قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الرابع والثلاثون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الرابع والثلاثون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الرابع والثلاثون

تقف أمام مرآة الزينة، تتطلع الى انعكاس صورتها في زجاجها، وهي تملّس براحتيها على فستان زفافها بينما تتسع عينيها دهشة تكاد لا تصدق أن هذه العروس الفاتنة التي ترى صورتها أمامها ما هي إلا، هي!

صوت زغاريد عالية تتصاعد من حولها بينما تتلقفها ذراعي الجدة وهي تحتضنها وتقول من بين دموعها المنسابة فرحا بصغيرتها:
- بسم الله ما شاء الله، قمر يا قلب جدتك، قمر، مبروووك يا حبيبتي الف الف مبروووك. ربنا يتمم لكم فرحتكم بخير حبيبتي يارب، وأفرح بعوضكم قريب.

عانقتها تسنيم وهي تحاول ألا تدمع عيناها قائلة بصوت مبحوح لتأثرها بدموع جدتها: - الله يبارك فيكي يا ستّي، ربنا يخليكي لينا.
صوت ضاحك قالت صاحبته وهي تربت على ذراع الجدة: - هتعيط يا ماما ستّو كدا، والماكياج هيسيح، وعندنا فرح ومعازيم وعريس مستني مش بعيد يطلع يخطفها مننا!
الجدة وهي تبتعد عن تسنيم بينما تمسح براحتها وجنتيها المجعدتين اللتين تحملان أثر الدموع:
- لا خلاص أهو ما فيش عياط.

رتبتت ريما طرفي وشاح الزفاف الأبيض الكبير فوق كتفي تسنيم والتي قالت مبتسمة بربقة ونعومة:
- بجد يا ريما، أنا لو عندي أخت مش هتعمل زي ما أنت عملتي، عمري ما هنسى وقفتك جنبي الايام اللي فاتت دي كلها، كفاية فستان الفرح والاكسسوار بتاعه.

قاطعتها ريما مؤنبة بلطف وهي تكشّر باصطناع: - ينفع الكلام دا؟ احنا مش اتفقنا اننا أخوات؟ فيه أخت مش بتقف جنب أختها في يوم زي دا؟ ولا انتي ناوية تسيبيني لوحدي يوم فرحي؟

ابتسمت تسنيم وقالت بحرارة وصدق: - لا طبعا، أنا هكون معاكي زي ضلّك تمام، صدقيني خطيبك ربنا بيحبه، انت هدية فعلا يا ريما، كفاية طيبة قلبك وحنيتك، بجد أنا حبيتك أوي، وحاسيت أنك أختي فعلا...

ريما بابتسامة صادقة: - القلوب عند بعضها يا حبيبتي.

وكانت ريما منذ حضورها لعقد قرآن فواز وتسنيم تقوم بالتواصل مع الأخيرة، من آن لآخر، فهي قد شعرت بالألفة لها منذ رأتها لأول وهلة، وما أن أخبرها فواز بتحديد موعد الزفاف حتى بادرت بأن عرضت مرافقتها لها لتقوم معها برحلات مكوكية لشراء ما يلزمها من لوازم العروس، ليوافق فواز وهو يشكر لريما حسن صنيعها فهي قد قدمت له معروفا كبيرا لعرضها ذاك، فقد كان يحمل همّا كبيرا فتسنيم بمفردها، وجدته امرأة كبيرة في السن، ولا يوجد هناك من هي تقاربها سناًّ كي تساعدها في مثل هذه الظروف، حتى رفيقاتها في الجامعة لا توجد من بينهن من هي صديقة مقربة منها. وكأن ريما قد قرأت دواخله، لتزيح عنه همّه وتعرض أن تتفرغ لتسنيم والتي فرحت لذلك فبالرغم من كل شيء لم تكن تحب أن تكون بمفردها وهي تقوم بشراء لوازم عرسها، وقد أثبتت ريما أنها بالفعل كأخت لها خاصة وهي تهديها فستان الزفاف الذي تركها فاغرة فاها لفترة طويلة عندما قاسته في محل بيع أثواب العرائس، لتغمزها ريما وقتها وهي تهمس ضاحكة أنها تود لو ترى وجه فواز حينما يراها بثوب الزفاف، فهي تقسم أنه قد يقوم بخطفها من بينهم، ولن يحضرا حفل الزفاف الذي قام فواز بحجز قاعة المناسبات في إحدى النوادي الاجتماعية بناءا على رغبة الجدة إذ أرادت ألا تشعر صغيرتها الغالية بأنها أقل شأنا من غيرها، بل ستكون ليلة زفاف مميزة، فيكفي أنها سترى حفيدها عريسا بعد طول عناء، بينما عروسه فاتنة تقف بجواره تتأبط ذراعه وهي تحمد الله وقد استجاب لدعائها بأن عوّضه بزوجة تحمل له عشقا خالصا، وهي على يقين من أنها ستنجح في اختراق حصون قلبه، وقد بدأت بالفعل، فلم يكن ليتزوج منها إلا أن كان هناك شعورا خاصا لها من ناحيته، حتى وأن كان مخفيا في زاوية من زوايا قلبه، ولكن تسنيم من الذكاء بمكان أنها ستستطيع الخروج من حيز الجزء وامتلاك سائر القلب!

ألقت تسنيم نظرة أخيرة الى شكلها بالمرآة حيث كتفيها المكشوفين، بينما يصل أكمام الفستان الى المرفق، يلتصقان بذراعيها، فيما يبرز القماش المخرم بياض بشرتها الواضح، ويلتصق الجزء العلوي منه بنفصف جسمها الأعلى ثم ينسدل بعدها الى الاسفل واسعا منفوشا كفستان الاميرات تماما، وفوق شعرها وضعت وشاحا طويلا يتخطى ذيل فستانها، بينما فاجئتها ريما بأن طلبت من مصففة الشعر - التي أخبرتها أن فواز هو من صمم على أن تقوم بالترتيب معها لاحضارها – أن تصبغ شعرها باللون العسلي، ليزيد من جمالها، فأضحت بلون بشرتها الأبيض وخصلاتها الشقراء وعينيها اللتين تلمعان بلون شذرات الذهب وفستان زفافها الخلاب، وكأنها أميرة الخيال. وهذا هو ما جال ببال فواز ما أن طلّت عليه من باب غرفتها حيث كان يقف بانتظارها، ليفغر فاه ويتيه عن المكان والزمان وهو لا يعي إلا شيئا واحدا فقط. هذه الفاتنة أصبحت، زوجته هو!

تأبط فواز ذراع تسنيم، ونزل معها درجات السلم ببطء بينما تلقي الجدة بوريقات الورد وذرات الملح فوق رؤوسيهما، ولسانها لا يكف عن التحرك بسرعة صاروخية داخل فمها، بينما قلبها يقرأ الأذكار والمعوذتين، حتى يقيهما الله شر العين والحسد.

انقضت ساعات الحفل بعدها بسرعة، وكانت تسنيم تشعر طوال الوقت وكأنها انفصلت عن ذاتها، فهي تضحك وتتلقى المباركات والتهنئات، وتتحدث، وكأنها تحيا حلما خاصا بها، خاصة مع تلك النظرات التي يتطلع اليها بها فواز، وكأنه مفتون بها ولا يكاد يطيق الصبر حتى يختلي بها!

رجفة يداه وهو يمسك بيديها يمنعها عن أن تلبي دعوة الفتيات بالرقص معهن، قبلته التي لثمها فوق جبينها ما أن رآها وبعد أن رفع طرف الوشاح عن وجهها، أنفاسه الساخنة التي ضربت وجهها وتقلص عضلة ساعده أسفل أناملها وهو يراقصها، احتوائه لها في شبه حضن، وهي تشعر بذراعيه وهما يكادان يطبقان عليها، لتفلت منه بعد توقف الموسيقى فيزفر بقوة كمن يحمل عبئا ما فوق كاهله! تلك الأمور كلها كانت تشي بعريس تقتله اللهفة الى عروسه والشوق اليها، ولكنها لم ترد الانصياع وراء ظنونها، فهي لن تصدق ما خمنته بغريزة الانثى بداخلها إلا بعد أن ينطقها صريحة. أحبك. وحتى هذا الوقت سيتعلم زوجها العزيز أبجدية جديدة عليه في الحب وكيفية الفوز بقلب الحبيب. على طريقة الحلو. اللاذع!

تقف في وسط الردهة في شقّته التي تعلو شقة الجدة، تقضم باطن شفتها في توتر رغما عنها، حتى إذا ما سمعت صوت خطواته تقترب بعد أن ودّع جدته والتي كانت توصيه بها وكانت قد سبقت وأن انفردت بها لدقائق منتهزة فرصة توديعه لأصدقائه تخبرها بحنان وصدق أنها تثق بذكائها وأنها ستستطيع الوصول الى ما تحت قناع البرود الذي يرتيده طوال الوقت، وتتعهد لها أنها أسفل تلك القشرة الصلدة ستجد قلبا طيبا محبا، لن يستطيع أيّ كان أن يحبها مثله، وأنها دائما وأبدا ستكون عونا لها، فهي تعلم تماما أنها الأنسب لشخص حفيدها الخشن الطباع، ولكن قلبه برقة عصفور صغير.

وقف فواز على بعد خطوات منها يقول بصوت أراده هادئا ولكنه خرج بأنفاس متهدجة فقد عاني كثيرا هذا المساء ليخفي ذهوله بتلك الفراشة التي خرجت من شرنقتها هذه الليلة، لتفرد جناحين غاية في الجمال فتسحره برقتها وجمالها:
- لو عاوزة تغيري هدومك، تقدري تستخدمي الاوضة، أنا سهران شوية.

تسنيم دون أن تلتفت اليه وهي تحاول الحفاظ على هدوئها فقد عاهدت نفسها أنها لن تضعف أمامه مطلقا فهي ستتسلل الى قلبه رويدا رويدا وفي غفلة منه حتى يفاجأ بها وقد احتلته بالكامل ولو رغما عنه:
- مش جعان، أحضر لك العشا؟ ستّي قالت لي أنها جهزته في المطبخ.
فواز بتنهيدة عميقة: - لا، شكرا، روحي انتي غيري ونامي اليوم انهرده كان طويل اوي.

لتنصرف تسنيم وهي ترفع فستانها حتى لا تتعثر بطرفهى السفلي، وتمر من أمامه بينما هو لا يستطيع إلا أن يسلط عيناه عليها، يراقبها بكل خلاياه، حتى دلفت الى الغرفة تغلقها خلفها، وعندها زفر أنفاسه التي اكتشف أنه يكتمها دون وعي منه!

بدلت تسنيم ثوب زفافها وحمدت الله أن السحاب لم يعلق وإلا كانت ستضطر لطلب مساعدته تماما كما يحدث في الروايات والأفلام!

ارتدت تسنيم غلالة نوم حريرية باللون الحليبي المطعّم بالذهبي، بحمالات رفيعة شفافة، وفوقه مئزر من القماش الخفيف الشفاف بنفس اللون، وذو تطريزات على هيئة ورود كبيرة على الحواف وفي المنتصف وبطول الأكمام، وكانت الجدة قد أوصت ريما بأن تبتاع لها أجمل ثوب عروس لليلة الزفاف، وما أن رأته حتى سحرها ولكنها رفضت بادئ الامر لارتفاع ثمنه ولكن ريما صممت وأخبرتها أنها وصية الجدة لها، والآن وهي تقف تتطلع الى نفسها في المرآة، وقد نزعت دبابيس الشعر وأطلقت خصلاتها الذهبية، وعدّلت زينتها ورشت بضع قطرات من عطر فواح أهدتها اياه ريما، لا تعلم كيف تخرج اليه بهذا الشكل؟ ولكن مهلا. ألم يخبرها بأنه لن يتناول أي طعام، وأن أرادات فلتنم هي؟ إذن فهي ستعمل بنصيحته و، تنام!

بينما في الخارج خلع فواز ربطة عنقه بضيق وألقى بها جانبا لتتبعها سترته، زفر بعدها بتأفف بالغ، بينما يرنو بعينيه يسترق النظرات الى الباب الموصد حيث تختفي وراؤه. عروسه!

يقسم أنه كاد يختنق ما أن رآها الليلة! كيف استطاعت أن تجمع بين الفتنة والبراءة بهذا الشكل؟ عيناها. براءة مغوية، وفتنة ممتزجة ببراءة طفلة في الثانية من عمرها. فكانت خليطا يزهق الانفاس ويفقد المرء عقله قبل قلبه! ولكن ترى. هل ما زال لديه قلب؟

ألقى بنفسه فوق الاريكة وهو يرمي برأسه الى ظهرها بينما عيناه تحيدان ناحية ذلك الباب فيما التساؤلات تتزاحم في عقله. هل لا يزال يملك قلبا يحب ويشعر؟ أو ربما السؤال يجب أن يكون كالآتي. هل من الممكن أن يخوض غمار تجربة حب جديدة؟ لينفض رأسه سريعا وهو يعتدل ليرتكز بمرفقيه عل ركبتيه وهو يهتف داخله بشراسة وقد احتل تعبير عنيف قسمات وجهه أنه لن يقع في ذات الخطأ مرتين! فيكفيه المرة الاولى، والذي لا يزال يحمل تبعاته جروحا تعلو قلبه القابع بين جنبات صدره!

يزفر بضيق ويمرر أصابعه القوية بين خصلات شعره الابنوسية القصيرة، وهو تابع حديثه الهامس بينه وبين نفسه، يصارحها ولأول مرة منذ ما حدث لسماح، بأنه كان له يد فيما وصل اليه حالها! منذ صغرها وقد دأب على تلبية جميع طلباتها! طلباتها وليس احتياجاتها. والفرق بينهما كبير!

لأول مرة يدرك صدق كلام جدته والتي كانت تنهره لأنه كان دائما يسارع لتنفيذ رغبات الصغيرة سماح، صغيرته هو، ورغباتها أوامر بالنسبة اليه، قالت له جدته وقتها أن دلاله لها سيفسدها، ولكنه لم يصدقها آنذاك، ظنّا منه أنها تبالغ، لم يكن يكبرها بالكثير في السنين، ولكنه كان يحمل صفات الرجال منذ صغره، لا يذكر أنه قد مر بفترة مراهقة كغيره من الفتيان في مثل ذاك السنّ، وكانت هي طفلة جميلة، مشاغبة، كانت أسعد أوقاته تلك التي يكون بصحبتها، ولكن. دوام الحال من المحال، وكبرت الطفلة وتمردت على وضعها وعلى حبيبها، فكان ما كان، ولا يزال يحمل ندوبا من اثر خيانتها له ولحبه الذي لم يحمله لأنثى غيرها قبلًا، ولكنه في قرارة نفسه أحيانا ما يشعر بالذنب مما آل اليه حال سماح، فهو كثيرا ما تساءل بينه وبين نفسه. تراه أأذا كان أقوى أمامها، وقاسيا معها، كانت ستصل الى ما وصلت إليه؟ لو كان عاملها ببعض القسوة وليس كل اللين كما كان يفعل هل كانت لتنجو من نهايتها تلك المخزية؟ ولكنه لن يعرف أبدا. فهي قد ماتت، وهو قد اتخذ قراره الصارم أنه لن يترك لقلبه الفرصة ليقع في ذات الضعف مرة ثانية، فالحب ضعف، وهو عندما يحب فهو يحب بخلجاته كلها، وبالتالي لا يستطيع إلا أن يدلل حبيبته. حتى يفسدها دلالا. وهو لا يريد افسادها! ان كانت قسوته تضمن له ألا تخسر براءتها وضحكتها الصادقة ولمعة عينيها البراقة فهو سيقسو. ليحافظ عليها!

نهض واقفا وقد عجز عن تحمل تلك الافكار التي تطن بها رأسه، ليتجه من فوره الى غرفتهما فمن المؤكد أنها قد نامت أو أضعف الايمان قد خلدت الى الفراش، فقد ترك لها وقتا كافيا لذلك، وهو الآن يريد تبديل ثيابه.

طرق الباب بخفة، وانتظر لثوان قبل أن يفتح الباب ببطء ويدلف الى الداخل، ليبصر شيئا مكورا تحت الغطاء، فاتجه من فوره الى الخزانة، ليخرج منامته، وقبل أن يستدير كان صوتها يناديه قائلة بنبرة ناعسة:
- عاوز حاجة أعمالهالك؟..
ابتلع ريقه بصعوبة قبل أن يستدير فيراها وهي جالسة في السرير وقد انحسر الغطاء عن كتفيها، لتظهر بشرتها المرمرية، فأشاح سريعا بعيدا عنها، وقال بصوت خرج خشنا:.

- لا، أنا هغير هدومي، نامي أنتي.
لتومأ بالايجاب وتعود الى رقادها أسفل الغطاء بينما يسير هو خارجا من الباب ورأسه ملتفت اليها وعيناه مسمرتان عليها ليخبط بالباب دون وعي منه، فيقطب متراجعا ويعدل من سيره الى الخارج، متجها من فوره الى دورة المياه حيث فتح صنبور الماء ووضع رأسه أسفله لثوان، رفعه بعدها مطالعا نفسه في المرآة التي تعلو الحوض وهو يقول محدثا نفسه:.

- لسّه مكملتش نص ساعة وخليتك ماشي تايه لدرجة خبطت في الباب نافوخك كان هيتفتح! أومال قودام شوية هتعمل ايه؟..

وزفر بقوة متابعا: - شكلها هتبقى أيام صعبة اللي جاية دي!

صحا من نومه فوق الاريكة التي بالصالة على أصوات زغاريد عالية، وكان قد قرر عدم العودة الى الغرفة ثانية فهو لا يضمن ردة فعله، لينام فوق الاريكة التي بالكاد اتسعت له بينما تدلت قدماه خارجها.

نهض من نومه سريعا بعد أن تبين صوت جدته، ليطرق الباب على تسنيم والتي كانت قد استيقظت بالفعل، وما ان فتحت الباب حتى هتف سريعا بكلمات آمرة قبل ان يتجه لفتح الباب:
- الحاجة جات. جهزي نفسك!
قطبت تسنيم وهمست بتكشيرة وهي تراقبه وهو يخطو بعيدا: - أجهز نفسي يعني أعمل ايه؟ أرقص!

دلفت الجدة وهي تحمل صينية قد رصت عليها أطباق مختلفة من الطعام ليسارع فواز بحملها عنها وقال وهو يضعها فوق مائدة الطعام التي تحتل زاوية في المكان:
- تقيلة عليكي يا حاجة، معقولة انت تشيليها تطلعي بيها؟
الحاجة بفرحة وعيناها تدوران هنا وهناك: - دا يوم المنى يوم ما أطلع لكم فطار الصباحية بإيدي، وعموما يا سيدي البت بطة بنت الست رجاوات هي اللي طلعتها لغاية هنا وانا اخدتها منها.

ابتسم فواز وهمّ بالكلام عندما قاطعه زغرودة عالية صدحت من جدته التي شهقت جذلى وتخطته لتسلم عروسه التي تقدمت من خلفه فالتفت وهو يبتسم لتذوي الابتسامة على شفتيه ويفتح عينيه على وسعهما، ويبتلع ريقه بصعوبة شديدة، وهو يهمس في داخله أن تلك الصغيرة عازمة على اصابته بأزمة قلبية لا محالة!، فما ترتديه الآن هو بكل المقاييس يجب أن يندرج تحت بند محظور ومحرّم بيعه وتداوله! ومع اقترابها منهما كانت عيناه تتسعان أكثر فأكثر حتى ملئتا وجهه، لتحتضن جدته التي فتحت ذراعيها لها وهي تقول بابتسامة عريضة:.

- صباحية مباركة يا عروسة!
احتضنت تسنيم جدتها وهي تنظر اليه من فوق كتفها بعينين يقسم أنه رأى نظرات الشقاوة تتراقص فيهما ولكن للمحة خاطفة فظن أنها تهيؤات، ليسمعها وهي تجيب الجدة بخجل العرائس:
- الله يبارك فيكي يا ستي.

قطب لا يفهم ما الذي تنوي فعله هذه الصغيرة، وتزداد حيرته وهو يرى جدته وهي تقبض على مرفقها تبتعد بها قليلا، لتهمس في أذنها ببضعة كلمات، أسدلت على إثرها تسنيم عينيها الى الاسفل في حياء، ثم ايماءة خفيفة للغاية من رأسها الى الاسفل، ليرشق بعدها وجه الجدة، فانفكت عقدة حاجبيه ليرتفعا الى الاعلى بشكل منفر، وهو يهتف بداخله مكذّبا لما فهمه من تلك الاشارات والتلميحات:
- لا. مش ممكن! معقولة! لا لا لا!

لتفاجئه للمرة التي لا يعرف عددها هذا الصباح وهي تتقدم ناحيته بذلك الثوب المُجرّم دوليّا والذي يغطيها من أعلاها الى أسفلها ولكن. في خداع ظاهر! حيث ينفتح من الأمام فتظهر ساقيها البيضاوين، بينما كميه فيصلان الى رسغيها، بأسورة محكمة ولكن، بقصات على طول الذراع تظهر وبوفرة لونهما الحليبي والذي يقسم أنهما ينافسان بشرة مولود صغير! أما خصلاتها فقد أسدلتها حرة طليقة تتراقص على كتفيها بلونهم العسلي الذي حبس أنفاسه، ولم تضع من الزينة سوى لون أحمر كرزي صبغت به شفتيها، ليتماشى مع لون ثوبها الذي جمع ألوان الربيع في قصاته، فكانت لوحة مبهجة للعين، أما شفتيها. فكانتا كفاكهة محرمة بالنسبة له، يحلم بقطفها ويقسم أنه لن يتركها حتى يمتصها لآخر قطرة ولكنه لا يستطيع فهي ببساطة. محرّمة!

وقفت تسنيم أمامه وهي تقول بصوت أنثوي ناعم ونظرات ناعسة بينما ابتسامة خلابة تزين ثغرها المكتنز المبتسم:
- صباح الخير.
فواز بصوت متحشرج مختنق: - صب. صباح النور!

الجدة وهي تتأهب للانصراف: - طب أسيبكم أنا بقه تفطروا براحتكم، ووقت ما تعوزوا تتغدوا رن لي بس يا فواز يا بني وهتلاقوا الغدا عندكم. أعملكم ايه قلت لك تقعدوا لكم يومين في فندق زي العرايس بس انتوا ما رضيتوش. قال ايه تسيبوني لوحدي ازاي؟ نهايته. أنا نازلة وانتو افطروا كويس اوي، انتو عرايس!

وغمزت تسنيم بشقاوة لا تيلق بعمرها السبعيني قبل ان تدلف خارجا تتأرجح في مشيتها تماما كالأوز. لثقل جسمها وألم ساقيها، بينما نظر فوتز الى تسنيم التي غابت ابتسامتها لتنظر اليه بهدوء قائلة وهي تشرع في السير لتتخطاه:
- ثواني هحضر الفطار!
قبض على رسغها وهي تمر بالقرب منه وسألها وهو ينظر بعينيه حيث وقفت جدته: - ايه اللي حصل من شوية دا؟ وجدتي قالت لك ايه؟

تسنيم وهي تنظر في عينيه دون ان يرف لها جفن وبابتسامة هادئة: - اللي حصل انه ستي جاية تبارك وتهني، وأي حاجة تحصل بين الاربع حيطان ما تخصش غيري أنا وانت وبس، عشان كدا كنت لازم أعمل كدا وأتلكم وأتصرف بالاسلوب دا، أما بقه قالت لي ايه. – هزت كتفيها بحركة أسرت نظراته وهي تتابع – حاجة بيني وبينها. مالكش فيها من الاخر!

فواز وهو ينظر اليها بنصف عين: - ماليش فيها؟
تسنيم وهي تسحب يدها بقوة ليفلت من قبضته: - أيوة. مالكش فيه، عن اذنك بقه هروح أحضر الفطار عشان أنا ميتة من الجوع، انت ناسي اننا امبارح نمنا من غير عشا؟!

وتركته وانصرفت الى المطبخ بينما جلس فواز يتابعها بنظراته قبل أن يهمس مختنقا: - هو أنا نمت من أساسه؟
ليرفع رأسه الى الاعلى قائلا بصدق: - الصبر يا رب!

يقف في ردهة الفندق ينتظر موافاتها له ليتجها الى قاعة الزفاف سوية، وكان صديقه قد فاجئه بحجز جناح ملكي لهما، وما أن أغلق الباب خلفهما حتى سحبت زوجته العنيدة حقيبتها متجهة الى احدى الغرفتين حيث يتكون الجناح من غرفتين وردهة متوسطة وحمام ملحق بالغرفة الرئيسية وآخر صغير في الخارج، ومطبخ صغير يكفي لعمل المشروبات فقط...

لحظتها وقف ينظر الى الباب المغلق دونها وهو يهمس في نفسه يصبرها قائلا أنه لا بد أن يصبر عليها، وأنها لن تكون طوع بنانه بين ليلة وضحاها، وها هو بعد عدة ساعات قضتها هي تنعم بالنوم بين أغطية السرير الحريرية قضاها هو بالسباحة في البحر المطل عليه الجناح بعد أن ملّ من انتظار استيقاظها.

سمع صوت وصول المصعد ليلتفت وهو يفتح فمه ينوي لومها على التأخير حينما ابتلع لسانه التي كاد يلتصق بسقف حلقه وتتسع حدقتيه وهو يراها وهي تتقدم منه ترفع فستانها بيد وبالاخرى تحمل حقيبة سهرة صغيرة للغاية.

وكان الفستان آية في الجمال بحق، فكان باللون الأصفر الليموني، ينسدل الى الارض يغطي الكاحل، بينما نصفه العلوي فمن قماش الجبير ذو النقوش الواسعة لترتدي أسفله بلوزة رقيقة (بودي) من نفس اللون، أما شعرها فتغطيه بوشاحامتزج فيه اللون الكريمي مع الذهبي وانتعلت حذا ذهبيا عال الكعب، واكتفت برسم عينيها بالكحل العربي ولونت شفتيها باللون الخوخي، وبالرغم من زينتها الخفيفة فهي قد صرعته بجمالها. وانتهى الأمر!

وقفت أمامه تطالعه ببراءة وهي تناديه قائلة: - هشام. هشام فيه حاجة؟ أتأخرت عليك؟
هشام وقد وقف مشدوها أمامها للحظات قبل أن يهز برأسه ليقول بعدها بصوت خرج متحشرجا:
- ها؟ إيه. لأ. لأ مافيش تأخير. ياللا. بينا.
ومد يده لتتقدمه وما ان خطت لتكون أمامه حتى زفر بقوة وهو يهتف بداخله. الرحمة يارب!

تطالعه بطرف عينها وهي تتعجب من هيئته، فهو يبدو كمن سيلقي القبض على متهم فار من العدالة الآن! يجلس مقطبا جبينه، عاقدا بين حاجبيه بقوة، متجهم الوجه، وكأن العريس يتزوج من. أمه (حماتها أنعام)!

مالت عليه حيث تجلس بجواره وقالت هامسة: - مالك يا هشام؟ فيه حاجة؟ تعبان؟!
هشام بتجهّم: - مالي يعني؟
منال وهي تحرك كتفيها علامة الجهل: - معرفش، بس انت قاعد مكشّر، هو مش المفروض العريس صاحبك؟ طيب لو انت ما كنتش عاوز تحضر فرحه جينا ليه؟

هشام وهو يطالعها بقوة: - لا طبعا، العريس صاحبي، وكنّا لازم نيجي، عموما ما تشغليش بالك دول شوية صداع من تعب السفر وهيروحوا لحالهم.

اكتفت منال بهز رأسها بلا مبالاة قبل أن تعود لمتابعة فقرات الفرح ويعود هو لمراقبتها كالصقر، تحسّبا لأي شخص يحاول الاقتراب منها، ولكن. يبدو أن حصاره لها لم يكن بالشكل الكافي!

كانت تقف تملأ صحنها من مائدة الطعام المفتوحة عندما سمعت تحية بصوت رجولي، فرفعت عينيها لترى شابا في مقتبل العمر يلقي عليها التحية ويسألها عن نوعية الطعام الموجود أمامهم فهو لا يفقه كثيرا في الأنواع خاصة وقد كُتب فوقه اسمه بيكانتا بالشمبنيون، لتوضح له أنه عبارة عن قطع من اللحم بصوص المشروم، ليطلق فكاهة مرحة حول أسماء الأكلات الغريبة، فتضحك رغما عنها، وثوان. وكان هشام فوق رأسها بالمعنى الحرفي للكلمة، يقول بينما يرمق الشاب بنظرات لو كانت تقتل لخرّ صريعا:.

- خير يا منال، فيه حاجة؟
منال وهي تقطب بخفة قبل أن تقول وهي تنظر الى الشاب مشيرة اليه بابتسامة: لا أبدا، الاستاذ بس كان بيسأل عن حاجة في البوفيه.
الشاب مبتسما لتظهر وسامته الرجولية بوضوح: - بصراحة أنت خدمتيني. وطالما انت بتحبيها يبقى اكيد هجربها!
هشام بخشونة وتحفز: - هي ايه دي؟
الشاب مبتسما بسماجة: - البيكاتا!
هشام بسخط مكتوم: - ال مين يا خويا؟

الشاب مكررا بصبر: - البيكاتا بالشمبنيون، الآنسة بتقول انه طعمها حلووو أوي!
ونطق حلو وبصره مسلط على وجه منال حتى أن الأخيرة قد أشاحت بوجهها بعيدا في خجل بينما توسعت حدقتي هشام في ذهول وغضب وقال وهو يخبط على كتف الشاب:
- لا معلهش، بيكاكتك وشمبيونك معك. وبالسلامة من هنا!
الشاب باستغراب: - ليه يا باشا؟ أنا ضايقت الآنسة في حاجة؟
هشام وهو يخبط كفا بكف: - بردو هيقولي آنسة!

لينظر الى الشاب قائلا باستخفاف وسخرية: - آنست يا سيدنا الافندي، ممكن شوية بقه؟!
ودون أن يمنحه فرصة للكلام أسرع بالقبض على مرفقها بيد كالكلّاب وسار بها حتى وصلا طاولتهما، لتجلس ويترك مرفقها أخيرا فدلكته وهي تقول بهمس حانق:
- ايه يا هشام دا؟ انت اتجننت؟ ايه اللي حصل يعني عشان تمسكني بالصورة دي قودام الناس؟

هشام وهو يميل عليها ومن بين أسنانه المطبقة غيظا: - يا سلام، وكنت عاوزة يحصل ايه أكتر من كدا؟ البيه عمّال آنسة وآنسة، وأنا ايه ان شاء الله؟ أختك كريمة!

لا تدري منال لما أوشكت على الضحك فجأة! لعلها هيئته وهو يزم شفتيه غضبا وعاقدا حاجبيه في عدم رضا وهو ينطق بتلك الكلمات الساخطة تماما كطفل حانق!

قالت منال وهي تغالب للحفاظ على ثبات تعبيرات وجهها: - هو ما غلطش، عادي مش همشي حاطة يافطة على ضهري كاتبة فيها أني مدام؟
زفر هشام بضيق وقال مشيرا الى الطعام أمامهما: - خلاص، اقفلي السيرة دي وياللا نتعشى.

كان يقف يتبادل بعض الاحاديث الخفيفة بينما استأذنت منال التي قامت بدورها كزوجة له بين زملائه على خير ما يرام، ولكن ذلك الشاب لم يتعارض طريقه معها ثانية فلا بد وأن عرف أنه زوجة ذلك الضخم المخيف، فهو من أقارب العروس ولذلك لم يتعرف على هشام.

وكأن هناك جهاز تتبع بداخله خاصا بها وحدها، إذ وجد دون وعي منه يلتفت برأسه ناحية الباب ليراها وهي تقف ومعها سيدة أنيقة تبدو كبيرة نسبيا بالسن، ليعتذر ببضعة كلمات منمقة من رفقائه، ويتجه الى منال حيث قال باهتمام:
- مبسوطة يا منال؟ لو تعبانة ممكن نستأذن ونمشي؟
منال بتعب: - يا ريت يا هشام.
لتتذكر شيئا ما فتضحك، فسألها مقطبا: - فيه حاجة؟

منال ببساطة وهي لا تعلم أنها تزيد من اشتعال النيران التي تتصاعد بداخله رويدا رويدا طوال الامسية:
- واضح كدا أنه للفرح دا شكله حلو عليا. تخيل تلات عرسان في ليلة واحدة!
هشام بذهول وعيناه مفتوحتان على وسعهما: - تلات عرسان لمين؟
منال وهي تطالع باستخفاف: - هيكون ليك يعني يا هشام؟

هشام وقد بدأ اللون الأحمر يزحف تحت بشرته وتنفث أنفه هواءا ساخنا وتنتفخ أوداجه قهرا وغيظا بينما امتدت يده تقبض على مرفقها بقوة:
- بقه كدا؟ دا أنا ما طلعتش أختك كريمة وبس لا، أنا طلعت عيلة كريمة وهعمل جريمة شكلي حالا!

ودون أن يعتذر من صديقه العريس كان يسحب منال خلفه بخطوات قوية هادرة، حتى وقفا أمام المصعد دون أن يفلتها ينتظرا وصوله، ليصل فدفعها الى الداخل وبكلمات مقتضبة أخبر عامل المصعد برقم الطابق، ثوان وكان المصعد يقف بالطابق المنشود، ليخرج معها وكأنه يتأبط مرفقها ولكن في الحقيقة فهو يمسك به يكاد يخنقه، حتى وصلا الى جناحهما، ففتحه ليدفعها بالداخل، ويوصده وراؤه وما ان التفت وكان قد تركها حتى وقفت أمامه تهتف فيه بغضب قوي:.

- انت ايه اللي انت عملته دا؟ انت اتجننت؟ ازاي تمسكني بالطريقة دي؟ وبعدين احنا مشينا بمنتهى قلة الذوق ومن غير ما تستأذن من صاحبك العريس! هشام انا بكلمك!

كان طوال كلامها يدنو منها وتعبيرا غامضا يحتل وجهه بينما تتراجع هي الى الخلف دون انتباه وهي تواصل تقريعها الحاد له، حتى انتبهت لتعبيرات وجهه فهتفت تناديه ليقف أمامها يشير اليها بسبابته قائلا بأمر لا يقبل النقاش وهو ينظر اليها بقوة وصرامة:
- اقلعي!
شهقت منال بعمق وهتفت في ذهول وصدمة: - ايه؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة