قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل السابع والعشرون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل السابع والعشرون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل السابع والعشرون

منذ عودتهما من رحلة الاسكندرية وهو يتعمد تحاشيها، يطمئن عليها عن طريق الجدة، بينما هي فلا يتواصل معها الا نادرا، وتحديدا عندما تلتقيه صدفة، لتجيبه ببرود بأنها بخير، بينما الجدة فهي تسوق لها الاعذار الواهنة لقلة زياراته او ندرتها، فهو يتعمد الحضور في الوقت الذي هو على يقين من أنها غير موجودة، ولكنها لن تكون تسنيم أن لم تكسر قالبه الثلجي الذي وضع نفسه بداخله بعد تلك الرحلة وتحديدا منذ أن عانقها فوق رمال الشاطئ حيث كانت أمواج البحر الفيروزية شاهدا على نبتة حب بدأت تنمو بداخله ناحيتها، تقسم أنها راتها في عينيه، رأت شغفا واعجابا كثيرا ما قرأت عنه في الروايات الرومانسية، شعرت بأنفاسه الساخنة وهي تشي بما يجيش في صدره من حرارة، وخَفَق قلبه فوق فؤادها لتتعانق دقاتهما، تماما كما تعانقت أجسادهما، وستكون غبية أن تركته يعود الى سابق عهده معها وتجاهله لها ومعاملتها فقط كأمانة لديه.

دلفت الجدة وهي تسير بتثاقل أجبرها عليه وزنها وعمرها الى غرفة تسنيم وهي تقول مفتعلة ابتسامة حنون:
- ايه يا سمسمة، هتفضلي قاعده في الاوضة لوحدك كدا كتير؟ ما تطلعي حبيبتي تقعدي معايا برة، انتي وحشتيني أوي.

نهضت تسنيم واتجهت اليها تحيط كتفيها بذراعها الابيض البض وهي تجيبها بابتسامة: - ما انتي عارفة يا ستّي عندي مذاكرة كتير، عاوزة أركز في الجامعة عشان أنجح وبتقدير يخليكي تفرحي بيا وترفعي راسك لفوق.

الجدة بحنان: - طول عمرك معايا وأنا فرحانة بيكي ورافعة راسي يا بنتي. طب خدي فسحة شوية وتعالي اتفرجي معايا ع المسلسل. دا تحففة.

ضحكت تسنيم وقالت: - فسحة! ماشي كلامك يا جميل، انت تؤمر. وهعملك كمان اتنين شاي في الخمسينة، وجنبهم الكيكة اللي انا عملتها امبارح ومحدش جِه ناحيتها!

الجدة بتحسر: - ما انتي عارفة يا بنتي اني ممنوعة من الحلويات عشان السكر ربنا يجازيه.
تسنيم بهدوء: - انا عاملة الكيكة يا حبيبتي بسكر مخصوص للي عندهم سكر، وبعدين حتة صغيرة خالص مش هتخسر، الدكتور بنفسه قال كدا عشان حقنة الانسولين اللي بتاخديها الصبح وبالليل.

الجدة وهي تهتف بسعادة كسعادة الاطفال لدى حصولهم على ما هو ممنوع بالنسبة لهم: - ان شا الله يخليكي يا بنتي، وانت ذنبك ايه تاكلي معايا أكل عيانين؟
تسنيم بنفي قاطع: - عيانين ايه بس؟ دا السكر دا مخصوص كمان للي بيعمل ريجيم. وأنا عاوزة أخس شوية.

الجدة باستنكار: - تخسي! هو انتي فيكي حاجة يا بنتي عشان تخسي؟ إلا إذا كان قصدك تختفي بقه؟!

ضحكت تسنيم وقالت وهي تدفعها لتخرجا من الغرفة: - طب تعالي بس الاول معاد الحلقة ال 1100 من المسلسل الهندي هيفوتك. ونبقى نتكلم في هخس ولا هختفي دي بعدين.

جلستا تشربان الشاي وتأكلان قطع الكعك وهما تشاهدان المسلسل المفضل للجدة حينما قطع تعليقات تسنيم على الأبطال رنين جرس الباب فنهضت متجهة من فورها لتستطلع الزائر الغير منتظر وهي تعلم أنه ليس بفواز فالأخير موعد رجوعه لم يحن بعد، ما أن فتحت الباب حتى طالعها وجه جارهم الاستاذ فاروق الصبوح وهو يقول بابتسامة واسعة:
- مساء الورد على عيون عروستنا.
تسنيم بابتسامة مماثلة: - مساء النور يا أستاذ فاروق.

تعالى صوت الجدة متسائلا من الداخل: - مين يا تسنيم يا بنتي؟
رفع فاروق صوته كي يصل اليها: - أنا يا حاجة.
أفسحت تسنيم له الطريق بينما هللت الجدة قائلة: - اتفضل يا أستاذ فاروق، تعالى يا خويا، ما تآخذنيش الروماتيزم عامل عمايله معايا.

وهمّت بالنهوض له حينما سابقها فاروق بالدخول وهو يقول ما ان رآها تحاول الوقوف: - والله ما أنتي قايمة يا حاجة، هو أنا غريب...
الجدة وهي تعود للجلوس ثانية: - لا طبعا دا انت صاحب بيت يا أستاذ فاروق، ما غريب الا الشيطان.
تقدمت تسنيم منهما بينما تركت الباب مشرعا، فيما قال فاروق بابتسامة اعتذار: - أنا آسف لو كنت جيت كدا مرة واحدة، بس.

الجدة بعتاب حنون وهي تشيح بيدها: - يوه! كلام ايه دا يا استاذ فاروق؟ دا بيتك ومطرحك انت تشرف في اي وقت.
فاروق وهو يبتسم: - تسلمي يا حاجة ما دا العشم بردو.
قالت الجدة لتسنيم: - سمسمة، اعملي كوباية شاي للأستاذ فاروق بسرعة.
حاول فاروق الاعتراض قائلا: - مالوش لزوم يا ست البنات.

الجدة باستنكار: - جرى ايه يا استاذ فاروق؟ حد قالك علينا بُخلا؟ دا أقل حاجة. لا وايه. – وتابعت وقد افترشت ابتسامة عريضة وجهها – البت سمسمة عاملة حتة دين كيكة تقولش تورتة! هتاكلك صوابعك وراها!

فاروق بابتسامة جذلى: - تسلم ايديها، من غير ما أدوق اكيد ممتازة.
صنعت تسنيم الشاي ووضعت قطعة كعك كبيرة في صحن وقدمت الصينية الى فاروق الذي تبادل الحديث مع الجدة، ليقول بعد أن فرغ من احتساء الشاي والتهام ثلاث قطع كعك فقد أضافت له تسنيم قطعتين بخلاف الاولى:
- يااااه. كوباية شاي الواد روءة ما يعرفش يعمل ربعها، ولّا الكيكة، بتدوب دوب في البوء (الفم) فعلا...

ثم نظر الى تسنيم مردفا بابتسامة كبيرة: - تسلم ايديكي يا ست العرايس.
تمتمت تسنيم بالشكر، لتقول الحاجة بزهو أمومي: - اومال ايه. تسنيم دي ست بيت من كله، بجد جمال وأخلاق وفي شغل البيت مافيش زيها، دا غير أكلها ولا تقولي الايد في الايد ولا حسين الشربيني!

ضحكت تسنيم وقالت مصححة: - يا ستي اسمه عل قد الايد البرنامج، والشيف اسمه الشربيني دا شيف طباخ كبير، انما حسين الشربيني دا ممثل الله يرحمه.

الحاجة ببساطة: - يا ختي أنا عارفة بقه.
ضحك فاروق قبل ان يتنحنح قائلا بتردد لفت نظر الجدة وتسنيم: - بقولك يا حاجة. كنت عاوزك في موضوع كدا يعني.
انتبهت تسنيم الى نظراته المسترقة اليها فنهضت سريعا وقالت وهي ترفع الصينية حيث الأكواب والصحون الفارغة:
- طب أنا هقوم اعمل دور شاي تاني.

انتبهت الجدة الى حديث الاستاذ فاروق والذي صارحها بأنه يود الارتباط بابنة جارتهم والتي شارفت على نهاية الثلاثينات، حيث رفضت كل عروض الزواج وهي في مطلع شبابها وعاشت مع والدتها المسنة ذات المرض العضال كي ترعاها، حتى استرد الله وديعته منذ سنة ومن يومها وهو يريد مفاتحتها بأمر الزواج منه ولكنه متردد، فالفارق العمري بينهما يكاد يصل الى الخمس عشرة عاما، لا ينكر أنها قد لفتت نظره منذ زمن ولكنه كان يعلم رفضها لكل خاطب لها، فلم يرغب أن يسبب لها ولنفسه ولوالدتها الحرج خاصة وهم جيران في نفس البناية عمرا بأكلمه، ولكن بعد وفاة والدتها رأى أنه لا مانع من أن يتقدم لها، خاصة وأنها هي الأخرى قد ندرت فرصها للزواج ولم يعد يأتيها الا من سبق له الزواج ولديه أطفال أو أن يكون راغبا لها كزوجة ثانية، مما يعزز فرصته في القبول من طرفها.

رحبت الجدة بذلك الأمر وأخبرته بثقة تامة أنها لن تدع أمل حتى تحصل على موافقتها على الاقتران به، فتهلل وجهه بسعادة وهو يدعو لها بطول العمر، عندما عادت تسنيم تحمل كؤوس عصير الجوافة، بدلا من الشاي حرصا على صحة جدتها، فرأت ابتسامة كلا من فاروق والجدة لتقول وهي تقرب الصينية من فاروق ليتناول كأس العصير:
- ما تفرحوني معكم؟، شكلكم فرحان اوي. خير يا رب؟

الجدة بحماس: - خير يا وش الخير، قريب أوي هنفرح بالاستاذ فاروق.
تسنيم بسعادة وهي تجلس بجوار الحاجة: - بجد؟، ومين بقه سعيدة الحظ؟
نظرت الجدة الى فاروق الذي أجاب بتلعثم طفيف: - الآنسة أمل، بس دي حاجة بيننا وبين بعض يا ست العرايس، لغاية ما نشوف هيحصل ايه.

تسنيم بتأكيد: - أكييييد، اطمن، مش هيحصل الا كل خير ان شاء الله، وعموما سرّك في بير يا أستاذ فاروق. أنت لا قلت ولا أنا سمعت!

لكن أنا سمعت!
شهقت تسنيم شهقة صغيرة وهي ترفع عينيها الى الواقف أمامها يطالعها بغموض لتنتبه الى أنه قد دلف من باب المنزل الذي تركته مواربا خلف الاستاذ فاروق، قالت الجدة بسعادة:
- فواز يابني، حمد لله على السلامة يا حبيبي، رجعت بدري يعني انهرده؟
فواز وعيناه مسلطتان على تسنيم التي تعمدت عدم النظر اليه وادعت الانشغال بما يعرض أمامها على شاشة التلفاز وهي تحتسي عصيرها:.

- يعني، الندوة بتاعت انهرده في قصر الثقافة خلصت بدري. المهم.
وسكت ليتقدم ناحيتهم فمال مقبلا رأس جدته ثم جلس على الاريكة بجوار تسنيم، فأصبحت تسنيم بينه هو والجدة فحاولت الابتعاد عنه ليسارع بالجلوس براحة تامة فكانت النتيجة أنها حُشرت بمعنى الكلمة بينهما لتشعر وكأنها قطعة جبن بين شريحتي خبز!

قال فواز بابتسامة ملتوية: - ما تفرحوني معكم، ايه هو الخير اللي هيحصل واللي سره في بير عندك يا حرمنا المصون؟..

وقد تعمد الوصف الاخير لها حتى يذكرها ويذكر غيرها بأنها زوجته هو!، وعضّد كلمته تلك بنظرة خاصة الى تسنيم والتي قابلتها بابتسامة صفراء قبل أن تتجاهله كلية وتقفز واقفة وهي تقول بابتسامة موجهة لفاروق:
- عشان الاخبار الحلوة دي عشاك عندنا انهرده يا أستاذ فاروق، ولا ايه يا ستّي؟
موجهة سؤالها الاخير الى الجدة التي أكدت دعوتها قائلة: - أومال ايه، احنا هيجي لنا أعز منك يا أستاذ فاروق!

قطب فواز بريبة والذهول يعتريه، منذ متى أصبح الاستاذ فاروق هامّا لتلك الدرجة بالنسبة لجدته ولها، تلك التي لم تعره سوى نظرة عابرة لحظة دخوله لتشيح بعدها بوجهها بعيدا عنه وكأنه كمّا مهمل!

حاول فاروق الاعتراض ولكن مع تشبث تسنيم والجدة بدعوة العشاء انصاع صاغرا، ليقضي فواز أطول ساعتين بعدها في عمره كله، وهو بين شعورين أحدهما الفضول لمعرفة السر الذي تتقاسمه تلك المشاغبة الصغيرة مع ذلك الجار المتصابيى في رأيه، والثاني أن يسحبها من بينهم لينفرد بها، فهي لم تنفك تتحدث وتضحك مع ذلك ال فاروق والجدة ولكنها لم توجّه اليه أية كلمة أو نظرة واحدة، الأمر الذي شكّل بالنسبة له ضيق كبير. ولكنه لن يكون فواز إن لم يضع الأمور في نصابها الصحيح. فليس هو من يُعامل بذلك البرود وتلك اللا مبالاة ويسكت! ولا بد لتسنيم أن تعلم هذا جيدا!

انقضى العشاء وانصرف فاروق، لتعتذر الجدة منهما وتنسحب معللة رغبتها في النوم بينما الحقيقة أنها تترك لهما حرية التصرّف فهي تعلم جيدا ما تعانيه تلك الصغيرة، وكم تدعو الله أن تستطيع الفوز بقلب حفيدها، وأكثر ما تخشاه ألا يعي فواز مشاعره الحقيقية لها الا بعد فوات الاوان!

انشغلت تسنيم برفع أطباق العشاء في صمت تام، ليقوم فواز بمساعدتها فقالت ببرود دون أن تكلف نفسها عناء النظر اليه:
- ما تتعبش نفسك، أنا هشيل الأكل.
فواز وهو يمسك بأحد الصحون: - ايد على ايد تساعد.
فهزت كتفيها بلا مبالاة واتجهت الى المطبخ يتابعها فواز بنظرات محتقنة غيظا ومتوعدة!

كانت تقف أمام حوض المطبخ لتشرع في جلي الصحون المتسخة عندما قبضت يدا سمراء قوية على معصمها فرفعت عينيها الى صاحبها الذي قال بلهجة من لا يقبل النقاش:
- سيبي دا دلوقتي، وتعالي عاوزك.
هدأت من دقات قلبها العالية وقالت وقد تعمدت عدم النظر اليه: - معلهش، لازم أشطب المطبخ لأني الصبح بكون مستعجلة عشان الجامعة ولو سيبتهم ستّي هي اللي هتعملهم وهتتعب.

فواز بأمر: - مش هيحصل حاجة لو اتأخروا ربع ساعة كمان، كأن الاستاذ فاروق – أضاف ساخرا – لسّه موجود!

حركت كتفيها بعدم مبالاة وقالت ببساطة: - اوكي.
فترك معصمها لتجفف يدها وتتبعه الى الخارج فهي تعلم جيدا أنها لو كانت رفضت لكان لازمها في ذلك المطبخ الصغير والذي يكفي فردين بصعوبة شديدة، وهي لا طائل لها بالشعور بأنفاسه حولها فقدرتها على الصمود أمامه أوشكت على النفاذ وتخشى أن تنفجر فيه لتلقي في وجهه ما بجعبتها ضده لبروده ونفوره وتجنبه الواضح لها وكأنها وباء معدي!

أشار لها بالجلوس ولكنها رفضت قائلة: - مالوش لزوم، قول الكلمتين اللي عندك عشان أنا تعبانة وعاوزة أشطّب المطبخ وأنام.

نظر اليها فواز بصمت لثانيتين قال بعدها ببرود: - الاستاذ فاروق دا كان هنا عاوز ايه؟
تسنيم بغرابة: - ايه المشكلة انه ييجي؟ دا جارنا لو كنت نسيت؟ وبعدين الراجل جِه وقعد بكل أدب واحترام ما صدرش منه أي حاجة تزعل.

فواز بحدة مكتومة: - ولما يدخل بيت صاحبه مش فيه دي مش حاجة تزعّل؟
تسنيم ببساطة: - أنا سيبت الباب مفتوح وانت بنفسك دخلت منه من غير ما تتنحنح ولا ترن جرس ولا حاجة ابدا – في أشارة منها الى دخوله عليهم في صمت دون استئذان الامر الذي استشاط له فواز غضبا! – وبعدين كان عاوز ستي في موضوع قال الكلمتين بالراحة وخلاص، فين المشكلة عاوز أفهم؟

تقدم منها فواز بخطى بطيئة في حين قطبت هي بريبة لتتراجع لا شعوريا الى الخلف بينما تحدث فواز قائلا:
- أولا أنا غيره. دا بيتي، بيت جدتي، واللي فيه تبقى مراتي، يعني أطلع وأدخل وقت ما أنا عاوز ومن غير استئذان كمان، تاني حاجة. كلام ايه دا اللي كان عاوز فيه الحاجة وحضرتك عارفاه وسرّه في بير عندك؟!

علمت تسنيم وقتها أنه قد سمع آخر عبارة تبادلتها مع فاروق، وهو يوصيها أن تحتفظ بذلك الامر حتى يعلم جواب عروسه النهائي، فحركت كتفيها بلا مبالاة وهي تجيبه ببساطة استفزته الى أقصى درجة:
- والله دا موضوعي عشان أقولهولك! وانت سمعت بنفسك وأنا بقوله سرك في بير، وأنا ما اتعوتدتش أني أفتش سر حد استئمني عليه!

فواز بقوة: - بس أنا جوزك!
تسنيم ببرود: - ولو!
هدر فواز بذهول غاضب: - سرّ بينك وبين راجل غريب؟!
نظرت اليه تسنيم وداخلها لا يصدق تلك الشرارات المنبعثة من فحم عينيه المشتعل، والتي لا تعني سوى شيئا واحدا فقط، ألا وهو. الغيرة! وأن كانت الغيرة هي من ستحرك مشاعره ناحيتها وتنفض الرماد عنها فهي أكثر من قادرة على نفخ نيران تلك الغيرة حتى يذوب تماما جليد قلبه فينصهر فيها حبا. تماما كما تذوب هي فيه عشقا!

رأت تسنيم أن البرود أفضل سلاح لها تستفزه به، فقد أبلت حسنا الى الآن، لهذا قالت بكل برود وابتسامة صفراء تزين محياها:
- شكلك نسيت انه ستّي كانت في القاعدة وانها هي اللي عارفة الموضوع كله من الاول، والسر ما كانش ليا لوحدي لا، كان ليها هي كمان، وعموما عشان ما تفكّرش كتير، الموضوع خاص بالاستاذ فاروق شخصيا. يعني لا يخصني ولا يخص ستي عشان تصمم تعرفه. ارتحت؟!

شهقت متفاجئة حيث قبض على مرفقها بقوة وهو يتحدث بوعيد من بين أسنانه المطبقة: - سر يخص سي بتاع دا. تعرفيه انتي ليه؟ ايه اللي بينك وبينه وجاي يرسم الشويتين على الست الطيبة دي؟ أنا من يوم رحلة اسكندرية وأنا حاسس أنه في حاجة مش مظبوطة، بس كنت بكدّب نفسي!

أهي كلمات تلك التي انطلقت منه أم أحجارا عديدة انهمرت عليها لتسقط على قلبها تجرحه وبقوة وتتركه وهو ينزف يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة؟! كلا، هي مخطئة وبكل تأكيد، ليست غيرة تلك التي ظنتها أول الأمر، بل هو شكّ أسود! ظنون سوداء ملأت قلبه ناحيتها، وفي حين كان قلبها الجريح يحاول تصيد الاعذار له بأن سماح هي السبب في ذلك السواد الذي يكسوه وتلك الظنون والشكوك التي تراها في عينيه، كان عقلها يقف بالمرصاد رافضا تلميحاته والتي دخلت الى حيز التصريح بشكّه في سلوكها، معللا بأنه لم يصدر عنها ما يشين. وأن بعضة كلمات مجاملة ألقاها ذلك الجار الطيب على مسامعها ليس معناها أبدا أنها على علاقة آثمة معه كما يلمّح في كلماته!

رفعت اليه عينان خاويتان وقد كسى الشحوب وجهها ولكنها تكون ملعونة لو انهارت الآن أمامه، بل ستجابهه بكل قوتها، وبعدها لديها الأيام كلها تبكي كما تريد على قلب نازف وعشق مهدور الكرامة على يد حبيب غبي!

قالت تسنيم بجمود: - مش معنى أنه كان مجامل معايا في رحلة اسكندرية أنه في حاجة مش كويسة بيننا. لأن اللي مش كويس فعلا هي دماغك وتفكيرك المنحط!

حدق فيها بعينين واسعتين ذهولا وصدمة قبل أن يهتف بغضب: - تسنيم!
ولكنها رفعت يدا بيضاء صغيرة أمامه وقالت بصوت ميت: - لو سمحت، مش عاوزة أسمع كلام تاني، كفاية اللي انت قلته لغاية دلوقتي...
قال فواز بصوت منفعل: - أنا ما...

صاحت تسنيم وقد وصلت ذروة استحمالها له: - انت ايه؟ انت مالكش الحق انك تشكك فيا ولا في أخلاقي! مين سمح لك انك تفكر فيا بالاسلوب دا وتتهمني الاتهامات البشعة دي؟ مش معنى أنك جوزي انك كاسر عيني ولا ليك عليا جميلة فأسمع اهانتي منك وأسكت. لا! أنا حرة. عارف يعني ايه حرة! يعني عمر ما حد يقدر يملكني أبدا، أنا بس اللي أملك نفسي، ومافيش مخلوق له حق أنه يشكك فيا وفي أخلاقي، ومش معنى أنك اتصدمت في واحدة من جنس حوا يبقى كل بنات حوا كدا، الحلو موجود والوحش كمان موجود، بس المهم انك تعرف تختار صح، ولو اخترت غلط ما تعممش اختيارك دا ع الباقيين. لأنه دا هيبقى غلطتك انت لوحدك. وأنا معنديش أي استعداد أني أتحمل معاك تبعات غلطك دا. حتى لو كنت جوزي. ولو بالاسم بس!

قد تكون تمادت فيما قالته، ولكن كان لا بد لتلك المواجهة من الحدوث، ففواز يضيع أجمل أيام حياتهما سوية في البكاء على أطلال تلك الافعى المسماة سماح، يكفي أنها حينما علمت من الجدة بخبر زيارته لها في السجن بناءا على طلب من الجدة نفسها تمالكت نفسا بصعوبة شديدة، ووضعت قناع اللامبالاة الزائف بينما في داخلها فهي تتحرق غيظا لتعرف ما حدث بينهما، ولم تحاول الاتيان على ذكر ذلك الأمر له حتى يخبرها هو من تلقاء نفسه، ولكنه لم يفعل، على الرغم من التقارب الذي حدث بينهما في رحلة الاسكندرية ولكنه بعد عودتهما ابتعد عنها وكأنه يعاقب نفسه على ذلك الشعور الذي خالجه وشعرت به وهو ينتفض بين ذراعيها شوقا اليها تماما كما تشتاق هي الى حبه وحنانه، الذي تعلم أنه ما أن يترك لقلبه المجال حتى يغرقها في بحار ذلك الحب والحنان، لتقرر أن تتعامل معه بسياسة النفس الطويل. ولكن أن يصل به الامر الى الشكّ فيها وفي أخلاقها فهذا ما لن تقبله حتى ولو تخلت عن حبها له في المقابل. فلا بد له أن يعلم بأنها مختلفة جملة وتفصيلا عن تلك الافعى. ولو لم يقتنع فخسارته ساعتها ستكون مكسبا لها حتى ولو أدى ذلك الا اقتلاع قلبها من بين جوانحها!

قطب فواز ودنا منها حتى وقف أمامها تماما ومال برأسه ناحيتها ليقول متشككا: - ايه؟ انت قلتي ايه؟
تسنيم رافضة الشعور بالخوف الذي بدأ يزحف اليها من هدوئه الزاثف: - أظن انت سمعت كويس أنا قلت ايه، ولو عاوزني أعيد ما فيش مشكلة!
لترفع وجهها اليه وتقول وهي تضغط على حروفها بثقة وقوة أثارت اعجابا عبر مقلتيه في لمحة خاطفة لم تنتبه اليها:.

- أنا مش زي أي حد، وأرفض اني أتحمل غلط حد، أو انك تعملني صورة من شخصية هي قمة في الحقارة والوضاعة، الشخصية دي كانت اختيارك انت، يعني انت بس اللي تحمل تبعات اختيارك دا، خصوصا أنه ما فيش حاجة تخليني أستحمل كمية السواد والشك اللي مالي قلبك، ولو على حكاية جوازنا محلولة!

فواز بغموض: - ازاي؟
تسنيم بحركة من كتفيها تدل على اللا مبالاة: - زي ما في جواز فيه طلاق، ولو على حكاية انك تبقى الوصي بتاعي فاطمن. أنا أقدر آخد بالي من نفسي كويس أوي، مش محتاجة بودي جارد. حتى لو برُتبة زوج!

ها هي قد ألقت قفاز التحدي في وجهه، وهذا آخر سهم ستطلقه ناحيته، فإما أن يظهر لها ما يجعلها تتحمس على المضي قدما في طريقها لاحتلال قلبه وأما تصرف النظر نهائيا عنه أن صمم على التمسك برأيه فيها وبجعلها صورة من أخرى تأنف حتى على النظر اليها!

ضغط أقوى على مرفقها قبل أن يقول وهو يزرع عينيه بين بندقيتيها بتهديد خفي: - وأنا ماليش رأي؟، بعيدا عن انك سمحتي لنفسك تتكلمي في ماضي انتهى بالنسبة لي ومش مسموح لأي حد أنه يتكلم فيه، أنتي مراتي أنا. ولو أنا كان عندي نسبة شك ولو 1% في أخلاقك صدقيني ما كانش ممكن أخليكي تشيلي اسمي تحت أي ظرف، حتى لو عشان أكون مسئول عنك، أنا بقولك كدا عشان تشيلي التخاريف بتاعت الشك والكلام دا من مخّك الفاضي دا – وضرب بطرف اصبعه جانب رأسها وهو يبتسم بهزء مضيفا – ودي أول وآخر مرة أسمع منك الكلام دا، وصدقيني لو كررتيه تاني هتشوفي وش عمرك ما تخيلتيه، وعقابي هيكون قاسي جدا! أما بقه من ناحية أنك تقدري تشيلي مسئولية نفسك ف دا في حالة واحدة بس.

وسكت للحظة أكمل بعدها مشددا على كل حرف يخرج من بين شفتيه: - أني أكون مش موجود، لكن طول ما أنا هنا. معاكي. وانت هتفضلي مسئولة مني أنا. وأنا ما اتعودتش أهرب من المسئولية!

هو مصممى على قهرها إذن!، فها هو يكرر كلمة مسئولية وكأنها قد أعجبته! حسنا سيد مسئول وأنا في غنى عنك وعن احساسك بالمسئولية نحوي، الله الغني سيد ال مسئول!

لمعت عينيها ببريق خطف أنفاسه لوهلة بينما أجابته بقوة: - وأنا مش عاوزة المسئولية دي، من الآخر بعفِيك (أحلّك) منها! أنا مش هبلة ولا مجنونة عشان أتحامى في حد، وبصراحة بقه أنا من بكرة هرجع شغلي في الحضانة تاني، المديرة كلمتني وعاوزني هناك، وأنا محتاجة الشغل دا، أنا مش هفضل طول عمري عالة على حد، دا غير أني لسه صغيرة وبصراحة مسئوليتك دي هتضرني مش هتنفعني!

مجنونة! جائز! تمادت في تحديها له. احتمال كبير. ولكن الأكيد أنها تعبت. تريد بارقة أمل. فقط ولو بصيص ضوء صغير أنه بالنسبة له شيئا آخر غير عبء ألقي على كاهليه! لذا فقد تعمدت الاشارة الى أن ارتباطهما قد يكون عقبة في طريقها فهي لا تزال صغيرة وشابة وجميلة و...

انتبهت من شرودها على اشتداد قبضته حتى شكت أن مرفقها سينخلع في يده، فتأوهت وهي تنظر اليه برعب مختلط بتحفز لاكتشاف الوجه الاخر له، لا تدري أي شيطان وسوس لها أن تتمادى في تحديها له لترى ماذا أو كيف سيكون عقابه والذي توعدها به؟..

مد يده الحرة يرفع خصلاتها الناعمة المحيطة بوجهها يزيحها الى جانبي رأسها، ونظر في عينيها بليل عينيه الشديد السواد لتطالعه هي بعيني طفلة بريئة متسائلة. مترقبة، متحمسة. ولكنها أيضا، خائفة! فحدسها يخبرها أن ما ستختبره على يديه سيدفع علاقتهما الى نقطة اللا رجوع. ازدرت ريقها رغما عنها فيما مال هو على وجهها لتلفحها أنفساه الساخنة وتحدث بصوت خشن هامس أرسل قشعريرة مرت على طول عامودها الفقري لتجعلها تتيبس في مكانها:.

- أظن أني سبقت وقلت بدل المرة ألف. شغل. لأ؟! وأظن كمان أني قلت لك حالا. بلاش تتحديني يا تسنيم وتقفي قودامي، لأن غضبي وحش، وأنتي مش قده، وواضح بردو أنك مش عارفة أنت بئيتي إيه دلوقتي؟

تسنيم في محاولة واهية للم شتات نفسها وهي ترفع ذقنها الصغير بينما أصابعه فهي مستمرة في ملامسة صفحة وجهها حتى لامس العرق الذي ينفر بقوة في رقبتها دليلا على توترها الشديد الذي تحاول اخفائه وقالت:.

- بئيت إيه؟ أنا زي ما أنا. كنت حِمل في الأول. ولسّه حِمل لغاية دلوقتي، ومهما حصل مش هتقدر تقنعني بغير كدا، عشان كد أنا مصرة أني أشتغل وانا بدرس، مش عاوزة أعتمد على حد، وقريب أوي هترتاح من الحِمل دا خالص!

سكتت لتبتسم بمرارة متابعة: - يا ريت تحاول ما تركزش معايا الفترة دي، وصدقني أنا هخليك ما تحسش بوجودي خالص!

طالعها بصمت دام لثوان قبل أن يتكلم بجدية هامسا: - للأسف، مقدرش ما أركزش! أنا عمري ما هربت من واجبي، وأنت. مراتي. يعني مسئولة مني! أما بقه حكاية أني ما أحسش بوجودك دي...

وسكت تاركا عبارته معلقة لثوان نظر اليها فيها بنظرات غامضة أشاعت الفوضى في حواسها قبل أن يرفع يده الأخرى تاركا مرفقها، يحتوي وجهها بين راحتيه الضخمتين مردفا بصوت خشن داعب أوتار قلبها فيما ضرب الهواء الساخن الخارج من أنفه بشرة وجهها الحليبية لتشعر بحرارة تغزو أطرافها ودفء صوته يصل لخلاياها فتتشربه ويتشبع به دمها فيسري الدم ساخنا كالعسا الدافئ في عروقها وهي تسمعه يهمس:.

- فمن سابع المستحيلات أني محسش بيكي. لأني بحس بيكي في كل ثانية بتمر علينا. ومش فاهم أنت متصورة ازاي أني أقدر اسيبك بسهولة كدا تبعدي في الوقت اللي أنا عاوز أكون أقرب لك فيه من أنفاسك، ليه وإزاي معرفش، ومش عاوز أعرف، لكن اللي أنا عارفه ومتأكد منه. أنك مراتي. وأنه جوازنا دا مش مؤقت ولا على الورق بس زي ما بتقولي، وأنا مستعد أثبت لك دا. وحالا!

نظرت اليه بذهول مختلط بسعادة يغشاها القلق، فهي كانت تحلم بسماع هذه الكلمات منه، ولكن. لما عندما صرّح بها لم تفرح؟ أو. بمعنى أدق كانت سعادة مبتورة، فالكلمة الوحيدة التي هي الضمان الفعلي لها لم يقلها!، لتنظر اليه وتفتح فمها الصغير تهمس بتلعثم بسيط:
- أيوة، بس يا فواز...

ولم يرغب بسماع المزيد. يكفيه اسمه الذي نطقت به شفتيها، ليتولى هو مهمة إكمال الحديث. ولكن على الطريقة الفوازية، حيث تهمس شفتيه لثغرها الشهي، في سريّة تامة، بما لم يعيه هو نفسه، فجُلّ ما يعلمه جيدا أنه يكاد يموت توقا لتذوق تلك الشفاه التي سلبته طعم النوم والراحة منذ وقت طويل. وتحديدا يوم أن كان يشكو من الحرارة الشديدة فجلست بجانبه تعتني به لتختبر درجة حرارته بعدها بشفتيها لتكون لمستهما كرفرفة فراشة خفيفة، بينما يشعر بطرواتهما وكأنها قطرات ندية ترطب سخونة رأسه الشديدة، وكان قد شعر بهما وهو بين اليقظة والمنام، حتى انه ظن أنه لم يكن الا حلما نتيجة الحمى التي ألمت به، ليتذكر بعدها ما حدث، ويتساءل وقتها. هل ما شعر به من حرارة ونعومة وهو بين اليقظة والمنام هو ذاته ما سيشعر به أن كان في كامل وعيه؟ ترى ما مذاق تلك الطراوة الشهية التي لمست جبهته؟، وماذا سيحدث له إذا ما اختبرها وهو بكامل وعيه؟ هل ستسلب أنفاسه تماما كما فعلت بمجرد قبلة بسيطة فوق جبهته الساخنة؟!

اتجه لفتح الباب ليتراجع خطوتين الى الخلف وقد ارتسم على وجهه علامات الصدمة الكبرى. فأمامه تقف زوجة عم هنا. ومعها تقريبا جميع نساء عائلة شمس الدين!، كانت ريتاج الأسبق في الحديث إذ قالت بابتسامة صغيرة:
- ايه يا طارق، ما فيش اتفضلوا؟!
أفسح طارق الطريق لهن وهو يقول بارتباك ملحوظ: - لا طبعا ازاي. اتفضلوا.
ودلفت ريتاج تتبعها همس وشمس ولبنى، بينما أشار طارق الى غرفة استقبال الضيوف قائلا:.

- ثواني أنادي هنا!
واتجه الى غرفته هو وهنا. بينما اتجهت ريتاج ومن معها الى غرفة الصالون في انتظار هنا.

دلف طارق الى غرفتهما، حيث رقدت هنا فوق الفراش تطالع بسأم في شاشة التلفاز المقابل لها، قال طارق بصوت منخفض بعد أن أحكم غلق الباب خلفه:
- قومي يا هنا.
هنا من دون النظر اليه: - عاوز ايه يا طارق؟ خروج مش عاوزة، أكل ماليش نفس.
زفر طارق بنفاذ صبر وقال: - اطمني مش هتحايل عليكي عشان نخرج ولا عاملك أكل زي كل يوم وأغصب عليكي تاكلي بالعافية.

هنا بتقطيبة وهي تنظر اليه: - أومال عاوزني أقوم أروح فين؟ ومين اللي كان بيضرب الجرس صحيح؟
طارق بحنق: - مرات عمك وبنتها ومرات مهدي ومراد!
حدقت هنا فيه بذهول مرددة: - مين؟
لتقفز بعدها وهي تردف هاتفة: - معقولة طنط تاج هنا؟!
همّت بالتوجه اليهن عندما أمسك بساعدها فنظرت اليه بتساؤل ليقول محذرا: - هنا. ما تدخليش حد ما بيننا. مشاكلنا هنحلها سوا. بلاش حد يدخل ما بيننا!

طالعته هنا في صمت للحظات قبل أن تجيبه ببرود: - بيتهألي أنك أنت اللي دخلت ال حد دا بيننا؟ يوم ما سمحت لواحدة زي مشاعل انها تكون طرف تالت في علاقتنا ببعض، بصرف النظر عن أسبابك اللي ما تدكش (لا تعطيك) العذر، بالعكس. دا اللي بنقول عليه عذر أقبح من ذنب!

وقلبت وجهها بتعبير خيبة الأمل قبل أن تردف وهي تستعد للمغادرة: - عن إذنك ما يصحش أسيب ضيوفي يستنوني أكتر من كدا!
وانصرفت ليلحق بها طارق وقد عزم على احباط مخططات عائلتها أن فكروا مجرد تفكير في سلبه إياها. ف هنا زوجته هو، امرأته التي لن تبتعد عنه ولو خطوة واحدة. وآن للجميع التأكد من ذلك!

دلفت هنا الى غرفة استقبال الضيوف وما أن شاهدت ريتاج حتى اندفعت الى أحضانها تعانقها بقوة وهي تذرف الدموع على صدرها بينما ريتاج فهي تهدهدها وهي تطمئنها بكلمات حنونة أن كل شيء سيكون على ما يرام، فيما حدجت طارق من فوق كتف هنا بنظرة صلبة. قوية، متوعدة!

بعد أن هدأت نوبة البكاء التي داهمت هنا رحبت بكل من همس وشمس ولبنى، لتجلس بعدها بجوار ريتاج ليقول طارق بمرح مصطنع:
- اللي يشوفك وانت في حضن طنط تاج يفتكر انك كنت مهاجرة من سنين، واحنا ما كملناش اسبوعين بس!

ريتاج ببرود: - وطالما أنتو في مصر يا طارق، ليه قلت لمها أنكم مسافرين شغل؟ وليه هنا مش بتكلم مامتها؟ دي مها هتتجنن عليها، أنا ما رضيتش أقولها اننا جايين انهرده قلت لما أتأكد بنفسي أنكم فعلا موجودين أبقى أقولها.

طارق ببساطة: - بصراحة كنت عاوز أستفرد بهنا!
نظرت اليه هنا بلوْم في حين تابع هو بثقة: - وحشتني أوي وحبيت أننا ناخد أجازة ونبعد عن الكل، حتى بنتنا سيبتها عند ماما مها، كنت عاوز نبقى لوحدنا. أنا وهي وبس. أما من ناحية أننا متكلمناش فأكيد أحنا مطمنين على شهد مع جدتها وجدها، دا غير انه زي ما قلت لحضرتك احنا كنا منعزلين عن الكل، ولا عيلتي حتى تعرف أني نزلت مصر من أصله!

ريتاج بهدوء: - اممم، بصراحة أنا قلت أكيد انت حبيت تكونوا لوحدكم عشان تصفوا الجو اللي بينكم!
طارق مدعيا عدم الفهم: - نصفي؟ حاجة ايه اللي نصفيها؟
ريتاج بسخرية طفيفة: - هي مش هنا بردو كانت زعلانة وطالبة الطلاق؟!
شحب وجه طارق وقال وهو يرمق هنا بنظرات مختلسة: - أي جواز بيكون فيه مشاكل، والواحد في ساعة غضبه بيقول قرارات بيرجع فيها بعدين.

ريتاج بثقة: - ويا ترى هنا رجعت في قرارها دا؟
موجهة سؤالها الى هنا ولكن كان طارق من أجاب مندفعا: - أكيد!
ريتاج برفعة حاجب: - مممم. أكيد رجعت فيه ولّا أكيد هترجع فيه؟
طارق محاولا تمالك نفسه: - أكيد رجعت فيه، زي ما قلت لحضرتك.
لتقاطعه هنا هاتفة بقوة: - أنا أقدر أجاوب عن نفسي يا طارق!
بُهت طارق ونظر اليها قبل أن يقول بتساؤل مرتاب: - وانتي عندك جواب تاني يا هنا؟

نظرت اليه هنا في صمت للحظات قبل أن تقول بهدوء مغلف بحزن: - للأسف يا طارق. أنا متمسكة بطلبي، احنا مش لبعض!
هتف طارق بصدمة: - يعني ايه؟
هنا بوجه شاحب وصوت بارد: - طلقني يا طارق. طلقني!

لا تعلم كيف أقنعت ريتاج طارق أن ينصرف ويتركها بمفردها معهن، ولكن. لعلها الصدمة من قرارها الذي فوجأ بتصميمها عليه ما جعلته يرضخ لطلب ريتاج علّها تستطيع ارجاعها عما عزمت عليه، وأن كان علم حقيقة ما أتت ريتاج من أجله لكان رفض بكل تأكيد أن يتركها بمفردها مع. المتمردة!

قالت ريتاج لهنا وهي تملس على شعرها: - انت مقتنعة بقرارك يا هنا؟
هتفت همس بقوة: - أكيد طبعا يا ماما تاج، دا خانها. مهما كانت أسبابه فاسمها خيانة، والخاين مالوش أمان!

شمس مؤكدة: - وأنا مع همس.
نظرت ريتاج الى لبنى قائلة بابتسامة صغيرة: - وأنتي يا لبنى رأيك ايه يا حبيبتي؟ أنا صممت أنكم تيجوا معايا عشان نتكلم بعض وكل واحد يقول رايه. وما جبتش مها عشان لو الامور اتصلحت بينهم يبقى اللي حصل يفضل بعيد عن مها ومحمود، لأنه مهما كان دول أب وأم عمرهم ما هينسوا اللي عمله طارق حتى لو انتي نسيتي.

لبنى بتفكير: - أنا بيتهيالي أنه هنا الوحيدة صاحبة القرار دا، هي اللي تقدر تحدد هي عاوزة ايه، بس الاول لازم تواجهه وتعرف منه ليه عمل كدا؟

هنا بجمود: - أنا حكيت لهمس بس.

قاطعتها همس معترفة: - سوري يا هنا، بعد اختفائك مع طارق أنا ما صدقتش حكاية سفرك دي، وعرفت من يارا اللي عمله طارق مع زياد، ما رضيتش المواضيع تكبر فقلت لطنط تاج، وكويس أنه زياد يوم ما طارق جالك خدك غصب عنك من الاستوديو مشي وراكم وعرف عنوانكم. لكن اللي حصله من طارق بعدها خلّاه ما يقدرش ييجي لك زي ما كان ناوي، فقال عنوانك لريما إلى بلغتني بيه، ولما قلت لطنط تاج صممت اننا نيجي عشان نقف جنبك.

هنا بدموع مترقرقة: - وأنا فعلا محتاجة اللي يقف جنبي، لأني حاسة اني متلخبطة جدا، لا أنا قادرة أسامحه ولا أنا قادرة أنسى وفي نفس الوقت صعبانة عليا شهد أوي. وصعبان عليا منه أوي أوي!

وانخرطت في بكاء حار لتحتويها ريتاج بين ذراعيها وتقول: - هنا حبيبتي أنا فاهماكي كويس أوي، أنت موجوعة منه، عاوزة تعاقبيه على إلى عمله فيكي، عاوزاه يدوق النار اللي لسعتك، وفي نفس الوقت مش عاوزة تسيبيه لواحدة تانية وكأنك بتديهولها (تعطيه لها) هدية أو منحة، صح؟

هنا وهي تغص بشهقات بكائها: - صح!
ريتاج بحنان: - يعني لسه بتحبيه يا هنا!
هنا بنفي أول الأمر: - لا أنا...
وسكتت لتصيح بعدها بألم وتعب: - أيوة بحبه، وبكره قلبي اللي لسه بيحبه ومش عارف يكرهه بعد اللي عمله.

أبعدتها ريتاج واحتوت وجها بين يديها وهي تقول بعطف: - حبيبتي اللي انتي حكيتيه واللي عمله بيدل أنه المفروض لو اتعاقب على خيانته مرة يبقى يتعاقب على غباؤه 100 مرة! لأنه الغباء دا هو اللي وقعه الوقعة دي، اللي حصل للأسف ابتدا لعبة منه، التانية لاقيت منه تجاوب زودت في جرعة الحب والحنان، اللعبة عجبته، انساق وراها، وكل ما كان بيفوق كان بيبرر لنفسه عشان هنا ترجع زي الاول، ثقتك فيه فسرها برود، هدوئك فسره أنه حبك قل، عقله قاله خليها تغير عشان يرجع الحب يملا قلبها من تاني، لكن اللي حصل أنك ثورتي لكرامتك، هو ما توقعش أبدا أنه الامور توصل لكدا. بدليل أنه ساب شغله ونزل مصر وراكي جري، يبقى كل اللي حصل دا السبب الرئيسي فيه الغباء!

هنا بحيرة واعتراض: - يعني قصد حضرتك أسامحه وأرجع له كدا عادي؟
ريتاج بلؤم: - لا لا لا، أنا ما قلتش. كدا، أحنا هنعمل زيه بالظبط. مش انت عاوزاه يدوق من نفس الكاس؟ – هزت هنا رأسها بالايجاب فواصلت ريتاج ببساطة – اتفقنا، الحكمة بتقول الجزاء من جنس العمل. وصدقيني بعد ما تاخدي بحقك منه هيفكّر بدل المرة ألف أنه يزعلّك أو يعمل حاجة تهدد حياتكم سوا. وهتشوفي!

لتتبادلن الابتسامات بينما تلمع عيني هنا ببريق العزم والاصرار، فها هي قاب قوسين أو أدنى من تهدئة نفسها الثائرة من فعلة طارق. وأن كان رأى أن الغيرة ستعيد حبها له، فستستخدم سلاحه نفسه فهو من سبق وقرر بل واستخدمه بنفسه حتى كاد يتسبب في قتل حبهما العميق، ولكنها ستثأر لقلبها ولحبهما منه وبنفس سلاحه، وسينقلب السحر على الساحر. ولنرى ماذا ستفعل حينها. سيد طارق؟!

جالسة فوق المقعد البلاستيكي في الرواق الطويل أمام غرفة العمليات، بينما فريد فهو يرقد نائما بسلام على المقعد المجاور لها وقد ارتكز برأسه على ذراع المقعد، صوت استرعى انتباهها، لترفع رأسها فرأت الطبيب وهو يدلف خارجا من غرفة العمليات، لتهرع اليه من فورها حيث رأت فؤاد وهو يقف أمام الطبيب، هتفت تسأله في لهفة وقلق:
- أخباره ايه يا دكتور دلوقتي؟

الطبيب بمهنية: - الحمد لله، الرصاصة كانت في الكتف، قطعت شريان وعشان كدا نزف كتير، بس الحمد لله قدرنا نخرجها والنزيف وقف، هو هيقعد انهرده في العناية المركزة وبكرة بأمر الله تكون حالته استقرت يتنقل أودة عادية، حمد لله على سلامة سيادة العقيد.

وانصرف لتتنفس منال براحة مغمضة عينيها قبل أن تسمع فؤاد وهو يقول: - الحمد لله، بيتهيالي تروحي حضرتك وفريد، انتو تعبتو أوي، دا غير اليومين اللي فاتوا كانوا مرهقين نفسيا وجسديا عليكم.

فتحت منال عينيها تطااع فؤاد هامسة بصوت ضعيف: - فعلا، بس نطمن عليه الأول. يعني لو ينفع أشوفه عشان أنا متأكدة أنه ماما أنعام مش هترتاح الا لما أحلف لها أني شوفته وأنه كويس!

أضافت العبارة الاخيرة لتقنع نفسه قبل غيرها أن سبب طلبها لرؤيته هو لطمأنة والدته فقط. من المؤكد أن هذا هو السبب، أليس كذلك؟!

فؤاد بثقة: - طيب استنيني هنا ثواني وأنا هتصرف.

دقائق وكانت منال تدلف الى غرفة الرعاية المركزة بعد أن شددت عليها الممرضة المسؤولة أن لا تزيد عن الخمس دقائق، لترتدي كمامة للوجه، وحذاءا خاصا وقبعة للرأس، وقفت أمام الباب بعد أن دخلت وسريعا ركضت عينيها في الانحاء حتى استقرت على ذلك الجسد الراقد فوق الفراش الابيض، لتسير اليه حتى وقفت بجانبه، لترى وجهه الاسمر يكسوه الشحوب، بينما جذعه العلوي عاري يغطي كتفه الايسر شاش أبيض عريض، وعدة أنابيب دقيقة موصولة بظهر يده اليسرى، فيما عيناه مغمضتان وكأنه يغط في نوم عميق!

مالت عليه منال وهي تكتم دموعها بصعوبة وكل ما يدور بخلدها أنها هي السبب في وجود هشام هنا ممددا بهذا الشكل لا حول له ولا قوة أمامها!

فما حدث كانت هي السبب فيه من الأساس، فرياض كان يريد الانتقام منها هي، لوقوفها ضده وعدم رضوخها له، فكان أن اصطدم بهشام والذي تزوج بها خصيصا للذود عنها ضد الافتراءات والاقاويل الباطلة التي أشاعها ذاك الحقير عنها، فهي قد تسببت في ارتباك كبير لحياة هشام، سواء الشخصية أو العملية، لتقترب من وجهه تهمس بخفوت وهي تحاول حبس دموعها:.

- أنا آسفة، كل اللي انت فيه دا بسببي من الاول للآخر. عارفة أني أسفي مش هيعمل حاجة، بس أوعدك أني هبعد كل اللخبطة اللي أنا عملتها دي من حياتك نهائي، انت بس قوم بالسلامة وأنا أوعدك أن كل حاجة هترجع زي ما كانت. وحياتك اللي اتعودت عليها هترجع لك تاني.

بترت عبارتها فجأة وهي ترى أهدابه ترتفع لتظهر عينان بلون الألماس الأسود ينظران اليها، فشهقت هامسة باسمه بنعومة:
- هشام!
ليبتسم هشام بضعف ويرفع يده اليمنى بتعب لتحط أطراف أصابعه على وجهها وهو يقول بوهن شديد وتعب أشد:
- ومين اللي قالك أني عاوز أيامي اللي فاتت ترجع؟

قطبت منال في حيرة بينما تابع بصوت حاول اخراجه واثقا بالرغم من تعبه الواضح: - أنا يستحيل أتنازل عن دقيقة من حياتي الجديدة. مهما كان المقابل. لأني متمسك بيها، ولآخر نفس في صدري!

لترتسم ابتسامة شاحبة على وجهه المجهد ويغمض عينيه وتسقط يده بجواره وقد غرق في نوم عميق، كمن وصل أخيرا الى الراحة بعد عناء شديد، بينما وقفت منال تراقبه بذهول وحيرة، بينما داخلها يتساءل متوجسا عن معنى كلماته، ولا تدري لما حدسها يخبرها بأنه كان يعني كل كلمة تلفظ بها وليس تخاريف من أثر المخدر، وأن الأيام القادمة تحمل في جعبتها الكثير من المفاجآآت المذهلة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة