قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الرابع والأربعون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الرابع والأربعون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الرابع والأربعون

جلست في صمت تام، شاخصة عينيها الى الامام وقد ارتسمت علامات الجمود والشرود على ملامحها الجميلة، فيما لطخ الكحل الاسود وجنتيها الشاحبتين، بينما قبعت يدها اليسرى في كف عصام الأيمن، والذي لم يفلتها منذ ركوبهما سيارة النقل الثقيل الذي أوقفها عصام وما ان رأى السائق حالتهما المزرية حتى سارع بمساعدتهما في الصعود اليه وقاد بهما الى أقرب قسم للشرطة حيث قام عصام بفتح محضر بالواقعة مدليًّا باعترافه بقيامه بقتل مختطف عروسه مرشدا عن مكان الحادث، وقد أحبط كل محاولات ريما التي حاولت فيها الاعتراف أنها هي مرتكبة الحادث، مصمما على اعترافه بالجريمة، لتصرخ ريما عاليا بأنها هي القاتلة، وعندها وقف الضابط الذي كان يتابع حوارهما الأقرب للعراك الكلامي، وقال ببرود وظيفي:.

- ممكن تهدوا شوية؟!
سكت عصام ناظرا الى ريما بتحذير لتصمت بدورها ولكن على مضض فيما أكمل الضابط قائلا:
- انتم قلتم كل اللي عندكم، لكن العزومة بمين القاتل الحقيقي وسبب الجريمة احنا بنفسنا هنعرف، دا دور المباحث والنيابة. فيه لجنة راحت هتعاين مكان الجريمة، وأكيد فيه أداة للقتل.

ثم وجه كلامه لعصام قائلا بتقطيبة خفيفة: - انت قلت ضربته بحديدة مش كدا؟
عصام باقتضاب: - أيوة.
الضابط محركا كتفيه ببساطة: - تمام. كلّه هيبان في تقرير البحث الجنائي ورفع البصمات!

ليشحب وجه عصام الذي ازدرد ريقه بقوة، بينما ظهرت ابتسامة هزيلة على وجه ريما وهي تنظر الى عصام بابتسامة حزينة، وقد تنفست الآن فقط الصعداء، فهي لم تكن لتسامح نفسها أن صدّقت الشرطة أقواله وعوقب بجريمة لم يرتكبها، فيكفيه ما ناله بسببها. وآن الآوان كي تدفع ثمن خطأ أفعالها بدءا من الموافقة على الارتباط بمهووس مجرم، انتهاءا بخطئها في حق أقرب المقربين منها، هو ووالديها، وذلك الشاب الملقى في مشفى للأمراض العصبية والنفسية، وكانت هي السبب بشكل أو بآخر فيما حدث، لو لم تكن رافقته يومها، لو لم يسمعا ما دار بين والدتها وأمه، لو كانت قد انصاعت لأمر عصام بالابتعاد عن معتز، لو لو لو. ولكن لا يمكن اعادة الزمن الى الوراء، وكما قيل لو تفتح عمل الشيطان. فما حدث كان عن كامل وعي منها، والسبب الرئيسي فيه. عنادها وتمردها الأهوج، وكرامتها الخرقاء!

بعدها أمرهما الضابط بالجلوس جانبا، وكان بالطبع قد علم بهويّتهما، مشفقا عليهما فمن الواضح ما عاناه كلاهما، بصرف النظر عن أن أحدهما هو الجاني، فمن الواضح فعلا أنهما عروسين قد تعرضا لمحنة قاسية فثياب العرس الممزقة أبلغ دليل على صدق كلامهما، وان كان عليه أن يمثل القانون، فهناك ما يسمى بروح القانون، وهذا ما جعله يكتفي بجلوسهما معه في غرفة التحقيقات وعدم ايداعهما زنزانة الحبس.

همس عصام لها قائلا وعيناه تضمانها بين جفونهما لتبثها الطمأنينة والحماية: - ما تقلقيش يا ريما، كل اللي انا عاوزه منك انك تأكدي على كلامي.
نظرت اليه ريما مكررة بتقطيبة عدم فهم: - أأكد على كلامك؟..

عصام باصرار: - أيوة، الكلام اللي قلتيه قودام الضابط هنا ما تقوليهوش في النيابة، وما تقلقيش المعاينة هتثبت اننا كنت في حالة دفاع عن النفس، مجرم وخطف مراتي طبيعي كنت هدافع عنها، وهيتأكدوا من كلامي خصوصا لما يلاقوا العربية المحروقة وهي واقعه على الصخور.

ريما برفض: - مش هينفع يا عصام، لازم نقول الحقيقة، وانت سمعت بنفسك الظابط قال انه المعاينة هتكشف الحقيقة، كفاية بصماتي على الحديدة اللي ضربته بيها.

عصام بعناد تام: - مش مشكلتك هنلاقي 100 سبب للبصمات دي، أبسطها انك مسكتيها بعد ما انا ضربته بيها، المحامي هيتصرف، أنا كلمت عمي ادهم وهو أكد لي انه مسافة السكة وهيكون عندنا.

سمع الضابط صوت هرج ومرج خارج غرفته، لينادي بصوته الجهوري: - يا عسكري.
دخل فرد الامن سريعا وقام بأداء التحية العسكرية ليتساءل الضابط بتقطيبة: - ايه الهيصة اللي عندك برة دي؟
الشرطي بذهول ولهفة: - ناس كبار أوي يا باشا عاوزين سعادتك، يستهيألي انهم لجنة من الوزارة، وفيهم واحد شكله الكبير بتاعهم، والله أعلم يا باشا شكله أركان حرب!

الضابط مرددا باستفهام: - أركان حرب!
ليزفر بعدها ويقول بجدية مشيرا الى الباب: - ولما هو أركان حرب سايبه (تركه) برّة ليه؟، خلّي الباشا يتفضل يا سيّد.
ليطرق المدعو سيد بقدمه في الارض وهو يرفع يده بالتحية العسكرية قبل ان ينصرف، لحظات وجد بعدها ثلاثة من الرجال المهيبين الهيئة يلجون اليه، لينهض ببطء وهو يقول بعقدة جبين خفيفة:
- أيوة يا حضرات. خير؟

ولكن قبل أن يتثنى لأيّ منهم الكلام كانت ريما تهتف عاليا: - خالي أدهم!
ليلتفت عصام سريعا فيجد عمه أدهم وأخيه وشقيق ريما، يقفون أمامه لينهض بينما يده لا تزال قابضة على كف ريما الصغير ليقول بدوره:
- عمي أدهم!

في خطوات سريعة كان أدهم يدنو منهما بعد ان استوعب سريعا ما حدث بمجرد رؤيته لحالهما المزري وثيابهما الممزقة، احتضن ريما التي أجهشت بالبكاء وهي تتمتم قائلة وكأنها الآن فقط قد أدركت أنها قد تسببت في موت انسان:
- أنا قتلت يا خالي، موّت بني آدم!
أدهم مربتا على ظهرها: - بس بس، اهدي حبيبتي، كل شيء هيتحل بإذن الله.

في حين هتف عصام بحدة وصوت منخفض: - هشششش! انا لسّه قايلك ايه يا ريما؟ من فضلك بقه ما تتكلميش خالص!
تعالى صوت الضابط قائلا: - معلهش يا حضرات، بس ممكن أعرف مين الاساتذة؟ يعني المفروض دا قسم مش كافيه، وسماحي ليهم انهم يقعدوا هنا ما ينزلوش التخشيبة مراعاة لظروفهم، يعني حاجة انسانية، بس كمان مينفعش تدخلوا كدا من غير ما اعرف على الاقل انتم مين؟

تقدم اسلام من الضابط وقال بهدوء فاتر: - أنا اسلام شمس الدين، أخو عصام – مشيرا الى توأمه – ودا – وأشار الى أدهم – يبقى المهندس أدهم شمس الدين.

اقترب مهدي يقول بفتور: - وأنا المهندس مهدي العايدي. أخو ريما.
مشيرا الى شقيقته التي لم تترك حضن خالها، أو يد. زوجها!
الضابط بايماءة فهم: - تمام. عموما أنا هسيبكم تقعدوا معهم براحتكم، لأنهم هيترحلوا على النيابة خلال ساعات، وطبعا مش محتاج أقولكم أنه وجود المحامي ضروري معهم.

أدهم بايماءة قصيرة: - احنا كلمناه فعلا وهو على وصول...
انصرف الضابط، ليلتفت أدهم الى عصام قائلا بعقدة جبين قوية: - ايه اللي حصل يا عصام؟
في حين تقدم مهدي سريعا من شقيقته، يمسك بها يدفعها الى ذراعيه مطبقا عليها بدفء وحنان، وهو يهمس لها بكلمات رقيقة ألا تقلق فكل شيء سيسير على ما يرام.

نظر أدهم الى عصام بعد أن انتهى الاخير من سرد ما حدث على مسامع الجميع ليقول بزفرة قوية:
- مش معقول! مش ممكن دا يحصل! كأنك بتحكي لي عن فيلم من أفلام المافيا!
عصام بتنهيدة عميقة: - للأسف صدّق يا عمي، الكلب دا لو كان عاش أنا كنت هموّته بإيدي، ما كنتش هسمح له يعيش لحظة واحدة بعد اللي عمله، اللي زي دا حشرة وكان لازم يموت.

أدهم مربتا على ساق عصام الجالس بجواره: - عموما ما تقلقش، الامور واضحة، حالة دفاع عن النفس. وان شاء الله مش هتطوّل.
قال اسلام بفكاهة خفيفة رغبة منه في تبديد جو الحزن: - قعدت تقولنا هقضي شهر العسل في مكان ما يخطرش على البال، وعامله مفاجأة لريما، بس ما توقعناش انه يكون في ابو زعبل! جديدة لانج دي!

ثم وجّه سؤاله الى ريما: - اتفاجئتي يا ريما مش كدا؟
نظرت ريما الى عصام وقالت بأسى: - انت لما قلتلي أني هقضي شهر العسل في مكان غريب وجديد ما كنتش أتوقع أبدا أنه هيبقى سجن أبو زعبل!

أجابها رافعا حاجبه بسخرية طفيفة متماشيا مع مزاح أخيه لعله ينسيها بعضا مما مرّ عليهما هذه الليلة الليلاء:
- مش قلت لك أني. هفاجئك!
هتفت بيأس ونبرة صوت منخفضة تكاد تبكي: - لو على المفاجأة فأنا اذبهليت (قمة الذهول) مش اتفاجئت بس! أرجوك. كفاية مفاجآت لغاية كدا. أنا وِرِمْت!

عصام هامسا بصوت منخفض: - وأنا اتنفخت!
مهدي متسائلا: - بتقول حاجة يا عصام؟
انتبه عصام قائلا: - ها؟ لا أبدا ولا حاجة.
ثوان وكان الضابط يدلف الى الداخل قائلا: - بعد اذنكم. سيارة الترحيلات برّة. هيطلعوا على مديرية الأمن دلوقتي. تقدروا تحصّلوهم على هناك.

تقدم أدهم والذي نهض وتبعه الباقيين ما ان دخل الضابط، وقال بهدوء: - تمام يا حضرة الظابط، واحنا متشكرين أوي لتفهّم حضرتك.
الضابط بابتسامة صغيرة: - مافيش حاجة حضرتك، عموما ما تقلقوش. لو الموضوع زي الاستاذ ما حكى – مشيرا الى عصام – فأمره سهل. حالة دفاع عن النفس واضحة جدا.

اسلام بتساؤل: - طيب مش ممكن ناخدهم معنا في العربية للمديرية؟
الضابط نافيا بحركة من رأسه: - للأسف مينفعش، أنا اتفهمت حالتهم وما رضيتش أدخلهم الزنزانة، لكن لغاية هنا ومش هقدر، دا قانون. ومش هقدر أخالفه.

أدهم منهيا النقاش: - تمام يا حضرة الظابط، شكرا مرة تانية.

لحظات وكان الشرطي يدلف بعد استدعاء قائده له، يأمره باصطحاب المتهميْن الى سيارة الترحيلات، ليخرج الشرطي قيد حديدي من جيبه، ويقترب ليضع إحدى أسورتي القيد حول معصم عصام الايسر والاخرى حول رسغ ريما الايمن، واللذان نظرا الى الاساور الحديدية التي تزين معصميهما قل ان يتبادلا نظرة مطولة، تبعا بعدها العسكري خروجا من القسم حتى صعدا الى سيارة الشرطة.

مال عصام على أذن ريما الجالسة بجواره ترتج مع حركة السيارة وهمس: - ايه رايك بعد الحكاية دي ما تخلص بفكّر أني أخد الكلابشات دي عشان اربطك بيها معايا، فأضمن انك هتفضلي جنبي ومش هتبعدي عن عيني ثانية واحدة!

ريما بشبح ابتسامة: - وليك مزاج تنكّت (تمزح)؟
عصام ببساطة: - ومين اللي قال اني بضحك؟ أنا بتكلم جد وجد الجد كمان، وبكرة تشوفي!
اكتفت ريما بتحريك رأسها بمعنى لا فائدة. لتفاجئ بعصام وهو يعود ويهمس لها ثانية:
- عشان تعرفي اننا مميزين في كل حاجة، كل العرسان بتفطر حمام وبط الا احنا. عيش وحلاوة!..

ضحكة مبتورة صدرت عنها ولكنها كانت كافية بالنسبة لعصام، فقد كان في غاية القلق عليها خاصة بعد انفجارها ف البكاء بين ذراعي عمه، بعد حالة الجمود الغريبة التي تلبستها في البداية، والتي عاودتها الآن بعد صعودهم الى سيارة الترحيلات.

وصلوا الى مديرية الامن، حيث تم التحقيق معهما في أمر جريمة القتل، وكان المحامي قد وصل وحضر معهم التحقيق، ليفاجئا في الأخير بقرار المحقق بوضعهم في الحبس لحين عرضهما على النيابة في صباح اليوم التالي!

هتف مهدي بحدة مواجها المحامي: - يعني ايه؟ ريما وعصام مش ممكن يباتوا في التخشيبة!
المحامي محاولا الشرح: - يا مهدي بيه انهرده الجمعة ومافيش نيابة، ولازم يفضلوا هنا لغاية بكرة الصبح ان شاء الله لما يتعرضوا على وكيل النيابة، دا قانون حضرتك، ودي جريمة قتل وهما الاتنين معترفين، على العموم أنا هحاول مع حضرة الظابط انهم يقضوا الليلة في المكتب عنده، زي ما ظابط قسم الساحل عمل، وربنا يسهّل.

اسلام وهو يقف بجوار عمّه: - هنسيبهم معقولة يا عمي؟
سكت أدهم مفكِّرا للحظات قبل أن يرفع هاتفه الشخصي قائلا بعزم: - أنا هعمل محاولة، وان شاء الله تنفع...

ها يا بطل عاوز تروح فين؟.
قفز فريد الجالس في المقعد الخلفي من سيارة هشام ودفع برأسه في الفراغ بين المقعدين الاماميين حيث يجلس هشام قائدا للسيارة تجاوره منال، وهتف بحماس طفولي:
- الملاهي وجنينة الحَوانات والسيلك (السيرك) و...
قاطعته منال بابتسامة هادئة: - حيلك حيلك يا فريدن مش هينفع يا حبيبي كلهم في يوم واحد، اختار مكان واحد بس.

عقد فريد ساعديه النحيلين أمام صدره وزمّ شفتيه برفض وحنق وهو يقول مدمدما: - يبقى مش هلُوحهم (اروحهم) خالص، انتو مش بتخلوجوا (تخرجوا). ومعلفش (معرفش) هنخلُج (نخرج) تاني امتى؟!

نظر اليه هشام في المرآة الامامية وقال بابتسامة: - ليك عليا يا سيدي أجازة كل أسبوع نخرج نتفسح فيه كل مرة في مكان جديد. ها مبسوط؟

أحاط فريد عنق هشام من الخلف بذراعيه الرفيعين وهو يهتف بفرحة طفولية مكررا: - مسبوط!
ضحك هشام عاليا وقال: - مبسوووط، قول ورايا. مبسوط!
فريد وهو عاقدا جبينه كمن يفكّر في حل مسألة عويصة: - ولايا (ورايا). مسبوط!
لتنطلق ضحكات هشام بينما ودون وعي من منال ظهرت ابتسامة رقيقة على محياها الجميل، قبل أن تقول بحزم أمومي حان:
- طيب اتفضل اقعد مكانك خلّي عمو يعرف يسوق.

ليطيع فريد الأمر في لحظة وهو يهتف عاليا: - ونتغدى بيزتا (بيتزا)!
قطب هشام ونظر الى منال متسائلا لتقول مفسرة بهدوئها الرقيق: - قصده بيتزا، عوز يتغدى بيتزا.
لتنظر الى فريد قائلة: - ربنا يسهّل حبيبي، هنشوف الموضع دا.
ولكن هشام قال ببساطة: - هنشوف ايه؟ اليوم انهرده كله على حساب فريد، هو اللي يقول عاوز يخرج يروح فين ويتغدى ايه واحنا ما علينا الا التنفيذ، وأنا من المنطلق دا بقولك يا كابتن، هنتغدى بيتزا!

ليصيح فريد عاليا وهو يضم يده ليرفعها الى الاعلى ويخفضها ثانية: - هيييييييييييه!
صوت رنين هاتف هشام الشخصي قاطع هتاف فريد، حيث رفع هشام الهاتف وما ان طالعه اسم المتصل حتى قطب في تعجّب قبل ان يتلقى المكالمة وما هي الا دقائق حتى كان هشام يهتف بذهول:
- مش ممكن؟ كل دا حصل؟ امممم. طيب وهما فين دلوقتي؟ آه. لا، هو قانونا طبعا لازم يقضوا الليلة دي في التخشيبة.

صزت شهقة مكتومة استرعت انتباهه ليشرد ثانية قي صاحبتها التي تطالعه في استفهام وحيرة قبل أن يعير انتباهه ثانية الى المتصل فينصت لثوان يقول بعدها بحزم:
- ممكن تعرف لي مين الظابط الموجود؟ أيوة، آه عارفه طبعا، ولا يهمك يا سيّد أدهم، انا هتصرّف.

لينهي المكالمة، ثم يميل بسيارته الى يمين الطريق حيث أوقفها قبل أن يقول لمنال بينما يضغط بضعة أرقام في الهاتف:
- معلهش يا منال، ثواني هعمل مكالمة ضرورية.
وما هي الا لحظات حتى كان الطرف الآخر يجيب اتصاله وفي بضع كلمات موجزة شرح هشام الامر لزميله الذي وعده بأنه سيهتم شخصيا بالأمر.

أنهى الاتصال لتنظر اليه منال وهي تهمس بذهول فهي لا تزال غير مستوعبة أن العروسين اللذان حضرت حفل زفافهما يقبعان الآن في مديرية الأمن تمهيدا لعرضهما على النيابة للتحقيق في جريمة قتل، تماما كما سمعت من هشام وهو يشرح الامر لزميله!

همست منال بذهول: - معقولة يا هشام اللي انت بتقوله دا؟ العرسان إلى احنا لسّه حاضرين فرحهم امبارح بالليل؟

هز هشام رأسه بالايجاب وقال وهو يزفر بضيق: - للأسف أيوة.
قاطعهما صوت فريد اللحوح: - احنا مش هنشي؟
أدار هشام محرك السيارة وقال وهو يهم بالانطلاق: - هنمشي حبيبي.
وانطلق بهما في طريقه الى مدينة الألعاب الترفيهية.

لم يترك فريد لعبة الا وركبَها، بالرغم من اعتراض منال على أغلبهم، فهناك ألعاب خطيرة لا تجرؤ هي شخصيا على ركوبها، قام ابنها وعمّه المتهور بتجربتها!

نظرت الى هشام بطرف عينها وهي تراه يتحدث ويضحك مع ابنها بينما يسيران يدا يشيران الى الالعاب من حولهما، لتعترف الى نفسها بأنها اليوم قد رأت عدة جوانب مختلفة في شخصيّته.

أولا أنه لا يتأخر عن المساعدة طالما أمكنه هذا، بدليل تقديمه ليد العون في موضوع العروس قريبة أدهم شمس الدين مالك الدار الذي كانت تعمل فيه قبلا، وثانيا أنه لا يكل ولا يمل من طلبات ابنها الكثيرة والملحّ هو فيها بشكل مغيظ! مما يجعله مخالفا لفريد زوجها!

فالأخير لم يكن ليتحمّل عناد صغيرها فهي تتذكر جيدا نقاشا كان بينهما عن تربية الاطفال إذ أخبرها يومها أنه ينفض يده من كل ما يتعلق بصغيرهما وكانت حينها حاملا في فريد، وقد ظنته بالبداية أنه يمازحها، ولكن تقاعسه عن الذهاب معها الى الطبيب المشرف على حالتها طوال فترة الحمل، وطلبه منه أن تصطحب والدته بدلا منه، جعلها هذا الشيء تتيقن من أنه صادق تماما فيما يتعلق بالاطفال، ولكن هشام. فهو لم يسأم أبدا من ابنها، ومع أن نشاط ابنها قد فاق الحد، الا أنه لم يتذمر، بل شاركه لعبه لتنطلق ضحكات صغيرها عذبة رقراقة، اممممم. في النهاية قد يكون هناك بعض المميزات لزواجي بك! ...

لا تدري لما وردت على ذهنها هذه الخاطرة، وسرعان ما هزّت رأسها لتبعد أحلام يقظتها، وهي تعاود السير بجانبهما لتسمع فريد وهو يقول:
- أنا عوز أيْكب القطيْ! (أركب القطر)
قطبت منال متسائلة: - ما انت ركبته حبيبي، مش دا اللي بيلف الملاهي كلها؟
رفض فريد بهزة نفي من رأسه قائلا: - تؤ. مش هو، التاني بيلوح (بيروح) فوق!
قطبت منال مرددة بغير فهم: - بيروح فوق؟!

هشام وهو يحثهما على متابعة السير: - ياللا. عشان نركبه، وانتي هتشوفيه بنفسك.
منال بتوجس وريبة: - هو ايه دا اللي هشوفه؟
هشام ببساطة وقد استأنفوا السير: - القطر.
منال رافضة: - لا معلهش ماليش في القطورات، اتفضل خده انت واركب معاه وانا هستناكم هنا...
هشام بتصميم: - مافيش كلام من دا، دا حتة قطر، هتخافي من القطر بردو؟..
فريد بإلحاح وهو يضرب الأرض بقدمه: - عشان خاطيي (خاطري) ماما!

نظر اليها هشام وقال مقلّدا فريد: - عشان خاطيْنا يا مامته!
ابتسامة متسللة الى كرز شفتيها خانتها لتتنهد بعدها عميقا قائلة: - أعمل ايه، نركب القطر، أهو في الاول والاخر قطر!
ولكنه لم يكن قطارا عاديا بالمرة. بل كان قطار الموت!

صرخت منال عاليا وهي تقريبا تجلس في حضن هشام، بينما رفض موظف اللعبة صعود فريد معهما لصغر سنّه وعرض عليهما أن يتركاه معه حتى تنتهي اللعبة ليوافق هشام سريعا قبل ان تنطق منال بالرفض الذي رآها على ملامحها.

منال وهي تصيح عاليا: - بقه دا مجرد قطر؟ حسبي الله ونعم الوكيل!
أجابها هشام وهو يضحك: - أه. أصلي نسيت أقولك انه اسمه قطر الموت، عشان بيتحرك بسرعة عالية جدا، وبيلف لفات كبيرة!

منال وهي تتأهب للصراخ للمرة التي لا تعلم عددها منذ صعودها تلك اللعبة: - آه، بيروح فوق! دا أنا روحي اللي هتروح فوق من الخضة!
هشام بحنان ضاحك: - سلامة روحك.
فطالعته وقد نست خوفها للحظات قبل أن يقطع لحظة تواصلهم البصري صعود القطار بسرعة صاروخية الى القضبان الملتوية المتخذة شكل دائري لتخفي منال وجهها في صدر هام وتصرخ بينما تتشبث أصابعها بمقدمة قميصه:
- الحقني يا هشام، عاوزة أنزل. خلاص مش مستحملة...

فاحتواها هشام بين ذراعيه بقوة وهمس لها في أذنها: - ما تقليش حبيبتي، أنا أفديكي بروحي!

لترفع منال عينيها اليه تنظر اليه في تساؤل، وامتدت تلك اللحظة لوقت لا يعلمه أي منهما وفجأة لا تعلم أهو من اقترب أم سحبها اليه أم هي من دنت منه، إذ فوجئت بهمس خافت باسمها قبل أن يميل على شفتيها يخطفها في قبلة رقيقة حد الوجع، حتى أنها لم تقاومه، بل زحفت يديها تحيطان بعنقه، تجذب نفسها أقرب وأقرب اليه، تتشرّب أنفاسه، ليعتصرها عصرا بين ذراعيه، وهو لا يكاد يصدق تجاوبها معه، وعمل على تعميق قبلته، ليشعر معها وكأنه يشرب من بئر ماء بارد، يرطب جوفه الشديد الجفاف، فتسري المياه لتنعش عروقه الجافة تبث فيها روح الحياة!

توقف اللعبة جعلهما ينتبهان الى وضعهما، لتبتعد منال في خجل ووجل، وهي تحاول ترتيب وشاحهما، بينما وجنتيها متضرجتان بحمرة قانية، ترجل هشام من اللعبة وساعدها على الترجل بدورها، ليحيط كتفها بذراعه فحاولت الابتعاد قليلا ولكنه تظاهر بعدم ملاحظته لحركتها ليتعمد الالتصاق بها قبل أن يقول بابتسامة:
- لعبة حلوة صح؟ عشان كدا كل زيارة لينا هنا في الملاهي لازم نركبها، مش كدا بردو؟..

منال بوجه قد بدأ شحوبه يختفي تلونه حمرة الغضب بعد ان كانت الخجل قبل قليل: - لا مش كدا، واتفضل بقه عشان نروح لفريد، أنا اعصابي باظت!
قابلهما فريد بالفرح وهو يهتف قائلا: - ايه رايك يا ماما، حلوة مش كدا؟
منال وهي تمسك بيده تسحبه معها وبغيظ وقهر شديدين: - لا معجبتنيش، كفاية اني مقدرتش آخد نفسي!
مال هشام على آذنها هامسا: - يعني التنفس الصناعي اللي عملته فوق منفعش؟

فغرت منال فمها بذهول وهي تطالعه ببلاهة في حين تابع وهو يغمز اليها بعينه اليسرى في عبث:
- على العموم ولا يهمك، هفضل آخد لك في كورسات الاسعافات الاولية قسم تنفس صناعي لغاية ما اكون بريمو فيه!

ثم مد يده مغلقا فمها متابعا بصوت خشن: - اقفلي دا عشان مش عاوز أتهور!
ثم دفعها براحته الكبيرة أسفل ظهرها لتتابع سيرها!

منذ عادا الى المنزل وهي تحب نفسها بغرفتها، وقد تذرعت بعدم الرغبة في تناول الطعام على الرغم من انها لم تتناول غذائها، فبعد نزولها من تلك اللعبة لم تعد شيئا مما حدث بعد ذلك!

وكانوا قد ذهبوا الى مطعم لتناول البيتزا الوجبة المفضلة لدى ابنها ولكنها لم تتناول الا أقل القليل فتأكد هشام أنها لن تتجاوز ما حدث بسهولة، ليصمم أن يدق الحديد وهو حامي، ونقطة الصفر. الليلة!

طرقات تصاعدت على باب غرفتها لتقطب ولكنها خمنت أنها ولا بد حماتها آتية بصينية الطعام لها، فلم تهتم بتغطية شعرها وتقدمت من الباب تفتحه وهي بمنامتها القطنية التي تصل منتصف الساق بينما أكمامها فقصيرة للغاية مزمومة أعلى الذراعين، ذات فتحة عنق دائرية واسعة، تنتهي برباط على شكل فراشة في وسط الصدر.

قالت منال وهي تفتح الباب وقد رسمت ابتسامة صغيرة على وجهها: - يا ماما حضرتك تعبتي.
لتصمت فجأة وقد طالعها وجه هشام وليس حماتها والذي استغل لحظة مفاجئتها ليدفعها الى الداخل فيدلف ورائها موصدا الباب خلفه بينما يحاول موازنة الصينية بيد واحدة قل ان يتجه الىالجلسة الجانبية حيث وضع الصينية على المائدة البيضاوية الصغيرة قبل ان يرتفع مجددا ليطالعها ويقول مشيرا بيده الى الطعام:.

- حماتك كانت عاوزة تجيب الاكل بنفسها بس أنا قلت دا واجب على جوزك!
قطبت منال مكررة بتوجس: - جوزي!
اقترب هشام منها وهو يقول ببساطة: - آه، جوزك، انتي نسيتي تاني؟
ثم وقف أمامها ورفع يدها يداعب خصلات شعرها البندقية اللون التي تنسدل على كتفيها تصل لآخرهما، وتحيط بعض الخصلات بوجهها، ليمسك بخصلة طويلة متحسسا نعومتها قبل أن يهمس وهو يمرر عينيه عليها متفحصا مفاتنها:
- شعرك ناعم أوي.

ثم مال عليها مستنشقا رائحة الشامبو خاصتها قبل ان يردف: - وريحته! اممممم، بالظبط زي ريحة الاطفال. انت بتستخدمي شامبو ايه؟
منال مكررة بغباء وعينين متسعتين من الصدمة: - شامبو!
لتستفيق من حالة الغباء الذهني الذي ألمَّ بها وتهتف بصوت مضطرب حانق بينما تبعد يده عن خصلاتها:
- هشام أنا ما أسمح.

ليقاطعها بصوت هادئ جاد وقد ظلل وجهه ابتسامة صغيرة: - أنا اللي مش هسمح لك انك تخبي عني الجمال دا تاني بعد كدا، أنا. – مال بوجهه على وجهها متابعا بهمس خشن وقد شدد على كل حرف ينطقه – ج و ز ك. جوزك يا منال، يعني كل حاجة فيكي حلالي أنا!

شهقت بنعومة وهي تحاول التراجع الى الخلف ولكنه سارع باحاطة خصرها بساعده العضلي مردفا بهدوء وحزم:.

- أيوة يا منال، شعرك وكل حاجة فيكي ملك لجوزك، اللي هو أنا، ولو كنت سمحت ف الاول انك تخبي نفسك عني ف دا احترام مني لمشاعرك، وقلت هييجي الوقت اللي انتي بنفسك هتفكري انه اللي بتعمليه دا مالوش لازمة، لكن واضح كدا أنه الموضوع مش في بالك خالص، فعشان كدا أناللي أخدت القرار. من هنا ورايح مش عاوز أشوفك في البيت مغطية شعرك او لابسة الاسدال وكأني غريب عايش معاكي، لأنه أنا ناوي أني أثبت لك بكل طريقة أني جوزك، وهفكّرك ب دا لو نسيتي!

قطبت منال بعد انتهائه من ادلائه بأوامره وقالت بحدة ساخطة: - أي أوامر تانية يا حضرة الظابط؟
هشام ببساطة وهو يمرر أنامله في خصلاتها المحيطة بوجهها: - حاليا لا، لكن افتكري أنه أقل غلطة هدوّرك مكتب. – وغمزها متابعا – عندي. ف الاوضة!

لتشهق بدون صوت ثم تتمتم بكلمات لم تتعدى نطاق شفتيها ليضحك ضحكة رجولية جعت دقات قلبها تتقافز سريعا ولكنها أوعزت هذا الى غضبها منه وحنقها عليه، لثم هشام شفتيها بقبلة سريعة قبل ان يقول:
- انصراف يا عسكري!
وانصرف مغادرا الغرفة، مغلقا الباب خلفه ليستند بظهره اليه وهو يتمتم بزفرة خانقة:
- ربنا يسهلها وعقدتك تتفك بسرعة يا منال، لأني العد التنازلي بتاعي بدأ، ومش هقدر أستحمل كتير!

بينما في الداخل وقفت منال امام المرآة تتحسس شفتيها وخصلاتها التي لمسها وهي تتساءل في نفسها. ترى لما يخالجها شعور أن هشام لم يعد يرضيه زواجهما الافلاطوني هذا، بل وهناك هاجس يلح عليها أنه سيحاول الحصول على حقوقه الزوجية منها، وذلك أكثر ما يخيفها، فهي على يقين من أنه يفرض نفسه عليها، بل سيكون برضاها الكامل ورغبتها، وذلك أكثر ما ى يخيفها لأنها اكتشفت أنها ليست محصنة ضده تماما كما كانت تظن، وأنها لم تعد تنظر اليه كشقيق، لزوجها المتوفي، بلع أنها تشعر به شخص آخر تماما، فلم تعد ترى شبح فريد يطل من ورائه كما كانت ببداية علاقتهما، وذلك الأمر لا يطمئنها بالمرة، فهي أصبحت ترى في هشام رجلا وسيما، حنونا، بل ومرغوبا!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة