قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الخمسون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الخمسون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الخمسون

شادية، يا شادية. يا ربي هو كل مرة كدا لازم أنبح في صوتي عشان ترد؟ .

تأففت أم شادية وهي تنادي ابنتها والتي كالعادة لا تجيب النداء إلا بعد أن توشك والدتها بالاصابة بالتهاب حاد في احبالها الصوتيه نتيجة ارتفاع صوتها، بينما ابنتها فهي لا تجيبها لانها ببساطة. لا تسمعها! نعم، فشادية ما أن تدلف الى غرفتها أو صومعتها كما تلقبها والدتها وتشرع بالعمل على أوراقها ورسالتها حتى تنعزل كليا ونهائيا عن العالم الخارجي فكأنها انتقلت من المجرّة أساسا. خاصة وأنها لا تكون بمفردها بل مع. علبة كبيرة من الشوكولاتة الذائبة عشقها الابدي!

دلفت زبيدة الى غرفة والدتها بعد ان تركت ما بيدها وقد سلمت أمرها الى الله فابنتها لن ترد على نداءاتها المتعددة حتى لو استخدمت مكبر صوت المسجد المجاور لمنزلهم!

ايه يا بنتي، حرام عليكي كدا، مش هتبطلي عادتك دي؟ يعني لازم أسيب إلى في ادي وآجي لك بنفسي؟ طيب افرضي تعبانة ولا فيا حاجة متسعفنيش؟

نظرت شادية الى والدتها وأخرجت الملعقة من فمها الملطخ بالشوكولاتة وقالت بعينين واسعتين:
- انتي بتنادي من زمان يا زبدة؟ وربنا ما سمعت!
زبيدة وهي تتخصر وبحنق مشيرة الى الأوراق المتناثرة على المكتب الخشبي الصغير بغرفة ابنتها والى اناء الشوكولاتة الذائبة المفتوح امامها والذي أوشك على النفاذ بالرغم من أنه يقارب الكيلوجرام وزنا:.

- ما هو طول وانت غرقانه بين ورقك ومعاكي أفيونتك دي – تعني الشوكولاتة – وانتي بتبقي برة الدنيا!

شادية ببراءة: - ما انتي عارفة أهو يا زبدة، يبقى بتتعبي نفسك وتضايقيها ليه؟ ثم. ما ترني لي على الموبايل أحسن؟

لتقبض زبيدة فجأة على شحمة أذن ابنتها التي توجعت وهي تقول بسخط من هذه الكسول: - أنت بتستعبطي؟ أرن لك ع الموبايل وبيني وبينك تلات خطوات وربع؟
شادية بألم: - آي آي. لا انت بتشدي بجد يا زبدة، يهون عليك شادية تعملي فيها كدا؟ مش كفاية أني عاملة فيكي أكبر جميلة وراضية باسمي وساكتة ومستحملة التريقة من اختك وبنتها. ملك الجمل ونيللي مظلوم! (ممثلات اشتهرن بأدوار الشر قديما).

خبطتها أمها على رأسها تاركة أذنها وهي تؤنبها بشدة: - قصري لسانك، دول بيحبوكي، كل الحكاية انهم بيحبوا ينغاشوكي شوية يعني، هي لو خالتك كارهاكي بجد كانت جابت لك عريس؟ كانت خدته لبنتها نيللي. أاقصد عزة!

حدقت شادية واسعا في أمها وقالت بذهول: - هي مين دي اللي جابت عريس؟ من امتى الحداية بتحدف كتاكيت؟! وبعدين يطلع مين عريس الغفلة دا ان شاء الله؟

سحبت زبيدة كرسيا وجلست بجوار ابنتها وقد اختفى مزاجها الحانق في لمح البصر لتعتلي وجهها ابتسامة واسعة وهي تقول بفرحة تتقافز في عينيها:
- اسكتي يا بت يا شادية، عريس انما إيه. قيمة وسيما و.
قاطعتها شادية بدون تعبير: - ووظيفة ميري، هو انا عشان شادية عاوزين تجوزني محمود بلاليكا (عزيز عثمان ممثل ومطرب معروف في حقبة الاربيعنيات من القرن الماضي)!

هتفت أمها بغيظ: - يا بت لمي لسانك، انت عارفة هو يبقى مين عشان تتريقي عليه؟
شادية بابتسامة بلهاء: - لا. اشجيني يا زبدة.
زبيدة بحماس: - دا مهندس بترول كبير في الخليج، جاهز من كله، نازل أجازة شهر ولو حصل نصيب عاوز يتمم فيها كل حاجة!

شادية بعينين متسعتين بصدمة: - نعم! دا لو نازل يشتري شقة مش هيخلص في شهر؟ وبعدين جاهز ولا تفصيل انا يهمني الانسان نفسه يا ماما، الحشو من الآخر!

بتاكلي في ودان البنت بئالك ساعة، بتقولي لها ايه دا كله؟ ...
نهضت شادية ما أن أبصرت وجه والدها وهو يطل عليهما من فتحة الباب، وقالت بلهفة وهي تتجه اليه:
- تعالى يا محمد يا منير حوش زبيدة ثروت عني!
ضحك والدها في حين نهضت زبيدة وهي تتوعدها قائلة: - بتتريقي يا بنت زبيدة؟

احتمت شادية بوالدها ونظرت الى والدتها من وراء كتفه وهي تقول ببساطة: - يعني هو كان السيد الوالد ثروت بجد يا زبدة؟ أنا بضحّك معاكي، يعني دعابة يا زوزو، إيه يا هو الكينج مش بيهزر معاكي أبدا؟

محمد بتساؤل مندهش: - ويطلع ايه الكينج دا ان شاء الله؟
شادية ببساطة مشيرة الى والدها: - حضرتك يا باشا، مش انت محمد منير؟ تبقى الكينج على طول!
تعالت ضحكة أبوها القوية في حين حاولت زبيدة الوصول اليها وهي تقول: - سيبني عليها يا حاج!
ولكن شادية استطاعت الاحتماء جيدا بوالدها وهي تقبض على ثيابه من الخلف فيما قال محمد:
- استهدي بالله بس يا زبيدة، وقوليلي هي عملت ايه خلاكي متغاظة منها اوي كدا؟

زبيدة مشيرة الى ابنتها: - عاشر عريس ترفضه بسلامتها، انا مش فاهمه، بترفض العرسان ليه؟ لا واللي يغيظ انه مل واحد احسن من اللي التاني، وآخرتها هتعنس وتقعد في أرابيزنا أنا عارفة، ما هو أصله البطران عيشته قطران!

محمد بابتسامة هادئة: - يا زبيدة كل شيء نصيب، خصوصا الجواز دا.
زبيدة بقوة: - وهو المدرس جارنا دا يتعايب؟ ولا المحامي اللي جالها عن طريق صاحبك؟ والدكتور و و و و. وآخرهم مهندس البترول مجايب خالتها.

نظرت اليها شادية من خلف كتف والدها وقالت بسخط: - يا ما جاب الغراب لأمه!
أشارت لها زبيدة قائلة بغضب: - شوفت قلة أدبها يا حاج؟ ينفع تقول كدا؟ ونازلة تريقة على أختي وبنتها؟ أنا راضية ذمتك يا حاج ينفع دا؟

طالع محمد ابنته من فوق كتفه وقال وهو يغمزها في خفية عن أمها بحدة زائفة: - انت اتريقيتي يا شادية على خالتك؟
زبيدة بدهشة: - يعني انا هكدب يا حاج؟
محمد بصلابة مصطنعة: - لا طبعا يا زبيدة، حاشا لله. – ثم التفت الى ابنته متابعا – ردي يا شادية. قولتي عليهم ايه؟

شادية بتلقائية: - والله يا حاج أنا كل اللي قلته انهم عاملين زي ملك الجمل ونيللي مظلوم، ما هم كمان كل ما يشوفوا وشي يمسكوني تريقة ويا ريتهم بيتريقوا عليا أنا وبس لا. انت كمان بتييجي في الرجلين يا أبو شادية!

قطب محمد في حين حدجت زبيدة ابنتها بنظرة متوعدة لفتت انتباه محمد الذي قال بغلظة:
- قصدك ايه يا شادية؟ اتكمي قولي ما تخافيش!
شادية هاتفة بقوة: - بيقولوا محمد منير ازاي ويخلف شادية؟ دي جيل والتاني جيل تاني خالص، يعني لا عاجبهم اسم شادية ولا محمد منير، ومش بعيد يكونوا بيتريقوا على زبيدة كمان، ما طبعا عقدة النقص اللي فيهم. مش هي اسمها فتكات وبنتها عنزات؟!

كتم محمد ضحكته بصعوبة في حين هتفت زبيدة بصدمة: - بنت!

شادية ببساطة: - هو انا كدبت؟ أنا فاكرة كويس اوي تيتة الله يرحمها لما كانت بتحكي لي انها لما اتولدت الاول وكان جدي الله يرحمه صمم انه يسمي البنت الكبيرة على اسم مامته، وأنها كانت حماة قادرة، ولما جات خالتي سماها عشان كدا فتكات على اسمها، انما فيكي اتحايلت هي عليه تسميكي على اسم أمها زبيدة، وحماتها كان ربنا ريّحها من الدنيا ببلاويها، انما في بنت خالتي بقه جوز خالتي كان هيموت على الولد لكن لما جات بنت قال هيسمي على أمه شوقية، خالتي من يومها وهي قادرة ما هي طالعه للي اتسمت على اسمها، رفضت وقالت عزة، كلمة منها على كلمة منه راح واخد بعضه على الصحة وسجلها عنزات. عشان تبقى عنزات بنت فتكات! يومها خالتي جالها حمى النفاس من القهر وكانت هتروح فيها!

محمد بابتسامة مكتومة: - امك محفظاها التاريخ كله يا زبيدة!
زبيدة بلوْم: - كدا بردو يا حاج؟ دا بدال ما تقولها عيب ما يصحّش!
ابتعدت زبيدة عن أبيها واتجهت لأمها تحيط كتفيها بذراعها وهي تقول بتلقائيتها المعهودة:
- يا زبيدة هو انا كنت بفتري؟ دا مامتك بذات نفسيتها اللي حكيت لي تاريخكم وقالت لي على الصندوق الاسود كله!

ضربتها زبيدة على يدها وقالت بصرامة: - اتلمي يا بنت زبيدة، وقصر الكلام هتشوفي العريس يعني هتشوفيه، هو حرام يا ناس أفرح ببنتي الوحيدة. ، ،.

شادية مصححة: - لا. هو حرام تفرحي في مش بِ بنتك الوحيدة! لأنه العريس دا بالذات دوناً عن باقية العرسان أكيد فيه أن وأخواتها كمان، وإلا ما كنتش فتكات جابته وهي عندها عنزات.

وكزتها أمها فصلّحت قائلة: - عزة. عزة خلاص، بس هي في ورق الحكومة عنزات وأبوها اللي هو جوز خالتي حلف بالطلبات ما هي مغيرة اسم عنزات!

زبيدة بدهشة: - يا بت اسكتي شوية. انت زي ما تكوني شمتانة فيهم! هما مش أهلك بردو؟

تدخل محمد كي لا يتطور الأمر أكثر من ذلك وقال: - ايه بس يا زبيدة، شادية ما قالتش حاجة، ولو على العريس يا ستي أنا مش هغصب بنتي على حد مش عاوزاه، ولو هو كويس اوي كدا ما كانت جوزته بنتها على راي بنتك؟ وخصوصا انه بنتها خلصت كليتها، يعني ما ورهاش حاجة، أنما أنا بنتي بقه بتحضر الدكتوراه عشان هتبقى دكتورة نفسية كبيرة بأمر ربنا.

زبيدة وهي تلوي شفتيها يمينا ويسارا محركة يديها تبسط راحتيها وتقبضهما في حركة رتيبة أمامها:
- هي ناقصة نفسية؟ دي نفسويات مش نفسية واحدة! والله يا ما انا خايفة أحسن يطلع نصيبها واحد من النفسويات دول، وساعتها هتقول بجد. انا اللي جبت دا كله لنفسي!

دفعها محمد زوجها الى الخارج وهو يقول بينما يرمي بغمزة ماكرة لابنته: - يا ستي لما يبقى ييجي لها نصيبها يبقى يحلها ربنا، ودلوقتي ايه مش هتغدينا؟ أنا عصافير بطني زقزقت.

زبيدة وهي تدلف خارجة معه وصوتهما يختفي رويدا رويدا: - ازاي دا، أنا عاملالك دقية بامية باللحمة الضاني هتاكل صوابعك وراها يا حاج، ثواني هحضر الغدا1.

شادية وهي تحدث نفسها بصوت مسموع: - حاج ومحمد منير؟ مش راكبين معايا خالص!

دلفت الى غرفته بالمشفى وهي تهتف بتحية الصباح كعادتها: - صباح الخير يا كابتن ميزو!
قطب معتز ليقول بابتسامة صغيرة: - صباح الخير.
تقدمت شادية بعد أن تركت الباب نصف مغلق وقالت بابتسامتها العريضة: - الحمد لله، كنت فاكرة نفسي بحلم امبارح، لكن انت اتكلمت فعلا!
معتز بإيماءة بسيطة: - فعلا.

تقدمت منه وكان يجلس الى المقعد المواجه للنافذة العريضة المطلة على الحديقة الواسعة المحيطة بالمكان، وضعت لفافة على الطاولة الصغيرة بجواره وقالت وهي تحتل المقعد المواجه له:
- شوف بقه، أنا ما فطرتش وجيت عشان نفطر سوا، ويبقى عيش وملح بيننا وبين بعض!
فتحت اللفافة وناولته إحدى الشطائر ليقول بتردد بسيط: - بس أنا مش عاوز.

شادية وهي تتناول شطيرتها لتقضم قضمة كبيرة وببساطة تامة: - عاوز تقنعني أنه أكل المستشفى عجبك؟
معتز بهزة بسيطة من رأسه: - لا بس.
شادية وهي تناوله احدى الشطائر: - بسم الله، بسم الله، هيعجبك صدقني، دي عمايل زبدة، محدش بيقدر يقاومها. ساندوتشات ديناميت أنما ايه. متفجرات يا عمّنا!

ليبتسم معتز متناولا منها الشطيرة ويشرع بالاكل منها حيث ابتسم باستحسان بعدها قائلا:
- تصدقي طعمها حلو فعلا، تسلم ايديها.
مر الوقت في تبادل الاحاديث الخفيفة وتقاسمهما طعام الافطار حتى قالت شادية وهي ترنو اليه بعينها:
- الا صحيح فيه ما قولتليش. انت بتشتغل ايه بالظبط؟

معتز وهو يبتلع لقمته: - في شركة شمس الدين، في الحسابات، بس بصراحة انا بحب الرسم اوي، بحس اني بطلع اللي جوايا فيه. زي ريما بالظبط. يمكن دا اللي شدني ليها في الاول!

وارتسم على وجهه ابتسامة حنين غريبة، لتنظر اليه شادية وقد ساورها شعور غريب ولدهشتها لم يكن أبدا الفرح لنجاحها في جعله يبدأ أخيرا في الحديث عن نفسه، بل أقرب لل غيظ!

نفضت شادية سريعا هذه الافكار وقالت بابتسامة صغيرة: - على كدا بقه ليك لوحات كتير؟ طيب سبق واشتركت في معارض قبل كدا؟
متجاهلة تماما اسم ريما، أجاب معتز بابتسامة: - لا. أنا كنت برسم لنفسي أنا وبس، ما جربتش أني أشترك في معارض.
شادية بهدوء: - ويا ترى دا خوف من النقد لرسوماتك، ولّا معندكش الثقة الكافية في نفسك كرسام موهوب؟

معتز مقطبا: - مفكرتش في السبب. لكن تقدري تقولي لاني حاسس انه رسمي دا مش اكتر من شخبطة.
شادية ببساطة: - الفنون جنون يا أستاذ. عموما الحمد لله انك ما قلتش انك ليك في الرسم التجريدي، لأني في النوع دا وبلا فخر أحمر من أحمر حمار فيكي يا ايجيبت!

ضحك معتز ولأول مرة ضحكة تردد صداها بين جنبات الغرفة، لتشعر شادية بسعادة غريبة، فيما تتذكر عبارة أمها التي ألقتها على مسامعها بالأمس عن خوفها أن يكون في الاخير نصيبها أحد المرضى النفسيين التي تتعامل معهم، لتهمس في سرّها وعيناها تتشربان من ملامح معتز الضاحكة:
- شكله كدا هيبقى نفساوي واحد يا ام شادية، وانا وراه لغاية ما أصلح نفسوياته!

دلف اليها وكانت قد اغتسلت وبدلت ثيابها، لأخرى خفيفة، عبارة عن فستان صيفي محكم في نصفه العلوي بدون أكمام، وينسدل على اتساع حتى الركبتين، بحزام رفيع يحيط بالخصر، منقوش بالورد الجوري من أعلاه الى أسفله.

نظر اليها وهي تمشط خصلاتها المبللة، فرأت انعكاس صورته بالمرآة خلفها، لتترك الفرشاة وتقوم برفع غرّتها بطوق كبير للشعر باللون الوردي، قبل أن تستدير اليه، تسترق النظر الى وجهه المبتسم، تتساءل بداخلها هل ما حدث بينهما هو السر في ذلك الرضى الذي تراه يشع من وجهه، بينما تتألق ابتسامة جذابة على وجهه الرجولي الوسيم.

تقدم منها حتى وقف أمامها تماما وقال بابتسامته الهادئة: - ماما اتكلمت وقالت انه جارتها ماسكة فيها هي وفريد، وانهم هيقضوا باقي اليوم عندها وهيرجعوا على بالليل. تحبي تعملي ايه بقه دلوقتي؟

منال وهي تضع خصلتها خلف أذنها مشتتة عينيها: - يعني. ممكن أعمل الغدا، ولو أني حاسة انه فريد ممكن يضايق الناس دا أول مرة يروح لهم.

هشام نافيا بابتسامة: - اولا اطمني من ناحية فريد خالص، لانه على كلام ماما الولاد اللي هو معهم هما السبب انه الست مسكت في ماما، تاني حاجة بقه مافيش غدا!

رفعت عينيها اليه بدهشة وقالت مكررة: - مافيش غدا؟!
ضحك هشام وقال: - ايه مالك اتخضيتي ليه كدا؟ ما تخافيش مش هكلك بدال الغدا. مع انه نفسي بصراحة. أصلك ألذ من ألذ غدا!

امتقع وجهها خجلا وقالت باعتراض وهي تهرب بعينيها جانبا: - هشام!
لتنطلق ضحكته عاليا قبل ان يميل عليها هامسا: - يا روح وقلب وعقل هشام.
منال باعتراض متلعثم وهي تنظر الى الاسفل: - انا مش هعرف أتكلم كدا!
ضحك هشام ضحكة دغدغت أوصالها قبل أن يقول وهو يرفع بابهامه وسبابته ذقنها الى الاعلى ليتراءى له وجهها الفاتن كاملا:
- عز الطلب. بلاها كلام! احنا حتى عرسان وانهرده الصباحية هنضيع الوقت في الكلام؟

منال بحنق ووجنتيها مخضبتان باللون الاحمر القاني لشدة خجلها: - هشام بقه!
قلّدها بابتسامة: - منال بقه!
زفرت بضيق فضحك قائلا: - خلاص خلاص. ما تزعليش
ومال عليها لاثما جبينها بقبلة دافئة، قبل ان يمسك بيدها في راحته القوية وهو يقول:
- تعالي بقه. أما أنا هغديكي غدوة، انما ايه. من الاخر.

ودلفا خارج الغرفة، ليتجه بها الى غرفة الجلوس قبل أن يتجه الى هاتفه يرفعه ويجري اتصالا وبعد دقائق أنهى محادثته الهاتفية ثم اتجه اليها يجلس بجانبها فوق الصوفا العريضة، قالت منال بتساؤل:
- انت مش بتقول عازمني على الغدا؟ المفروض أقوم أجهز.
هشام رافضا بابتسامة: - لا يا ستي، الغدا هييجي لغاية عندك، وما تسألنيش ايه هو لأنه مفاجأة. ودلوقتي بقه. قولي كل اللي عندك. كلي آذان صاغية!

طالعته منال بدهشة فقال بابتسامة وهو يغرق في بندقيتيها: - ايه يا منال، مستغربة اني عارف انه جواكي كلام كتير اوي عاوزة تقوليه؟ لسه مش مصدقاني أني حافظك زي ما أكون عمري كله قضيته معاكي؟!

منال بعد ان تنفست بعمق: - مش بالظبط يا هشام، بس مش هنكر، أنا فعلا مستغربة، انما خلينا في المهم. – وسلطت عينيها على عينيه وتابعت بهدوء ظاهري بينما داخلها رعشة ترقّب غريبة – انت فعلا كنت بتفكر أرملة الشهيد فؤاد ولا كانت لحظة عصبية ولا، بتجس نبضي تشوفني هعمل ايه؟

سحب هشام نفسا عميقا قبل ان يقول: - لا طبعا، مش أنا الراجل اللي يجرح مراته بالكلام حتى لو كان مجرد تهديد، ولا أنا الراجل اللي بيقول كلام في الهوا!

حدقت فيه منال بصدمة وهتفت بذهول: - يعني ايه؟ قصدك انك هتجوزها بجد؟! مش ممكن!
هتف هشام بدوره محاولا تهدئتها: - اصبري يا منال واسمعيني.

فسكتت على مضض بينما تابع وهو يسحب نفسا عميقا: - انا حبيتك يا منال، لأول مرة أحس بأنه ناقصني حاجة كبيرة لما بتكوني بعيد عني، احساس عمري ما مريت بيه حتى في جوازي الاول، ومع كل خطوة كنت بقرب فيها منك كنت بحس انك بتحاربي القرب دا، عذرتك وقررت أني ما استعجلكيش، ولما حصل اللي حصل، توقعت انى ألاقيكي جنبي، ما كنتش هخجل أني أعيط في حضنك صدقيني، لكن لاقيتك بعيدة عني، في لحظة سألت نفسي. مستني أكتر من كدا ايه اثبات أنه مافيش أمل في اللي انت عاوزه؟ لو ما كنتش فهمت من هروبها المستمر منك يبقى لازم تفهم وتتأكد دلوقتي، لأنه في المحنة بيبان الانسان على حقيقته فعلا.

وسكت يطالعها بابتسامة محملة بالاسى بينما ترقرقت عينيها بالدموع فيما أكمل: - شهر كامل وأنا مستني انك تيجي لي، تفتحيلي ايديكي، تقوليلي أنا حاسة بيك يا هشام، ولما زهقت واتاكدت انه اللي بحلم بيه عمره ما يحصل، حاسيت انه حياتي كلها مالهاش معنى، وانه الايام اللي جاية هتبقى كئيبة اوي، وقلبك بعيد عني، فقررت أني أنفّذ وصية المرحوم فؤاد، وأراعي أهل.

بيته، وما كانش في دماغي ابدا موضوع الجواز دا، الفكرة ما جاتليش الا يومها بالظبط لما خرجت من الاوضة عشان أتكلم معاكي في الموضوع دا، لكن أول ما شوفتك قودامي، ولاقيتني لسه عاوز أرمي نفسي في حضنك، وأن حبك بيزيد مش بيقل حتى مع جفاكي وبعدك عني، لاقيتني برمي حكاية الجواز قودامك، لدرجة اني استغربتني، لكن ما بينتش، وحصل الانفجار.

اقترب منها محيطا وجهها براحتيها غارزا أنامله بين خصلاتها الندية متابعا: - كل الكبت اللى كان جوايا انفجر مرة واحدة، واتفاجئت اني مش لوحدي اللي مليانن انتي كمان جواكي كتير يا منال وكنتي ساكتة، أنا مش ندمان على فكرتي في الجواز، لأنه هي دي الشعرة اللي حركت كل حاجة جوانا، ما تتصوريش انا حاسيت بإيه وانتي واقفة تطلبي مني الانفصال؟! حاسيت ساعتها كأنك جاية تاخدي روحي مني، ولما استجبتي لي ما صدقتش، ولأول مرة أدِّي عقلي أجازة بالأمر. مش مهم ليه استسلامك لمشاعري، حتى لو شفقة أنا موافق! لو المقابل أني أخدك في حضني وأحس بدقات قلبك فوق قلبي يبقى أنا الكسبان!

رفعت منال يدها تضعها فوق فمه بينما دموعها تسيل في صمت تغرق وجهها فيما تهمس بصوت متهدج:.

- أنا اللي كسبت يا هشام! كسبتك انت، كسبت قلب بيحبني بجد، كسبت راجل أقدر أركن عليه وأنا مطمنة ومش خايفة من بكرة لا عليا ولا على ابني! انا عندي كلام كتير يا هشام وحاجات أكتر أحكيها لك لكن دا مش وقتها، بس يكفي اني أقولك اني أول مرة ما شيلش هم بكرة كان لما بئيت مراتك! هشام اوعى تفتكر اني بقولك كدا رد على كلامك أبدا. أنا.

وسكتت تطالع عيناه بنظرات غارقة في الدموع قبل ان تردف بصدق تام: - أنا بحبك يا هشام. أوي. أوي...

ليحتويها هشام سريعا بين ذراعيه، يطوقها بقوة، يعتصرها، لتحيط جذعه بدورها بيديها الاثنتين، تشد عليه، تدفن نفسها في صدره الرحب الواسع، وتعالت شهقات بكائها الحار لتسمح لنفسها للمرة الاولى تقريبا بالبكاء دون ضوابط، وهي على يقين أنها في النهاية ستجد اليد التي تمسح دموعها، والصدر الذي يتسع لها ولضعفها وحزنها، فهي للمرة الاولى تشعر بأنها أنثى. من حقها الشعر بالضعف. ومن حقها أيضا أن تجد القوة التي تحتوي ذلك الضعف من نصفها الآخر. تستمدها منه، فتكتمل به وتنصهر فيه، ليصبح واحدا صحيحا. وان كان مقسوما على جسدين ولكن روحهما واحدة. لا تقبل القسمة حتى ولا على نفسها!

أبعد هشام وجهها عن صدره ليمسح دموعها بسبابتيه وهو يهمس بحنان: - دي آخر مرة أسمح لك فيها أني أشوف دموعك، من هنا ورايح مش عاوز أشوف غير الابتسامة مالية وشّك...

أمسكت بيديه المحيطة بوجهها لتقبل باطنهما بدفء قبل ان ترفع عينيها اليه تقول بنظرات تلمع ببريق الحب الخام:
- طول ما انت جنبي وانا عمر الحزن ما هيعرف طريقه لقلبي أبدا.
مال هشام بوجهه على وجهها وهو يهمس بعشق سرمدي: - عهد عليا يا منال اني عمري ما ابعد عنك ابدا طول ما في صدري نفس، انتي وفريد عيلتي اللي كنت تايه من غيرها، ومش ممكن هفرّط فيها أبدا!

ليمهر عهده لها بعناق رقيق، وما أن شرع بتعميقه حتى قاطعهما رنين جرس الباب ليتركها على مضض، وما هي الا دقائق حتى عاد وهو يحمل عدة لفائف ليهتف بابتسامة:
- الغدا وصل.
نهضت متجهة اليه فقبض على يدها يسحبها معه وهو يقول: - الغدا دا ما يتاكلش في أي مكان. دا عاوز طقوس خاصة!

جلست بأمر منه تنتظره في غرفة الجلوس حتى يقوم هو بتجهيز الطعام، وقد رفض رفضا باتا مساعدتها له، ليدلف بعده وهو يحمل صينية كبيرة تحتوي عدة صحون، ليضعها فوق المائدة القصيرة الارجل، حيث جهزت مكان بطلب منه جلسة عربية، واضعة عدة وسائد عالية للجلوس، احتل هشام المكان المجاور لمنال وقام بكشف الصحون تباعا بينما شهقات منال تزداد وهي تنظر بدهشة وذهول لمحتوى الاطباق، لتهتف بعدها بغير تصديق:.

- ايه دا كله يا هشام؟ الاكل دا كله لينا احنا؟
هشام ببساطة: - اكيد طبعا. انتي ناسية اننا عرسان، ولازم نتغذا!
منال بتقطييبة: - وهما العرسان ياكل جميع انواع الكائنات البحرية دي؟
وأردفت مشيرة لمحتويات الاطباق أمامها: - سمك بوري مشوي، وجمبري واستاكوزا وكابوريا، وسمك صواني، وشوربة سي فود!
لتطالعه بعدها متسائلة بتوجس وريبة: - احنا بالشكل دا هنَّوّر في الضلمة!

ضحك هشام عاليا وقال وهو يحتضن كتفيها: - دا فوسفووور. خلينا نعوّض الايام اللي متفسفرنهاش!
منال مرددة بعدم فهم: - متفسفس، انت بتقول ايه؟
هشام وهو يطرحها ارضا ليشرف عليها: - لا أنا مش بقول، أنا بعمل على طول!
وغيبها في عناق ناعم، أسال الدم ساخنا في أوردتها، ليتركها بعد فترة حتى تلتقط أنفاسها المحبوسة، وقال بصوت لاهث:
- أنا بقول احنا نسخن الاول وبعدين نديها فوسفور. ايه رايك؟

منال وهو ترتب خصلاتها التي شعثتها أنامله: - لا. أنا بقول لينا أوضة تلمنا لانك كدا شكلك هتفضحنا!
في أقل من الثانية كان هشام يقفز واقفا يحملها بين ذراعيه وهو يقول: - هو دا الكلام.
واتجه خارجا وهو يردف ناظرا للطعام: - راجع لك يا فوسفور، بس آخد تصبيرة الاول.

وكان على الفوسفور الانتظار حتى عادت أنعام والتي ما أن رأت الجلسة المعدة في غرفة الجلوس والطعام حتى قطبت بريبة ثم نقلت نظراتها الى الباب المغلق لتعلو وجهها ابتسامة واسعة، وكتمت بصعوبة زغرودتها التي تجاهد للخروج، بينما همست لفريد بأن والديه نائمان الآن ويجب عليه هو الآخر الخلود الى الفراش، تاركة العروسين ينعمان بليلة نوم هانئة. في أحضان بعضهما البعض!

يعني ايه يا فواز مش لاقيها؟ بنتي راحت فين يا فواز؟ ،
كاد يقتلع شعراته وهو يمرر أنامله السمراء بين خصلاتها، ليقول بتعب: - معرفش يا ستي، أنا قلبت عليها الدنيا كلها، ما سيبتش حد ما سألتوش عليها، محدش شافها من الشارع هنا خالص زي ما تكون فص ملح وداب، حتى زميلاتها حمدت ربنا انه نمرهم عندي على الموبايل، لما صممت أني أخدهم للظروف.

الجدة وهي تخبط براحتيها على فخذيها: - بنتي راحت يا فواز، راحت.
هدر فواز بحدة: - يا ستي ما راحتش، تسنيم مش ممكن تروح مني. مش هسمح لها يبا ستي، مش هسمح لها!
الجدة وهي تنظر اليه بعتاب وحزن: - قلت لك تسنيم مش سماح، قلت لك كتير وفهمتك لكن انت ما فهمتش، وآخرتها ايه؟ خسرتها يا فواز. خسرتها وصدقني مش ممكن هتقدر تعوضها تاني أبدا!

هتف فواز رافضا بقوة: - وأعوضها ليه وهي معايا؟! أنا مش هسيبها يا ستي حتى لو هي سابتني، أنا. أنا بحبها! بحبها ومقدرش أعيش من غيرها. بحبها وحياتي كلها مش هيبقى ليها طعم من غير وجودها فيها!

نظرت اليه الجدة بلوْم وقالت بأسف: - بعد ايه يا بني جاي تقول كدا؟ كنت قلت لها هي، عرفتها، طمنت قلبها، هي ما بخلتش عليك لا بحبها ولا بقلبها لكن انت اللي.

صاح فواز بنفاذ صبر: - أنا خفت! خفت أخسرها! خفت حبها ليا يبقى اعجاب. افتتان. تسنيم مافيش في حياتها راجل غيري، خفت لو سيبت نفسي واعترفت لها بحبي ليها أخنقها بالحب دا! كنت عاوزها تحس بيه، حبي ليها مش كلام وبس، تصدقي لو اقولك اني بعد ما حبيتها مش لاقي وصف للي كان بيني وبين سماح؟! مش ممكن اللي كان بيننا دا كان حب. ممكن يكون تعلق بطفلة كانت مسؤولة مني طول عمرها، ممكن اليتم اللي جمع بينا، الايام الصعبة، لكن حب؟ أبدا!

طالعته الجدة بشك وقالت: - مش فاهماك يا بني.

أغمض عينيه متنهدا بقوة قبل ان يفتحهما يطالع جدته بابتسامة أسى وقال: - ولا أنا فاهم نفسي، لكن اللي أنا عارفه كويس اوي انه اللي بحسه ناحيتها حاجة أكبر كمان من الحب! تسنيم مش بس مراتي لا. دي بنتي وصاحبتي وحبيبتي، اللي فسرته هي شك دا كان خوف وقلق وغيرة. آه غيرة ما انكرش، مرعوب من اليوم اللي هييجي وتحس هي فيه انها اتسرعت في جوازها مني وانه مشاعرها ناحيتي كانت مشاعر مراهقة وراحت، دا اللي خلاني عاوز أحبسها جوة قمقم محدش يشوفها غيري، كنت بمنع نفسي بالعافية انى أمنعها من الخروج، انها تروح الكلية او تشوف حد، اللي كان مخليني متماسك انى ما نطقتش بكلمة بحبك. لأني لو كنت قلتها يا ستي ما كانش فيه أي شيء هيقف قودامي، انا منعت نفسي بالعافية عشانها هي.

الجدة بتحسر على حال حفيدها: - للأسف يا بني، انت سيبت تجربتك مع سماح تخسّرك حياتك مع تسنيم، انت خايف تسنيم تبقى زيّها، لسانك نطقها يا فواز، انت شوفت فيها ولو للحظة سماح.

أنا مش ملاك! .

صرخ فواز بعذاب، ليردف بعدها بصوت متعب: - مش ملاك، انا انسان لحم ودم، بيحس وبيحب وبي بيخاف! بيخاف اوي كمان، بيخاف من كوابيسه اللي مش بتفارقه ليل ولا نهار! أيوة يا ستي. أنا خايف، حبي لتسنيم بدل ما يقويني خلق جوايا خوف غريب عليا، خوف اني أصحى في يوم ما الاقيهاش، سماح لما خانتني وسابتني بالطريقة الللي انت عارفاها كان غضبي يومها لكرامتي اللي اتهانت اكتر من حبيبتي سابتني، حتى لما حاولت بعدها ترجع لي بدال المرة ألف كنت برفض والموضوع كان اتقفل أساسا بالنسبة لي، لكن. تسنيم!

وسكت ليسحب نفسا عميقا قبل ان يتابع قائلا بابتسامة شاردة حزينة: - مقدرش أتصور حياتي من غير وجودها فيها، مقدرش اتخيلى اني مش هنام على ابتسامتها واصحى على صوتها وهي بتصحيني وضحكتها وهي بتقولي بطل كسل وقوم!

اقترب من جدته وسقط على ركبتيه أمامها وأردف بصوت متهدج قائلا: - أنا هضيع من غيرها يا ستي، هضيع!
ليدفن رأسه بين يديها، فربتت على رأسه قبل أن تشده الى الاعلى، وما ان نظر اليها حتى قالت بقوة بينما دموع الحزن على حال حفيدها التي لا تعلم أتشفق عليه أم تغضب منه تكسو وجهها:.

- روح دور على مراتك يا فواز، ورجعها لبيتها، واقفل عيكم بابكم، واعملوا في بعض اللي انتو عاوزينه، لكن اوعى تفرط فيها او تسمع كلامها، استحملها يا بني. دا حقها عليك، اثبت لها انك شاريها لآخر نفس، اوعى تسيبه يا فواز. اوعى!

وكأن كلمات الجدة قد أمدته بطاقة مهولة، لينهض على قدميه ويميل مقبلا يديها قبل ان يهتف بقوة:
- هلاقيها يا ستي، ومش ممكن أفرط فيها أبدا، ومهما عملت هستحمل. لأنه اللي عنده جوهرة زي تسنيم يبقى غبي لو فرّط فيها، وأنا عمري ما كنت غبي!

وانطلق من فوره معاودا البحث عن زوجته تصاحبه دعوات الجدة له بالتوفيق، وهناك في الشقة الكائنة بالطابق الاسفل كان باب إحدى الشقق مشقوقا، بينما هناك عينان تنظران الى ذلك الذي يقفز الدرجات قفزا الى الاسفل، وخلجاته كلها تشي بتصميم وعزم لا يلين، لتهمس صاحبة العينان قائلة:.

- يا خسارة يا فواز، للأسف قصتنا ما كملتش. خلاص يا فواز. انت بإيدك اللي حطيت كلمة النهاية، وأنا مش هحاول في علاقة خسرانة أكتر من كدا. احنا انتهينا يا فواز. انتهينا!

قطبت وهي نائمة، تشعر بشيء غريب، فكأنها تسير فوق الماء، ولكن. مهلا. هو ليس بحلم، بل هو واقع فعلا!، لتشهق وهي تفتح عينيها بينما المياه تتساقط فوقهما، فهتفت بصوت متقطع فهي تشعر بالبرد في مثل هذا الوقت من الليل:
- ايه يا عصام؟ ايه اللي حصل؟
عصام وهو يسير بها بينما تنهمر فوقهما مياه شلالات وادي الريان: - هناخد دش بين أحضان الطبيعة حبيبتي. ايه رأيك؟

طالعته بحقد غريب وقالت: - دُش! حسبي الله! حد يصحي حد كدا؟
عصام وهو يرفعها اليه لتطوق عنقه بيديها لتوازن نفسها: - أعملك ايه ماأنت مش عاوزة تصحي، ايه يا بنتي نومة أهل الكهف؟! وأنا بصراحة مش عاوز أضيع أول نهار لينا مع بعض كدا، لازم أول يوم لينا سوا يبقى ليه ذكريات خاصة بيه. وفيه أحلى من اننا نحضر شروق الشمس في الشلالات؟!

ريما وقد بدأت أسنانها تصطك: - أيوة يا عصام، بس مش كدا، أنا كدا هحضر الشروق وهيحضر عندي نزلة شعبية حادة في نفس الوقت! مش شايف الجو عامل ازاي؟ هوا سائع.

عصام بغموض: - حالا مش هتحس بأي برد!

لم يمهلها لتسأل، لتفاجأ بنفسها وهي تغوص في مياه الشلال، وبعد أن ذهبت صدمة برودة المياه، وبدأ جسدها يعتاد على درجة الحرارة، بدأت ضحكاتها بالانطلاق، وطفقا يلهوان بالمياه، حيث تتسلق هي كتفيه ليغوص الى الاسفل، ثم يشق الماء الى الاعلى وهو يحملها على كتفيه، قبل ان يلقيها بقوة ثم يغوص ليشد ساقيها الى الاسفل، وهكذا انقضى الوقت في اللهو واللعب بالمياه الباردة، حتى خدر التعب أطرافهما، ليساعدها في الخروج من المياه، ويلفها بمنشفة كبيرة كان قد أحضرها معهما، وجلسا يحيطها بذراعه بعد أن تخلص من بلوزته البيتية المبللة، ليراقبا قرص الشمس وهو يشرق باسطا ذراعيه وكأنه يحتضن الأرض بهما، ليضيئها بنوره الذي كان يعلو على استحياء حتى غمر الأرض تماما بأشعته الدافئة، ولكن. كان بطلانا قد انسحبا قبلها بوقت طويل، حتى لا تقطع خلوتهما عينا غريبة، ليستبدلا ثيابهما المبللة بأخرى جافة ويغرقا في النوم ما ان لمست رأسه الوسادة ولمست رأسها هي صدره الواسع. وسادتها هي الدافئة!

مرت الايام بعدها كلمح البصر، يعيدان اكتشاف بعضهما، يقويان جذور حبهما، يتغللان بداخل بعضهما البعض حتى انصهرا تماما في بوتقة واحدة، هي عشقهما الخالد. ولكن. لا بد من النهاية لكل ما يمر بنا، وهذا ما كانت ريما تشعر بالقلق الشديد منه، فقد اقترب موعد محاكمتها. وقرر عصام أنهما لن يبرحا جنتهما هذه حتى يحين الوقت، والذي حلّ وبسرعة الصاروخ، تماما ككل الاوقات السعيدة، ليفاجئا بأنه لا بد لهما والرحيل في صباح اليوم التالي!

كانت تنام على ذراعه تشبك أناملها بأنامله، بعد عودتهما من رحلة مكوكية مجهدة من عالمهما الخاص، نظر اليها وهمس:
- مالك يا ريما؟ ايه اللي شاغل بالك؟
ريما وهي تجاهد الدموع التي تريد الخروج من زمردتيها: - احنا هنرجع بكرة يا عصام. عارف معناه ايه؟
قبض على ذقنها ومال عليها بوجهه يقول: - عارف يا حبيبتي، احنا هنطلع من هنا في الفجر، وفي معاد المحكمة هنكون وصلنا.
ريما وهو تناشده بعينيها: - خايفة.

عصام بثقة تامة: - اوعي! اوعي تخافي أبدا وأنا جنبك، احنا هنفضل سوا، محدش هيقدر يفرقنا.
ريما بترقب: - ولا السجن؟
عصام بتأكيد: - ولا السجن!
واقترب يلثم ثغرها بقبلات رقيقة اشتدت بعدها، ليغوص بعده معها في أعماق محيط حبهما الهائج، ورحبت هي بشدة، وكأنها أرادت أن تلقي بهواجسها وقلقها بين امواج ذلك المحيط!

محكمة!
وقف الحضور احتراما لكلمة حاجب المحكمة حتى استقر القضاة في أماكنهم المخصصة، وبدأ رئيس الجلسة بتلاوة الحكم. ومن الحضور بين مترقب وخائف ومن يشعر بقلبه يكاد يقف عن العمل من شدة التوتر والقلق، لتصدح كلمات القاضي بأحرفها التي جعلت ذلك الذي حبس انفاسه منذ بداية الجلسة يزفرها براحة وهو يتبادل نظرات العشق والفرحة مع نصفه الآخر.

حكمت المحكمة حضوريا بحبس المتهمة ريما نزار العايدي. – تعالت الشهقات وترقرقت الدموع وكاد عصام يصرخ حنقا ولكن القاضي تابع بكل هدوء – لمدة عام – شهقة عالية كتمتها ريما بصعوبة بينما أحاط نزار كتفي راندا بذراعه فيما ريتاج فقد تمسكت بيد أدهم وعيناها لم تتركان وجه القاضي أما همس فكادت تنهار يساندها مراد، وشمس لم تستطع السيطرة على دموعها ليربت عليها إسلام يحتويها بين ذراعيه، أما مهدي فكانت لبنى هي من شدت على يديه، فيما عصام فقد شحب وجهه بشدة وبرزت عروق رقبته بقوة – مع ايقاف التنفيذ. رفعت الجلسة!

ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال الى حال، تلك المقولة انطبقت تماما على حال عائلة شمس الدين وجميع أفرادها، حيث تعالت الشهقات ولكن المعبرة عن الفرح عندها، وتساقطت دموع السعادة، ولهجت الالسن بالشكر الى الله. لينتهي ذلك الكابوس الى الابد، وترتمي ريما بعدها بين ذراعي عصام والذي كان أول من تلقاها بكل لهفة وشوق، ليهمس في أذنها قائلا:
- مش قلت لك ما تخافيش؟

وشبك أناملهما سوية مردفا ودمعة تترقرق في عينه: - طول ما احنا كدا – رافعا أيديهما المتشابكة – اوعي تخافي!
ريما وهي ترفع وجهها اليه وبإيمان كامل: - مش هخاف يا حبيبي. مش ممكن هخاف!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة