قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل السادس والعشرون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل السادس والعشرون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل السادس والعشرون

نظرت الى ابنها بعينين ذابلتين لتقول بصوت متحشرج: - وبعدين يا هشام يا بني، الغلبانة وابنها دي هيعملوا فيهم ايه؟ دول مجرمين ميعرفوش ربنا.

زفر هشام بضيق ونهض ليقف أمام النافذة المطلة على الشارع بالاسفل حيث تكثر الاشجار الباسقة العلامة المميزة لهذا الحي منذ القِدم. وقال بعدها بتقطيبة تدل على ضيقه الشديد:
- ما تقلقيش يا أمي، مش هيجرالهم حاجة ان شاء الله، هوصلهم قبل ما يفكروا انهم يأذوهم.

أنعام وهي تنظر الى ظهر ابنها المشدود علامة على انفعاله المكتوم وقالت بصوت باكي:
- ازاي بس؟ وبعدين ما انا زي ما انا قلقانه عليهم قلقانة عليك انت كمان، انت اللي باقي لي يا بني بعد اخوك فريد الله يرحمه.

ترحّم هشام على شقيقه قبل ان يقول بهدوء لا يشعر بأدنى ذرة منه فهو يكبت نفسه بصعوبة من الانفجار في ذلك العفن المسمى رياض:
- ماتقلقيش يا أمي، هييجوا ازاي دا شغلنا. المهم انك تطمني، منال وفريد في خلال ساعات هيبقوا معاكي. انتي بس ادعي لنا.

انعام وهي ترفع يديها ال الاعلى: - داعيالكم يا بني. ربنا يوقف لكم ولاد الحلال ويبعد عنكم ولاد الحرام وينصرك عليهم.

همس هشام بشراسة وعيناه تومضان بعنف: - ولاد الحرام. أقسم بالله أني ما هسيبهم. ولا هعرف معنى الرحمة لما يوقعوا في ايدي.

تصاعد صوت رنين الهاتف ليقاطع همساته الخفية، فأسرع بالاجابة، لتومض عيناه ببريق الظفر وهو يقول:
- تمام كدا، حضّر عربية الترحيلات. وأنا هتصرف.
واستدار لينصرف بخطوات متعجلة عندما نادته انعام بلهفة: - فيه حاجة يا هشام يا بني؟
عرج عليها وقال وهو يقبل ظاهر يدها: - خير يا أمي، صلّي وادعي لنا ياأم هشام.
وانصرف تصحبه دعوات والدته بالنصرة والفوز...

نظر في ساعة معصمه ليقول زميله الضابط: - كنّا هنقوم احنا بالمهمة دي يا هشام، انت مش واثق فينا ولا ايه؟
هشام وهو ينظر أمامه وهو يقف يمعن النظر في المكان من حولهما: - أنا متأكد طبعا يا فؤاد انكم أدها وقدود، لكن اعذرني مهما كان دي مراتي وابنها. ابن اخويا فريد، مش هقدر أقعد حاطط ايدي على خدِّي لغاية ما ييجوا لحد عندي...

صوت اشارة في جهاز اللاسلكي بحوزة الضابط قاطع استرسالهما في الحديث ليجيب الضابط فسمع هشام صوت الطرف الآخر وهو يقول:
- الهدف ورانا يا فندم.
فؤاد بصرامة: - اجهزوا.
ثم أشار الى هشام بالصعود الى السيارة وهو يقول بحزم: - يالا يا هشام. دلوقتي.

فصعد هشام الى مقعد السائق، تبعه صديقه، وسرعان ما انطلق حيث سيارة الترحيلات التي تقل رياض ذهني وكانت الخطة أن يتم عرض الاخير على قاضي المعارضات لتجديد حبسه على ذمة القضية، وأثناء ترحيله الى السجن لمباشرة العقوبة كانوا أكيدين أن رجال الشيخ عواد من قام بخطف منال وفريد ستكون بالمرصاد له لتهريبه، ولكن هشام وفؤاد وقوة اضافية أخرى كانت على اتصال بقائد سيارة الترحيلات حتى يعلموا اللحظة المناسبة للانقضاض على العصابة.

سارت الخطة كما رُتّب لها وعند نقطة معينة تم قطع الطريق أمام سيارة الشرطة بسيارة نقل كبيرة ظهرت فجأة من اللا مكان، بينما استمرت السيارة الأخرى في تتبع سيارة الترحيلات، كما دأبت منذ لحظة تحرك الاخيرة، واستطاع قائد سيارة الشرطة تفادى وبأعجوبة الاصطدام بتلك المقطورة الكبيرة، حيث وقفت سيارته على بعد أنملات منها، وما أن كاد السائق ومن معه يسحبون أنفاسهم حتى رأوا مجموعة من الرجال الملثمين ينقضوا على السيارة يحملون الرشاشات الآلية، وفي غضون لحظات كانت النيران قد اشتعلت ولكن. ليس من أسلحة تلك العصابة، بل من قوة الأمن المرافقة لهشام وزميله والذين فتحوا النار على العصابة، ليسقط من يسقط منهم، وتراكض الباقيين يحاولون الاحتماء خلف الكثبان الرملية الصغيرة من حولهم، بينما لم يتوقف تبادل اطلاق النار فيما بينهم، وأثناء ذلك فوجأ هشام بباب مؤخرة سيارة الترحيلات وهو مفتوح فعلم أن أحدهم قد قام بكسر القفل برصاصاته، فركض سريعا بعينيه من حوله، ليلمح طيفا يركض في اتجاه بعيد عنهم فهمس لرفيقه بصلابة بينما عيناه منصبتان على تلك النقطة:.

- غطّيني!
ولم يترك المجال لفؤاد كي يسأله، فركض من فوره بينما قام فؤاد باطلاق عدة أعيرة نارية متتالية عشوائية لتشتيت انتباه العصابة عن هشام، والذي نجح في تعقب خطوات رياض وقد ساعدته الرمال التي تغطي المكان من حوله في ذلك.

وصل هشام الى مكان فسيح حيث رأى رياض وهو يقف مع أحدهم فيما يوليه ظهره، وسمعه وهو يتحدث مع ذلك الشخص والذي من يبدو أنه هو من قام بتهريبه، حاول هشام التقدم بحرص حتى وصل الى مقربة منهما وشنّف آذانه كي يسمع الحديث الدائر بينهما جيدا، كان رياض يقول بجدية:
- كنت عارف انه الشيخ عواد ما يخلصوش أني أتحبس. لكن دلوقتي هنروح فين المفروض؟

الشخص الغريب وبصلابة: - الاوامر بتقول انه جنابك هتروح للشيخ عواد، فيه عربية هتيجي عشان تاخدنا عنده، والمكان اللي هتستنانا فيه قريب من هنا. مش بعيد.

رياض بهدوء: - تمام. ياللا بينا وفي الطريق قولي هنعمل ايه بالظبط، بس صحيح. هتعملوا ايه في اللي عندكم؟ الست وابنها شافوكم وعرفوكم واكيد مش هيسكتوا.

الرجل بضحكة خبيثة: - ما تقلقش. هنسكتهم احنا بطريقتنا. هيسكتوا للأبد!
احمرت وجنتا هشام كمدا وغيظا ولولا أنه يريد الوصول لمنال وفريد كان دفنهما أحياء أسفل أقدامهما، ليهمس بشراسة وعيناه مسلطتان عليهما:
- ماشي. والحساب يجمع.

استمر هشام في تقفي أثر رياض ومن معه، حتى وصلا الى المكان حيث تنتظرهم سيارة دفع رباعية سوداء ضخمة صالحة للسير وسط رمال الصحراء، والتي فُتح بابها، وهبط قائدها، الذي توجه من فوره الى رياض يخبره أن الشيخ عواد بانتظاره، استغل هشام انشغال رياض ومن معه بالحديث وتسلل الى مؤخرة السيارة حيث اختبأ في صندوقها، وكان بحوزته جهاز تتبع صغير مثبت بقاعدة ساعته اليدوية كي يستطيه رفاقه معرفة مكان وجوده.

بعد رحلة قاربت على الثلاث ساعات توقفت السيارة وسمع هشام الذي كان مختبئا أسفل غطاء السيارة الكبير أصوات أبوابها وهي تفتح وتغلق، ليتسلل بخفة خارجا، محاولا اللحاق بهم، فأبصرهم وهو يدلفون الى منزل حجري وسط حراسة مشددة حوله وقد أحاط المكان سياج من الاسلاك الشائكة.

سريعا قدّر هشام عدد الرجال أمامه، فوجدهم أربعة، اثنان أمام المنزل مباشرة واثنان آخران كل منهما الى جانب من جانبي المنزل. يسار ويمين، قرر أنه سيتعامل معهم ولكن عليه أولا التأكد من أنهم يخفون منال وفريد في هذا المكان، ليأتيه الخبر اليقين بكل يسر وسهولة عندما سمع أصوات تقترب فسريعا اختبأ وسط الشجيرات وقد تحفزت جميع حواسه، لتبدو الاصوات بوضوح أكثر فقد وقف صاحبيْها أمامه مباشرة، يخفيه عنهما تلك الشجيرة، سمع أحدهما وهو يقول:.

- انما بصراحة انا مستخسرها في الموت. دي طلقة (بمعنى فاتنة للغاية)!
الآخر مؤكدا وهو يمج بشراهة سيجارة شكلها مريب ويتصاعد منها دخان ذو رائحة عجيبة: - تصدق آه. فرسة بجد! طب ايه رايك أكلم بسيوني أهو الدراع اليمين للشيخ عواد، يديها لنا (يعطيها لنا) لفّة قبل أمر الله ما ينفذ؟!

صديقه بضحكة ساخرة: - انت شكل الهباب اللي احنا بنشربه في أم السيجارة دي عمل دماغ معاك، عاوز تكلم بسيوني؟ عشان يشنيرك ساعتها! بقولك ايه. عوضنا على الله يا صاحبي. وأهي شغلانة هنطلع لنا منها بقرشين حلوين. تعالى بس نطل عليهم دلوقتي، من ساعة ما جوم ولا راضيين ياكلوا ولا يشربوا الا بالعافية بعد ما الواد كان هيموت من الجوع.

نار أحرقت جوفه وبشدة، كاد يكشف نفسه وينهال عليه برصاصات مسدسه بعد كلماتهم البذيئة تلك، ولكنه تماسك الى أن يعلم مكان منال وفريد تماما، فكان أن تبعهما في غفلة منهما، فوجد أنهما قد دلفا الى غرفة حجرية خلف المنزل، فاقترب بحرص ونظر من خلال الباب الذي تركاه خلفهما مواربا، فسمع الصوت الذي ضخ الدم في عروقه، كان صوت منال وهي تهتف بغضب في أحدهما، ليدقق النظر وهو يدفع الباب قليلا محاولا عدم اصدار صوت ليرى ما جعل عيناه تجحظ وعروقه تنتفض غضبا وشراسة، فقد رأى من تغزل فيها سابقا وهو يقف بجانبها حيث تجلس الى كرسي - وقد تم ربط يديها بظهر الكرسي بينما فريد فيقبع فوق الكرسي المجاور حيث تم تقييد يديه وقدميه وتم تكميم الاثنين بشريط لاصق عريض – يمرر يده اللعينة فوق وجهها وهو يميل عليها تلفحها راحة أنفاسه الكريهة ويضحك ضحكة بشعة وهو يقول بسماجة:.

- الجميل خسارة في الموت وربنا!
نهره زميله قائلا: - شيل ايدك يا خليل، لو بسيوني عرف ليلتك معاه سودة.

خليل دون أن يرفع عيناه عن منال التي حاولت الابتعاد برأسها عن يده القذرة: - وهو هيعرف منين بس، وبعدين دي فرصتنا يا واد يا برعي، بسيوني مشغول مع الراجل اللي موصي عليه الشيخ عواد، دا غير انه الشيخ بذات نفسه هيبقى هنا قريب، ومحدش هيعرف احنا عملنا ايه، وطالما انها ميتة ميتة هي هتموت وسرنا هيندفن معها. بس الواحد يكون متّع نفسه بالجمال دا، خسارة بصراحة نحرن نفسنا منه.

ليبدو عل برعي التفكير فيما قاله زميله، وتبدأ نظراته اليها تشع ببريق كريه مقزز، ليقول بعدها بصوت خشن وابتسامة مقيتة أخذت بالظهور على وجهه المليء بعلامات السلاح الابيض (المدية):
- والله وكلامك معقول يا واد يا خليل.
ما أن سمع خليل كلمات صاحبه حتى هتف وهو يستدير اليه ولعابه قد بدأ يسيل لالتهام تلك الفريسة اللذيذة:.

- يبقى تسيب لي الطلعة الاولانية دي، حاكم الواحد هيموت على حتة المهلبية بالقشطة دي، مش السلطة الحمضانة اللي متلئحة (جالسة) في البيت!

كاد الهلع من كلماته أن يوقف قلب منال، ليلهج لسانها بالدعاء. اللهم اكفنيهم بما شئت وكيف شئت، وذكر دعاء الاستغفار، وهي تراقبهم بعينين مرعوبتين، ليلتفت اليها خليل والذي لاحظ حالة الذعر التي تلبستها فقال وهو يمد يده يمررها على خصلاتها الحريرية قائلا وأسنانه الصفراء بارزة بوضوح:.

- ما تخافيش يا قطة، صدقيني الموضوع هيعجبك اوي، وحد عارف يمكن لو هاودتي معايا تبقى نجاتك على ايدي، أصله بصراحة الموت خسارة ياخد واحدة زيك!

ومال بوجهه ناحيتها لتتراجع الى الخلف وهي تصدر مكتوما، محركة رأسها بقوة من اليسار الى اليمين، وفجأة صدر صوت قوي ينادي بكل برود قائلا:
- فعلا. الموت المفروض ما ياخدش غيرك!

لتجحظ عينا خليل ويعتدل واقفا يستدير كي يرى صاحب الصوت، بينما برعي التفت دفعة واحدة، حركة خليل للاعتدال والاستدارة وعامل المفاجأة استغرقت حوالي الثانيتين، كانتا أكثر من كافيتين ليقوم هشام باطلاق النار من مسدسه الكاتم للصوت في منتصف جبهة برعي ليرديه قتيلا في الحال، وما ان أكمل خليل استدارته وهو يهتف صارخا بذعر:
- مين.

لتجحظ عيناه وهو يرى جسد رفيقه مرمي أسفل قدميه ليرفع عينيه صائحا بذهول غاضب: - يا ابن ال، انت عملت ايه؟
قاطعه هشام ببريق مخيف وابتسامة ساخرة وصوت صلب: - نفس اللي هعمله دلوقتي!

وانطلقت الرصاصة تزين منتصف جبهته ليرتمي فوق جسد زميله بينما جحظت عيناه لتزيد من دمامته وقبحه، أما منال فتوسعت حدقتيها رعبا وذهولا، ولحظات وكان رأسها يسقط فوق كتفيها، وكأنها لم تعد تحتمل كل تلك المفاجآت التي حدثت لها في غضون ال 36 ساعة السابقة، ليهرع هشام اليها وهو يناديها بلهفة:
- منال!

ورسيعا فك رباط يديها وتكميم فمها، لينتقل بعدها الى فريد والذي أيقظه من سباته صوت طلقات الرصاص فمن شدة تعبه وجوعه كان قد استسلم للنوم، وحمد الله هشام أنه لم يرى تعرّض ذلك القذر لوالدته...

أنهى هشام فك قيدها وقام بحمل منال بين ذراعيه وهو يهمس لفريد الذي كان يسير بجانبه يتشبث بساقه:
- فريد. امشي جنبي بالراحة، وزي ما بعمل تعمل بالظبط.
تسلل هشام حاملا منال وبجواره فريد، ليتخذ من الظلام ساترا فالشمس قد غربت، وما ان وصلا الى بقعة بعيدة نسبيا حتى وضع منال على الارض بحرص يسندها الى جذع شجرة، وأخذ يربت على وجهها برفق وهو يناديها بقلق:
- منال. منال فوقي.

كان الصوت وكأنه في الحلم، لتئن للحظات ثم فتحت عينيها ببطء، لتظهر الصورة مهتزة أول الأمر وما لبثت أن استقرت لترى وجه هشام القلق، فانتفضت في جلستها هاتفة بلوعة وهي تتلفت حولها تبحث بعينيها عن ابنها:
- فريد! هشام. فريد يا هشام...
أنا أهو يا ماما!..
لتنتبه الى صوت صغيرها الجالس الى جوارها والذي لم تنتبه اليه في خضم ذعرها ورعبها أن يكون قد أصابه مكروه، هشام وهو يحيط وجهها بكفيه هامسا يهدئها:.

- اهدي يا منال، فريد بخير، المهم انتي كويسة؟..
سحبت منال زفرة عميقة قبل ان تحرك رأسها بضعف الى الاسفل وهي تهمس بتعب: - الحمد لله...
ثم مدت ذراعا الى فريد الذي أسرع بالاندساس بين أحضانها بينما قالت منال بخفوت: - انت قدرت توصل لنا ازاي؟
ارتفع طرف شفة هشام في ابتسامة بسيطة قبل ان يجيب: - انتي ناسية انه دا شغي؟ وبعدين ما كنتش هجازف بوجودكم وسط العصابة دي، أكيد كنت هتصرف.

اكتفت منال بهزة رأس بسيطة قبل أن تهمس وهي تداعب خصلات فريد القصيرة: - الحمد لله.
شعر هشام باهتزاز هاتفه الشخصي والذي وضعه على وضعية الاهتزاز مغلقا صوته، فأخرجه من جيبه ليتبادل بضعة كلمات بسيطة أنهى على إثرها الاتصال لينظر الى منال قائلا:
- منال ركزي معايا، البوليس على وصول. فؤاد زميلي هتروحوا معه، اللي يقولك عليه تنفذيه تمام؟

فريد بصوت طفولي خائف: - وانت يا بابا هتيجي معنا؟
شحب وجه هشام ليتبادل النظر مع منال التي شحب وجهها بالمقابل ليقول وهو يميل على فريد:
- أنا هحصّلكم (سأتبعكم) حبيبي. أهم حاجة تخلي بالك من ماما ومن نفسك، اتفقنا؟
ليسحب فريد نفسه من حضن والدته ويلقي بذراعيه حول عنق هشام هاتفا بوعد صارم يفوق عمره الطفولي:
- اتفقنا...

فاعتصره هشام بين ذراعيه بقوة مغمضا عينيه يستنشق رائحته الخاصة، وهو يتنفس بعمق كمن وجد راحته أخيرا بعد عناء!

لحظات وعلا صوت صافرة معينة بالمكان، فقابلتها أخرى بذات النغمة، لينظر هشام من بين الأجمة التي يختبئون خلفها مدققا النظر ليرى سيارة سوداء ضخمة تقف ويندفع أحد الرجال الواقفين ليفتح الباب الخلفي حيث ترجل منها رجلا يرتدي جلبابا وعباءة فوقها، واضعا عمامة بيضاء فبدا كأحد شيوخ القبائل في صورته و هيبته، واتجه بعدها الى المنزل الحجري حيث اختفى بداخله، ليرفع هشام هاتفه ويجري اتصالا قال فيه كلمة واحدة:.

- نفّذ!
نظر الى منال بعدها وكانت قد رفعت وشاح رأسها الذي كان قد سقط متهدّلا حول عنقها، وحاولت أخفاء خصلاتها به، فقد مزّق من يد أحد هؤلاء المجرمين أثناء سحبهم لها، قال هشام وهو يستعد للنهوض:
- خدي بالك من نفسك يا منال. أنا لازم أمشي دلوقتي. فؤاد جاي حالا.
منال بنظرة قد تعلقت به: - خلي بالك من نفسك. لا الاه الا الله.
هشام وكان قد نهض: - محمد رسول الله.

ومال مقبلا فريد بقوة قبل ان ينصرف من فوره، وما هي الا لحظة واحدة وكان فؤاد قد حضر يطلب من منال اللحاق به، فنهضت لتسير مبتعدة عن المكان متخذين من الليل ستارا لهم، حتى وصلوا الى سيارة دفع رباعية فصعدت هي وفريد اليها ليحكم فؤاد غلق الابواب وشدد على فرد الأمن الجالس خلف المقود والآخر بجانبه أن ينتبهوا جيدا واذا ما شعروا بأي خطر فلينطلقوا من فورهم حسب الأوامر...

دقائق مرت سمعت بعدها منال صوت دوي عال، واطلاق أعيرة نارية بطريقة متدافعة، واستحالت السماء الى اللون الاحمر نتيجة تبادل اطلاق النيران بصورة عنيفة، فاحتوت فريد بين ذراعيها وأخذت تدعو الله كثيرا بأن تنتهي تلك المحنة على خير وأن ينتقم من هؤلاء المجرمين، وألا يصيب هشام مكروه!

أما في الناحية الاخرى فكان هشام قبل اندلاع النيران بلحظات قد استطاع التسلل الى المنزل، فوجد أحد الحراس من يوليه ظهره فسريعا اقترب منه بخفة الفهد حيث رفع يديه يلوي عنقه بطريقة مفاجئة عكسية فسمع صوت قرقعة فقراته ليرتمي أسفل قدميه جثة هامدة، فتسلل على أصابعه الى الداخل، فسمع همهمات تتبع مسارها ليصل الى غرفة مغلقة ليرى أمامه أحد الحرس والذي ما أن همّ بفتح فمه حتى كان هشام قد أطلق عليه الرصاص من مسدسه الكاتم للصوت، ليسقط مصدرا دويا هائلا فجسده كان كجسد ثور عظيم!

ما ان سقط حتى سارع هشام بالاختباء فهو يعلم أنهم لن يلبث أن يتجمع الرجال لمعرفة مصدر الصوت، وما هي الا ثوان حتى كانت الاصوات تعلو، ويحاط المنزل بكشافات سيارات الشرطة، ويعلو صوت فؤاد في المذياع يطلب من الجميع تسليم أنفسهم ومن رياض فهو مجرم هارب من العدالة ومن معه قد ساعدوه في ذلك، ولكن. لم يكن الشيخ عواد بالرجل الذي يسهل هزيمته، ليرفع يده الى الاعلى ممسكا مسدسه ويزم عيناه بشر قبل ان يطلق رصاصة واحدة كانت الاشارة لبدء حرب النيران والتي اندلعت تلون السماء بلون ألسنة اللهب الأحمر!

استطاع رجال الشرطة دحض مقاومة رجال العصابة، فقد مات أغلبهم، وقاموا بأسر الباقيين بمن فيهم الشيخ عواد ولكن رياض استطاع الهرب ليقول هشام لفؤاد الذي بدأ ينشر القوات على نطاق أوسع للقبض على رياض:
- رياض بتاعي أنا، محدش يعمل فيه حاجة!

استمر هشام بالتفتيش عن رياض مستعين بكشاف هاتفه الشخصي، حتى طرأ في باله الغرفة حيث تم حجز منال وفريد، لم يجد فيها ما يريب فقد تم تفتيشها من قبل رجال الشرطة، ولكن صوتا مكتوما صدر من الأعلى جعله يرفع رأسه مدققا النظر للحظات قبل أن تعلو وجهه تكشيرة قوية، وبخفة شديدة كان يعتلي السلم المثبت على الجدار الخارجي الى الاعلى.

قفز هشام عبر السود الاسمنتي الى السطح، واعتدل واقفا وهو يجيل في الانحاء بكشاف هاتفه ليسمع بعدها صوتا من خلفه يأتيه قائلا باستهزاء:
- بتدور على حد يا باشا؟

لم يكد هشام يلتفت حتى كانت ركلة من قدم رياض ترتفع لتضربه بقوة في وجهه ارتجت لها رأسه، ليترنح وكاد أن يسقط ولكنه قاوم بشدة، متماسكا ليعتدل واقفا، ولم ينتظر رياض أن يتمالك قواه إذ انقض بركلة أخرى تجاهه ولكن ذراع هشام كانت له كالمرصاد إذ سرعان ما أطبق على ساقه وهو يقول من بين أسنانه المطبقة:
- مش كل مرة يا ندل...

ليشدها ناحيته بقوة وترتفع قدمه هو وبكل عزم لديه يركله في منتصف صدره حتى أن ضلوعه أصدرت صوت قرقعة عالية فيما صرخ رياض كثور يخور.

تركه هشام ليرتمي على الارض، قال الاخير وهو يشير اليه بالنهوض: - قوم. قوم أقف يا ندل وريني نفسك، راجل لراجل مش متحامي في خطف واحدة ست وابنها، أنا هعرفك يعني ايه رجولة، غطة عمرك انك قربت من حد يخصني، وأنا اللي يدوس على طرف حد من عيلتي. ما أرحموش!

ولم يكد رياض يعتدل حتى كانت قبضة هشام تلكمه بكل قوته في منتصف وجهه، ليشجب شفتيه، وتساقطت أسنانه الأمامية ليتأوه بقوة ويسقط عل الارض ليلقي هشام بنفسه فوق وينهال عليه بقبضته صفعا ولكماً، لم يتركه حتى أدمى وجهه كاملا وتساقطت الدماء على وجهه بشدة، ليقف وهو يلهث ثم رفع هاتفه يبلغ فؤاد بمكانه، نظر بعدها الى الجسد المسجى على الارض باشمئزاز كبي، ثم بصق عليه قائلا بشراسة:.

- لو عليا أدفنك مطرحك، لكن الموت للي زيك راحة وانت لازم تتحاسب على كل جرايمك إلى عملتها يا مجرم...

حاول رياض عدة مرات النهوض حتى استطاع في الاخير ليقول بسخرية وصوت لاهث: - مين قال لك انك هتلحق تعمل حاجة، أنا مش هحقق لك اللي انت عاوزه، مش انا اللي اتحبس واتبهدل على ايدين ضابط جربوع زيّك. أنا هموت بس هاخدك معايا...

وسريعا كان قد تناول سلاحه الذي كان قد سقط منه أثناء عراكهما، ورفعه ليطلق النار على هشام الذي انحرف في اللحظة الاخيرة لتطيش الرصاصة مما تسبب في زيادة هياج رياض، ليزمجر بشراسة ويصوّب المسدس يمكسه بيديه الاثنتين ناحية هشام ولكن لم يكن هشام ليمكّنه من اعادة المحاولة إذ سارع باطلاق النار عليه مصوبا على ساقيه لتلتويان من تحته ويسقط كالبرميل على رأسه، فقال هشام وهو يطالعه بقرف:.

- كدا لو عشت هتعش مكسّح، يعني حياتك هتبقى عذاب، ولو على الموت فأنا أحب أطمنك جرايمك هتخليك تتحول على المفتي من أول جلسة!

وصل فؤاد وباقي أفراد الشرطة، ليشير هشام الى رياض فأمر فؤاد بتكبيله بالاصفاد الحديدية، واستدار هشام ليسمع صوت رياض وهو يزأر عاليا:
- وأنا قلت لك قبل كدا. مش هموت لوحدي.
وسريعا كان يرفع سلاحه الذي نسى هشام أنه بحوزته مطلقا النار على ظهر الاخير، والذي تيبس في مكانه قبل أن يمسك بكتفه المصاب ليترنح في وقفته فهرع اليه فؤاد محاولا اسناده، همس هشام محاولا التماسك:
- منال وفريد يا فؤاد، مراتي وابني...

فؤاد بلهفة: - اطمن يا هشام، في أمان، عسكري!
وصرخ مناديا يأمرهم بنقل هشام الى السيارة لنقله الى أقرب مشفى.

كانت منال تجلس في المقعد الخلفي وكان فريد قد رقد ساندا رأسه الى ساقها، عندما فوجئت بصوت جلبة قريبة، فنظرت الى العسكري القابع في مقعد القيادة والذي نظر بدوره في المرآة الخلفية ليقطب ويترجل فشعرت منال بالريبة، لتضع رأس فريد بخفة فوق المقعد وتتسلل بدورها الى الخارج، وما أن وقعت عيناها عل المنظر الخارجي حتى تسمرت في مكانها، فقد كان أربعة من أفراد الامن يحملون هشام، فالاخير يملك جسدا عضليا قويا لا يقدر على حمله رجل واحد.

هرعت ناحيتهم تتساءل في لهفة عما حدث وهي ترى كتفه الايسر مخضبا بالدماء فأجابها فؤاد أنه قد أصيب بطلق ناري، وما أن توجهوا به ناحية احدى السيارات حتى لازمتهم، وما ان تم وضعه على المقعد الخلفي حتى توسعت حدقتيها رعبا بالدماء كانت تتزايد بغزارة، هتفت برعب:
- ياربي. الدم لازم يوقف.
لتبتر عبارتها وهي ترى يد هشام وهي ترتفع ليلمس وجهها وهو يقول بشحوب وابتسامة ضعيفة ترتسم على وجهه الاسمر الخشن:.

- ما تقلقيش يا منال، أنا. أنا كويس.

ولكنها لم تهتم لكلماته وبدلا من هذا تلفتت يسارا ويمينا تبحث عن شيء تشد به الجرح النازف، لتحين منها نظرة الى وشاح رأسها الممزق ودون تردد كانت ترفعه عنها لتقطع جزءا منها سريعا، قبل أن تعيد وضعه على شعرها كيفما اتفق، ثم قامت بربط الجرح بالجزء الآخر، حبث عقدته بقوة كي توقف النزيف، فلم يكن من هشام الذي رأى تصرفها اللا ارادي إلا أن ابتسم ابتسامة غريبة وهمس وهو يرفع أصابعه محاولا اعادة خصلاتها الظاهرة أسفل المتبقي من الوشاح، وهو يهمس بضعف وبريق جديد يلمع بين دخانيتيه:.

- غطي شعرك كويس. مش عاوز حد يلمحه!
قاطع ذهولها إثر عبارة هشام صوت فؤاد زميله وهو يطلب منها العودة الى سيارتها فهم سينطلقون الآن.

لتبتعد عنه ببطء، والقت عليه نظرة أخيرة. متسائلة، مترددة، وحائرة، بينما شيّعها هشام بنظرة خاصة قبل أن يغلق عينيه مطلقا نفسا عميقا. كمن وصل الى ضالّته المنشودة بعد عناء طويل!

لا تعلم كيف تضع عينيها في عينيه. حمدت الله أنها عندما استيقظت كانت بمفردها في الفراش، ولم تهتم لتتساءل أين ذهب، لعله أراد أن يرفع عنها الحرج، تشدقت ساخرة من نفسها:
- وقال ايه. هربيه! روحي اتلهي على نفسك وانتي ما اخدتيش في ايده غلوة! تيجي تصيده يصيدك صحيح!

لتتوسع حدقتاها وهي تردف بذعر: - ودا هورّيه وشِّي ازاي دا؟ يعني المفروض بعد كدا ايه اللي هيحصل؟
لتسمع صوتا رجوليا يقول بمرح: - نفس اللي حصل قبل كدا!

شهقت بصوت عال والتفت تجاه الصوت لتراه وهو يقف أمام باب الحمام الخاص بالغرفة، رفعت الغطاء كي تستر كتفيها العاريتين حتى ذقنها بينما اتجه هو اليها بخطوات بطيئة لتراقبه تقدمه بحذر، وما ان جلس بجوارها على الفراش حتى أسرعت بالابتعاد الى طرف السرير الاخر ليقول حمزة بابتسامة:
- قرّبي يا نوجة.

ولكنها اكتفت بهز راسها بالرفض ليكرر طلبه منها بالاقتراب فتكرر هي حركة الرفض براسها، لتمتد يده ويسحبها عنوة اليه يحتضنها تحت ذراعه قبل ان يميل عليها مقبلا جبينها وهو يقول بحنان:
- صباحية مباركة يا عروسة.
امتقع وجهها خجلا وطأطأت برأسها الى الاسفل ليمسك ذقنها بسبابته وابهامه يرفع وجهها اليه وهو يهمس بدفء:.

- اوعي تتكسفي مني، بعد الليلة اللي فاتت احنا الاتنين بئينا واحد يا نوجة. فيه كلام كتير اوي عاوز اقوله ولازم تسمعيه، لكن لمّا تكوني جاهزة، أخاف تخلطي الاوراق ببعضها وتقولي ايش معنى قلت لك دلوقتي بس.

نجوان بنظرات حائرة: - قلت لي ايه؟
حمزة بصدق مس شغاف قلبها: - بحبك!
شهقت بغير تصديق: - ايه؟، حمزة. انت بتقول...
قاطعها بلهفة وحرارة قوية: - بقول بحبك يا نجوان. بحب.
وهمس بباقي اعترافه رأسا من شفتيه الى ثغرها المكتنز، بينما يديه تعزفان أعذب الالحان على جسدها، ليسحبها معه ثانية الى ذلك العالم الذي لم تكن تعتقد بوجوده يوما، عالم حصري ب. حمزة وحده!

نظر اليها وهي تجلس أمامه يتناولان طعام الغذاء في مطعم الفندق، حيث رفضت عرضه بتناول الطعام بغرفتهما وبإصرار، قائلة بسخرية خفيفة أنها تعلم أن مصيره سيكون ذاته مصير طعام الافطار والذي قد طلبه من خدمة الغرف وظل كما هو لم يمس!

قال حمزة بصوت دافئ بينما عيناه تتشرّبان من حسنها في وله تام: - ايه رأيك نقعد على البسين شوية بعد الغدا؟
رفعت نجوان عينيها اليه وقالت بابتسامة أظهرت غمّازة خدّها الايمن بينما حمرة الخجل تزين و جنتيها الخالية من الزينة:
- مافيش مشكلة. زي ما تحب.
حمزة وهو يمد يده يعتصر أصابعها بقوة حانية هامسا بغمزة ماكرة: - طالما أحب يبقى نطلع نريح شوية بعد الغدا!

لتهرب بعينيها بعيدا عنه وهي تقول باعتراض رقيق: - ما احنا مريحين من امبارح العصر تقريبا! خلينا نتفسح شوية!
حمزة بزفرة حارة: - الود ودي أريّح معاكي طول الاسبوع اللي فاضل في أجازتنا، ما أفارقكيش ثانية!
همست بعتاب رقيق: - حمزة!
حمزة وهو يشعر بحرارة في سائر أطرافه: - كمان حمزة تانية زي دي والراحة هتبقى اجباري لغاية يوم ما نمشي من هنا!

هتفت نجوان مندفعة: - لا لا لا خلاص، ما فيش حمزة. – قطب لتردف وعينيها تلمعان بمشاغبة – زومة، حلو كدا؟!

حمزة بيأس: - أوحش! ياللا اتفضلي لو خلصتي أكلك نروح نقعد ع البسين (حمام السباحة) شوية، وبالمرة آخد لي شوطين فيه يمكن أبرد من اللي أنا فيه!

قطبت نجوان لتحرك كتفيها بلا مبالاة فهي لم تفهم المعنى المستتر وراء كلماته لتجيبه وهي تنهض:
- خلاص شبعت، ياللا بينا.
وبينما سارت بمحاذاته أردفت ما جعله يعض على نواجذه غيظا: - وبعدين طالما انك عاوز تنزل البسين ما قلتش ليه؟ وبعدين عاوز تبرد ليه؟ دا حتى برد الصيف وحش!

قبض حمزة على مرفقها ودفعها أمامه بغلظة وهو يكرر بقهر: - برد الصيف وحش! امشي يا نجوان. امشي بدل ما أوريكي أنا حر الشتا شكله ازاي؟!

طالعته نجوان باستغراب لحدته الفجائية قبل أن تحرك رأسها بيأس وتسير برفقته وهي تتعجب بداخلها عما ضايقه من ذكرها لبرد الصيف؟!

تعالى رنين جرس الباب وكان مهدي يقف في الردهة يلقي النظرة الاخيرة على نفسه قبل خروجه، فاتجه لفتح الباب، حيث وقف قاطبا وهو يقول بحيرة وابتسامة صغيرة تظلل فمه:
- طنط تاج!
دلفت تاج وهي تقول بهدوء: - ايه يا مهدي مافيش اتفضلي؟
أفسح لها مهدي للدخول وهو يقول معتذرا: - لا طبعا اتفضلي، انا بس استغربت مش أكتر.

أغلق الباب خلفها ولحق بها بينما وقفت هي وسط الردهة ليلاحظ ثيابها السوداء فزادت عقدة جبينه وهو يقول: - خير يا طنط تاج بجد. حضرتك لابسة اسود ليه؟
نظرت ريتاج الى حلته السوداء وقميصه الاسود حيث تخلى عن ربطة العنق لتقول بابتسامة: - رايحة عزاء يبقى ألبس ايه؟ أحمر!
قاطعهما صوت لبنى قادمة من الداخل: - دي طنط تاج يا مهدي؟
أجابتها تاج بصوت مرتفع: - أيوة أنا يا لبنى. ها. جاهزة؟

دلفت لبنى من الداخل وهي تقول بينما تضع هاتفها الشخصي بحقيبتها اليدوية الصغيرة: - جاهزة.
نظر مهدي بتوجس وحيرة الى زوجته والتي ارتدت ثيابا سوداء عبارة عن بنطال قماشي اسود وبلوزة حريرية سوداء وحذاءا خفيفا أسود اللون وقد وضعت حقيبتها بشكل عكسي عليها، ليقول بريبة: - اللاه! انتي كمان لابسة أسود! هو فيه ايه بالظبط؟

تقدمت لبنى لتقف بجوار ريتاج وهي تطالع مهدي بتردد بينما ابتسمت ريتاج وقالت ببساطة: - ياللا يا مهدي عشان هنتأخر كدا، مينفعش تروح تعزي بعد ما الناس تمشي!
ردد مهدي بغير فهم: - أروح أعزي!
ليشرق وجهه بالفهم فأردف بتوجس: - هو انتو رايحين تعزوا في مين بالظبط؟

ريتاج ببساطة وهي تقبض على يد لبنى التي امتدت تتشبث بيدها تماما كالطفل يتشبث بأمه، بينما ترتعد فرائصها في انتظار لحظة انفجاره والتي هي اكيدة من حدوثه ما ان يعلم وجهتهما: - رايحين نعزي معاك! انت مش رايح بردو تعزي شريف المسيري في وفاة حماه؟!
لينتفض مهدى هادرا بذهول وغضب: - نعم! شريف مين اللي هتروحوا تعزوه؟

تاج ببرود: - ولد اتكلم كويس! مين قال هنعزي شريف؟ احنا هنعزي شهرت مراته، دا مهما كان ابوها وهي مرات ابو احمد ابن مراتك. يعني واجب ولازم يتعمل!
مهدي وقد انتفخت اوداجه قهرا وغيظا: - وانا ماليش رأي؟ بتحطيني قودام الامر الواقع يا لبنى؟ - ناظرا اليها بعتاب ولوم شديدين متابعا - هو دا اتفاقنا؟
لبنى بصوت حاولت ثباته: - ما انا كنت هقولك بس.
مهدي بانفعال: - بس ايه؟

قاطعته ريتاج بحزم: - بس انا اللي قلت لها ما تفاتحكش في الموضوع دا لغاية ما اكون موجودة، لاني عارفة دماغك، تمام زي مراد ابني. معندكوش تفاهم، ومش هترضى تخليها تروح تعمل الواجب. لو ما كانش عشان حد، يبقى اقله عشان خاطر ابنها، لانها سواء وافقت او رفضت شهرت دي تبقى مرات شريف ابو احمد، اللي بتحبه زي ابنها بالظبط، اللي بتتكلم على طول تطمن عليه ومش بتسيب مناسبة لاحمد الّا وتكون عاملة الواجب، أنا أهو. لو عليا ما روحش اعزي في واحد، - وسكتت أكملت بحنق بعدها - ياللا اهو راح عند اللي خلقه مينفعش أذكره بحاجة وحشة مع انها حقيقة. لكن انا هروح مع لبنى عشان خاطرها هي، انت مش هتوافق حتى وهي رايحة معاك، ولعلمك بقه أنا اللي شجعتها، هي كانت هتكبر دماغها وقالت لي هعزيها في التليفون وخلاص، لكن انا اللي صممت انها تروح. في حاجات لازم نعملها حتى لو غصب عننا. لأنها أصول يا ابن راندا!

وقف مهدي ينقل نظراته بينهما ثم قال بجمود: - وأظن لو شافت شريف هتعزيه ما هي اصول ولّا ايه؟
همت لبنى بالنفي عندما أوقفتها ريتاج قائلة ببرود وهي تنوي اعطاء هذا الغيور العنيد درسا قويا: - لو شافته بالصدفة أكيد هتعزيه، لكن مش هتروح تدور عليه مخصوص!

عض مهدي على نواجذه في سخط واضح لتقترب منه ريتاج وتنظر اليه هامسة أمامه بصوت منخفض: - قصّر يا ابن راندا ماذا وإلّا الطيّبة المطيعة اللي واقفة ورايا دي هتبناها. أنا أساسا مش عجبني طيبتها الزايدة دي. لازم تتمرد شوية. انتو رجالة عيلة شمس الدين مينفعش الواحدة تكون طيبة معكم، مالكوش غير التمرد!

مهدي بفزع: - لالالا. ابعدي عنها خالص أبوس ايدك يا مرات خالي، ما انا قودامي همس اختي واللي عملته وبتعمله في مراد. ولا شمس. وريما كمان شكلها خدت لها مكان في الاكاديمية!
ريتاج مقطبة بريبة: - اكاديمية؟ اكاديمية ايه؟..
مهدي زافرا بيأس وهو يكاد يبكي: - المتمردة ريتاج اكاديمي!

ذهب ثلاثتهم الى قصر الرازي لتقديم واجب العزاء الى شهرت بينما اتجه مهدي الى السرادق المقام في حديقة القصر لتعزية شريف، فهو أولا وأخيرا والد أحمد والذي يعده بمثابة ابنا له هو، وحينما قرر الحضور كان لهذا السبب، ولكن مسألة حضور لبنى هي ما فوجئ بها ولم يحسب لها حسابا، لم يعتقد أنها ستفكر فيها من ناحية زوجة طليقها، للحفاظ على العلاقة الطيبة الهشة التي تشكلت بينها وبين الاخرى من ناحية، والعلاقة القوية التي تربط بين أحمد وزوجة أبيه والذي لا ينفك يحكي عنها بعد رجوعه من عطلة الاسبوع والتي يقضيها لدى والده وزوجته...

يعترف أنه يشعر بضيق شديد كلما شعر أن لبنى تقترب بشكل أو بآخر من دائرة طليقها، يحبها وبقوة، ويغار عليها وبجنون، وقد يكون غير منطقيا بالنسبة لها، ولكن. ومنذ متى أصبح الحب منطقيّا؟ فهو يداهم ويفرض شروطه ويأمر ولا ينتظر من المحب إلا التنفيذ!

صافح مهدي شريف برسمية متمتما بعبارات العزاء المتعارف عليها، قبل أن يتخذ مجلسه في سرادق العزاء، كان ينظر الى ساعة معصمه بين كل فينة وأخرى، وما أن أنهى الشيخ الذي قام شريف باحضاره لاقامة ليلة العزاء، ربع الجزء الذي يقرأه، حتى كان مهدي يتصل بلبنى يخبرها أن توافيه هي وزوجة خاله الى الخارج، فقد حان موعد الانصراف.

تقدم لمصافحة شريف مودعا ليقف خلف المنصرفين مثله وكان يكتم زفرة مختنقة حتى وصل اليه ومد يده للسلام عليه متمتما بكلمات لبقة عندما سمع شريف وهو يقول:
- لبنى.
ظن أنه يسأله عنها فطالعه بقوة وما أن همّ بالرد عليه بجواب يجعله يمتنع عن مجرد الاتيان على ذكرها ثانية، حدث ما جعله يفغر فاه دهشة، حيث فوجئ بصوت يعلمه جيدا يتكلم من خلفه برقته المعهودة قائلا:
- البقا لله يا شريف.

اندفع برأسه كالقذيفة يطالعها بغضب مكتوم، بينما عمدت هي الى التهرب من عينيه اللتان تكادان تحرقانها بسياطها اللاذعة، فيما سمع ريتاج وهي تتقدم لكسر الصمت المحيط بهم قائلة:
- البقاء لله يا أستاذ شريف.
صافحها شريف قائلا: - ونعم بالله، شكر الله سعيكم يا مدام.
ليرفع يده الى لبنى لمصافحتها بدورها فما كان من مهدي إلا أن سبقه لقبض بيده اليسرى عل راحتها اليمنى ويصافحه هو بدلا عنها وهو يقول بغيظ مكتوم:.

- شد حيلك يا شريف. عن اذنك.
وسريعا كان يسحب لبنى الى الخارج تلحقهم ريتاج والتي وقفت للحظات تراقبه وهو يكاد يرفع لبنى من فوق الارض راكضا بها لتزفر بسخط قائلة:
- لا. انت ما يتسكتش عليك، اذا كان هنا وبين الناس وانا موجودة وشكلك كدا، اومال لما تروّح هتعمل ايه مع المسكينة دي؟!

لتبرق عيناها بوميض العزم وهي تقول: - لازم لك وقفة يا ابن راندا ونزار. مش هسيبك تستقوى عليها.
ما ان وصلت ريتاج الى السيارة حتى فوجئت بلبنى وهي تستقل المقعد الخلفي، عكس رحلة القدوم، فقالت ببساطة بينما في داخله فهي سعيدة فها هي تلك المسكينة قد بدأت بوضع الحدود لابن نزار:
- ايه يا لبنى، ما قعدتيش جنب جوزك ليه؟

نظرت لبنى الى الامام بينما مهدي لا يزال واقفا بالخارج يبدو عليه أنه كان يجري حوارا حامي الوطيس:
- معلهش يا طنط، المكان هنا طراوة أكتر. قودام خانقة!

ليمرقها مهدي بنظرة متوعدة بينما أطلقت ريتاج ضحكة خفيفة، قبل أن تصعد الى مقعدها ليغلق مهدي الباب خلفها، ويصعد بدوره الى مكانه خلف المقود وينطلق من فوره وهو يهدد ويتوعد في نفسه أنه لن يمررها لها مرور الكرام أبدا، بينما يتذكر شكلها ما ان وصلا الى السيارة حيث سحبت يدها من قبضته بقوة وهتفت فيه بهمس حانق أنها لا تقبل أن يسحبها أمام الناس بهذه الصورة، وعندما كاد ينفجر فيها قائلا بأنها كيف سمحت لنفسها بالوقوف والحديث الى طليقها، والذي كان ينوي مصافحتها، فيمابداخله أتون مشتعل من مجرد تخيله أنه كان سيلمس زوجته هو حتى لو كان مجرد سلام باليد، فستظل ملامسة مباشرة من يده الى يدها الناعمة، جابهته بقوة قائلة ان الظروف هي من وضعتها في هذا الأمر، فهي قد خرجت تماما كما طلب، ولكن من غير المنطقي ألا تقوم بتعزيته عند رؤيتها له، لتضيف ما جعل غضبه يصبح كبركان يوشك على الانفجار ناثرا حممه من حوله. حيث قالت وبكل برودة أنه قد نسي أمرا هاما للغاية، هي أنه لس بطليقها فقط ولكنه أيضا. والد ابنها أحمد!

كاد مهدي يثور في وجهها لولا قدوم ريتاج ولكن مهلا. فما هو الا وقت قصير يقوم بايصال زوجة خاله وبعدها سيعمل على اخماد ثورة تلك العنيدة. وجعلها تعي تماما معنى أنها منطقة خطر بالنسبة له، من يقترب منها فهو كمن يدوس في حقل مليء بالألغام، ولكن كان للمتمردة رأي آخر!

أوقف مهدي السيارة أسفل الدرجات المؤدية لمنزل خاله أدهم والذي وقف أمام الباب المشرّع في انتظارهم حيث كان يهاتف ريتاج والتي أخبرته أنهم على وشك الوصول. ترجل مهدي وفتح الباب لريتاج، والتي شاهدت أدهم وهو يهبط الدرجات القليلة لمقابلتها، حيث رحب بمهدي، بعد أن قبّل وجنتي ريتاجه، قالت ريتاج للبنى والتي لوح لها أدهم مرحبا:
- تعالي يا لبنى. انزلي.

مهدي بينما لبنى تترجل: - معلهش يامرات خالي مش هنقدر نتأخر، نهاوند مش بتسكت كتير بعيد عن مامتها.
تقدمت لبنى للسلام على أدهم بينما قالت ريتاج ببراءة مزيفة: - ما انت هرجع لها يا مهدي، أنا بعد إذنك عاوزة لبنى في موضوع!
مهدي هاتفا بذهول: - نعم؟!
في حين رفع ادهم حاجبه مستمتعا برؤية متمردته وهي تفرض سيطرتها على ابن شقيقته، قالت ريتاج موضحة:.

- بصراحة طنط مها قلقانة جدا على هنا بنت خالك، وبفكر أنا ولبنى وريما وهمس وشمس نروح ل هنا بكرة ان شاء الله، يارا قدرت تعرف لنا العنوان، طلع هنا مش مسافرين ولا حاجة!

ثم نظرت الى لبنى دون انتظار رد من مهدي مردفة بابتسامة: - ياللا يا لولو تعالي معايا.
وانصرفت تتبعها لبنى بينما وقف مهدي يتابع طيف حبيبته وهو فاغرا فاه وقد ارتفع حاجبيه بقوة الى الاعلى ليتقدم منه أدهم قائلا بابتسامة ماكرة:
- عملت ايه يا ابن اختي؟
مهدي وبصره لا يزال مثبتا على النقطة حيث اختفت حبيبته برفقة ريتاج: - ولا أعرف!

أدهم وهو ينظر الى نفس النقطة حيث اختفت متمردته مع زوجة ذلك الواقف بجواره يكاد يبكي:
- مش مشكلة. هتعرف، تاج هتعرفك كل حاجة، استعد بقه انت وطارق لهجوم بقيادة المتمردة بنفسها، صدقني، هتخلص منك الل عملته واللي ماعملتوش واللي لسه هتعمله، وبكرة تشوف!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة