قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الحادي والخمسون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الحادي والخمسون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الحادي والخمسون

تأففت للمرة التي لا تعلم عددها، تكاد تجن، منذ الصباح حال استيقاظها لتفاجأ بعدم وجوده بجانبها، فظنت أنه قد ذهب لعمله الامر الذي استغربته فكيف له الذهاب دون ان يودعها او يترك لها رسالة ما؟ خاصة بعد ما كان بينهما في اليومين المنصرمين، حيث لم يكن يفارقها بسهولة أبدا، لتتندر حماتها بهذا قائلة بابتسامة ماكرة. وكأنني بكما توأما ملتحما، فأنا لا أكاد أرى أحدكما إلا والآخر ملتصقا به! .

حمدت الله أن فريد ابنها قد تقبل تقاربهما بسهولة، وكان الفضل الكبير في هذا لهشام. والذي لم يتركه يظن ولو للحظة أنه قد أخذ والدته منه، فكما قضى اليومين ملتصقا بها كان أيضا شديد القرب من صغيرها، ففي الوقت الذي تنشغل هي فيه بتحضير الطعام مثلا كان هو يشاركه اهتمامته كاللعب بإحدى الالعاب الاليكترونية التي تستهوي الصغير خاصة كرة القدم، الأمر الذي جعلها تزداد حبا له، فهو يراعي ابنها مبديا اهتماما ملحوظا به فيما الاخير فيكاد يهيم عشقا بعمه والذي كان تارة يناديه بعمي وطورا والدي ليستقر في الآونة الأخيرة على بابا وكأنه قد أحس بما طرأ على علاقتهما ليبدي موافقته ضمنيا بإعطائه لقب بابا!

والآن ها هي في ذلك المنتجع السياحي بالساحل الشمالي، فما أن رأت حماتها صباحا وقبل أن تستفسر عن مكان وجوده أخبرتها الأخيرة بأن هشام قد غادر للاهتمام بأمور معينة، وطلب منهم الاستعداد فهناك سيارة بسائقها سيقوم بايصالهم الى مكان ما، دون الافصاح عن وجهتهما وان كانت قد ارتابت في أن حماتها لديها علم بتلك الجهة وأنها تخفي لسبب في نفس يعقوب!

وها هم الآن في الفندق التابع لذلك المنتجع، في الجناح الذي أمر زوجها الغائب في ظروف غامضة بتجهيزه، وهي الى الآن لا تعلم لما، ولماذا، وأين هو؟!

نظرت اليها أنعام تخفي ابتسامة خبث صغيرة قبل ان تقول ببراءة زائفة: - مالك بس يا منال يا بنتي؟ من ساعة ما وصلنا وانت ما قعدتيش على حيلك، ساعة دلوقتي رايحه جاية على رجليكي لما تلاقيها ورمت؟!

طالعتها منال باستنكار قبل ان تقول بتساؤل: - يعني مش عارفة يا ماما؟ تقدري تقوليلي حضرتك هشام فين؟ مش حقي أني أقلق لما أصحى من النوم ما ألاقيهوش وبعدين أتفاجأ بحضرتك بتقوليلي أجهز عشان رايحين مكان أتفاجأ بعدين انه الساحل الشمالي! طيب ليه التكتم دا؟ يعني ليه سافرنا الساحل؟ وليه جينا لوحدنا؟ والاهم من دا كله هشام فين؟

أنعام وهو يضم أصابع يدها اليمنى بشكل هرمي وتحركها لاعلى وأسفل قائلة بهدوء: - اصبري على رزقك، اتقلي تاخدي حاجة نضيفة!
قطبت منال وقالت بتوجس: - مين؟ يعني ايه مش فاهمه؟
قاطعها طرقات على الباب فأشارت أنعام الى الأخير وهي تقول بابتسامة: - لو اللي بيخبط زي ما انا متوقعه. يبقى هتفهمي دلوقتي!

ازدادت عقدة جبين منال بينما ركض فريد لفتح الباب وما أن طالع منال وجوه المقبلين عليها حتى توسعت حدقتيها دهشة، فقد كانوا من موظفات الفندق، فلباسهن الرسمي يحمل شعار الفندق بجانب بطاقة تعريف لكل منهن تحمل اسمها ووظيفتها ف مركز التجميل التابع للمنتجع!
أنعام بظفر: - شوفتي. طلع ظني في محله أهو، ياللا بقه!
منال هاتفة بعدم فهم: - ياللا بقه ايه؟

أنعام وهي تنهض من مكانها تدفعها بخفة في ظهرها حيث ينتظرها طاقم مركز التجميل: - سيبي لهم نفسك انتي بس يا منال، ياللا يا بنتي مافيش وقت، وانت هتفهمي كل حاجة!
منال بعناد وهي تعقد ساعديها أمامها: - مش هتحرك خطوة واحدة من هنا الّا لما أعرف فيه ايه وهشام فين؟
تقدمت إحدى الفتيات والتي من الواضح أنها رئيستهن ورسمت ابتسامة عريضة على وجهها وهي تقول لمنال:.

- شو مالها عروستنا؟ لا تكوني خجولة، حنّا هون تحت أمرك، وما تخافي راح تطلعي من تحت ايدينا متل الأَمَرْ (القمر). دخيلك انت أصلا عيني عليكي باردة شو ما أحلاكي، حنّا ما راح نساوي غير شوية رتوش لاتبيّن جمالك يا عروسة!

طالعتها منال بذهول لتنقل نظراتها الى أنعام وهي تهتف بتساؤل: - عروستنا؟ هي قصدها مين؟
ضحكت أنعام وقالت دون أن تكلف نفسها عناء الرد على سؤالها: - ياللا يا عروسة بقه مش عاوزين عطلة، خليهم يشوفوا شغلهم!

لتنساق منال بعدها دون أن تجد الفرصة للرفض، فقد وزعت تلك الشامية والتي صدق حدسها فهي الرئيسة لذلك الفريق، المهام على الباقيات، لتجد منال نفسها تدفع الى حمام واسع مع أمر بأن تغتسل في ما لا يزيد عن عشر دقائق، وتعجبت منال أن تلك الأنوثة الطاغية المتمثلة في شعر أشقر وعينان بلون السماء وشفاه وردية ووجنتين بلون الخوخ تملك مثل تلك الشخصية المسيطرة فقد استطاعت التحكم في ما لايقل عن ست فتيات بصوت آمر وسبابة بيضاء مرفوعة!

وقفت أمام المرآة تطالع صورتها المنعكسة أمامها، لا تكاد تصدق أنها هي، فبعد أن انتهى عاملات التجميل من زينتها وشعرها، حتى فوجئت ب تالين وهذا هو اسم تلك الشامية التي أبهرتها بشخصيتها الحازمة فهي لا تتمتع بجمال الشكل فقط بل وبالحزم والجدية لتستطيع السيطرة على فريقها بكل بسهولة، عن حب واحترام منهن وليس كره ونفور.

فوجئت بها تفرش أمامها فستان زفاف لم يسبق وأن رأت ما هو أجمل منه، فهو يذكّرها بفستان الاميرات في حدوتة سندريلا الشهيرة، لتبتسم وهي تفكر بأن تالين هي الجنية الطيبة التي حولتها لأميرة فاتنة خطفت لب فارسها، ولكن هل سيزول السحر مع دقات الساعة الثانية عشر صباحا؟

بسم الله ما شاء الله. قمر يا بنتي ربنا يحميكي يارب.
التفتت منال لأنعام الواقفة خلفها تدعو لها وتقرأ عليها الاذكار لتحصينها، قالت منال بابتسامة خلابة وعينين تغشاهما غلالة رقيقة من الدموع:
- ربنا يخليكي ليا ماما.
احتضنتها انعام تقبلها على وجنتيها قبل ان تحسس على وشاحها الابيض الذي يستر شعرها:
- ويخليكم لبعض حبيبتي، ويعمر بيكم.

لاه لاه يا خالة، لا شو الدموع هلأ؟ بدك العروسة ماكياجها يخرب والعريس يتمشكل معنا؟ .

ضحكت أنعام وقالت وهي تمسح عينيها منعا من نزول دموعها: - ولو انى يا بنتي مش فاهمه معظم الكلام، لكن هرد على اللي فهمته، بعيط من فرحتي حبيبتي، انهرده فرحتي فرحتين، ابني وبنتي بيتجوزوا!

تالين بفرحة جعلت عينيها تلمعان بقوة: - ما شاء الله، ابنك كمان فرحه الليلة مع خيّتو – مشيرة الى منال – نيّالك خالتو، مشان هيك يحئ (يحق) الّك تسعدي، ربنا يديم أفراحكم يا حق. ومنشان هيك خلاص بطلنا دموع، منشان عروستنا ما تبكي بعدين، بس ما قولتولي ليه عروسة ابنك ما جات زوئناها متل بنتك؟ لا تكون خايفة انه ما نهتم فيها متل الانسة؟ – مشيرة لمنال - ترى بتكون غلطانة كتير؟

ضحكت أنعام وقالت: - لا يا بنتي انتي فاهمة غلط، العريس والعروسة يبقوا ولادي!
شهقت تالين عاليا لتهتف بذهول مغطية فمها براحتيها: - وِلِيِ على آمتي! كِيف. يعني. ما عم.
ضحكت أنعام من صدمة تالين الواحة وقالت مهونة عليها: - اهدي يا بنتي، هشام العريس يبقى ابني، ومنال – ونظرت الى الاخيرة متابعة بحنان – تبقى أكتر من بنتي!

فتنفست تالين الصعداء وابتسمت قائلة: - إيه. أن كان هيك مو مشكلة.
قاطعها طرقات على الباب فابتسمت قائلة لمنال: - شكله العريس يا عروسة. ياللا جهزي حالك وألف مبروك. تؤبريني شو بتاخدي العئل(العقل)!

فتحت تالين الباب مرحبة بهشام لتبتعد خطوتين الى الخلف فتظهر من خلفها منال بفستانها الذي جعلها أشبه بأميرة من الأساطير وقد ارتدت سترة من الدانتيل الابيض لتستر ذراعيها المكشوفتين. بينما التف وشاح أبيض رقيق منثور عليه فصوص من الالماس الزائف اللامع، فكانت كزهرة بيضاء يانعة، أسرت عيناه وخطفت قلبه الذي وقع في غرامها للمرة الثانية في هذه اللحظة!

وكماحدث معه، وقفت هي مسمرة وقد خطفت أنفاسها وسامته المذهلة في حلته السوداء التوكسيدو وقميصه الناصع البياض، وربطة عنقه اللامعة على هيئة فراشة، وخصلاته القصيرة الأبنوسية، وقد شذب لحيته وشاربه فتركهما خفيفين يكسباه جاذبية جعلت قلبها تتعالى دقاته حتى اعتقدت أن من حولها قادر على سماعها!

بخطوات بطيئة اقترب منها لتدنو منه والدته تتناوله بين أحضانه بينما عيناه لا تتركان وجه محبوبته من خلف كتف أمه، التي قبلته مباركة ومهنئة، لتبتعد عنه فيبتسم واسعا لذلك الصغير الذي يرتدي حلة رسمية مشابهة لخاصته، فيميل عليه يرفعه الى الأعلى، حيث ضحك فريد عاليا مزهوا بأنه يرتدي كوالده ما يثبت أنه قد غدا رجلا كبيرا، وهو يفكر بأنه سيحكي لرفاقه في الصف ذلك وخاصة جودي تلك السمراء ذات اللفائف السوداء التي تنسدل حول وجهها، والتي كثيرا ما تتشاجر معه حين ينعتها بالقصيرة السمينة لترد عليه بدورها بأنه هو الطويل الرفيع تماما كقلمها الرصاص ذو اللونين الأصفر والأسود!

أنزل هشام الصغير أرضا وتقدم من عروسه التي ترفل في ثوب زفافها الابيض تماما كزهرة ياسمين بيضاء، أمسك بيدها يرفعها لفمه ليلثم ظاهرها برقة قبل ان يقول بصوت أجش فيما عيناه تغازلانها دون هوادة:
- مبروك عليا. أنتِ!
منال بصوت بالكاد يظهر فقد اختنق من فرط الاحاسيس التي تجيش بصدرها: - مبروك علينا. أنتَ!

وكانت ب نا الدالة على الفاعلين تلك تعني نفسها وصغيرها، فكأنها تخبره بأنهم قد أصبحوا أسرته الصغيرة، باتحادهما سوية، وتبارك لنفسها ولابنها هذا الاتحاد.

لن تنسَ أحداث هذا اليوم فقد نُقشت ذكراه كالوشم في عقلها، خاصة ذلك المنظر الذي أسر لبها، فلم تكن تتصور في أعظم أحلامها جموحا أن زفافهما سيكون نهارا وأمام. شاطئ البحر، بينما طيور النورس تحلق فوقهما وكأنها تبارك تلك الزيجة!

سارت أحداث اليوم بعدها وكانت وكأنها أنثى غيرها، شعرت أنها عروس تزف لأول مرة لعريسها، قد يكون لأنها بالفعل لم تحظ بزفاف فعلي في زواجها الأول، ولكنها تعلم في قرار نفسها أنه ليس هذا هو وحده السبب، ولكنه. هو! تلك الفرحة التي تراها وهي تتقافز في عينيه وكأنه هو الآخر يزف ولأول مرة الليلة مع أنها وعلى حسب علمها زفافه الأول كان في فندق شهير تماما كما رغبت العروس، ولكن. تلك السعادة التي تشي بها خلجات وجهه تخبرها بأنه يقاسمها ذات الاحساس فكلاهما وكأنه زفافه الأول، ويكفيها ما علمته من حماتها من أنه قد خطط ورتب لهذا كله في اليومين السابقين وقد أخبر أمه حينما أشارت عليه بأن يخبرها ليتشاور معها فيما تريده في فرحهما بأنه لا يريد منها التفكير في أي شيء حتى بشراء ثوب زفافها، فهو سيتكفل بجميع الامور الصغيرة والكبيرة، ويكفيها هي أن تحضر في الأخير تماما كالملكة المتوجة، فلأول مرة لا تقوم هي بالتفكير والتدبير والتخطيط، بل تتذوق احساس الراحة وتتنعم بشعور الرفاهية والذي كفلهما لها هشام. عريسها!

وحان وقت تقطيع كعكة الزفاف ذات الاربعة طوابق، لتفاجأ للمرة التي لا تعلم عددها لهذا اليوم بكعكة لم يسبق لها وأن شاهدت لها مثيلا، فهي من الكريمة البيضاء بينما وُضع فوقها مجسم من الشوكولاتة السوداء عبارة عن أنثى تتمسك بيديّ حبيبها، بينما بكل كعكة من الكعكات الاربع البيضاء تم نقش رسم من الشوكولاتة على جوانبها يظهرهما تارة بين أحضان بعضهما البعض، وأخرى تحت أنظار برج ايفل، فكأنها بصور رومانسية تبرز وبوضوح عشقهما السرمدي!

فاجأ هشام عروسه بوضع خاتم من الالماس ومحبس يشابهه فوق خاتم زواجهما ببنصرها الايسر، فلم تتمالك عروسنا نفسها لتلقي بنفسها بين ذراعيه تهمس له بصدق فيما ترقرقت الدموع في عينيها:
- بحبك!

ولم ينتظر هشام أكثر ليسارع بحملها وسط صافرات الحضور واللذين لم يكونوا سوى من الأهل وأقرب الاصدقاء اليهما، وسار بها فوق رمال الشاطئ فيما هواء البحر يتلاعب بسترته وبطرحة زفافها التي التفت حولهما، وتعالى تصفيق الجميع وهتافاتهم، وبينما وقف فريد يلوّح لهما بيده تماما كما أشارت عليه جدته أنعام وهي تمنّيه بأنه سيلعب مع صغار رفيق هشام كما يرغب، كان هشام يسرع الخطى بحمله الثمين وكأنه يريد اخفائها عن الاعين!

جلس يقلب في قنوات التلفاز وهو يزفر بملل، فمنذ هروبها من أمامه بعد صلاته بها ركعتي سنة الزفاف وهي تحبس نفسها بغرفتهما منذ ما يقرب الساعة، حتى أنه منذ قليل راوده القلق فطرق الباب عليها ليأتيه صوتها ملهوفا قلقا يمنعه من الدخول!

ابتسامة حسية ارتسمت على وجهه الرجولي الوسيم وهو يفكّر أن لهفته عليها ما أن دلف بها الى الشاليه الخاص بهما راكلا الباب خلفهما، ولم يكد يضعها على الارض حتى غيبها في عناق كاد يحطم ضلوعها الهشة بينما سرق أنفاسه هو، لتنتهز فرصة ابتعاده عنها حتى يترك لها الفرصة كي تتناول أنفاسها، لتفر كالغزال الهارب الى غرفة النوم الرئيسية وتخرج بعد برهة وهي ترتدي اسدال الصلاة الوردي لتزداد فتنتها في عينيه وكأنها ترتدي أكثر الأثواب إغراءا وفتنة!

في بضع كلمات كان يتجه ناحية الغرفة بدوره ليغيب لوهلة خرج بعدها وقد أبدل ثيابه بمنامة من الساتان الازرق الداكن، ليؤمها في ركعتي سنة الزفاف، وما أن أنهى الدعاء حتى باغتته بفرارها الى الغرفة!

ابتسامته توسعت فهو يشعر وكأنها عروسه العذراء، وكأنه يختلي بها لأول مرة، ولم يبتعد هشام بظنه كثيرا فبالداخل وقفت منال تنظر الى صورتها المنعكسة بالمرآة وشعور يخالجها وكأنها عروس لأول مرة وتلك ليلة زفافها الأولى، رافضة أن تستدعي ذكريات ليلة زفافها الاول البعيدة، وأن كان ما طرأ على ذهنها منه هو تقرب فريد الهادئ منها، فلم يجرفها بمشاعره القوية كهشام، بل كان كالموج الهادئ الذي منحها الفرصة كي تتأقلم مع مياهه قبل الغوص فيها، أما هشام فهو كالمحيط الهادر الذي تهدد دواماته بابتلاعها، فأمواجه عاصفة، ولكنها. منعشة. تبث فيها شعور بالحماسة، بل شعور بال. حيااااااة!

تنفست بعمق وهي تتخلل بأناملها خصلاتها البندقية والتي يتداخل فيها اللون العسلي ليبرز بياض بشرتها، والتي تصل لمنتصف ظهرها في تدرجات تخلب اللب، وقد تعاكس لونه مع لون قميصها الاسود ذو الحواف الوردي، ذو فتحة دائرية عميقة حول العنق يظهر وبسخاء عظمتي الترقوة، ويصل منتصف الفخذين، من قماش الشيفون الشفاف، لتفكر أنها ما أن رأت هذا الثوب معلق في الخزانة حتى علمت فيما كانت تتهامس حماتها مع تالين والتي غابت لبرهة قصيرة عادت وبحوزتها حقيبة بلاستيكية، ولكنها لم تهتم للأمر، لتعلم الآن أن هذا الثوب كان طلب حماتها من تالين ولأجله همست حماتها في أذنها قبيل انتهاء الزفاف أنها تأمل أن تعجبها هديتها لها!

صوت هشام أيقظها من أفكارها وهو يقول: - منال انتي هتنامي عندك؟ يعني أنا قلت نعمل فرحنا بالنهار عشان ناخد اليوم من أوله، أنما شكله هيتضرب ولا إيه...

كان ينظر الى الباب وهو يتكلم ليفاجأ به وهو يفتح وتقف فيه حورية تخلب الالباب جعلت الأحرف تتكسر على شفتيه، ليهتف بذهول وهو يناظرها كالمفتون:
- سبحان من خلقك وصورك!

اكتفت منال بالابتسام برقة أذابته وهي تنظر اليه بنعومة لم تعلم تأثيرها على ذلك الواقف أمامها يطالعها وكأنه مسحور، ليقترب منها فتراجعت هي الى الداخل، ولكنه لم يمهلها الابتعاد أكثر فسرعان ما مد ذراعه يطوق خصرها يرفعها به راكلا الباب بقدمه، وما أن شرعت بالحديث:
- هش.

حتى كان فمه يسبقها يلتقط الكلمات بلهفة من ثغرها المكتنز الذي أفقده صوابه بلونه الذي يضاهي ثمرة الفراولة الناضجة وكأنها يدعو من يراه لقطفه وكان هشام أكثر من مرحّب لتلبية الدعوة التي استمرت باقي اليوم وحتى صباح اليوم التالي!

وقف ببطء وهو يقول بغير تصديق: - انت قصدك تقول أنه طول الوقت اللي أنا بدوّر فيه عليها وهي. عندك؟!
مشيرا اليه بسبابته وقد تعالى صوته بذهول وغضب في الاخير، ليقف الآخر وهو يقول بهدوء:
- ممكن تقعد وتهدى عشان نعرف نتفاهم؟ اللي انت بتعمله دا ما اسموش تفاهم!

نظر اليه فواز بحقد وهو يحجم نفسه بصعوبة عن الاطباق على رقبة ذلك السمج والذي تفاجأ بوجوده أمام منزله يطلب منه الجلوس اليه ولكن في حضور الجدة، فما كان منه إلا التوجه به الى منزل جدته وهو لا يخفي دهشته من طلبه الغريب والذي ما أن نطق بسبب حضوره حتى علم السبب! فالاستاذ فاروق جارهم العتيد جلس أمامه يخبره وجدته بكل بساطة أن تسنيم زوجته هو تقيم لديه هو!

هتف فواز باستنكار: - أهدى! تلات أيام لغاية دلوقتي مش عارف لا أنام ولا أرتاح وأنا دايخ عليها في كل مكان وهتجنن أقول راحت فين، لا لاقيها في جامعة ولا حد من صحابها يعرف عنها حاجة، وخايف أكلم حد من أهل البلد تكون مش هناك وأكون فتحت علينا فاتحة مالهاش آخر، وجاي انت دلوقتي تقولي إهدى!

الجدة بصوت محمل بالرجاء: - عشان خاطري يا فواز يا بني اهدى بس وخلينا نفهم.
ثم نظرت الى فاروق متابعة: - اتفضل يا استاذ فاروق احنا سامعينك.
عاود فاروق الجلوس فحذا حذوه فواز والذي سكت على مضض مسلطا عيناه عليه وقد تحفزت كل حواسه بينما تكلم فاروق بهدوء قائلا:
- يا حاجة انتى عارفة اننا أهل وجيرة من زمان، تسنيم مش بنتكم لوحدكم.
قاطعه فواز وهو يقفز هادرا: - اسمها مدام تسنيم!

لتنهره الجدة قائلة: - ما تصبر بقه يا فواز يا بني، دي مش أصول دي، الاستاذ فاروق في مقام أبوها، يبقى يناديها باسمها عادي.

لتلتفت الى فاروق قائلة: - ما تأخذناش يا أستاذ فاروق. كمّل.
تنهد فاروق وهو يقلب شفتيه بعدم رضا قبل ان يستأنف حديثه قائلا: - أنا شوفت تسنيم يا حاجة وهي خارجة من هنا عمالة تعيط ومش شايفة قودامها لدرجة كانت هتقع على السلم، سنّدتها، ولما لاقيتني هطلع بيها لعندكم صرخت وما رضيتش، فدخلت بيها شقتي.

همّ فواز بالصراخ عليه فرفع فاروق يده يوقفه وهو يتابع: - أنا ما كنتش لوحدي، حسنات أختي كانت جاية بالصدفة من البلد تزورني يومها، لجل الحظ كانت يدوبها واصلة، وعشان كدا محدش شافها من اهل العمارة عشان من وقتها لا خرجت ولا دخلت، أنا سيبت تسنيم معها وروحت بيّت مع زميل ليا عايش بردو لوحده، مراته سافرت لبنتها في الخليج تحضر ولادتها، وطول الوقت دا كنت سايب تسنيم لغاية ما تهدى لأنها هي اللي كانت رافضة انى أقول على مكانها بالعكس دي هددتني أنى لو قلت أنها هتمشي ومش هنعرف لها طريق!

وكأن فاروق بكلماته تلك قد صب البنزين فوق النار، إذ هدر فواز بذهول غاضب: - ايه؟ ليه ان شاء الله، مالهاش كبير يكسّر راسها؟ يعني ايه تهرب مش فاهم أنا!

زفر فاروق بيأس قبل أن يطالعه وهو يقول: - تصدق بالله طول ما انت كدا يحق لها تهرب منك بالمشوار!
هتف فواز بدهة: - ايه؟!
فاروق بسأم مشيحا بيده: - بلا إيه بلا تيه بقه. – وأشار الى الجدة – ما تتكلمي يا حاجة، يرضيكي طريقة وابور الجاز اللي بيهب على أقل حاجة بتاعته دي؟

الجدة تحاول أن تطيب بخاطره: - معلهش يا أستاذ فاروق، انت عارف طيش الشباب!
فواز مكررا ببلاهة: - طيش شباب!
ليفيق قائلا بدهشة: - دي مراتي!
رمقته الجدة بنظرة زاجرة وقالت بصلابة لم يعتدها منها: - اصبر انت شوية بقه!
قطب فواز في حين أردفت الجدة لفاروق بعينين يملؤهما الرجاء: - بس معنى مجيتك عندنا انهرده ان تسنيم وافقت صح؟

زفر فاروق وقال: - صح يا حاجة، تسنيم عاوزة تقعد مع فواز عشان يحطوا النقط على الحروف زي ما بيقولوا!

فواز بابتسامة شريرة: - يا سلام. بس كدا، غالي والطلب رخيص.
وتوجه الى باب الشقة عندما أوقفه صوت فاروق الذي لحق به ليقف أمامه قائلا باستهجان:
- انت رايح فين؟ هي وكالة من غير بواب؟ مش البيت اللي انت طالع عليه دا دلوقتي وشكلك زي ما يكون بوليس رايح يداهم وكر عصابة، له حرمة؟ بقولك أختي هناك.

الجدة باعتذار وهي ترمق فواز الذي كور يديه في قبضتين قويتين شذرا: - معلهش يا خويا من لهفته عليها، ما تأخذنيش انشغلت بتسنيم وما سألتكش على حسنات أختك، حمد لله على سلامتها، الحتة نورت.

فاروق بايماءة: - الله يسلمك يا حاجة.
فواز بنفاذ صبر: - انتم هتقعدوا تسلموا على بعض زي ما يكون أخته جاية من الحجاز وسايبين الاهم؟..
ليقترب بوجهه من فاروق مشددا على كلماته: - أقدر أعرف انت بتتكلم بالنيابة عن مراتي بأي صفة؟ ليه تبعتك انت مرسال ليها؟ انت لا قريبها ولا أي حاجة أبدا.

فاروق بصرامة: - تسنيم في مقام بنتي اللي لو كان ربنا أراد كان زماني عندي قدّها، مش معنى انها مالهاش حد من أهلها يقف لك يبقى خلاص لا. انت شكلك نسيتي سلونا، كل راجل كبير أب لكل بنت هنا، وكل شاب أخ، بيقفوا لهم، ويساندوهم، احنا مش زي المناطق اللي طلعت جديد تبهرك بمناظرها، لكن جوة كل بيت فيهم ولو قصر تلاقي ناس مالهاش دعوة ببعضها، بالعكس ممكن يبقوا عيلة واحدة لكن كل واحد فيهم مالوش دعوة بالتاني وميعرفوش حاجة عن بعض ويمكن كمان ما يشوفوش بعض غير صدفة!

وسكت فاروق يلتقط أنفاسه ليقول بعده بحزم: - تسنيم بنتي، وأنا بتصرف على الاساس دا، واعمل حسابك انك هتقعد معها وتسمع منها وبعد كدا مهما كان قرارها لازم أنا أوافق الاول.

نظر اليه فواز باستهجان في حين أردف فاروق بصرامة: - لأني ولي أمرها. برضاها هي وموافقتها. ودلوقتي يا تيجي معايا تشوف هي عاوزة ايه يا اما أروح أقولها انك رفضت، ووقتها بقه مش هيكون فيه قودامنا غير المحاكم!

شهقت الجدة وهي تضرب براحتها على صدرها: - يت لهوي يا استاذ فاروق، هي حصلت للمحاكم يا اخويا؟ ليه كفانا الله الشر؟
فاروق وهو يتأهب للانصراف ناظرا من فوق كتفه لفواز الذي يطالعه في غيظ وقهر وبكل بساطة أجاب:
- عشان الخلع يا حاجة. لانه مينفعش غير بالمحكمة!

وخرج تاركا القنبلة التي فجرها خلفه لتتبادل الجدة وفواز النظرات المذهولة قبل ان يهرول فواز خارجا في إثره لتلحق بهما الحاجة وهي تتأرجح في مشيتها لكبر سنها ومرض الروماتيزم الذي أنهك عظامها!

يجز على أسنانه بقوة، فمنذ دخوله خلف هذا المتحذلق فاروق وقد تباطأ حتى يسند جدته، ثم ظهور تلك العنيدة أمامه لترتمي بين ذراعي الجدة التي اعتصرتها بين أحضانها تستنشق رائحتها، تلمس خصلاتها وهي تعاتبها على اختفائها الذي أمرضها، بينما وقف هو ينهل من قسمات وجهها وهو يحسد جدته لانها تنال ما يكاد يموت هو للحصول على قطرة منه، ألا وهو نعيم قربها، وحضنها العذب والذي كان يحتويه واضعا رأسه على صدرها لينام كالرضيع لا يحمل هما لأي شيء، ورائحتها التي يكاد يموت شوقا لها، فكأنها الاكسجين الذي تحتاجه رئتيه للتنفس، فهو منذ غيابها عنه وقد فقد الهواء المنعش بل وكأنه فقد القدرة على التنفس أساسا.

جلست تسنيم وهي تشعر بالحماية فالجدة تجاورها من ناحية ومن اخرى السيدة حسنات شقيقة الاستاذ فاروق، تلك السيدة التي شعرت بحنان الام فيها، بينما يحتل فاروق المقعد المجاور للاريكة التي تحتلها ثلاثتهن، فتهيأ لها وكأن فواز يمثل أمام لجنة محققين ولا ينقص سوى وضعه في قفص الاتهام!

زفر فواز بضيق وقال: - يعني أنا دلوقتي عاوز أفهم. أنت عاوزانا نتكلم. ليه هيئة المحلّفين اللي انت جايباها دي؟ أعتقد اننا متجوزين والمفروض نحل مشاكلنا من غير تدخل مرفوض – وضغط على كلمته الاخيرة مسلطا عيناه على فاروق وتابع – من أي حد مهما كان!

لا حيلك حيلك حيلك. حالف مين وحالف بإيه ومين دا اللي رافض؟ .
حاول فاروق مقاطعة أخته حسنات قائلا: - حسنات يا ختي مش كدا اصبري بس.
قاطعته بيدها قائلة: - لا اصبر انت ياسي فاروق يا خويا.

ثم التفتت الى فواز مردفة: - أنا ساكتة من ساعة ما دخلت علينا البوز شبرين ورميت السلام من غير نفس، وبقول يا بت اصبري معلهش عشان الظروف بردو، لكن دلوقتي تقول حالف ورافض؟ وانت ترفض قعدتنا معكم بتاع ايه؟ قال على رأي المثل البيت بيت أبونا والغُرب يطردونا!

شعرت تسنيم للحظات على فواز فهي قد خبرت حسنات جيدا في المدة السيطة التي قضتها معها، فهي لا تعرف تنميق الكلمات فما بقلبها يخرج فورا الى لسانها لينطلق في وجه سيء الحظ، دون مراعاة منها أن كلماتها قد يكون لها مفعول المتفجرات!

الجدة وهي ترى حفيدها يطالع جارتها بذهول ومهما كان غضبها منه فقلبها ينغزها لأنها تعلم تماما حالته في غياب زوجته كما أنها لا ترضى أن يُسمعه أيُّا كان كلمات مؤنبة حتى وأن كان صادقا في تأنيبه فهو حفيدها الأغلى على قلبها:
- معلهش يا ست حسنات، انتي متعرفيش حالتنا كان شكلها ايه اليومين اللي فاتوا، شوفي احنا نسيبهم يقعدوا في أوضة المسافرين(الصالون) عشان يتفاهموا، وربنا يصلح ما بينهم.

حسنات وهي تقلب عينيها موافقة على مضض: - ماشي يا حاجة، دا عشان خاطرك بس، انما بقول ايه لو عمل حاجة كدا ولا كدا مش هيحصل كويس أنا بقول أهو، ميفتكرش انها لوحدها لا. أنا هنا في مقام أمها وسي فاروق أبوها، يعني ليها ضهر وضهر جامد أوي كمان!

هتف فواز بحيرة وسخط: - أعمل فيها ايه يا ست أنتي؟ دي مراتي!
أغمضت الجدة له عينيها وفتحتهما وهي تعض على شفتها قبل ان تقول لحسنات: - ما تقومي تعملي لنا كوبايتين شاي يا ست حسنات، حاكم الصداع مسك دماغي، وانت – وجهت حديثها لفواز – خد مراتك وادخلوا اوضة المسافرين وخلصونا بقه من الموال دا.

كانت حسنات قد نهضت تتأهب للذهاب لعمل الشاي حينما وقف ونظرت الى فواز آمرة له وكان قد نهض هو وتسنيم:
- سيب باب الاوضة مفتوح. أنا بقول أهو!
ليحدق فيها فواز بذهول في حين كتمت تسنيم ابتسامتها بصعوبة، قبل ان تتوجه الى غرفة استقبال الضيوف يتبعها هو.

دلفا الى الغرفة، وقام فواز بدفع الباب قليلا فأصبح شبه مغلق، لتلتفت تسنيم اليه وهي تقول:
- أدينا بئينا لوحدنا ممكن.
ليقطع فواز المسافة الفاصلة بينهما وهو يهتف باندفاع وحرارة: - ممكن أوي ممكن جدا...

وفجأة شعرت تسنيم وكأنه قد ألقي بها في خضم اعصار كاسح، اجتاحها رأسا على عقب، حتى شعرت بالدوار يمسك برأسها، بينما كلماته الحارة تطرق آذانها وهو يبثها شوقه ولوعته، فيما شفتاه فكأنهما تدمغانها باسمه، حتى إذا ما ابتعد عنها وقد ترك فمه آثارا واضحة على وجهها ورقبتها تعلن مدى شوقه لها وجنونه بها حتى هتف بحرارة عالية:.

- بحبك. بحبك يا تسنيم بحبك، بحبك ومقدرش أعيش من غيرك، بحبك وآسف، آسف على كل كلمة جرحتك بها بقصد أو من غير قصد، آسف أني كنت غبي وحمار وجبان، خايف أقولك على اللي جوايا أحسن تضيعي مني، وغبي عشان في لحظة غباء خفت اني أمر باللي فات تاني، وحمار لأني كنت لازم أصدق أنك عمرك ما هتتغيري عارفة ليه؟

طالعته بجمود من دون كلام ليتابع وهو يحيط وجهها براحتيه يتلمس تقاسيمه بابهاميه برغبة وشوق:.

- لانك تسنيم. مش حد تاني! تسنيم النسمة اللي دخلت حياتي اللي كانت زي الصحرا الناشفة فرطبتها، تسنيم اللي خليتني أعرف أتنفس من تاني، اللي مليت أيامي فرح وضحك، تسنيم اللي مش ممكن أقدر أستغني عنها أبدا، واللي الايام اللي فاتت من غيرها كأني كنت ميّت واتردت فيّا الروح لما شوفتك دلوقتي. سامحيني يا حبيبتي سامحيني، وأنا أوعدك أنك هتلاقي فواز تاني خالص، فواز قلبه مش بيدق لغير لواحدة بس هي تسنيم. أنت. لو سمعت كل دقة فيه هتلاقيها بتنادي عليكي وبتدق باسمك. صدقيني يا تسنيم وسامحيني يا حبيبتي. أنا بحبك وعمري ما هحب حد غيرك، حتى اللي كان قبلك دا ما يتقارنش بحبي ليكي، انتي محيتي أي اسم كان قبلك، وحرقت كل الفرص على أي حد أنه ييجي بعدك.

وسكت تطالعه عيناه بعشق لم يخفيه بينما تابع ولمساته تزداد خشونة: - سامحتيني يا حبيبتي؟
لترفع عينيها اليه تطالعه في صمت دام للحظات بينما ابتسامة أمل صغيرة بدأت بالظهور على وجهه لتموت تلك الابتسامة وتختفي ما أن فتحت فمها وتكلمت بصوت جامد بينما شعر وكأن كلماتها كالرصاصة التي اخترقته قلبه مرورا بأذنيه:
- طلقني!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة