قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الخامس

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الخامس

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الخامس

وضع النادل أمامها كأس عصير البرتقال الطازج الذي طلبته، وانصرف ليلبي نداء زبون آخر من روّاد المقهى، ارتشفت بضع قطرات صغيرة بالماصة، قبل أن تعيده أمامها ثانية، لتطالع ساعتها الفضية، قبل أن تركز عينيها على المدخل، وما هي إلا دقائق حتى شاهدته وهو يدلف ليقف مكانه يجول بنظراته في المكان كي يستدل عليها، فرفعت ذراعها عاليا مشيرة اليه، وما هي إلا لحظات حتى كان قد انتبه اليها ليتجه ناحيتها بابتسامة تفترش وجهه الأسمر الوسيم.

سحب الكرسي المقابل لها وجلس وهو يقول بحبور: - ما صدقتش نفسي لما كلمتيني، قلت أكيد بهلّوس! ولغاية ما دخلت الكافيه كنت بين المصدق والمكذّب لغاية ما شاورتيلي!

أجابت ريما بابتسامة صغيرة: - اللي يسمعك يقول اننا مقاطعين بعض، ميعرفش انه البيه بقه رسام عظيم وبيحضر للمعرض التاني بتاعه!

رمى فواز برأسه ضاحكا وهو يقول بينما رفع يده مشيرا الى النادل: - لا انتي اللي يسمعك يقول دافنشي ولا حسين بيكار، وأنا لسّه فنان تشكيلي على قدي.

ريما بمرح: - أيوة اخزي العين عنك، يا بني دا انت اكتسحت لما سافرت دبي في المعرض التشكيلي اللي اتعمل هناك لما اشتركت تبع وزارة الثقافة هنا، اسم فواز صادق بقه له بصمة...

فواز وقد اقترب النادل منهما: - بصمة!، ماشي يا ستي، المهم تتغدي إيه قبل ما نتكلم في أي حاجة؟
ريما برفض: - لا يا فواز معلهش اعفيني، انا اساسا مزوغة من الشغل ومحدش يعرف اني خرجت، عاوزني أرجع البيت كمان متغدية بره؟ دي طنطك رندا كانت عملت ولا المفتش كرومبو معايا!

فواز بابتسامة: - ماشي يا ستي، عشان متهونيش عليّا بس، – ثم وجه نظراته الى النادل مردفا – هات لي اكسبريسو.

انصرف النادل ليلبي طلبه بينما وجه فواز عيناه على ريما وقال بابتسامة خفيفة: - ها، ممكن أعرف السبب اللي خلّاكي أخيرا تحنّي على العبد لله وانت بنفسك تطلبي تقابليه؟

ريما بابتسامة غابت عن شفتيها وعينان تلمعان بقوة: - عاوزاك توصّل رسالة!
فواز بحيرة: - رسالة؟، لمين؟
ريما بثقة: - ممدوح!
قطب فواز سائلا بخشونة: - ممدوح؟..
ريما بتفكّه: - ممدوح حفني، ايه عاوز تفهمني انك ما شوفتوش من يوم ما هرب؟..

زفر فواز بضيق وشرع بالاجابة عندما قاطعه النادل الذي وضع أمامه قدح قهوة الاكسبريسو سائلا بلباقة ان كان يريد شيئا آخر ق بان يتمتم فواز بكلمات شكر غادرهما النادل بعدها، ليرفع فواز كوب الماء البرد يرتشف رشفة كبيرة قبل ان يعيده أمامه، ثم تطلع الى ريما قائلا بلهجة التسليم بالامر الواقع:
- كلمك؟!
ريما وهي تحرك رأسها من اليسار الى اليمين وبجمود: - لا، جاني!
فواز بدهشة: - جِه لغاية عندك؟

اكتفت ريما بتحريك رأسها بالموافقة ليتابع فواز بسخط وهو يعتصر أصابعه في قبضة قوية:
- مع أني نبّهت عليه وحذرته أنه يقرب منك، بس ولا يهمك أنا.

قاطعته ريما قائلة بجدية شديدة: - أنا اللي عاوزاك تبلغه أنه ريما الضعيفة اللي دخلت في انهيار عشان اللي عمله فيها خلاص، راحت، ريما دلوقتي غير التانية خالص، واذا كنت اتخضيت لما شوفته ف دا عشان المفاجأة كانت جامدة، لأنه ما فيش ميّت بيرجع لكن لو كنت أعرف أنه حي أكيد تصرفي كان هيختلف خالص.

فواز محاولا بث الهدوء اليها: - ريما اهدي، ممدوح مش هيقرّب منك تاني، ودا كان شرطي عشان أساعده.
ريما بتساؤل ساخر: - تساعده على ايه بالظبط يا فواز؟ انه يهرب من المستشفى؟ ولا يهرب من غقوبة السجن اللي مستنياه دا لو خف فعلا؟ أنا عارفة انكم أصحاب من أول سنة لكم في الجامعة سوا، واتعرفت عليك في خطوبتنا، تقريبا ما كنتش بشوف له صاحب غيرك عشان كدا قلت أكيد جالك بعد ما هرب.

فواز بتنهيدة عميقة: - اسمعيني يا ريما وافهميني كويس، انتى عارفة انك في معزة أختي بالظبط، وممدوح أكتر من أخ، فاكرة لما كنت بتتخانئوا كان بيجيني أنا عشان أصالحكم، وعمره ما غار مني مع أنه ممدوح كان متملك وبجنون ويمكن دا اللي وصله للحالة اللي دخل لمستشفى يتعالج منها، مش هنكر اني بساعده، بس مش بساعده ع الهرب لا، أنا بساعده أني بحاول أقنعه أنه يتعالج ولو في مصحة خاصة وأنا هتكفّل بكل مليم، زي ما أنت قلتي أنا الحمد لله اللوحات اللي برسمها بتجيب لي دخل حلو، ولأني متأكد أنه ممدوح لو اتعالج فعلا هو بنفسه اللي هيسلم نفسه وأكيد هياخد حكم مخفف ممكن مع وقف التنفيذ لأنه يعتبر كان فاقد الأهلية وقت ما عمل اللي عمله...

ريما بلوْم: - بس اللي حصل غير كدا! واضح جدا انه مش مقتنع بموضوع العلاج في مصحة خاصة مع أنه النوع دا من المصحّات بتضمن خصوصية شديدة جدا للنزلاء بتوعها، وواضح كمان انه هرب عشان حاجة معينة. هي أنا!

نظر اليها فواز وقد أسقط في يده لتتابع هي بثقة شديدة: - فواز، أنا عاوزاك تقوله يبعد عني خالص، يشيلني من دماغه، لأني مش هخاف منه، بالعكس، هو اللي لازم يخاف مني! لأنه اللي عمله معايا مش سهل أني أنساه ومستحيل أني أسامح فيه حتى لو كان بسبب مرضه!، اللي ممكن أعمله أني أحاول أتناساه، لكن طول ما هو في وشِّي وبشوفه هنسى مرضه وأي حاجة تانية ومش هفتكر غير آخر يوم شوفته فيه، والرعب اللي شوفته وهو بيهددني أني سواء وافقت او رفضت فهكون مراته. بأي شكل وبأي، طريقة!

أومأ فواز متفهما وقال بجدية: - تمام يا ريما، وليكي وعد مني أنه لو رفض يسمع كلامي فأنا بنفسي اللي هسلّمه للمستشفى، هو أخويا مش صاحبي، وحلّه الوحيد انه يتعالج، بالزوء أو بالعافية!

تنهدت ريما قائلة: - خلاص يا فواز، وأنا هثق في كلمتك، بس هرجع وأاكد لك لو ممدوح قرّب مني هيدفع التمن غالي، وغالي أوي، أنا خلاص قتلت الخوف اللي جوايا...

هز فواز برأسه وتمتم لها مؤكدا بأنه ستعامل هو مع ممدوح، ولم ينتبها لتلك العينين اللتين تنفثان نارا منهما وصاحبهما يكاد ينهض من مقعده ليفتك بهما ولكن منعته. يد أخوه التوأم!

- اقعد يا عصام انت اتجننت؟ هتروح فين؟
هتف اسلام مستنكرا في حين شدت يده عصام ليجلس رغما عنه بينما هدر عصام بقوة وعيناه مسلطتان على ريما وفواز اللذان يجلسان على بعد عدة طاولات منهما:
- سيبني يا إسلام، خلِّيني أروح أشوف مين اللي الهانم قاعدالي معه ونازلي رغي وضحك!

حنت من إسلام نظرة الى ريما الغافلة عن وجودهما قبل ان يهمس بنزق: - اقعد بقه ما تفرجش الناس علينا، وبعدين ضحك ايه؟ بيتكلموا عادي أهو وفي مكان عام كمان! أيش حال ما كنت راجع من عند الطلاينة؟

عصام بسخط من بين اسنانه المطبقة: - انت اتهبلت؟، هناك حاجة وهنا حاجة تانية خالص!، وبعدين انا هناك ماليش دعوة باللي بشوفه لكن هنا ريما دي تبقى...

علّق اسلام رافعا حاجبه بمكر: - أيوة، ريما تبقى إيه يا أستاذ؟..
سكت عصام لثوان قبل أن تلمع عيناه بعزم قائلا: - إسلام، ريما فسخت خطوبتها ليه؟..
غابت البسمة عن وجه إسلام وقطب قائلا بتساؤل: - إيه؟
كرر عصام سؤاله فأجاب إسلام وهو يشيح بعينيه بعيدا: - غريبة يعني!، إيه اللي جاب السؤال دا في بالك دلوقتي؟ دا حتى وقت ما حصل انت ما سألتنيش عن السبب!

عصام في داخله: - عشان ما كانش ينفع أسألك وقتها في حين أني كنت. زوج لواحدة تانية!
ولكن عصام أجاب بدلا من هذا زافرا بضيق: - هو تحقيق يا إسلام؟ سؤال وسألته وعاوز الاجابة عليه، وأعتقد حقي مش ريما دي بنت عمتي وأنا من العيلة ولا رفدتوني؟

إسلام ساخرا: - بصراحة انت المفروض تترفد عشان تكشيرتك دي، أبوك وعمك مش بيبطلوا ضحك وانت تقريبا أخدت توكيل تقل الدم بتاع العيلة كلها!

عصام بضحكة زائفة: - هئ هئ هئ، ظريف أوي! ارغي خلصني ريما سلبت خطيبها ليه؟
أرجع إسلام ظهره الى الوراء وقال بترفع: - اممممم. قلت لي، عشان كدا لما شوفتك على باب الاسانسير لاقيتك واخد في وشّك زي القطر وشدتني قلت لي عاوزك في موضوع مهم، حتى خلتني أقفل مع شمس. وأنا أقول يا ترى موضوع إيه دا؟

عصام ساخرا: - دا اللي مضايقك انك قفلت مع شمس؟، أنا هتجنن. أنتو بتكلموا بعض تقريبا كل ساعة، بتقولوا إيه في كل مرة؟ بتجيبوا كلام منين تقولوه؟

إسلام بغموض: - مش بدل ما تزهق من القعدة؟ وبعدين تقدر تقول أنى بتمم على ممتلكاتي، المهم، عاوز تعرف إيه يا عصام؟

مال عصام فوق المائدة التي تفصل بينهما وقال بعينين تومضان بعزم: - سبب فسخ ريما خطوبتها...
تنهد إسلام عميقا وقال: - هحكي لك، بس الاول توعدني انك ما تفتحش السيرة دي معها تاني، احنا ما صدقنا أنه الأيام الصعبة دي عدّت على خير، دا غير أنها مش عاوزة حد يفتح لها سيرة الموضوع دا تاني...

وطفق إسلام يسرد على مسامع عصام سبب انهاء ريما لخطبتها، ولم يعلم إسلام أن خطيبها السابق حرا طليق يحوم حول معشوقته، فقد أخفى مراد خبر هروبه ولم يعلم سواه وأدهم ونزار فقط.

وفيما كان إسلام يحكي ما اجتازته ريما كان لوم عصام لنفسه يتصاعد بينما في ذات الوقت فإن عزمه على تنفيذ ما سبق وأن قرره فهو يترسخ، فحماية ريما لن تكون سوى له بالدرجة الأولى، ولا بد له أن يصل إليها، وسيفعل!

كانت تقف في مطبخ شقتها الصغير تعد كعكة الشوكولاتة عندما سمعت صوت ضحكات رجولية عميقة دغدغت حواسها يمتزج معها صوت طفولي متحمس، لترتسم ابتسامة شاردة على شفتيها النديتين، وهي تفكر أن وجود فريد يضفي على المنزل حياة وبهجة، أصبحت تنتظر الوقت الذي يأتي اليهم فيه بلهفة، فهي تشبع فيه عاطفة الأمومة التي لم يأذن الله لها بأن تمارسها حتى الآن، وحدها قلقها وهواجسها من تنغص عليها فرحتها بوجود هذا الطفل الملاك، خاصة حين توسوس لها نفسها بأن منال جارتها أرملة حسناء ولا تزال في مقتبل العمر كما وأنها لديها ابن إذن فتستطيع بأمر الله انجاب آخر، وليست أرضا بور كحالها، إذ سرعان ما يلفظ رحمها جنينه وكأنه يأبى أن يستقبله!

عادت واستغفرت الله كثيرا فحالها أفضل من غيرها بمراحل، يكفيها حب زوجها المؤكد لها، فقد روت له منال الكثير من الحكايات التي تتوجع لها القلوب وتدمع لها الأعين مما تقابله في عملها كاخصائية اجتماعية في جمعية الرحمة تاج القلوب، والتي تعنى بدار للمسنين وآخر للأيتام، فيما يشبه المجمع السكني المكون من منزلين كبيرين يحيط كل منهما حديقة كبيرة غناء ويربط بينهما ممر مرصوف، خُصّص أحدهما لليتامى واللقطاء والآخر للمسنين والمسنات...

أيقظها صوت أسامة القادم من خلفها من شرودها وهو يهمس في أذنها: - سرحانة في إيه؟
ابتسمت وقالت وهي تصب مزيج الكعكة في القالب المدهون المخصص لها: - في الكيكة وتاللي بعملها وقلتوا لي هتساعدوني وبعدين هربتوا تتفرجوا ع الماتش.
ضحك أسامة قائلا: - يعني نسيب ريال مدريد وبرشلونة ونيجي نضرب كيك؟..
يارا ساخرة: - لا طبعا، ودي تيجي؟!

مد يده حول خصرها ببطء فانتفضت لترمقه زاجرة فقال ببراءة مصطنعة: - إيه يا يارا مالك؟، لطشة شوكولاتة ع الصينية من بره بمسحها.
هزت رأسها وانصرفت الى عملها عندما مرر اليد الأخرى من ناحية الثانية لخصرها فشهقت منتفضة ليقول بجدية زائفة:
- اللاه! مش معقول يا يارا كدا. اثبتي!
زفرت يارا بيأس وقالت بنصف عين: - والمرة دِه ايه ان شاء الله؟ بتشيل لطشة شوكولاتة تانية؟..

أسامة وهو يداعب بأرنبة أنفه شحمة أذنها: - لا ببعد كيس السكر عشان ما يقعش!
فكت حصار يديه من حولها قبل ان ترفع قالب الحلوى وتتجه الى موقد الغاز وهي تقول: - فيك الخير بجد...
مالت لتضع القالب داخل الفرن وما ان اعتدلت حتى فوجئت بمن يحكم الامساك بخصرها ليدفع به الى الزاوية فرفعت يديها الملطختين بالطحين لا تريد لمسه كي لا تتسخ ملابسه وهتفت بتحذير زائف بينما تخفي ضحكة تهدد بالانطلاق:.

- أسامة يا ابن حماتي، ابعد أحسن لك!
مال عيها لتلفحها أنفاسه الساخنة وقال ببراءة مصطنعة: - فيه دقيق على وشّك. بلاش أشيله؟..
أجابت ساخرة: - أنت لو مش بعدت عني دلوقتي هخليك كلك دقيق حضرتك، ولا مش واخد بالك من ايديا!

أسامة وعيناه مسلطتان على هدفهما لتشعر يارا بالضعف والاستسلام كعادتها كلما هاجم حواسها بسيل عواطفه الجياشة:
- أسامة فريد بره. بلاش...
أمسك وجهها بين راحتيه وقال بصوت متهدج: - فريد عجبته اللعبة الجديدة اللي نزلتها على الاي باد ومش هيفتكرنا خالص دلوقتي...

يارا باعتراض: - لا يا أس...
ولكنه كان قد نفذ ما تحرق اليه منذ أن دلف الى المطبخ ورأى عينيها اللامعتين ووجهها الأحمر نتيجة حرارة الفرن، ليضيع معها في قبلة عميقة كعمق المحيط، عذبة كمياه النهر، ورائقة كمياه بحيرة في جو ربيعي صاف...

رفع وجهه يستند بجبينه الى جبهتها محاولا لالتقاط أنفاسه المتعثرة بينما أغمضت هي عينيها وهي تشعر بقلبها يكاد يقفز خارج أضلعها، ابتعد عنها لتفتح عينيها تطالعه قبل ان يهمس بخشونة:
- اعملي حسابك فيه مواضيع كتير اووي محتاجين نناقشها سوا، أو، مشاهد عاوزين نتناقش في اخراجها!

تخضب وجه يارا خجلا وهمست بتذمر: - وقح!
غمزه قائلا بخبث: - بعد تلات سنين يا يويو ولسّه متعودتيش على وقاحتي؟ المهم اعملي حسابك عندك بروفة اخراج انهرده يا مخرجة يا عظيمة.

والتفت مغادرا حينما أوقفه صوت يارا ساخرا: - وان شاء الله مشاهد ايه اللي هنخرجها دي؟
أسامة وهو يقف أمام الباب غامزا بمكر: - مشاهد ساااااااخنة، plus 18 (+18)!
لتتعالى ضحكاته بينما انصرف وتركها وهي تتمتم بحنق عن وقاحته اللامتناهية!..

دلفت منال الى منزلها وهي تنادي صغيرها الذي أتاها ركضا، فمالت عليه تحتضنه وتقبله، في حين أقبلت حماتها من الداخل مرحبة بها بأمومة:
- حمد لله على سلامتك يا بنتي، على ما تغيري هدومك أكون جهزت الغدا...

نظرت منال بعتاب رقيق اليها وهي تنزع وشاح شعرها ليظهر تاج رأسها المضموم كالعادة الى الخلف على هيئة كعكة صارمة بينما أفلتت بعض الخصلات وكأنها تعترض على المعاملة القاسية التي تلقاها من صاحبتها، فهي تسجنه دائما في تلك الكعكة حتى وهي بالمنزل، وتحديدا منذ ما يزيد عن الثلاث سنوات، أجابت منال بلوم وابتسامة عتاب رقيق تزين ثغرها الصغير:
- معقول لغاية دلوقتي ما اتغدتوش يا ماما أنعام؟ دا ينفع يعني؟!

ربتت أنعام على ذراعها قائلة بابتسامة حانية: - يا ستي انتي عارفة انا مش بعرف آكل لوحدي، وابنك جاي من عند يارا يقول كلت كيك وشبعان!
نظرت منال لصغيرها بعتاب قائلة: - كدا بردو يا فريد؟ مش انا قلت ما تروحش كتير عند طن طيارا عشان ما تضايقهومش؟

فريد مدافعا: - بث أونكل أثامة بيكون فلحان، وطنط يايا (يارا) كمان!
ضحكت جدته بينما اصطنعت منال الجدية قائلة: - بردو مينفعش، عشان مش يزهقوا منك وبعدين ممكن ينقلوا من جنبنا، ساعتها هتزعل ولا لأ؟

فريد بقلق طفولي: - لا يا ماما خياث (خلاص)، مث هحمل (هعمل) كدا تاني.
لعبت منال في شعره وقالت: - طيب ياللا اتفضل روح اغسل ايديك على ما أحضر السفرة مع تيتة.
لاحقا وأثناء تناولهم لطعام الغذاء المتأخر قالت حماتها: - هشام كلمني انهرده.
منال وهي ترتشف ملعقة الحساء: - امممم، كويس، أخباره هو وليلى إيه؟

تنهدت حماتها بتعب لتقطب منال بتساؤل فيما اجابت انعام: - معرفش يا منال يا بنتي، صوته مش عجبني، على العموم هو قال لي انه هييجي قريب. بيني وبينك أسيوط أكيد حر نار دلوقتي، ويا رب يكون جاي أجازة طويلة أشبع منه شوية.

منال بهدوء لتبث فيها الطمأنينة: - ان شاء الله خير يا ماما، انتي عارفهم كل شوية بيتخانقوا لكن مش بيقدروا يبعدوا عن بعض.

انعام بتعب: - قولي الكلام دا لحد ميعرفش هشام ابني، أنا أحيانا بعذر ليلى بصراحة، هشام مش عاوز يفصل بين شغله وبيته، بيتعامل مع ليلى وكأنها عسكري عنده في الشغل!

ضحكت منال وقالت: - ما هي بردو لو ليلى كبّرت شوية الدنيا هتمشي، مينفعش الاتنين يشدوا قودام بعض، واحد يشد والتاني يرخي!

أنعام بحزن: - بس لو كان فيه حتة عيل بينهم، يمكن كانوا...

أسكتتها منال من فورها وهي تضع يدها على رسغ الأخيرة: - أستغفر الله العظيم يا ماما، لو بتفتح عمل الشيطان، بعدين محدش عارف الخير فين، وصدقيني يا ماما أنا قودام عيني اللي عيالهم رامياهم في دار المسنين ومش بيزوروهم حتى في السنة مرة، اول كل شهر ييجوا يدفعوا الشهرية وما يكلفوش خاطرهم حتى يطلوا عليهم، ولما أقول للواحد فيهم انه يزور والده أو والدته يكون العذر أنه مشغول ومرة تانية، والمرة التانية دي مش بتيجي أبدا.

لتتابع بابتسامة يشوبها بعض المرارة: - وفي الفيلا التانية تلاقي دار الايتام ماليانه لقطاء، اللي لاقيينه في صندوق الزبالة، واللي على باب جامع، واللي لاقوه مرمي قودم الدار، من الآخر تلاقي العيال اللي رميتهم أهاليهم، والأهل للي رموهم عيالهم! بجد شيء محزن ومؤسف، فأهم حاجة اننا نرضى بالمكتوب، لأنه محدش عارف الخير فين...

أيدتها حماتها وانصرفوا بعدها لتناول الطعام وسط حديث فريد المرح عن عمو أسامة واللعبة الاليكترونية الجديدة التي حملها له خصيصا على هاتفه الذكي من سوق الالعاب الاليكترونية، لتشعر منال بنغزة حزن في قلبها وهي تتذكر فريد زوجها الراحل وحنانه اللا مثيل له، وكيف أنه كان يرسم الأماني حول ابنه وما ينتويه فعله له، ليرحل قبل أن يبصر وحيدها النور!..

نظرت الى جذعه الأسمر وحبيبات الماء تلمع على بشرته السمراء المشدودة، اقتربت تتغنج في مشيتها، حتى وقفت خلفه تماما، لتظهر انعكاس صورتها في المرآة أمامه، بينما كان هو يخفي عضلات صدره الضخمة أسفل قميص من أرماني يقوم بارتدائه، مدت يدا بيضاء تزيح ذرات تراب وهمية فوق كتف القميص قبل أن تتحدث بصوت دفعت فيه كل غنجها ودلالها وهمست بصوت أنثوي مغوي وابتسامة ناعمة ترتسم فوق فمها المكتنز:
- هتيجي انهرده؟

نظر اليها ببرود في المرآة أمامه، وتحدث بحزم لا يمت بصلة لذلك الرجل الذي كان يتقد حرارة وسخونة معها منذ سويعات قليلة:
- وانتي من امتى بتسألي، وأنا من امتى بقولك؟!
لم تشأ أن تغضب من جوابه الصقيعي فهي قد اعتادت أسلوبه، لتتقدم الى جواره وتقف على صوابع قدميها وتمد وجهها لتقبل ذقنه بقبلة بطيئة ناعمة، قبل أن تقول بصوت ذو بحة مميزة:
- طبعا حبيبي براحتك، بس كان نفسي أسمع أخبار حلوة انهرده!..

التفت ليها وطالعها رافعا حاجبه الأيمن بسخرية ليقول مستهزئا: - أد كدا نفسك تشتمي فيهم؟!
أجابت بينما كان يعقد ربطة عنقه وعينان تنظران لها فيما اعتلى وجهها علامات الحقد والكره:
- وانت الصادق، فيه. فيه هو أكتر من أي حد تاني!
نظر شريف لنفسه في المرآة وهو يساوي ربطة عنقه، قبل ان يرش بضعة بخات من العطر الرجولي الخاص به، ثم مال ليرفع السترة ليرتديها واستدار اليها مجيبا بلا مبالاة:
- واضح أنه وجعك أوي!

تقدمت بضعة خطوات حتى أصبحت أمامه توليه ظهرها وقالت بغل وعينيها تطلقان شرارات من نار وكأنها ترى الشخص الذي يدور حول حوراهما حوله أمامها:
- عمر ما حد عاملني بالشكل دا، كفاية نظرته ليا وكأني حشرة اتجرئت ودخلت بلاط الملوك، عشان كدا لازم أشوف في عينيه نظرة الانكسار والهزيمة، هي دي الشيء الوحيد اللي هيشفي غليلي بجد...

ثم استدارت اليه وتقدمت تقف بجواره ترفع ذرعها تستند بمرفقها الى كتفه فيما اليد الأخرى تلاعب أزرار قميصه وهي تقول بدلال:
- أنت وعدتني بكدا. صح؟..
شريف لاويا طرف فمه بنظرة متواطئة: - وأنا، عند وعدي، العد التنازلي ابتدا، أدهم شمس الدين اسطورة جايز - محركا كتفيه بلا مبالاة -، لكن كل اسطورة ولها نهاية، والنهاية هتكون أقرب مما يتصوّر!

ليتبادلا نظرات التشفيّ والنصر قبل أن يمهرا اتفاق الشيطان بقبلة نارية، ينصرف شريف بعدها وهو يمني نفسه بأنه قريبا وقريب جدا سيكون الفوز حليفه، وسينتهي من أدهم شمس الدين الى الأبد، بينما وقفت هي عاقدة ذراعيها أمامها وقد برقت عينيها بنيران كراهية وحقد شديدين وهي تهمس في نفسها بوعيد. اقتربت ساعة الصفر، وسنتلاقى من جديد يا أدهم، وحينها سنرى من منّا سينظر الى الآخر باستعلاء ودونيّة. خاصة ان كان ال بِك العظيم وقتها قابعا، خلف القضبان!..

ولكنها لم تعرف. أنه مهما صار وكان فإن أدهم شمس الدين، أبدا، لن ينحني أو، ينكسر!..

وقف يعد كوب القهوة السريعة وسط تذمر من علية الساخطة على وجوده بالمطبخ قائلة: - يعني انا مش هعرف اعمل لك نسكافيه؟، غلط حضرتك تدخل المطبخ أساسا، فما بالك كمان تعمل نسكافيه؟..

صب مهدي كوب القهوة من ماكينة صنع القهوة وقال بملل: - عليّة اللي يسمعك يقول بقرطف ملوخية!، دي كلها ماج نسكافيه ومن الماكينة كمان، يعني الموضع كله دقايق مش اكتر.

عليّة بتشبث بالرأي وهي تقف تعقد ساعديها شامخة برأسها المكلل بشعر اسود قد خالطه الشيّب بصورة ملحوظة بثيابها المتزمتة المكونة من قميص أبيض مغلق الأزرار كلها حتى آخر زر منهم يكاد يطبق على عنقها، بينما ترتدي تنورة سوداء طويلة تصل الى الكاحل وتنتعل حذاء منخفضا أسود اللون:
- المطبخ غلط انه حضرتك تدخله، سيادتك تقولي اللي عاوزه وأنا أعملهولك.

رفع مهدي قدحه يرتشف منه بضعة رشفات قبل ان يجيبها وهو يتجه خارجا: - معلهش يا عليّة، خلّيها عليكي المرة دي.
ليقف على عتبة الباب ويلتفت اليها متسائلا ببساطة: - صحيح يا عليّة أنتي قلتي لي ماما عرفتك منين؟

عليّة بوقار: - كنت بشتغل عند ابراهيم بيه الاسيوطي قبل ما يقرر هو وجلفدان هانم مرته يسافروا لولادهم كندا، رندا هانم وجلفدان هانم اصحاب من النادي، وهي اللي قالت لمدام رندا عليا اللي عرضت عليا الشغل هنا عندكم.

مهدي بلا اهتمام: - تصدقي افتكرتك كنت شغالة عند لواء ولا حاجة؟
قطبت علية وهمّت بالرد عليه عدما قاطعهما صوت صفق الباب، لتنبسط أسارير مهدي ويدفع بقدح القهوة الى عليّة قائلا:
- طيب خدي يا عليّة، شكل مدام لبنى رجعت. فرصة أروح أسلم عليها براحتي طالما نهاوند نايمة واحمد لسه في المدرسة!

قطبت علية متمتمة بغير فهم وهي تتابع مهدي الذي اندفع من امامها بلهفة: - فرصة يسلّم عليها طالما الولاد مش موجودين؟ ليه هو هيسلم عليها في أد إيه على كدا؟

لتهز كتفيها بلا مبالاة وتنصرف لتجهيز طعام الغذاء...
تقدم مهدي من لبنى ليحيط خصرها بذراعيه ويميل عليها ليقبل وجنتها وهو يقول مرحبا: - حمد لله على السلامة حبيبتي، اتأخرتي كدا ليه؟
اشاحت بوجهها بعيدا قبل ان تحط شفتاه على وجهها ليقطب يطالعها بتساؤل وحيرة فيما تحدثت هي بجمود:
- عاوزاك في موضوع...
تقدمته بعد ذلك الى غرفتهما ليلحق بها وهو ما بين حائر ومرتاب!

دلفت الى غرفتهما وهو في أعقابها حيث أوصد الباب خلفهما، استند بيده الى الباب قائلا بجدية عاقدا جبينه:
- مالك؟ ايه اللي حصل؟..
وقفت توليه ظهرها بعد ان رمت حقيبتها جانبا وكانت قد تركت الاشياء التي ذهبت لابتياعها في صندوق السيارة فمنذ أن أنهت محادثتها الهاتفية مع شريف وهي كالمغيبة تماما، قالت بصوت مكتوم تحاول تمالك نفسها:
- انت ما قولتليش ليه انه شريف كلمك؟..

وكأنه قد شدت ذيل قط بري بعبارتها تلك وخاصة بنطقها لذلك الاسم الكريه شريف! اذ قطع المسافة الفاصلة بينهما في خطوتين وأسرع بجذب مرفقها ليديرها ناحيته وهو يهدر يتحدث بغضب هادر:
- عرفتي منين؟
حاولت سحب مرفقها من قبضته وهي تصيح بدورها: - دا بس اللي همّك؟، عرفت منين؟، يبقى حصل يا مهدي؟!

شدد مهدي من قبضته وهو يقول بعنف من بين أسنانه المطبقة: - قبل أن حاجة جاوبيني، الززفت دا كلمك؟ انطقي ما تجننينيش؟ كلمك امتى وشوفتيه فين؟..

صرخت بحدة وهي تطالعه بعينين تلمعان كعيني قطة متوثبة: - اطمن ما شوفتوش، لكن البيه كلمني في التليفون، وقالي على قضية الحضانة اللي رفعها على ابني أنا! ابني اللي حضرتك تجاهلت انك تصارحني وتعرفني فيه ايه، وكل ما أشوفك سرحان وبتفكر تقولي أبدا. شغل!..

سكت تطالعه بحنق مكررة باستهجان: - شغل؟!، شغل يا مهدي؟ للدرجة دي أنا مش مهمة عندك أنك تصارحني بحاجة مهمة زي دي؟ أد كدا أحمد مش مهم عندك؟

طالعها مهدي بذهول قبل ان يهتف فيها بحدة: - انت اتجننتي؟ أحمد دا يبقى ابني زيّك تمام يا هانم!
لبنى ساخرة وقد فقدت صوابها: - آه ما هو باين، بدلي القضية اللي رفعها طليقي انه ياخد من حضني ابني وانت ما قلتليش، في الوقت اللي انت عارف فيه من اول يوم...

سكتت تطالعه بتحد مردفة بقوة: - تنكر انه شريف قال لك من وقتها؟..
هدر فيها بشراسة: - ما تنطقيش اسم الزفت دا على لسانك تاني، فاهمه ولا لأ؟..
لبنى بصوت يشبه الصراخ: - الزفت دا يبقى طليقي، واللي عاوز ياخده دا يبقى روحي! فاهم يا مهدي؟، روحي!

مهدي بأنفاس متعثرة وقبضته بدأت تلين: - مش هسمح له يا لبنى، نجوم السما أقرب له من أنه يلمس شعرة واحدة من أحمد...
سكت للحظة ردف بعدها بتركيز وبطء: - ابني!
سحبت لبنى ذراعها بعيدا وغرزت أصابعها في خصلاتها المتمردة من ربطتها كالعادة وهي تقول في شبه انهيار:
- ما فيش حاجة هتوقفه، أنا عارفة، مش عاوزني أعيش حياتي...

رفعت عينين ذابلين اليه مردفة بنظرات منكسرة وغلالة من الدموع تغشى زمردتيها: - أنا غلطت ما أنكرش، غلط لما مشيت ورا عواطف بنت مراهقة، واخترت غلط، وندمت، بس لحد امتى؟ لحد امتى يا مهدي هفضل أكفّر عن الغلطة دي؟ لحد امتى. أنا خلاص. تعبت! والله تعبت!

ضمّها مهدي بين ذراعيه بقوة دافنا رأسها في صدره وهو يهمس بحزم: - أقسم لك انه أحمد مش هيبعد عننا ثانية واحدة، أحمد ابني الكبير يا لبنى، اوعي تشكي لحظة واحدة في كدا...

لبنى كمن يهذي: - مش هيسكت انا عارفاه، دا، دا هددني تقريبا يا مهدي؟
أبعدها عنه قابضا على كتفيها وهو يقول بامتعاض ساخط: - ايه؟ هددك؟ هو وصلك ازاي أساسا؟
حركت لبنى رأسها بقلة حيلة وهي تجيب: - معرفش جاب نمرتي منين، اتصل بيّا من شوية وأنا في هايبر بشتري شوية حاجات، وقالي على قضية الحضانة، وأنه ممكن يتنازل عنها لو...

وسكتت وقد شحب وجهها بصورة قصوى وكأنها تذكرت الآن فقط حديثه كاملا، بينما قطب مهدي يسألها في توجس وريبة:
- لو إيه يا لبنى؟
لبنى بذهول وصدمة: - لو اتطلقت، ساعتها محدش هيقدر ياخد ابني من حضني!
هدر مهدي مصعوقا: - إيه؟!
لينظر اليها مستفهما بتوجس: - وانتي قولتي له ايه؟
لبنى بخواء: - ما قولتش! ما لحقتش أساسا. قالي هيسيب لي وقت أفكر وهيبقى يتصل بيّا تاني يعرف الرد!

شتيمة نابية أطلقها مهدي هدر بعدها بوحشية: - يا ابن ال، طيب أنا بقه هعرّفك يعني ايه تكلّم مراتي من ورايا، ومش بس كدا. لا وتهددها كمان!

ليندفع سرسيعا الى خزانة الثياب وفي ظرف ثوان كان قد أبدل ملابسه ليندفع بعدها مغادرا الغرفة بينما لحقت به لبنى وهي تكاد تسقط فساقيها لا تكادان تحملانها، أوقفته ما ان فتح باب المنزل هاتفة بتضرع وهي تتشبث بساعده:
- رايح فين يا مهدي؟
نظر اليها مجيبا بصوت يقطر كرها وغضبا يكاد يقتلع لأخضر واليابس: - هعرفه يعني إيه معنى رجولة، وهخليه يندم على اليوم اللي سمح لنفسه فيه انه يقرب من مرات مهدي العايدي...

لبنى بخوف ودموعها تتساقط كحبات اللؤلؤ المنثور فوق وجهها المرمري: - بلاش يا مهدي، تعالى هنشوف حل.
رفع يده يحيط وجهها براحته الكبيرة وهو يقول بخشونة: - ما تقلقيش يا حبيبتي، أهم حاجة أحمد لما ييجي ما يشوفكيش بالشكل دا، انت عارفاه حساس أد ايه، ولو كلمك تاني ما ترديش عليه...

ومال قاطفا فمها في قبلة قوية خاطفة قبل ان ينصرف موصدا الباب خلفه، فارتكزت عليه بظهرها تخفي شفتيها المرتجفتين خلف أناملها المرتعشة، لتحين منها نظرة الى الامام فطالعت عليّة التي وقفت تراقبها باشفاق وما هي الا لحظات حتى فتحت عليّة ذراعيها واسع لتندفع لبنى بينهما مطلقة شهقات بكاء حار، بينما عليّة تربت على ظهرها بعطف متمتمة في أذنها بكلمات الاشفاق مهوّنة عليها بأسها!

جلست ريتاج بجوار أدهم في غرفة الأخير بذلك الصرح التجاري العملاق، نظرت اليه وهي تقول:
- يعني أعرف من ريما وانت لأ يا أدهم؟
لم يلزم أدهم الكثير من الذكاء ليعلم عمّا تتحدث بشأنه، فأجابها بهدوء ورويّة: - محدش يعرف غير مراد وهمس وانا ونزار، محبناش نعم قلق، خصوصا وانه دي رغبة ريما.

ريتاج بابتسامة ساخرة: - طيب يه رأيك بقه انه ريما اللي قالت ي بنفسها؟
أدهم بابتسامة مماثلة: - أصدق طبعا، انتى عارفة كلهم عندها في كفة وانت في كفة تانية خالص، مش خليفة المتمردة بقه؟!

ضحكت ريتاج ليتعالى صوت طرقات على الباب فقطب أدهم ليسمح للطارق بالدخول والذي لم يكن سوى محمود أخيه، بعد القاء التحية أشار أدهم لمحمود بالجلوس قائلا:
- ايه يا درش، نويت ترجع شغلك تاني؟ بس أحب أقولك عصام ابنك أثبت كفاءة بصراحة فأنا مش هسيبه، ممكن تعملله النائب بتاعك.

قاطع محمود أدهم بوجوم قائلا: - أدهم مش دا لموضوع اللي جاية لك فيه.
قطب أدهم متسائلا: - مالك يا محمود؟ أنا ملاحظ من ساعة ما رجعت انت ومها من باريس وانت مش طبيعي!
استأذنت ريتاج قائلة: - طيب أنا هقوم يا أدهم، وهسيبكم تتكلموا براحتكم.
اعترض محمود: - ما فيش أسرار عليكي يا تاج، انتي عارفة كلنا كيان واحد وعيلة واحدة.

ولكن تاج آثرت الانسحاب فلأول مرة ترى محمود على هذه الصورة وكأنه قد صُدم صدمة عمره، لتقول باعتذار رقيق:
- اتكلم مع أخوك براحتكم، وأنا هروح فين يا سيدي، وقت ما هتعوزوني هتلاقوني!

سكت محمود بعد ما أفضى ما في جعبته الى أخيه الأكبر والذي بعد دقائق من الصمت تحدث بدهشة فائقة:
- معقول؟! كل دا يحصل لعصام واحنا منعرفش!

محمود وهو يحرك رأسه بقلة حيلة: - أنا كنت هتجنن والسفير المصري في روما بيحكي لي، انت عارف انه طارق جوز هَنا بنتي بيشتغل في السفارة في باريس، وقبل ما نرجع مصر اتنقل سفارتنا روما، كان فيه حفلة كوكتيل السفارة عملاه وحضرناه، السفير لما عرف أنه عصام يبقى ابني، لاقيته بيتكلم ويقول حاجات انا مش فاهمها، ولما روّحنا وسألت طارق وبعد ما كان متردد انه يحكي، عرّفته اني ممكن جدا أعرف بطريقتي الخاصة، فحكى لي كل اللي عصام مرّ بيه!

أدهم بذهول وصدمة: - مش ممكن يا محمود! قتل ومافيا!
قاطع حديثهما دخول مهدي سريعا وهو يهتف: - بعد إذنك يا خالي.
قطب أدهم ونهض متسائلا: - خير يا مهدي.
دنا مهدي منه وهو يقول بغضب مكتوم: - شريف الكلب كلم مراتي، وبيهددها يا تطلق يا إما هيمشي في قضية الحضانة وياخد أحمد مننا!

أدهم بصرامة: - يبقى دا وقتنا دلوقتي، نضرب ضربتنا...
قبل أن يجيبه مهدي ارتفعت صوت جلبة عالية ليندفع رجال كثيرين يتقدمهم شخص بزيّ رسمي، في حين هتفت مساعدة أدهم الشخصية باضطراب:
- أنا آسفة أوي يا أدهم بيه اقتحموا المكتب معرفتش أعمل إيه.
أشار لها أدهم بيده قبل أن يقترب من الضابط المحاط بعدد لا يستهان به من العساكر، ليقف أمامه قائلا بتقطيبة:.

- خير يا حضرة الظابط؟ أقدر أعرف فيه إيه حصل لدرجة انكم تقتحموا المكان بالشكل دا؟

الضابط بمهنية شديدة: - حضرتك أدهم شمس الدين؟
أدهم وسط نظرات الذهول والريبة من مهدي ومحمود في حين بدأ الموظفون بالتجمع: - أيوة أنا.
تعالى صوت ناعم بجواره يسأل في قلق: - فيه إيه يا أدهم؟
نظر أدهم الى ريتاج التي حضرت مسرعة ما أن سمعت أصوات الجلبة الواضحة، أجابها وهو يحرك كتفيه بجهل:
- معرفش يا تاج، أنا حالا كنت بسأل حضرة الضابط فيه إيه؟

لم ينتظر الضابط ثانية اضافية ليجيب ببرود: - حضرتك مطلوب القبض عليك!
شهقة عنيفة صدرت عن ريتاج ليهتف مهدي بذهول غاضب: - إيه؟، يتقبض عليه؟ ليه؟!
محمود بقلق: - حضرتك متأكد أنه دا أدهم اللي انت جاي له؟
الضابط بصرامة: - أكيد مش واحد شبهه!
ونظر الى أدهم مردفا بحزم: - اتفضل حضرتك معنا!..
ونادى عاليا: - عسكري...

ليتقدم عسكري الأمن وهو يقبض في يديه على شيء ما أن بسط راحتيه حتى ظهرت الأصفاد الحديدية، لتهتف ريتاج بقوة:
- لا. مش ممكن، كلابشات!، انت مش هتمشي من هنا يا أدهم!
الضابط بحدة: - لو سمحتي يا مدام، أحنا جايين في مهمة محددة ولازم تتنفذ.
أدهم وهو لا يزال محافظا على رباطة جأشه: - طيب ممكن أعرف تهمتي الأول يا حضرة الضابط.
الضابط وهو يشير الى العسكري كي يتقدم لوضع الأصفاد في يدي أدهم: - هناك هتعرف كل حاجة.

تقدم محمود من الضابط قائلا برجاء: - طيب ممكن بلاش الكلابشات؟ أدهم مش مجرم ولا قتّل قتلة عشان تتحط الكلابشات في إيديه!

الضابط بسخرية طفيفة: - والله التحقيق هو اللي هيثبت لنا كدا، وعموما. بلاش الكلابشات.
ليشير للعسكري بالتراجع، وأمسك بمرفق أدهم وما ان تحرك خطوتين حتى هتف مهدي بحرقة:
- طيب ممكن نيجي وراكم مديرية الأمن بالعربية؟ مش ممكن خالي يركب البوكس!

الضابط باستهزاء: - جرى إيه يا بهوات؟ دا واحد مطلوب القبض عليه وانا عشان خاطركم مرضيتش أحط الكلابشات في ايديه، لكن كمان ما يركبش البوكس؟ لا مش هينفع معلهش، أصلها مش اختياري، دا. اجباري!

لينصرف قابضا على مرفق أدهم الذي طمأن ريتاج بنظرة من عينيه قبل ان يغادر مع الضابط حيث سيارة الشرطة ليصعد الى الصندوق الخلفي مكان جلوس، المجرمين!

وقفت أمامه تطالعه بنظرات حائرة مذهولة قبل أن تهمس بتساؤل والقلق يعصف بجوانحها بقوة:
- قصدك تقول إيه يا مراد؟..
زفر مراد بيأس مغمضا عينيه قبل أن يفتحهما ويطالعها زافرا بتعب: - اللي حضرتك سمعتيه يا أمي، للأسف. بابا التهمة اللي متوجهة له مش سهلة أبدا، وصعب جدا انه يطلع بين يوم وليلة!

ابتسمت بغير تصديق وهتفت وهي تنفي برأسها تحركها بقوة من اليسار الى اليمين: - أنت. أنت بتقول إيه يا مراد؟ إيه التخريف اللي أنت بتقوله دا؟ سجن! أدهم. يتسجن؟!

مراد بيأس: - يا ماما أرجوكي متعمليش في نفسك كدا!..
ومد يده محاولا لمسها عندما نفرت منه وهي تدفع بيده بعيدا عنها هاتفة باستنكار لهمس التي وقفت تراقب ما يحدث أمامها وعينيها تغصان بدموع محبوسة:
- ما تشوفي جوزك يا همس! مراد اتجنن!

صاح مراد بحزن: - يا ريتني كنت أتجننت فعلا يا ماما، لكن للأسف. اللي حصل لا هو جنون ولا كابوس حتى. دا واقع. واقع أليم جدا، أدهم شمس الدين متهم وفي قضية كبيرة كمان، قضية فساد كبيرة، الرأي العام مقلوب عليها!..

نظرت اليه ريتاج وكأنه يهذي أمامها لتهدر فيه بغضب شرس: - أدهم شمس الدين، فاسد؟!، الراجل اللي بيساهم بنسبة كبيرة أوي من دخله في المشاريع الخيرية يتقال عليه كدا؟ لا. ويتحط في السجن مع المجرمين والبلطجية؟، مين يقول كدا؟..

ليقف رضا المحامي وهو يقول بلهجة الأمر الواقع وان كان في داخله يتعاطف مع هذا الرجل الذي قلّ أن يجود بمثله الزمان:
- القانون يا ريتاج هانم! للأسف. أدهم بيه متهم في قضية أمن دولة، والقضية خطيرة فعلا.

محمود بقوة: - يعني ايه قضية أمن دولة يا متر؟
رندا والتي ارتمت بين ذراعي نزار تبكي بحرقة: - مش ممكن. أنا مش مصدقة، أدهم؟!
زفر المحامي بعمق وقال بتعاطف على حال هذه العائلة التي ندر وجود شبيهتها في ترابطهم وتكاتفهم سوية:.

- يا محمود بيه افهمني، أدهم بيه متوجه له اتهام بتهمة التخابر مع جهات ارهابية، وتمويلها بمبالغ مالية ثبت فعلا انها بتتحول من حسابه لحساب تاني خارج مصر وبالتحريات ثبت بالدليل انه الحساب دا تابع لجماعة ارهابية بتقوم بعمليات ارهابية فعلا بتضر بأمن مصر القومي وبأمن المنطقة كلها!

صاحت ريتاج بقوة: - كدب!، الكلام اللي بتقوله يا متر دا كدب ومش ممكن يحصل!
المحامي بصبر: - أكيد كدب يا مدام ريتاج، لكن أنا بصفتي محامي أدهم بيه لازم أكون صريح معكم وأوضح لكم الحقيقة!

عصام بحنق: - واللي هيّا؟!
المحامي بأناة: - الحقيقة أنه القضية صعبة تكاد تكون مستحيلة، خصوصا مع اشعارات تحويل الفلوس من حسابه، وكله بالاوراق والمستندات الرسمية، بمعنى تاني أنه موقفه ضعيف جدا. لكن.

وسكت المحامي لتهتف شمس الغارقة في دموعها بينما يقف اسلام بجانبها يحيط كتفيها بذراعه داعما لها:
- لكن إيه يا متر؟
المحامي بتفكير: - ممكن نقدر نثبت أنه مالوش يد، ونحاول نجيب دليل براءته في حالة واحدة بس.
هتفت ريما بلهفة: - هي ايه يا متر؟
رضا المحامي المعروف بحنكته ودهائه: - اننا نعرف المبالغ دي اتحولت ازاي من حساب أدهم بيه بدون علمه!

لبنى والتي أنساها ما حدث لأدهم أمرها هي وابنها: - يبقى لازم حد بيشتغل في البنوك نسأله.
همس بتفكير: - أو حد بيشتغل في البنك دا. هو اللي نسأله!
نزار بجدية: - ما فيش غير مدير البنك، هو اللي نسأله ازاي تتحول مبالغ من حساب عميل مهم جدا زي أدهم عنده من غير معرفة صاحب الحساب نفسه.

مراد بعزم: - يبقى نبتدي من عند المدير! وأنا متأكد أننا هنلاقي دليل براءة بابا عنده.
هتفت ريتاج بقوة: - اسمه ايه بالظبط المدير دا؟..
أجاب رضا بجدية تامة: - سعيد. سعيد منعم الكيلاني!..
لتبرق عينا ريتاج بقوة وهي تقول: - يبقى في 24 ساعة كل حاجة عن صاحب الاسم دا تكون عندي، مراد...

هتف مراد مجيبا بنعم، فأردفت بصرامة: - عندك حساب مفتوح. تجيب لي كل المعلومات عنه، اصرف ما يهمكّش، أدهم شمس الدين لازم براءته تظهر واللي عمل كدا هيتحاسب، وحساب عسييييير جداااا!

و، وقفت المتمردة رافعة رأسها بشموخ وإباء وقد أقسمت في داخلها على الثأر لأدهمها، فلن تترك ذلك المجرم ليفلت بفعلته تلك ولو على. جثتها!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة