناول حقيبتها القماشية لترتديها بطريقة عكسية فيما أجابت سلمى بصبر:
- انت عارفة أنه عمرو تقريبا خلّص أوراق البعثة وهنسافر في خلال شهر، ومش هينفع نأجل كتب الكتاب، دا غير أنه بابا عاوز يفرح بينا احنا الاتنين سوا، وأنا متأكدة أنه ريما هتقدر الظروف ومش هتزعل.

كانت نجوان تقف أمام الباب تهم بالخروج عندما التفتت الى أختها قائلة بحسم: - لكن أنا هزعل وأنقهر كمان لو فرحت وصاحبتي في قمة حزنها، دا غير أنه ريما مش ممكن هتحضر لا كتب كتاب ولا فرح، وأنا مش ممكن أتجوز ممكن غيرها.

هتفت سلمى بيأس: - هي كانت ريما هي العريس وأنا مش واخده بالي؟ يعني ايه مش هينفع تتجوزي من غيرها دي؟

نجوان بجدية شديدة: - رُبّ أخ لك لم تلده أمك!، وريما أختي زيّك بالظبط، وعموما ما تقلقيش كتب كتابك وفرحك هيبقوا في معادهم تمام، أنا اللي هأجل، ولو بابا مصر يرفض وحمزة مش مقتنع يبقى بلاها منها الجوازة دي خالص!

وانصرفت دون أن تنتظر سماع رد سلمى على تصريحها الناري بينما هتفت الأخيرة بقلق تناديها ولكنها لم تلتفت اليها لتتمتم سلمى بقلق:
- شكلك مش هتجيبيها لبر يا نجوان، ربنا يستر.

أنتظر حتى وضع النادل الطلبات على المائدة أمامهما وما أن أنصرف حتى أشار لها قائلا:
- ممكن ناكل الأول وبعدين نتكلم؟ أنا ما حطيتش لقمة في بؤي من الصبح...
شعرت نجوان بالخجل فهي من أصرّت عليه لتقابله بعد انتهاء دوامه المدرسي وعندما عرض عليها زيارتها في المنزل في المساء رفضت وبإصرار فهي لا تريد أن يعلم والدها ما هي بصدد قوله له، قالت نجوان باعتذار رقيق:.

- أنا آسفة يا حمزة معلهش، جبتك على ملا وشّك كدا، بس كنت لازم أشوفك برّه البيت، مش هينفع أأجل أكتر من كدا!

حمزة بهدوء: - عشان موضوع كتب الكتاب صح؟
أومأت بالايجاب ليستدرك قائلا: - طيب ناكل الأول وبعدين نتكلم، على فكرة المحل دا أحلى مكان تاكلي فيه سندوتشات شاورما وكبدة ومخ. صغير صحيح، لكن أكله تحفة، جربيه وهتدعيلي.

رفعت شطيرتها بتردد لتقضم منها قضمة صغيرة فيما عقلها منشغل بما ستتحدث معه بشأنه، فهي لن يهدأ لها بال حتى تضمن مؤازرة حمزة لها، تماما كما كان يفعل وهما صغار، قالت نجوان ولم تستطع احتمال الصمت أكثر من ذلك:
- حمزة بخصوص معاد كتب الكتاب، أنا مش...
وضع حمزة شطيرته مكانها ورفع عينيه لها قائلا بهدوئه المعتاد: - أظن اننا اتكلمنا في الموضوع دا قبل كدا يا نجوان وقلت لك...

قاطعته نجوان في حيرة: - اتكلمنا قبل كدا؟ أنا أول مرة أفتح معاك الموضوع دا دلوقتي!
جاء دوره ليقطب في عدم فهم متسائلا: - انتي مش اتكلمتي معايا في موضوع جوازنا و...

قاطعته نجوان رافعة يدها وهي تقول بابتسامة فهم: - لا يا حمزة انت فهمتني غلط!، أنا مش هتكلم تاني في موضوع ارتباطنا، اللي أنا عاوزة أقوله لك وأتمنى أنك تساعدني فيه هو أني مش عاوزة أكتب لكتاب وريما صاحبتي في ظروفها اللي أنت عارفها دي، بابا رافض خالص، وأنا مش ممكن أفرح أو أعمل أي حاجة وريما ما تكونش معايا وجنبي...

خيّل إليها أنه تنفس الصعداء ليتبين لها عدم صحة اعتقادها وهي تراه يجيب ببساطة: - أنا كمان مش ممكن أرضى أنك تحتفلي من غيرها، وخصوصا وهي في الظروف اللي مصر كلها بتتكلم عليها دي، بس كمان بابا انهرده الصبح قالي أنه خلاص أكّد حجز الجامع اللي هنكتب فيه، وباباك أكّد له على المعاد، خصوصا وأنه عمرو عاوز قسيمة الجواز عشان يستكمل أوراقه هو وسلمى للبعثة.

زفرت نجون بيأس وقالت وهي تسند وجنتها على قبضة يدها اليمنى بأسى: - طيب والحل يا حمزة؟ بجد أنا هعيّط يا لو ريما ما حضرتش.
ابتسم حمزة وقال بينما غشت عينيه لمحة حنان ودفء: - طيب احنا ممكن نوصل لحل وسط.
قطبت نجوان متسائلة: - دا اللي هو إزاي يعني؟ نكتب نص كتابة؟
لم يستطع حمزة كتم ضحكته التي انطلقت بمرح رجولي جلب بسمة خفيفة الى شفتيها العنبريتين ليقول بعدها وآثار ضحكته لا تزال في صوته:.

- لا يا ستي، احنا هنكتب مع أخويا وأختك.

همّت بالاعتراض ليرفع يده باسطا راحته أمامها قائلا: - اصبري بس، هنكتب معهم لكن الفرح هيبقى بعد ما ربنا يفك كربهم ان شاء الله، يبقى من ناحية أبويا وعمي فرحوا باولادهم سوا زي ما هما عاوزين، ومن ناحية تانية عمرو يمشي في أوراقه من غير تأخير، ومن ناحية تالتة والأهم. أنه ريما تحضر فرحنا، لانه كتب الكتاب هيبقى في الجامع بس، عشان الاشهار والاحتفال هيبقى يوم الفرح، صحيح فيه ناس هتيجي بس على الأقل هتحضر الفرح زي ما أنت عاوزة وعشان متعيطيش يا نوجتي!

ما أن سمعت اسم تدليلها والذي كان يلقبها به في السابق، حتى ارتسمت ابتسامة ناعمة على ثغرها المكتنز فهو لم يكن يناديها إلا به. نوجتي. فهو من عشاق حلوى النوجة. وانتقل لها هذا الشغف، لتصبح حلواها المفضلة...

بقعتين حمراوين زيّنا وجنتيها بينما قالت بصوت رقيق: - وأنا موافقة، بجد أنا مش عارفة أشكرك إزاي، لكن كنت حاسّة ومتأكدة أنك اللي هتحلالي، دايما كنت بتحللي أي مشكلة تقابلني.

حمزة بابتسامة هادئة: - فاكرة يا نجوان؟ أي مشكلة في المدرسة أو مع حد من أصحابك أو قرايبنا ما كنتيش بتشتكي غير ليا أنا وبس.

نجوان بابتسامة أسرت نظراته رغما عنه: - كنت الهيرو بتاعي يا حمزة...
حمزة متسائلا بطريقة عادية بينما نظراته يشوبها الغموض: - كنت؟!
نجوان وهي تحرك كتفيها ببساطة غافلة عن عينين تلمعان ببريق كالألماس الأسود ترصدان حركاتها وسكناتها:.

- يعني. تقدر تقول أنك كنت وما زلت حلّال العقد بالنسبة لي، أنما هيرو دي، بيتهألي كانت نظرة طفلة، كبرت الطفلة دي وعرفت أنه مافيش حاجة اسمها هيرو. دا كان في أفلام الكارتون اللي بتتفرج عليها وبس...

حمزة وهو يرفع كأس العصير: - بس أنا أقدر أثبت لك أني هيرو...
نجوان ساخرة: - إيه هتعمل زي ما عملت زمان، وأنا مصممة أنك هيرو ولازم تطلع شجرة التوت الكبيرة اللي كانت في البلد، عشان تجيب لي التوت من عليها؟..

حمزة بتواطؤ: - وطلعت وجبته وأكلت علقة لما عمك الحاج توفيق شافني ولا لأ؟
ضحكت نجوان بنعومة وقالت باستفزاز: - تستاهل. حد قال لك تسمع كلام عيّلة صغيرة؟ المفروض أنت اللي تعقّلني مش أنا اللي أجننك!

خبت ابتسامته قليلا وهو يقول بينما عيناه تطالعانها بنظرات شعرت معها ولأول مرة بالخجل منها دون أن تعلم السبب:
- لكن أنتِ طلعت أشطر. وجننتيني فعلا!
هربت بعينين مترددتين من نظراته اللحوحة، لتحين منها نظرة الى ساعتها اليدوية فشهقت قائلة:
- معلهش يا حمزة، أنا لازم أمشي، أتأخرت أوي، بابا هيقلق عليّا.
حمزة بتساؤل: - هو عمي ميعرفش أنك معايا؟

نفت نجوان بهزة من رأسها موضحة: - خفت أقوله يفهم أنا عاوزة أشوفك ليه فيرفض، عشان كدا مارضيتش انك تجيلي البيت، لأنه كان هيتدخل ومش هيوافق على كلامنا.

حمزة وهو يشير للنادل لاحضار الفاتورة: - تمام، بس متعملهاش تاني، احنا مش بنسرق، أنا في الاول والاخر ابن عمك، هروّحك وأطلع أسلّم عليه ومش هقوله حاجة دلوقتي، عشان ميفتكرش أننا بنتفق من وراهم، هفاتح بابا الأول في الموضوع، وهو اللي هيبلغ عمي ووقتها أعتقد أنه مش هيعترض...

حضر النادل بالفاتورة ليدفع حمزة الحساب ويترك بقشيشا سخيا له، قبل أن ينهض تبعته نجوان واتجها الى الخارج ليستقلا سيارته كي يوصلها الى منزلها، ولأول مرة وهي تركب بجواره ينتابها شعور بالفخر بأنها ولو كان ارتباطها بحمزة ارتباطا تقليديا فهي تشعر بالأمان والحماية معه، بل تشعر به سندا قويّا لها فهو لم يُخب ظنّها وتفهّم أسبابها دون أن تحتاج لشرح أو تفسير، لتبتسم بشرود وقد طرأ على ذهنها خاطر أنه. لا يزال. بطلها! ...

وقف ببرود تام، وهو في قمة الثبات النفسي، بينما أخذ ذلك الضابط يطالعه بنظرات متفحصة، وكان ذلك الأخير ومنذ قدومه الى هنا وهو يقضي معه معظم ساعات اليوم في تحقيقات مستمرة تكاد تخرجه عن هدوئه، خاصة وهو يمعن في تحدّيه واستفزازه ليفقد رباطة جأشه، وكأنه يشن حربا نفسيّة عليه، أو كأنه يأخذ على عاتقه أمر إخراجه عن طوره، ولكن إن صح حدسه فهو بذلك يكون مخطئا وبشدة. فليس أدهم شمس الدين من يفقد ذرة من تماسكه وثباته الواضح، خاصة وأنه بريء من تلك التهمة القذرة براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وسيعلم من هو الفاعل الحقيقي، يقسم أنه سيجده. وحينها. سيجعل تمني الموت رفاهية بالنسبة له ولن يطولها لما سيفعله به. ليس هو كبير عائلة شمس الدين من يترك مجرم حقير ينجو بفعلته، فعقابه سيكون سريعا و، باترا!

وقف الضابط صقر أمامه يلوك بأسنانه خلة أسنان خشبية قبل أن يخرجها ويمسك بها بين اصبعيه السبابة والابهام ويقول باستفزاز: - امممم، يعني انت لسّه مُصرّ أنك متعرفش المبالغ النقدية دي اتحولت للحساب المشبوه دا إزاي؟
أومأ أدهم بنعم مجيبا ببرود: - تمام، أنا ما حاوّلتش أي مبالغ لأي حساب في البنك دا.
صقر وهو يطالعه بنصف عين: - حد غيرك يقدر يوصل لكارد البنك أو على الأقل يعرف الباس وورد بتاعك وأرقام الكارد!

أدهم بجمود: - لأ!
صقر بابتسامة شريرة: - ولا. المدام!
ليلتفت رأس أدهم كالقذيفة إليه وهمّ بالصراخ فيه يأمره بألا يأتي على ذكر ريتاجه، لولا أن تمالك نفسه في اللحظات الأخيرة، فهو يشعر بأن هذا الضابط يدفعه دفعا لفقدان تماسكه، بل وأنه يبدو كمن ينتظر ولو خطئا صغيرا منه، ويكاد يجزم أن هناك أحدا ورائه هو من يجعله يعمد الى استفزازه واثارة حفيظته بهذا الشكل المغيظ!

قال أدهم بعنف مكبوت وعيناه تلمعان بغضب عنيف: - لو سمحت، مراتي خارج الموضوع خالص!

صقر هادرا بأمر: - لا معلهش بقه، مراتك دي هناك في بيتك. لكن احنا هنا قودام قضية أمن وطني، عارف يعني إيه أمن وطني؟ يعني مراتك وابنك وبنتك وكل واحد في عيلة شمس الدين مشتبه فيه بالنسبة لنا، إذا كان كبيرهم اللي هو حضرتك يبقى المتهم الأول في قضية 99% هو الجاني فيها، يبقى لازم كل أفراد عيلتك الكريمة يبقوا تحت عينينا ومشتبه فيهم كمان، واحنا بس اللي نحدد ونقول مين اللي بره الموضوع ومين المغروز فيه زيك كدا يا، أدهم بيه!

زفر أدهم وهو يفرك وجهه براحته، أسبوع إلى الآن وهو يكاد يجن، فبعد أن حكم قاضي المعارضات بحبسه خمسة عشر يوما على ذمة القضية، وهو هنا في هذا السجن، لم يرى أحدا من عائلته، فقد أخبره المحامي أن استخلاص إذنا بالزيارة ليس سهلا خاصة وأنه متهم في قضية خطيرة كهذه، ولكنه وعده أنه سيحاول استصدار إذنا بزيارة ريتاج له، فعلى كلام رضا المحامي فهي قد قلبت الدنيا ولم تقعدها ما أن علمت بحقيقة التهمة الموجهة إليه، وقامت بالتواصل مع أكبر الشخصيات بالبلد، ولا تزال تحاول جاهدة الوصول الى الجاني الحقير، وكم يخشى عليها من تهورها، ما جعله يطلب من المحامي أن يجعل إذن الزيارة باسم ابنه مراد فهو يريد رؤية الأخير كي يوصيه أن ينتبه إلى أمه جيدا، فهو خير من يعلم أن متمردته تنقلب وبكل سهولة الى متهورة ما أن يصل الأمر إليه!..

سكت أدهم يطالعه بجمود قبل أن يتحدث ببرود قائلا: - بصرف النظر أنه حضرتك بتحاول تستفزني، وانك وبأي طريقة عاوزني أنفعل ليه معرفش، لكن أعتقد أنه فيه نقطة مشركة بيننا احنا الاتنين!
صقر ساخرا: - أنت قصدك تقول حد مسخني عليك مثلا؟!

ليهدر بعدها غاضبا: - حد قال لك عليا ضابط بشُخليلة؟، أنا هنا عشان أحقق مع المتهمين والمجرمين، ولو كنت فاكر عشان انت رجل أعمال برّه فالمفروض ليك معاملة خاصة هنا تبقى غلطان، انت جايز تكون رجل مهم برّه لكن أنت...
واقترب منه مواصلا بصوت كالفحيح: - مجرم حقير. جوّة!

نظرة، فقط نظرة من عيني أدهم جعلت فرائص الضابط ترتبك لأقل من ثانية، تمالك بعدها نفسه بصعوبة، بينما أدهم كان يقسم بداخله أن انتقامه سيكون عسيرا ممن زجّ به في تهمة. الحقارة أقل ما يصفها!، ليقول أدهم ببرود صقيعي جعل صقر يطالعه بذهول لمدى تحكمه في أعصابه: - لو حضرتك خلصت وصلة التحقيق - قالها ساخرا وكأنه يعني الاستهزاء والتقريع ثم واصل - ممكن بقه تجاوبني على سؤالي؟

نظر صقر إليه بتساؤل فأردف أدهم: - احنا في الأول والآخر هدفنا واحد، اننا نوصل للمجرم الحقير زي ما قلت!
صقر باستهزاء: - إيه، هتلبسها لواحد تاني غيرك؟
أدهم ببرود: - ألبسّها إزاي وانتم معكم بالادلة والمستندات الفلوس اللي اتحولت من رصيدي للحساب المشبوه.
صقر بريبة: - عاوز تقول إيه؟
أدهم بعينين تلمعان ببريق مخيف: - عاوز أقول أنه الحساب بتاعي في البنك اتهكر!

نظر اليه صقر بغير تصديق بينما واصل أدهم بصوت ينذر بالشر أن صحّت ظنونه: - ومش بس الحساب البنكي بتاعي. لا، الايميل بتاعي كمان، لأني في آخر تحديث ليا لبياناتي في البنك عملت الايميل هو اللي يستقبل كل اشعاراتي البنكية، من سحب وتحويل وخلافه!

صقر بتفكير عميق: - انت قصدك أنه...
أدهم ببرود ينافي النيران التي تتصاعد من أعماق مقلتيه: - أنها عملية قرصنة، قرصنة اليكترونية، وبكل معنى الكلمة!..
وترك صقر يعيد التفكير في كلامه بينما اسما وحيدا ظل يتردد في ذهن أدهم أو بالأدق اسميْن طلب من رضا المحامي أن يتحرى عن أية علاقة تربط بينهما ألا وهما شريف المسيري و، سعيد الكيلاني!..

ركض فريد الى الباب كي يفتح لمن يقف بالخارج يقرع الجرس بينما وصله صوت والدته ينهره قائلا:
- استنى يا فريد ما تفتحش لما نشوف مين الأول...
كان فريد قد أسرع وفتح الباب حينما قدمت من الداخل تقول ولم تنتبه لذلك الضخم الواقف أمام ابنها:
- أنا مش قلت استنى...

وبترت عبارتها حينما شاهدت جسما يحتل حيز الباب أمامها لترفع وشاحها التي ألقته باهمال على كتفيها قبل أن تركض للحاق بابنها تغطي شعرها، ولم تكن قد تبينت ملامح لوافد بعد، ليتحدث الأخير بنبرته الخشنة قائلا:
- إزيك يا أم فريد...
ارتفع حاجبي منال عاليا في دهشة قبل أن تتدارك نفسها وتقول مرحبة بالضيف: - أهلا وسهلا يا هشام، حمد لله على السلامة، اتفضل...

دلف هشام ومال يضع حقيبة سفره جانبا قبل أن يغلق الباب ثم مد يده الى فريد الواقف يطالعه في حيرة:
- مش هتسلّم عليّا يا أستاذ فريد ولا إيه؟
قالت منال مبررة ببسمة اعتذار رقيقة: - معلهش يا هشام، ماشفكش (لم يرك) من سنتين وأكتر تقريبا.
ثم التفتت الى ابنها متابعة بحنان: - سلّم على عمو هشام يا حبيبي. أخو بابا...
رفع فريد عينين مندهشتين مرددا وهو ينظر الى تلك الهيئة لضخمة أمامه بذهول: - عمو!

هشام بابتسامة خفيفة بالكاد ارتفع لها طرف فمه الحازم: - أيوة يا عم فريد، هفضل مادد إيدي كتير كدة؟..
سارع فريد بهتاف طفولي سعيد: - عمو!
ليفاجأ هشام ويباغت منال باحتضانه لساقيه بقوة، فما كان من هشام إلا أن مال على جذعه ليرتفع مرة ثانية وهو يحتضن ابن أخيه بين ذراعيه، ليقول الصغير بنصر ما جعل الذهول يتملك من منال:.

- أنا فرحان أوي أوي يا عمو، كدا صحابي هيشوفوك، وانت بتوديني الحضانة، وتيجي تجيبني منها. ثح؟!

ألم قوي شعرت به منال ينغز قلبها وهي تسمع وحيدها، فمن الواضح أن هذه أمنيته لتي ظل يكتمها في صدره عنها، لتكتشف أن فريد قد بدأ يعي يتمه المبكر، مفتقدا معنى وجود الأب في حياته!

سمعت هشام يقول بجدية هادئة: - اممم. انت بتروح الحضانة؟
أومأ فريد بالايجاب فتابع هشام أسئلته: - شاطر على كدا بقه ولا خايب؟
فريد باعتراض على وصفه بال خايب: - شاطر طبعا يا عمو، طالع لبابا.
ثم وجه حديثه لأمه: - ماما دايما بتقول لي أني شبه بابا في كل حاجة، يبقى أكيد كمان شاطر زيّه. مش كدا يا ماما؟

منال بهدوء محاولة مغالبة دموعها التي تهدد بالنزول: - أكيد يا حبيبي.
ثم أردفت رغبة منها في الابتعاد عن هذا المشهد الذي أثار شجونها وآلامها فكثيرا ما تخيلت فريد بين يدي زوجها إن كان قُدّر له الحياة:
- انزل بقه عشان عمو أكيد جاي تعبان، أنا هروح أنادي ماما أنعام...

وانصرفت لتنادي حماتها والتي ولا شك لم تسمع صوت الجلبة الواضحة نظرا لوجودها في غرفتها تنعم بوقت قيلولتها المعتادة، وما هي إلا دقائق حتى كانت أمه تأتي بخطوات متعثرة، فلا جسمها ولا حالتها الصحية سمحت لها بالركض الى ابنها، فيما هتفت هي بسعادة لرؤية الأخير:
- هشام ابني حبيبي...

أسرع هشام بوضع فريد على الأرض ثم خطا الى والدته سريعا محتضنا إياها مقبلا ظاهر يدها، وهو يقول بفرحة قلّما ترتسم على ملامحه الجادة دوما:
- ازيك يا أمي، عاملة إيه؟
أنعام وهي تتلمس وجهها بين راحتيها بحنان فيّاض: - أنا بخير يا حبيبي طالما شوفتك تاني، ياااه يا هشام، سنتين يا بني مش أشوفك ولا كأننا في نفس البلد؟..

هشام بالكاد ارتسمت بسمة على شفتيه وهو يقول: - معلهش يا أمي، أنتي عارفة شغلي الأجازات فيه صعبة إزاي، وبعدين أنا كتير طلبت منك تيجي تقعدي معايا يومين في أسيوط وأنت كنت اللي بترفضي؟

أمه بعتاب: - آجي وأسيب مرات أخوك وأبن أخوك لوحدهم؟ ينفع دا؟
لتنتبه لشيء غريب فقطبت متسائلة بحيرة: - صحيح. أنت جيت لوحدك ولاّ إيه؟ فين ليلى؟
هشام وقد غابت ابتسامته تماما: - ليلى وصّلتها عند أهلها قبل ما آجي على هنا...

أنعام بابتسامة لائمة: - طيب مش كنت جبتها معاك يا ابني أشوفها وأسلم عليها الأول وبعدين راحت عند مامتها؟ بس هقول إيه هي كمان أكيد وحشاهم أوي، بس اسمع – أردفت رفعة سبابتها – بكرة ان شاء الله تروح تجيبها، هعمل أحلى غدا ليكم، متتصورش فرحتي إزاي برجوعك يا هشام...

هشام بجمود: - معلهش يا أمي مش هينفع.
أنعام بتقطيبة: - ليه؟
لتردف ولا تدري لما شعورها المفاجئ بالتوجس والريبة لغياب زوجة ابنها: - هو فيه إيه بالظبط يا هشام؟ أنا ليه حاسّة أنك مش عاوز مراتك تزورني أو انت اللي مش عاوزها تيجي! مراتك راحت عند أهلها ليه بالظبط يا هشام؟

علمت منال أنه من الواجب عليها الانصراف فمهما كان هو شقيق زوجها ولكنها لا تحب التطفل في المسائل العائلية وخاصة تلك التي تتعلق به، فهو ومنذ عرفته بعد زواجها بفريد وقد علمت عنه أنه شخصية حازمة، جاد للغاية، يرفض التدخل في أي أمر يعنيه لا من قريب ولا من بعيد، فمسكت بيد ابنها تتسحب لتبتعد بهدوء حينما طرق سمعها ما جعلها تفغر فاها ذهولا وهي تنظر اليه تارة والى حماتها أخرى التي وقفت تطالعه بدورها في صدمة:.

- أنا طلقت ليلى يا أمي...
شهقة كبيرة تبعها خبطة قوية من راحة أنعام على صدرها وكأنها فجعت في عزيز لديها هاتفة:
- لا حول ولا قوة إلا بالله، يا رب سترك. يا رب سترك...
بينما قال هشام وهو يميل لرفع حقيبة سفره: - عن إذنك يا أمي، أنا هدخّل الشنطة، وأرتاح شوية...
هتفت أمه ما أن سار خطوتين: - مش قبلي ما تفهمني ليه يا هشام؟ إيه اللي يخليك تطلق مراتك. دي عِشْرة خمس سنين؟!

وقف هشام ليطالعها من فوق كتفه قائل ببرود: - بعدين يا أمي، أرتاح شوية وبعدين هقولك كل اللي عاوزاه.
وانصرف بينما راقبته هي حتى غاب في غرفة الضيوف والتي كان يقطن فيها مع زوجته أثناء قدومهم الى القاهرة لرؤية والدته، لتقول والدته بحسرة وحزن:
- بعدين إيه بقه يا ابن بطني، ما خلاص. طلقتها ومن غير ما تكلّف خاطرك حتى تعرفني قبلها!

اقتربت منال منها تربت على كتفها بمواساة وهي تقول: - معلهش يا ماما، أكيد مرضيش يقولك ويزعلك، عموما هو دلوقتي يحكي لك كل حاجة ويريّحك.

أنعام بنفي: - عمره ما هيريحني يا بنتي، ابني وأنا عارفاه، ميعرفش غير أبيض وأسود، زي ما يكون قلبي كان حاسس، قلت لك ليلى هتزهق وتتعب، وجوزها بيعاملها زي ما تكون عسكري عنده في المباحث وهو يؤمر وهي لازم تطيع، ربنا يهديك يا ابني. ربنا يهديك...

وانصرفت تدعو له بالهداية، غافلة عنه وقد جلس الى الفراش، راميا سترته جانبا، وقد شمّر عن ساعديه السمراوين، يمسك بهاتفه المحمول يطالع صورة شابة ضاحكة على شاشته بعينين عبرتها لمحة حنين خاطفة سرعان ما غابت لتحتل عيناه بدلا منها نظرة جمود وغضب، ليضغط زر الإزالة فتمحى الصورة من أمامه!

تسير في الرواق الكبير تدق الأرض الرخام بكعبي حذائها الرفيعين، محاطة برجال أشداء من يراهم يكاد يفقد أنفاسه لشدة هيبتهم، حتى وصلوا الى باب السكرتارية الخاصة بمدير البنك، ليدلفوا إليه، فتحدث إسلام قائلا ببرود موجها كلامه الى السكرتيرة التي نهضت من فورها ما أن رأتهم:
- عايزين نقابل المدير...
السكرتيرة وهي تنظر الى روزنامة المواعيد: - فيه معاد سابق حضرتك.

تحدثت السيدة الأنيقة والتي خلبت الأنظار إليها منذ لحظة دخولها البنك: - قولي له أدهم شمس الدين.
فرفعت الأخرى سماعة الهاتف الداخلي وهي تقول: - ثواني طيب أشوف سعيد يه...
قاطعها مراد وهو يسحب منها سماعة الهاتف ليعيدها مكانها قبل أن يقول بابتسامة ساخرة:
- مالوش لزوم تتعبي نفسك، خليها مفاجأة أحسن...

ورفع رأسه ليغمز عصام اليه بعينه اليمنى، بينما توجه مهدي الى الباب المفضي الى مكتب سعيد ليفتحه فجأة فتدلف هي بخطوات واثقة كملكة بينما لحقها أربعتهم كأمراء يتتبعون خطى مليكتهم!..

ما أن سمع سعيد صوت الباب وهو يفتح فجأة حتى رفع رأسه هاتفا بحنق: - مين...
لتغيب الكلمات من فوق شفتيه وتختفي علامات امتعاضه ويحل بدلا منها الذهول والصدمة، ونهض ببطء قائلا:
- ريتاج هانم؟!
وقفت ريتاج وحولها رجال عائلتها وقالت ببرود: - من غير كلام كتير، ومقدمات مالهاش لازمة، أنا جاية انهرده في شيء محدد...

ابتعد سعيد عن مكتبه وتقدم حتى وقف أمامها يجيل نظراته بين مراد واسلام من جهة، وعصام ومهدي من الجهة الأخرى فيما تتوسطهما ريتاج لتتوقف عيناه عليها وهو يقول بتملق:
- طيب الأول حضرتك أنتي والبهوات تتفضلوا ترتاحوا ونشرب القهوة وبعدين أعرف حضراتكم مشرفيني انهرده ليه.

مراد بحزم: - زي ما قالت المدام، احنا جايين في مهمة محددة، ومش هناخد من وقتك كتير...
قطب سعيد وقال وهو يشير بيده الى الاريكة الجلدية الفخمة: - طيب مينفعش واحنا واقفين اتفضلي ارتاحي.

ريتاج بحزم: - أنا بتهّم البنك عندك بعدم الحفاظ على خصوصية العملاء اللي عنده، قودامك 24 ساعة تعرف مين في الموظفين اللي عندك اللي سرّب معلومات مهمة عن حساب أدهم بيه شمس الدين. ماذا وإلا هقدم اتهام رسمي بكدا في النيابة، وساعتها هما بطريقتهم هيقدروا يوصلوا للمجرم الحقيقي اللي عندك...

وأرفقت حديثها الصارم الحاد بنظرات توعّد نارية تطايرت شراراتها من زمردي عينيها حتى يُخيّل لمن يراها أنها جمر ملتهب!..

وكما دلفوا اليه في سرعة وحسم خرجوا أيضا بقوة وعنفوان، يحفرون الأرض أسفل أقدامهم، وعلامات لتحفز والتحدي تعتلي سمات وجوههم، ليبتعد كل من يصادفهم عن طريقهم، فهالة القوة والشموخ التي تحيط بهم ترهب أشد الناس، بينما خلفوا وراءهم جرذ كبير ينتفض رعبا وهو يتحدث في هاتفه يهتف بذعر وحدة:.

- انتي اللي غرزتيني الغرزة الهباب دي، اتفضلي. اتصرّفي بقه، اللي اسمها ريتاج دي مش سهلة لا هي ولا اللي معها، ما شوفتهومش وهما داخلين عليا كانوا عاملين إزاي؟! إيه. – أنصت لثوان صرخ بغضب بعدها – أنا ماليش دعوة، طلبتي مني بيانات معينة أدتهالك وخلاص، لكن اسمي ييجي في الموضوع ولو بالتلميح. مش هتجر لوحدي، ويا ريت تقولي لشريف بيه كدا، أحنا كلنا في مركب واحدة، يا نقب سوا، يا نغرق سوا!..

وأنهى المكالمة وهو يزفر بغضب عنيف، غافلا عن أذنين كانتا تتصنتان عليه سرعان ما أبتعد صاحبهما ليسرع بالاتصال هاتفيا بمن يهمه الأمر!

زفر بتعب وهو يطالع ذلك العنيد قائلا: - يا بني افهم، هو فيلم عربي هنغرق راسه في برميل ماية ولا نكهربه؟ دا أدهم شمس الدين. عارف يعني إيه أدهم شمس الدين؟

شريف ببرود وهو يرفع قدح القهوة الى شفتيه: - هيكون إيه يعني؟ مجرم خاين بيموّل جماعات إرهابية...
زفر صقر بضيق وقال: - أيوة يا ابن خالي، بس لسّه متهم، وزي ما أنت موصيني أخلّي بالي منه كويس – وغمز بعينه اليسرى قبل ان يردف – هو كمان فيه اللي موصي عليه، لو معندكش فكرة المحامي بتاعه يبقى رضا.

شريف مقطبا: - رضا؟ رضا مين؟..
صقر ساخرا: - رضا المناديلي يا ابن خالي، أظن تعرف مين هو رضا المناديلي، أشهر محامين مصر، على قد دهائه وذكاؤه لكن عمره ما بيستخدمهم في الشر، غير أنه مش بيقبل قضية أبدا إلا لما يكون واثق أنه هيكسبها، فعشان كدا بقولك مينفعش اللي انت بتقول عليه دا.

شريف بحدة: - يعني إيه؟ أنت ليه محسسني أنه أدهم زي ما يكون نازل ضيف عندكم، مش مجرم متهم في قضية خطيرة زي دي؟! ناقص تقولي انه نازل في سويت ولا كأنه فندق خمس نجوم!
ضحك صقر قائلا: - مش أوي كدا، لكن عموما أنا بردو ليا طرقي اللي أقدر أوصله بيها، بس من غير ما يمسك عليا حاجة.

شريف بلهفة: - أيوة كدا، فرحّني، عملت ايه؟
صقر بتفاخر: - أبدا يا سيدي، السجن مليان مجرمين، وأكيد واحد زيّه الحقودين عليه كتير اوي، واحد يرمي عليه بالكلام، التاني يغلّس عليه بالايد، التالت يطوّل إيده فعلا، كلهم مجرمين في بعض، أهم حاجة أنه يتروّق وأنا بعيد خااالص...

شريف وهو يلكمه بقبضة خفيفة على كتفه: - هو دا الكلام يا ابن عمتي.
صقر بفضول: - انما قولي يا شريف. هو أدهم دا عمل لك إيه أوي كدا وجعك لدرجة أنك نفسه تخلص منه انهرده قبل بكرة؟

شريف بعينين تلمعان حقد وكرها: - واقف حيطة سد في طريقي، وأنت عارفني. أي حاجة عاوزها لازم أوصلها، وبأي تمن...
شريف. طنط دولت اتصلت وقالت انها هتتغدى في النادي انهرده...
ما أن أنهت شهرت عبارتها حتى انتبهت لوجود صقر لتستدرك برقتها المعهودة وابتسامة صغيرة تزين ثغرها الكرزي:
- أوه، I m sorry، excuse me معلهش ما أخدتش بالي...

نهض صقر ليصافحها قائلا بتملّق: - never mind يا شهرت، أنا مش غريب، دا بيت أخويا بردو.
شهرت بكياسة وهي تسحب أناملها البيضاء من قبضته الضخمة: - أها. sure، أكيد يا صقر...
ثم وجهت حديثها الى شريف الذي ارتسمت على وجهه علامات التفكير العميق متابعة: - هقولهم يحضروا الغدا حالا.
همّت بالانصراف عندما نادها شريف قائلا: - مالش لزوم يا شهرت...

وتناول سترته وهو في طريقه الى الخارج يدفع بصقر أمامه المندهش من أفعال ابن خاله:
- أنا وصقر ورانا كم مشوار مهمين، اتغدي انتي.
وانصرف وتركها وهي تطالع في أثره بجمود تام ولم تعقّب على كلامه في حين ما أن وصلا سيارته حيث صرف السائق قال صقر بعد صعدا اليها:
- ايه يا بني، مالك كنست مراتك كدا مرة واحدة؟!

امتعض شريف ورمقه بنظرة ضيق جم قائلا باستنكار: - كنست! واضح انه عِشرتك للمجرمين كرفت عليك، جاتك البلا في ألفاظك!
واندفع بالسيارة مخلفا وراؤه دخانا كثيفا وقلبا وقفت صاحبته تراقبه من خلف زجاج النافذة بعينين مجروحتين، لتسيل دمعة وحيدة كاللؤلؤ تجري على ورد خديّها في صمت!

دلف العسكري يقبض على مرفق أدهم فنهض ضابط الأمن من خلف مقعده وقال لأدهم الذي وقف متسمرا في مكانه:
- عندك زيارة، ربع ساعة مش أكتر...
وانصرف، وما أن أغلق الباب حتى اندفعت إلى أحضانه لتضمها ذراعيه بقوة بينما دفن أنفه يستنشق رائحتها العذبة التي حرم منها طوال الأيام السابقة، بينما احتضنته هي بكل ما تملك من قوة في ذراعيها الضعيفتين، همست بحب ودموعها تتساقط رغما عنها:.

- وحشتني. وحشتني أوي أوي يا حبيبي...
غرز أنامله بين خصلات شعرها المجموع على هيئة كعكة في مؤخرة رأسها، ليفكّها فينهمر شلالها العسلي ليعود ويدفن أنفه بين طياته وهو يطلق تأوها عال يقول:
- وحشتيني أوي أوي يا ريتاجي...

وضمها اليه بكل ما يستطيع من قوة بينما فمه طفق يقبل كل إنش في وجهها بلهفة محمومة حتى وصل الى ثغرها لتضمه شفتاه تماما كمن يضم حبيب اشتاق اليه بعد طول غياب، يبثها حبّاً قويّاً يأبى أن يضعف مهما تكالبت عليه الأزمات بينما ترد هي بحب يوازيه قوة ويماثله عمقا، معلنة أن المتمردة لا حياة لها بعيدا عن ذراعي مروّضها الأوحد!..

أبعدها عنه وهو يحاول التقاط أنفاسه، ليقبض على راحتها الناعمة داخل راحته القوية، ويتجه بها ليجلسا على الأريكة الموضوعة في جانب الغرفة، ليسألها بعدها قائلا:
- طمنيني يا ريتاج، إيه الأخبار؟
ريتاج بعتاب المحبين: - بقه كدا يا أدهم. ما كنتش عاوزني آجي وعاوز الزيارة تكون باسم مراد؟!
أدهم وهو يحتوي يدها بين راحتيه يضمها بقوة حانية: - أنا مرعوب عليك يا ريتاج، خايف انك تتهوري.

ريتاج مقاطعة باعتراض: - وكنت عاوز مراد عشان يفرملني. صح؟
أدهم بهدوء: - عشان ياخد باله منك يا تاجي...
ريتاج بابتسامة: - حبيبي تاجك كبرت خلاص، معدتش (لم أعد) ريتاج البنت الصغيرة المندفعة.
أدهم وهو يملس خصلات شعرها التي جمعته ثانية وبابتسامة صغيرة: - أنت لسّه في عيني ريتاج بنت 22 سنة اللي خطفت قلبي من أول لحظة شوفتها فيها، بخاف عليك يمكن أكتر من أدهم الصغير كمان.

ريتاج بحب: - يا حبيبي ما تخافش عليا، أنا تربيتك يا أدهم، وعشان تعرف بس. أحنا تقريبا حطّينا إيدينا على أول الخيط اللي هيوصّلنا للمجرم الحقيقي.

أدهم بتأكيد: - سعيد الكيلاني!
ريتاج بثقة: - تمام كدا، بس هو مش لوحده.
أدهم بجمود: - شريف المسيري اللي وراه...
ريتاج ببساطة: - د أكيد، لكن بردو فيه طرف تالت، وقريب أوي هوصلّ له، الشخص دا أعتقد حل اللغز كله هيكون عنده...

قبل أن يعلق أدهم كان الضابط قد عاد ليأمر العسكري باصطحاب أدهم إلى زنزانته، ليترك يد ريتاج على مضض بعد أن مال عليها مقبل جبينها وهو يهمس بجدية:
- خلي بالك من نفسك.
هزت ريتاج رأسها له بالموافقة قبل أن تهمس بابتسامة ضعيفة مجاهدة دموعها التي بدأت في التجمع:
- خد بالك أنت من روحك. لا إلاه إلا لله...
أدهم بابتسامة مماثلة: - محمد رسول الله.

وانصرف مع العسكري، بينما حيّت هي الضابط قبل أن تنصرف بدورها وهي تعد أدهم في سرّها أنه بانتهاء مدة الاسبوعين مدة الحبس الاحتياطي فإنه سيكون قد خرج إفراجا نهائيا وسيكون المجرم الحقيقي بدلا منه في مكانه الحقيقي. خلف القضبان.

صاحت وهي تقبض على هاتفها بقوة: - أنت عاوز إيه بالظبط يا شريف؟
شريف ببساطة قهرها: - بتهيألي أنتي اللي عاوزة مش أنا!
لبنى باستنكار تام: - إيه؟! وأنا هعوز منك أنت إيه ان شاء الله؟..
شريف ببراءة مصطنعة: - امممم. هتعوزي. ابنك!
حدقت واسعا مرددة بغير استيعاب: - ابني!
شريف مردفا ببساطة: - جوزك!
قطبت لبنى قائلة بشك: - طيّب ابني وعرفتها عشان قضية الحضانة، جوزي ماله بقه؟

شريف ببراءة زائفة: - ممكن جدا يحصّل خاله، إيه رأيك يشرّف في الزنزانة اللي جنبه أهو مهما كان يونّسوا بعض!

صاحت لبنى بهلع: - إيه؟!
شريف بحزم: - اسمعيني كويس يا لبنى، قودامك 48 ساعة أعرف فيهم ردّك النهائي، بعد كدا أنا هضطر أتصرف، وصدقيني مش هيعجبك تصرفي وقتها.

صرخت فيه بسخط: - انت بتعمل كدا ليه؟ عملت فيك كدا عشان تنتقم مني بالشكل دا؟ أنت السبب في اللي حصل لأدهم شمس الدين صح؟

شريف بتأكيد: - أكبر صح. أدهم شمس الدين فاكر نفسه ذكي ورايح يدوّر ورايا، كان لازم أعرّفه أني لحمي مّر أوي وأني مش سهل، الغلطة عندي بفورة!

وأنهى المحادثة في حين ألقت هي بهاتفها بعيدا وهي تكاد تجن، ليسقط الهاتف أسفل قدمي مهدي الذي كان قد عاد لتوّه، فمال يرفعه من على الأرض، ليقترب منها يمد يده به اليها قائلا:
- مالك يا لبنى؟ فيه حاجة حصلت؟

نظرت اليه لبنى في صمت تام بينما وشت بحالتها النفسية السيئة وجهها الشاحب وعينيها التي كثرت فيها الشعيرات الحمراء الصغيرة، أجابت لبنى بعد أن سحبت نفسا عميقا وهي تنظر اليه بخواء وبصوت ميّت لا حياة فيه:
- مهدي...
دنا منها حتى أمسك بذراعيها وقال بابتسامة خفيفة: - عيونه!
لبنى بجمود تام وهي تضع عينيها نصب عينيه: - طلقني!
قطب مهدي متشككا وتساءل بابتسامة غير مصدقة: - إ، إيه؟ أنت قلتي إيه؟

لبنى مكررة بحزم بعينين لم تطرفان: - طلقني يا مهدي، طلقني!
لتشتد قبضته على ذراعيها، بينما وسعت عيناه وهما تطلعانها بشرارات نارية، وينقل نظراته بينها وبين هاتفها لتومض عيناه ببريق الفهم، وعلمت لبنى أنه قد علم. وأنها قد فتحت عليها أبواب جحيم غضبه، فهو نارا حارقة، إذا ما اندلعت فإنها. لا تبقي ولا تذر!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة