قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الحادي والعشرون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الحادي والعشرون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الحادي والعشرون

بعد أسبوعين.

أقدر أعرف انت فين لغاية دلوقتي؟ ...
أجابت ريما بصبر وهي تناور احدى السيارات بجانبها في ساعة الذروة هذه من الازدحام الخانق في عاصمة المعز:
- يا بنتي والله جاية في السكة، كان عندي شغل مهم مقدرتش ما أروحش انهرده، يدوب خلصته ونزلت، وبعدين يا ستي الساعة لسه مجتش 2 الضهر، ثم مش انا العروسة أنت، يعني الكوافيرة لما تيجي المهم تلاقيكي انت مش أنا! .

هتفت نجوان بغيظ وهي تكاد تبكي: - وبتقوليها في وشي يا ريما؟ ماشي حاضر، ليكي يوم!
قطبت ريما وأبعدت هاتفها عن أذنها تطالعه بغرابة قبل ان تعيد انتباهها الى الطريق أمامها قائلة بتقطيبة مرتابة:
- هيّا ايه دي اللي بقولها في وشّك؟ انك عروسة! هو انا بتبلى عليكي؟ مسن اللي فرحها انهرده بعد كم ساعة؟ ومين اللي كانت حنّتها امبارح؟ واللي أنا بأمر منها معها من يومين ومش راضية تخليني أروّح بيتنا؟!

نجوان بأسى: - كدا يا ريما؟ زهقتي مني؟ وبعدين ما انت عارفة أنك الوحيدة اللي بقدر أكون على طبيعتي معها من غير زيف!
زفرت ريما بصبر قائلة: - يا حبيبتي أنا مش فاهمه أنت ليه واخده الامور بالمحمل دا!؟ حمزة مش عيّل صغيّر عشان حد يجبره على حاجة مش عاوزها فما بالك بقه لو الحاجة دي جواز؟! يعني حياة تانية ودنيا تانية؟

نجوان وهي تتلاعب بطرف غطاء الطاولة أمامها: - معرفش يا ريما، يمكن لو جاوب على سؤالي عنها كنت ارتحت، وبعدين المشكلة مش فيه هو بس، فيا أنا كمان! أنا لغاية دلوقتي مش قادرة أتخيل أنه حمزة هيبقى جوزي؟ أنا طول عمري ببص له على أنه أخ أكبر وصديقي اللي يعرف عني الصغيرة قبل الكبيرة و.

سكتت بعد أن قاطعتها ريما هامسة ببعض الكلمات التي دفعت بدماء الخجل والغضب الى وجهها وهي تتندر على وصف نجوان لحمزة بأ أخاها. لتهتف بحدة وهي تنهض واقفة من مكانها:
- تصدقي أني غلطانة أني بتكلم معاكي، وبصراحة أنا أبتديت أشفق على ابن خالك منك، وبصِّي بقه. ما تجيش اتفضلي روّحي.

ضحكت ريما وقالت وهي تقوم بصف السيارة أسفل منزل نجوان حيث تقطن: - اطمني ابن خالي بعيد تماما عن اي شفقة حضرتك ممكن تحسّيها له، دا ينئط بلد (يغيظ). عموما أنا ركنت خلاص وطالعه، ثواني يا عروسة هتلاقيني قودامك.

أنهت نجوان المكالمة وهي تجلس بينما تتذكر أحداث الاسبوعين السابقين، منذ أن رمى حمزة بأمره لها بأن زفافهما سيكون مع شقيقيهما، وعندما حاولت الحديث معه مرة أخرى بشأن مايا أجابها منهيا النقاش أنها الآن زوجة لآخر ولي سهو من يذكر امرأة رجل سواه ولو بينه وبين نفسه، وبدلا من تطمئن زادت حيرتها! فهو لم ينفي أو يجزم بأنه قد نسيها تماما، الأمر الذي ضاعف قلقها بأنه لم يتمم أمر زيجتهما إلا رضوخا لأمر والده، ومن ناحية أخرى كانت تشعر بالدهشة من نفسها! فلما يهمها أمر حبه لأخرى بهذا القدر من عدمه! ولماذا ترهن أمر اكمال ارتباطهما بمعرفتها أن انتهى ذلك الحب من طرفه على الاقل أم لا؟ منذ متى أصبحت تنظر الى زواجها من حمزة على محمل جديّ شرط أن تطمئن قبلا على خلو قبله من حب مضى ولكنها لم تتأكد بعد أن كان قد انتهى أم لا؟!

وكردٍّ منها على عدم استجابته لمحاولاتها في فتح ذلك الموضوع معه قررت بأنها لن تراه في الفترة السابقة للزفاف، والتي طالت حتى تعدت العشر أيام، وعندما اعترض بررت ذلك بأنها عروس ومن حقها أن يشعر عريسها بالشوق لها وكيف سيتأتى ذلك وهو يراها كل يوم فمنزل عمها بنفس الشارع حيث تقطن هي وعائلتها! وللمرة الأولى تستغل كونها عروسا كي تقنع به والدها. ليصلها عبر فدوى شقيقة حمزة أنه يعلم لعبتها جيدا وسيماشيها حتى النهاية ولكن، فلتتحمل نتائج فعلتها تلك كاملا ودون تذمر!

لن تنكر أنها شعرت بالخوف لوهلة من هذا التحذير الذي أرسله عبر شقيقته، والتي سألتها بدورها عمّا يعني أخاها ولكنها ضحكت وبررت كلماته أنه غاضب لأنها استطاعت فرض رأيها في عدم رؤيته لها قبل الزفاف بفترة معقولة!

صوت فتح الباب وضحكات ريما التي وقفت تطالعه هاتفة: - أنا جيت يا عروستنا.
أيقظها من شرودها لتتطلع الى صديقة عمرها، لتفاجئها وتفاجئ نفسها بنهوضها والاسراع ناحيتها لتلقي بنفسها بين ذراعيها، فما كان من ريما إلا أن احتوتها بين ذراعيها تهمس بحنان وقلق:
- نجوان حبيبتي. ايه اللي حصل؟
ليزداد ذعرها وهي تسمع صوت نحيب مكتوم، فأبعدتها عنها تطالعها بحيرة وتسالها بصوت مليء باللهفة والقلق:.

- نجوان. مالك؟ هي وصلت للعياط؟
نجوان من بين شهقات بكائها المكتوم وهي تضغط براحتها على فمها: - مش عارفة يا ريما، حاسة انه كل حاجة حصلت مرة واحدة، دا غير اني مش عارفة آخرتها ايه؟ حاسة أني رايحه للمجهول برجلي. احساس بالغربة جوايا غريب!

ريما باستفهام: - غربة؟ نجوان. انت خايفة من حمزة؟
لترفع نجوان رأسها تجيب باندفاع من غير لحظة تفكير واحدة: - عمري! عمري ما أخاف منه. حمزة يعني أنا يا ريما. هخاف من نفسي ازاي؟!
ريما بابتسامة بطيئة وهي تبعد خصلات نجوان النحاسية عن وجهها قائلة بلهجة غريبة: - فعلا، مافيش حد بيخاف من نفسه!
قاطع حديثهما دقات متتالية على الباب قبل ان تندفع سلمى شقيقة نجوان وهي تهتف بينما تردف سريعا:.

- يا للا يا نوجة، أنا خلصت الحمام ادخلي خدي الشاور بتاعك الكوافيرة على وصول للفندق عشان ما نتأخرش عليها.

وحانت منها نظرة لوجه أختها وهي تتكلم لتقطب وتتقدم منها وتقول متسائلة: - انت كنت بتعيطي يا نجوان؟
ريما بابتسامة بينما انشغلت نجوان بمسح دموعها براحتها: - مافيش يا ستي. انت عارفة اعصابها فلتانة عروسة بقه وكدا، وخايفة قال ايه اننا نبعد عن بعض لما تتجوز، متعرفش اني قاعده عل قلبها ومربعة!

سلمى بابتسامة وعينان تلمعان بسعادة لزفافها اخيرا على حب عمرها: - يا سلام. طب ما انا كمان عروسة وفرحي انهرده ومش بعيط؟
ريما بغرور: - ايوة بس معندكيش ريما زيّها!
لتنظر اليها سلمى بدهشة بينما نجحت ريما في الحصول على ضحكة من نجوان التي قالت: - فعلا عندك حق. اللي عندها صاحبة زيك كدا تمسك فيها بايديها واسنانها!
لتحتضن ريما متابعه بهمس لم يسمعه الا صديقتها: - ربنا ما يحرمني منك ابدا يا توأم روحي.

ريما بحنان: - ولا منك يا حبيبتي.
لتبتعد عنها وتقول بجدية زائفة: - ياللا يا هانم هنتأخر كدا، مش كفاية انه الحنة امبارح صممت تفضلي قاعده زي ما تكوني ضيفة مش العروسة؟ انهرده مش هخليكي تقعدي. ابقي قابليني لو خليتك ترتاحي بس شوية. انت اللي هتقومي بالليلة كلها أنا بقولك أهو!

ضحكت نجوان وتناولت منشفتها وهي تتجه الى الخارج لتقول سلمى بمرح: - اممم، احلمي على قدك حبيبتي. ابقي انت قابليني لو شوفتي طولها انهرده. اراهنك انه حمزة مش هيخليها تقوم من مكانها، اومال انت فاكرة احنا ما روحناش ليه البيوتي سنتر وطلبنا الكوافيرة اللي تيجي لنا لغاية الاوتيل؟!
ريما باستغراب: - ليه؟

سلمى بضحك: - اوامر عليا يا ستي! لما حمزة عرف اننا هنروح ونلبس هناك أصدر فرمانه مافيش مرواح لكوافيرات، فدوى بتقولي انه كانه بيطلع دخان لما عرف ان نجوان هتلبس في الكوافير، وكل اللي طلع عليه وقتها. هي اتجننت تغير هدومها بره البيت!

لتنهار ريما في ضحكة عميقة بينما التفتت نجوان التي لم تكن انصرفت بعد وتطالع اختها ببلادة قبل ان تمسك بمنشفتها ببساطة وفجأة تقذفها ناحية اختها لتلتصق بوجها قبل ان تسقط على الارض، فتقدمت نجوان وانحنت وتناولتها ثم اعتدلت وقالت ببساطة:
- سوري!
وانصرفت وسط ضحكات ريما العالية وهمهمات سلمى المتذمرة!

لم تره أو تسمع عنه منذ ذلك اليوم، حيث عقد قرآنه عليها وذلك بعد خروجها على ذمة القضية بكفالة مالية سددها هو من ماله الخاص، ليصطحبها الى منزله حيث قابلتها حماتها للمرة الثانية بلهفة جعلتها تلقي بنفسها بين ذراعيها وتسمح لنفسها ولأول مرة منذ بداية محنتها بسكب دموعها علّها تخفف من ذلك الحمل الجاثم على صدرها، وتركتها حماتها حتى هدأت نوبة بكائها، لتفاجأ به وقد انصرف ما ان تلفتت حولها بارتباك لتجيب أنعام سؤالها الغير منطوق بأنه قد انصرف، ثم ذهبت بها الى حيث غرفتها كما ذكرت لها والتي تجاور غرفة فريد النائم وقتها، بعد ان أمرتها بأخذ حمام دافئ في دورة المياه المتصلة بغرفتها، ريثما تعد لها الطعام فهي قد فقدت كثيرا من وزنها، ولكنها لم تستطع سوى تناول بعض رشفات من الحساء لتذهب بعدها في سبات عميق بعد أن أدى الحمام الساخن مفعوله في اراحة أعصابها التي قاربت على التلف في الفترة السابقة!

زفرت بتعب. لترسم ابتسامة صغيرة على وجهها وهي ترى صغيرها وهو يركض ناحيتها ليهتف بجزل:
- ماما، لوح (أروح) عند أمو (عمو) أثامة.
مسحت منال وجه ابنها بحنان وقالت: - حاضر يا حبيبي. هكلم يارا في التليفون وأرتب معها معاد.
قفز فريد مهللا: - هييييييه. هيييييه.
ما تفرحوني معكم!
سريعا غابت البسمة من على وجهها ولم يفت هشام أن يرصد بعينه الخبيرة ذلك التحوّل، بينما ركض اليه فريد بلهفة وهو يهتف بفرحة:.

- أمووووو (عموو).
ليتلقفه هشام بين ذراعيه ويرفعه عاليا وهو يبادله الضحك قائلا: - ازيك يا بطل؟ ايه الاخبار؟ كنت راجل مكاني ولا لأ!
فريد بجدية غريبة على عمره رسمت ابتسامة شاردة على وجه منال: - اطمن آكابتن. الأمن مثتتب!
ليطلق هشام ضحكة عالية جعلت الدماء تقفز الى وجه منال وارتباكا غريبا تشعر به داخلها، بينما تساءل وهو ينظر اليها:.

- ايه دا؟ كابتن والامن مستتب؟ انتو بتدوه (تعطوه) كورسات من ورايا ولا إيه؟

كانت منال قد وقفت تستعد للمغادرة لتقول بابتسامة صغيرة بينما تتأكد من وضع حجابها بطريقة صحيحة:
- انت عارف النت والتليفزيون أحسن أستاذ دلوقتي!
وهمّت بالانصراف وهي تردف: - عن اذنك. ياللا يا فريد عشان نغسل سنانك قبل ما تنام.
نزل فريد من فوق ذراع عمه وركض لوالدته وهو يقول بتساؤل: - ننام وأثحى وأروح ليايا وأثامة (يارا وأسامة)؟!
مدت منال يدها تقبض على كفه الصغير وهي تقول بابتسامة ناعمةك.

- حاضر يا سيدي، بس هنكلمهم بكرة الاول قبل ما نروح لهم. ولو كدا نروح ليايا وأثامة. ها مبسوط؟

فاندفع فريد معانقا ساقيها وهو يقول بفرحة طاغية: - مبثوط اوووي. أنا بحبك أوي أوي يا ماما.
لمعة منال بريق سرق أنفاس هشام الذي راقب المشهد أمامه بابتسامة شاردة، وهويراها تميل لترتفع ثانية محتضنة ابنها وهي تقول بحنان أمومي فياض:
- وأنا بحبك أوي أوي يا فريد!

لتغيب ابتسامة ذلك المراقب وهو يراها تحتضن ابنها مصرحة بحبها لفريد. ليتذكر أن فريد أيضا، شقيقه، ليكبح جماح نفسه بصعوبة وهو يهم بسؤالها. أي الفريديْن تقصد. ابنها أم أخيه المتوفي؟!

زفر هشام بضيق وهو يراها وهي تنصرف مع ابنها، وشرد الى البعيد لينتبه الى الواقع على صوت والدته الحاني وهو يهتف بفرحة:
- هشام حبيبي. حمد لله على سلامتك.
أسرع الى والدته مقبلا يدها ورأسها وهو يقول بابتسامة صغيرة: - الله يسلمك يا أمي.
أنعام بعتاب: - هتفضل بعيد عن بيتك كتير يا هشام؟ ما خلاص يا بني بئيت مراتك ومحدش يقدر يفتح بؤه بكلمة تانية.

هشام بهدوء مختلط بجدية حازمة: - الموضوع مش كدا يا أمي، أنا الفترة دي فعلا عندي شغل جامد، ومحتاج لكل دقيقة من وقتي، انما لو على الكلام محدش يقدر يفتح بؤه بكلمة، واللي هيصدر منه حرف واحد في حقها أنا هعرف ازاي أخليه يبلعه وأوقفه عند حده.

ربتت أنعام على كتفه وقالت بفخر: - ربنا يخليك ليها ولينا يا حبيبي. ياللا روح غيّر هدومك على ما أحضر لك العشا، تلاقيك يا حبة عيني لا بتاكل ولا بتنام.

هشام بهزة رأس موافقة: - أنا فعلا جاي عشان آخد شاور وأغير لكن هضطر أرجع الشغل تاني.
أنعام باستنكار: - انت لحقت يا بني؟
هشام وهو يربت على يدها: - معلهش يا ست الكل، ادعي لي انت ربنا يخلص القضية اللي انا ماسكها على خير، القضية دي صعب اوي يا امي ولو ربنا سهلها لي يبقى حمينا البلد من وحوش والاسم بني آدمين!

انعام وهي ترفع كفيها الى الاعلى داعية: - روح يا بني ربنا ينور لك بصيرتك ويكتب لك السلامة في كل خطوة وينصرك على من يعاديك. ويقدرك انك تحمي بلدك وولاد بلدك من المجرمين وولاد الحرام.

ابتسم هشام قائلا براحة: - يا سلام يا ست الكل. أحلى دعوة منك، أنا متأكد أنه بعد دعوتك الحلوة دي ربنا هيسهلها وتخلص القضية على خير.

ليردف بهمس وهو ينظر الى البعيد حيث اختفت منال منذ قليل بابنها: - ويفضل أهم قضية. معرفش هكسبها ولّا...
أخرجه صوت أنعام قائلا: - انت بتكلم نفسك يا هشام؟
هشام: - ها؟ لا يا أمي. أنا هروح أخد حمام وأطلع ألاقيكي محضرة لي العشا من ايديكي الحلوين دول.

وقبل رأسها منصرفا لتتابعه والدته حتى غاب عن عينيها فقالت بابتسامة متواطئة: - هتلاقي أحلى أكل يا ابن بطني مستنيك. ومن أحلى ايدين!
أنهى هشام اغتساله مبدلا ثيابه وجلس الى مائدة الطعام تجاوره والدته التي وقفت ترص الطعام في صحنه ليقول وفمه ممتلئ بالطعام:
- كفاية يا أم هشام، مش هقدر أتحرك بعد الاكل دا.

انعام بابتسامة وهي تسكب له المزيد من الطعام في صحنه: - يا ابني كُل. انت بئالك مدة على أكل السوق دا، وبعدين الاكل كتير يرضيك تعبنا فيه يروح هدر؟

هشام وهو يبتلع طعامه: - بصراحة يا ماما هو من جهة كتير فهو كتير أوي، ايه دا يا ست الكل انت عاملة عزومة؟ وبعدين لحقتي تعملي كل دا اكتى؟ فراخ وملوخية ورز معمر وصينية رقاق باللحمة كمان؟

أنعام بفخر: - ان شالله يخليها منال. هي اللي بتحضر كل حاجة وتحطها في الفريزر جاهزة على العمايل. الفراخ متنضفة ومتبلة، والملوخية مخروطة، واللحمة المفرومة متعصجة، متعودة على كدا اكمنها بتشتغل، وبصراحة نفعتني جامد وأديك شوفت، عزومة بحالها ومن غير ما نحس.

هشام باستفهام: - هي منال اللي مجهزة كل دا؟
وكان يرفع كوب الماء ليرتشفه عندما أجابت والدته بابتسامة خبث لم يرها: - لا وهي اللي طبخت كمان!
كاد يغص بشرابه ليسارع بانزال الكوب وينظر الى والدته باستفهام قائلا: - منال؟!
والدته ببراءة زائفة: - آه. أنا قلت لها عاوزة اعمل لك عشا حلفت عليا أرتاح وهي اللي عملت كل اللي انت شايفه داا، حتى أم علي عملتها لما قلت لها انك بتحبها!

ابتسامة خائنة شقت طريقها الى وجهه الرجولي الخشن ليهمس بدهشة: - معقولة؟!
ثم رفع عينيه يسأل: - طالما كدا ما جاتش تتعشى معنا ليه؟
أنعام بابتسامة: - مش بتتعشى، كبيرها كوباية زبادي وخلاص، غلبت فيها تغير عوايدها دي أبدا. عموما هي دخلت تنام بتقول انها مواعدة فريد توديه عند جيرانها بكرة ان شاء الله.

ليتذكر هشام وعد منال لصغيرها بأن تذهب به الى. أسامة ويارا. لا يدري لما هذا الشعور الحارق الذي شعر به وهي تنطق باسم جارها حتى وان كان بطريقة صغيرها أثامة. فقد همّ وقتها بزجرها ألا تنطق اسم رجل غريب عنها بشفتيها النديتين!

أغمض عينيه وهو يزفر بتعب فحالته تسوء باضطراد مذهل، لا يدري ما الذي حدث له وتحديدا منذ أن نظرت اليه يوم أن طالب بثقتها لتمنحها اليه عن طيب خاطر؟..

ولكن. وليكون أكثر صدقا مع نفسه، لقد بدأ بالتغير من ناحيتها منذ أن بدأت مناوشتهما سوية، فلأول مرة يقف شخص أمامه يرفض قرارا له ويرمي به عرض الحائط غير آبه لغضبه، والمغيظ بالامر أن هذا الشخص ما هو إلا. امرأة لا يكاد طولها يتجاوز كتفيه، صغيرة جدا. و. شهية جدا جدا!

زفر بسخونة وهو يتذكر يوم عقد القرآن عندما طاوع نفسه معللا ما قام به أنه تماشيا مع تمثيلية زواجهما الزائف، ليدنو منها مقبلا جبينها ليشعر لأول مرة بانتفاضة غريبة محلها صدره، ما جعله يتعجب، فهو ليس بفتى طائش أو مراهق، فلقد سبق له الزواج من ليلى، حبيبته قبل أن تكون زوجته، ولكن طوال فترة ارتباطهما وبعدها زواجهما لم يشعر بتلك الانتفاضة التي داهمته ما ان لمس بشفتيها بشرتها ليشعر برائحتها المنعشة وهي تنتقل عبر مسامها الى خلاياه، تتخللها و. تحتلها. ليجد نفسه يلملم بعض حاجياته بعد ان انتهى عقد القرآن ويهرب متذرعا بعمله، بينما الواقع أنه يهرب من هشام آخر لا يعلمه. يخشى منه، ويخاف عليه!

نداء أمه المتكرر أيقظه من أفكاره لتقول: - مالك يا بني؟ مش بتكمل أكلك ليه؟
هشام وهو يمسح فمه بفوطة المائدة قبل ان ينهض واقفا بابتسامة زائفة: - شبعت الحمد لله يا أم هشام. يدوب أنا أمشي.
أنعام باعتراض: - على طول كدا؟ طيب مش هتدوق أم علي اللي عملهالك منال؟ دي أحلى من أي حلواني ممكن تاكلها عنده!

هشام بهزة رأس: - معلهش يا أمي أنا.
أنعام بصلابة: - والله أبدا. روح اقعد عند التليفزيون وأنا هعملك فنجان القهوة بتاعك وأجيب لك طبق.

فانصاع صاغرا لأمر والدته وهو يهدأ نفسه أنه لا ضير من ربع ساعة اضافية بينما صوت داخلي يهتف به كيف سيقضي خمس عشرة دقيقة في نفس المكان الذي يحمل دفء أنفاسها والتي حرمته صاحبتها من مجرد رؤيتها. وبكل دم بارد!

فواز بئالو كم يوم مش باين يا ستّي؟ .
رمقتها جدتها بطرف عينها قبل ان تعيد انتباهها الى كنكة القهوة وهي تمسك بمقبضها حيث تقوم بصنع قدح من القهوة التركية فوق شعلة النار الصغيرة، وقالت ببساطة وهي تهز كتفها: - ما تكلميه يا بنتي تشوفيه ماله، مش بعادة فوازة أنه يقعد يومين من غير ما نشوفه، من امبارح الصبح تقريبا لا جِه ولا اتكلم!

تسنيم بقلق ظاهر في صوتها الرقيق: - ما انا بكلّمه يا ستي ومش بيرد، ودلوقتي مقفول!

الجدة وعينيها منصبتان على القهوة وهي تسكبها بحرص في فنجانها الخزفي الصغير- من مقتنياتها الثمينة القليلة التي تحرص عليها وتشعر بالفخر بها - حتى لا يضيع وجه القهوة السميك علامة الجودة لربة المنزل الكفؤ: - اطلعي له يا تسنيم، مهما كان دا يبقى جوزك، وبعدين امبارح لما نزلنا الصبح كان شكله مش عجبني، عينيه دبلانه وزي ما يكون داخله دور برد، وانا عارفة فواز لو فيه ايه مش بيقول ولا بيشتكي، لكن انت مراته. حاجة تانية!

تسنيم وهي تقرض أظافرها بحيرة وقلق أشد: - وافرضي طلعت حاجة تالتة؟!
لتنظر اليها الجدة بانشداه اول الامر قبل ان تنطلق ضحكتها وما ان هدأت حتى قالت وهي تمسح عينيها الدامعتين: - الله يحظّك يا بت يا تسنيم. لا يا ختي متخافيش ولو حاجة تالتة يبقى اكيد، حبيبته!

وأتبعت قولها بغمزة من عينها اليمنى بشغب غريب على عمرها السبعيني! فاحمر وجه تسنيم بقوة ثم قالت وهي تحاول بث الشجاعه بداخلها بينما تتجه الى باب المنزل: - ماشي يا ستي. انا طالعه له لكن لو كسفني أو قالي حاجة أنا ماليش دعوة!

وخرجت تسنيم تلحقها نظرات الجدة الحانية وهي تدعو من قلب مخلص: - ربنا يهدي سرّكم يا بنتي ويجلي الغشاوة اللي على عينيه عشان يشوف الكنز اللي ربنا عوضه بيه بعد الشقا اللي شافه في حياته...
ثم تنهدت بعمق مردفة بأسى: - الله يسامحك يا سماح!

رفعت بعدها قدح القهوة لترتشف منه رشفة صغيرة أغمضت عينيها بعدها وارتسمت ابتسامة استحسان واسعه على وجهها المجعد لتنيره فيتضح ملامح جمال غابر قبل ان تهمس بفخر وهي تحرك رأسها يمينا ويسارا: - تسلم ايديا، بن محوّج ولا أجدعها قهوجي يعرف يعمله. صنعة ايديا احياة عينيا!

طرقت جرس الباب ووقفت تقضم أظافرها ترقبا وقلقا، وبعد فترة طويلة وعندما كررت رنين الجرس وما من مستجيب شعرت بخيبة الامل والتفتت تستعد للهبوط عندما سمعت صوت تكّة خفيفة تبعها صوت سعال قوي قبل ان يخفت ليقول صاحبه باستفهام: - تسنيم!

التفتت متفاجئة من وهن نبرته التي لم تكن تسمعها الا قوية رنانة وهتفت وهي تراه يقف أمامها يحاول التوازن بينما يشي بمدى ضعفه ومرضه ذبوله الواضح وعيناه الغائرتين: - فواز، انت تعبان؟!
فواز وهو يضع يده على فمه محاولا كبح سعاله الذي ما انفك يهاجمه كل ثانية وبشراسة: - لا أبدا. ش. شوية برد. وهبقى ك كويس ان شاء الله...

لتغلبه نوبة السعال فينخرط فيها حتى ترنح في وقفته فأسرعت اليه تسنيم تسنده وهي تلف ذراعها الناعم حول خصره فيما وضعت ذراعه القوي حول كتفيها النحيلتين وهي توجهه للعودة الى شقته هاتفة بلهفة وقلق مسعور: - تعالى. انت ايه اللي قومك من السرير بس؟ وازاي ما نعرفش انك تعبان بالشكل دا؟

كانت قد دلفت معه الى الداخل وتوجهت رأسا الى غرفته حيث وجهها هو، لتريحه فوق الفراش، وسريعا مالت عليه تضع يدها على جبهته تتحسس درجة حرارته قبل ان تصيح بجزع: - يا لهوي. انت سخن مولع!
لينظر اليها فواز بنظرة غريبة لم تنتبه لها وهمس بصوت متحشرج ضعيف قائلا وعيناه مثبتتان على شفتيها الكرزتين: - نارر. مولع نار يا...

ولم يكمِل لتفاجأ بيده تلتف حول مؤخرة عنقها ليجذبها اليه بقوة صدمتها فشهقت بذهول ولكنه لم يسمح لشهقتها بأن تكتمل إذ سرعان ما ابتلعها، في جوفه!

للوهلة الاولى شعرت بالتصنّم في مكانها، فقد أخذها فواز على حين غرة، وما بدأت بالعودة الى عالم الاحياء ثانية وقد عاد اليها وعيها وهمّت بدفعه بعيدا حتى كان هو قد تركها ملتفا حول نفسه مغمضا عينيه وقد غطّ في نوم عميق وكأنه لم يزلزل كيانها كله بقبلته المحمومة تلك، لتكتشف أنه هو نفسه لم يكن يعي ما يفعل فما صدر عنه لم يكن سوى. هلوسات الحمّى!

لا تعلم أتفرح لأنه سيصحو وقد نسي ما كان منه، أم تحزن لأنه سينسى قبلتها الاولى التي اقتنصها منها فجأة كالخطيفة تماما؟ ولكن. وبينما هي تترنح بين الشعورين كان هناك ثالث يطل برأسه على استحياء ألا وهو. الخجل الممتزج بالسعادة بأن أول قبلة لها كانت لحبيبها الأوحد، من دعت الله في صلاتها كثيرا أن يجمعها به في الحلال. وحتى تستطيع وقتها أن تبحر بخيالها في حبه دون حدود، فهو قد أصبح زوجها أمام الله والناس، وقد أخبرها يوم عقد قرآنهم أنه ليس بعقد قرآن فقط بل واشهار أنها أصبحت زوجته على سنة الله ورسوله وما تركه لها في منزل جدته الا ترتيب خاص بهما فقط ليس لأحد دخل به، يومها شعت عيناها بالفرحة التي خبت وهو يكمل بهدوء كان كدلو الماء البارد الذي انسكب على فرحتها أطفئها وهو يخبرها أن تطمئن فزواجهما رسميا أمام الناس فقط، حتى يستطيع الاهتمام بشؤونها ولا تخشى ماذا سيحدث لها بعد عمر طويل لجدتهما!

وقتها أرادت لو تضربه بأقرب شيء تطاله يدها علّ عقله الحديدي هذا يفهم ويستوعب أنها لم تعد بصغيرة وأنها لا ترفضه كزوج بل العكس. فهي أكثر من راضية وكيف لا وهي عاشقة حتى أطراف أصابعها لمن يسمى فواز!

تنهيدة عميقة صدرت عنها وهي تميل عليه لتضع الغطاء فوقه قبل ان تعتدل وتهمس بوعد: - هخليك تحبني مش زي ما بحبك لا. وأكتر يا فواز، وبكرة تشوف تسنيم الصغيرة هتعمل فيك إيه يا. كبير!

وانصرفت وقد قررت أنها الآن ستهتم بمرضه وبعد أن يشفى ساعتها سيكون لكل حادث حديث!

زفر عصام بحنق وهو يهتف بحدة: - أنا عاوز أعرف سبب التأجيل دلوقتي؟
نظرت ريما الى نفسها واليه وهما يقفان خارج جناح العرائس لتهمس بغرابة: - انت شايف أنه دا وقته دلوقتي يا عصام؟
عصام بحنق وقد طار صوابه ما أن وقعت عيناه عليها بفتنتها الطاغية وكان قد أصر على رؤيتها ما أن أتى لحضور حفل الزفاف، تاركا والديها وشقيقتها بصحبة مراد بالاسفل:.

- أعمل لك ايه ما انت زي الزيبق! أسبوعين لغاية دلوقتي وكل ما أقولك نحدد معاد الفرح تتحججي ب 100 حجة!
ريما بعناد: - عشان انت حاطط العقدة في المنشار! عاوز كتب كتاب وفرح في ليلة واحدة، وانا قلت لك أني مش موافقة، ليه يعني هو سلق بيض؟ ليه ما أفرحش زي باقي البنات بكل خطوة في ارتباطنا ببعض؟ هو حد بيجري ورانا؟!

مال عليها عصام وهو يطالع زينتها الظاهرة بدءا من شعرها الذي جمعته بدبوس من الالماس فوق شعرها ليظهر بياض بشرتها وعينيها اللتان خطتهما بكحل أسود أظهر وبوضوح زمردتيها، ثم حمرة شفتيها التي جعلتها كثمرة كرز شهية تغري من يراها لقطفهما وتذوق طعمها الشهدي! ليهبط بعيناه على عنقها الطويل كعنق اليمامة تماما حيث يتدلى قرط من الياقوت الطويل من أذنيها الصغيرتين حتى يكاد يلامس عظام الترقوة الظاهرة من القبة العريضة المفتوحة على هيئة من مربع لذلك الفستان من المخمل الاحمر الداكن والذي يلتصق بجذعها العلوي مبرزا نحافة خصرها ويمتد على اتساع الى الاسفل ليغطي نصفها السفلي منسدلا حتى الارض ليخفي حذائها الاحمر القان ذو الكعب الرفيع، وأنهت زينتها تلك بقطرات من عطر يكاد يقسم أنه لن يدعها تضعه ثانية فما ان اقترب منها وشمّ رائحته حتى فعلت به الافاعيل وأبسطها أنه يريد زرعها بين أحضانه كي يستنشق تلك الرائحة التي تخللت الى خياشيمه لتعبر الى خلايا مخه ليشعر برأسه خفيفا وكأنه قد اشتم ماريجوانا أو دخان القات!..

هتف عصام بصوت منخفض وعيناه تشتعلان برغبة مكبوتة: - يعني هي دي حجتك؟
قطبت ريما متسائلة: - مش فاهمه؟
عصام بحزم: - أنت رفضت تحديد الفرح عشان عاوزة كتب كتاب لوحده صح؟
ريما بايماءة موافقة: - صح!
ليفتر ثغر عصام عن ابتسامة عريضة ويقول بانتصار أدهشها: - وهو كذلك.

ليذهلها أكثر وهو يميل عليها مقبلا جبينها بقوة قبل أن يردف: - هتعيشي كل خطوة زي ما انت عاوزة، لا. هنتمتع سوا بكل لحظة من ارتباطنا. واعتبريه وعد!

ليختفي في لحظات في خطوات سريعة جعلتها تقطب ريبة و. حيرة!

اسلام. اعمل اللي قلت لك عليه وأنت ساكت!
هتف اسلام من الناحية الاخرى من الخط بذهول: - انت بتقول ايه يا عصام؟ ودي تيجي ازاي دي؟ يا بني أنت عارف الساعة كم؟ داخله على 10 بالليل، ويوم خميس. المفروض الحاجات دي بنتفق عليها من قبلها، مش هيكون قاعد ملطوع لنا يعني!

هتف عصانم بنفاذ صبر: - انت بترغي كتير ليه؟ اقولك يا اسلام لو حصّلت اخطفه!
اسلام بذهول: - أ. مين؟ أخطفه! جرى ايه يا عم عصام انت قعدتك في ايطاليا واللي حصل لك خلّتك من المافيا ولا إيه؟ هو مين دا اللي أخطفه يا عم الحاج؟

عصام بأمر صارم: - إلى قلت لك عليه يتنفذ بالحرف يا اسلام، تخطفه بقه تهدده ماليش فيه، يا أما هتروح مش هتلاقي شمس في البيت يا اسلام، وزي ما انا اللي هديت بينكم فاكر وهي راجعه شايطة من عند مراد، في ثانية أخليها ترجع في كلامها تاني، وانت عارف شمس بتثق في كلامي أد ايه؟

اسلام بسخط: - عارفك. واطي وتعملها!
عصام بسخرية: - طالع لاخويا الكبير. هو اي نعم اللي بيننا خمس دقايق بس انت الكبير بردو يا. كبير!

وأنهى المكالمة وسط شتائم نابية من اسلام وضحكات ساخرة منه، لتحين منه نظرة الى الاعلى حيث معذبته مع صديقتها ويهمس صوت من اعماقه أنها قد هانت كثيرا، فقد مر الكثير ولم يبق إلا أقل القليل!

كشف وجهها ليهمس بانبهار: - بسم الله ماشاء الله
. قال والدها بابتسامة: - خلِّي بالك منها يا حمزة.
حمزة دون ان تطرف عينه للحظة بعيدا عن فاتنته: - في قلبي قبل عيني يا عمي!

لتتمنى نجوان لو ان الارض تنشق وتبتلعها وهو يقوم بما جعلها تكاد تبكي من فرط خجلها اذ مال على جبهتها يقبلها بعمق وكأن شفتاه قد التصقتا بجبينها لتهمس ب ارجوك مختنقة ليعي انهما يقفان امام الناس ووالدها بجوارهما، فرحمها من هذا الحرج وتأبط ذراعها بينما عيناه ترسلان اليها الوعود التي لم تشأ التفكير في معانيها حاليا فيكفيها ما تعانيه من حرج بالغ بينما ما فعله أمام الجميع كاد يوقف قلبها بعد أن حبس أنفاسها!

ينظر اليها وهي تجلس بجواره في الجلسة المخصصة للعروسين وهو لا يزال في ذهول من أن تلك الفتنة المتحركة على قدمين قد أصبحت عروسه هو! ترى. أين كانت تخفي هذا الجمال كله بعيدا عنه؟ هو يعرفها منذ نعومة أظفارها، بل هو معلمها الأول والأوحد، لم تخفى عنه شاردة أو واردة طوال سنون حياتها بدءا من طفولتها وحتى دخولها الجامعة، حتى آنئذ كان يراها باستمرار وتحكي له كل شيء تمر به وهو. يسمع وينصح ويتلظى بنار محرقة، وهو يسمعها تشرح كيف أن زميلها ذاك يحاول التقرب منها وكيف أن معيدها ذلك يحاول لفت انتباهها وهي غافلة عما يجيش في صدره مما أسماه وقتها أنه خوف على من هي في مكانة شقيقته الصغرى، ولكن. هل غيرته على فدوى أخته تدفعه بالرغبة في القتل عندما وقعت عيناه على ذلك البائس الذي رآه يوم ذهب اليها ليقلها من الجامعة فكان أن قدّمته اليه بأنه معيد لديها في القسم، ليعلم أنه هو ذلك المعجب الولهان الذي أخبرته عنه! يومها كاد يطحن أصابعه وهو يسلم عليه، وما أن توارت عن أنظارهما حتى همس له محذرا أن يبتعد عن ابنة عمه نهائيا، فهي ليست إلا طالبة لديه وفقط!

ابتسم وهو يراها تنظر أمامها حيث يتراقص صديقاتها بينما هي فتلتزم بمكانها بناءا على أوامره المشددة فلم يكن ليجعلها تتحرك من مكانها قيد أنملة خاصة وهذا الفستان الذي يجعلها كحورية من حوريات الاساطير أو أميرة من الخيال!

انتبه من شروده على صوت ضحكتها ليحيد بنظره حيث تسلط عيناها فيرى عصام خطيب صديقتها وهو يمسك بيد نزار والد ريما بيد وبالاخرى ريما بينما يتقدمه اسلام يمسك بيد. مأذون! ولكن ما أدهشه ليس بالمأذون بقدر الطريقة التي يمسكه بها اسلام فقد بدا كم يقبض على متهم يخشى فراره!

مال حمزة على أذن نجوان التي افترشت وجهها ابتسامة واسعة وهمس متسائلا: - هو فيه ايه صحيح؟ مش دا عصام ودي صاحبتك ووالدها؟
نجوان وهي تضحك حتى أدمعت عيناها: - أيوة. المجنون نفذ كلامه ليها!
لم يرقه ما لمسه من انبهار بذلك المجنون في كلامها ليقول بغلظة: - مجنون! كلام ايه دا ان شاء الله اللي خلّاه مجنون وخلّاكي انت منبهرة أوي كدا!

قطبت نجوان وهي تستبعد احساسها حيث لمست الغيرة في صوته، وقالت بابتسامة أضاءت وجهها المرسوم زينته باتقان يكاد يفقده صوابه:
- أبدا. كل الحكاية أنه عاوز يحدد معاد الفرح وهي كل شوية تتهرب وشكله كدا حب يحطها أمام الامر الواقع ويكتب الكتاب!

قطع حديثهما الهامس صوت عصام وهو يمسك مكبر الصوت من مطرب الحفل ويقول وهو ينظر الى العروسين:
- الاول طبعا مبروك للعرسان، تاني حاجة أنا بعتذر يا حمزة انت ونجوان، لكن مش هلاقي أكتر من كدا مناسبة سعيدة لخطيبتي عشان أخلي عندها الفرح فرحين. فرح صديقة عمرها وأنتيمتها نجوان. وكتب كتابها. أنا وهي. دا بعد اذنك طبعا يا عريس!

وحالا ارتفعت أصوات التصفيق والتهليل والصافرات، بينما تقدم اثنان من موظفين صالة الافراح ليضعا طاولة وحولها عدد من الكراسي، قبل ان يجلس المأذون وهو يهز برأسه يسارا ويمينا فقد تم خطفه حرفيا من وسط أولاده وهو لم يكد يجلس ليتناول طعام العشاء بعد عودته من ثلاث زيجات ليخبره خاطفه أن يجعلهم أربعة بدلا من يطلّق هو زوجته والسبب عريس مجنون!

جلس نزار أمام عصام وبجواره ريما التي كانت كالمذهولة تماما، بينما تمتم نزار بابتسامة في مصدقة:
- انا مش مصدق، يعني احنا دلوقتي معزومين على فرح نقوم نكتب على حساب صحاب الفرح؟!
عصام بابتسامة واسعة: - نعمل ايه يا عمي، حكم القوي! ما صدقت وافقت وانت عارف بنتك اكتر مني ممكن لو استنيت لبكرة الصبح تكون غيرت رأيها. وأنا ما صدقت بصراحة!

شرع المأذون في اجراءات عقد القرآن وكانت عصام يردد خلفه في زهو وفرحة، بينما ريما فكانت كالمغيبة تماما وهي تضع بصمتها واسمها في خانة الزوجة بينما ذهنها يصرخ بصدمة:
- عملها المجنون! اتجوزني خطف!
ما ان انتهى عقد القرآن حتى تعالت الزغاريد وسريعا تم تنظيم جلسة أخرى لهما بجانب عروسي الليلة لتجلس ريما على مقعدها بجوار نجوان والتي مالت عليها تقبض على كفها هامسة:.

- مبروووك حبيبة قلبي الف مبروك، فاكرة لما كنت بقولك نفسي انا وانتي نتجوز في يوم واحد؟!
ريما بدون تعبير: - أهو المجنون عملها!
نجوان بتقطيبة: - مالك يا ريما؟ ايديكي متلجة!
ريما ببساطة: - لا دا من المفاجأة مش أكتر، بس عارفة عزائي الوحيد ايه؟
طالعتها نجوان باستفهام لتردف ريما بتشف وهي ترمق عصام الذي انخرط في حديث جانبي مع شقيقه:
- رد فعل خالو أدهم وطنط تاج. أنا متأكد أنه خالو مش هيسيب فيه حتة سليمة!

انطلقت ضحكة نجوان ناعمة رقراقة ليميل عليها حمزة هامسا: - وطي صوتك بدل ما يبقى المجنون اتنين وآخدك حالا دلوقتي ونمشي ونسيب المعازيم يكملوا هما الفرح بنفسهم!

نجوان ببلا مبالاة أدهشته: - اممم. عمرو وسلمى موجودين على فكرة. وأنا مصممة أحتفل بكل دقيقة من فرحي مع أختي وصاحبتي!
حمزة بايماءة رأس: - امممم. بقه كدا؟ تمام يا نوجة. أحب بس أفكرك أنه عمرو وسلمى مش هيطولوا عشان عندهم معاد طيارة عاوزين يلحقوها!
نجوان بتقطيبة قلق: - يعني ايه؟

حمزة برفعة حاجب وسخرية: - يعني كلها نص ساعه وهتلاقيهم استأذنوا وقاموا، ووقتها بقه محدش هيلومني. ما أنا مش هقدر أكمل الفرح من غير أخويا والمجنون اللي جنبنا دا ما هيصدق عشان يستفرد بخطيبته!

ليشحب وجه نجوان وهي تتساءل هل سينفذ تهديده؟ وأن حصل ماذا سيفعل معها؟ . لتنفض هذه الافكار من رأسها قائلة لا لا لا. أنه حمزة. من المؤكد أنه لن يصدر منه ما يعيب!

وقفت أمام باب جناح العرائس تنتظر حتى يفتح الباب بالبطاقة الممغنطة، وما أن همت بالدخول حتى فاجئها بحملها بين ذراعيه وهو يقول بهمس خشن:
- الأصول بتقول أنك تدخلي كدا. يا عروسة!
ودلف بها مغلقا الباب بركلة من قدمه، لينزلها في منتصف الجناح، فوقفت لا تعرف الى أين تتجه، فاشار لها قائلا بصوت شكّت أنها سمعت رنة ارتباك به:
- ادخلي غيري في الاودة جوة. وأنا هستخدم الحمام اللي في صالة الجناح هنا.

أومأت برأسها وكأنها سجين قد أُطلق سراحه إذ سرعان ما غابت عن ناظريه، ليزفر بتعب ويلحق بها، وما أن همّت باغلاق الباب حتى فوجئت به أمامها يخبرها بصوت خشن أنه سيأخذ ثيابه، والتي سرعان ما تناولها وخرج لتغلق الباب خلفه، وهي تزفر براحة فيما تنهد هو خارجا بعمق وحدسه يخبره أنها ستكون ليلىة ليلااااء!

أنهت نجوان اغتسالها وارتدت فستان النوم الذي شتمت ولعنت ريما في داخلها، فهي قد حزمت حقائبها حيث أنها ستسافر مع حمزة بالغد الى الغردقة لقضاء أسبوع هناك، وتركت لها منامة هي أبعد ما تكون عن الثياب عموما. بل هي لا لزوم لها، فجلوسها بدون ثياب أهون عليها من ارتدائها!

كان ثوب النوم ابيض اللون من الشيفون الناعم الذي يظهر ما تحته وبسخاء واضح، مطرز بورورد ربيعية بارزة على قبته الدائرية التي تظهر عظمتي الترقوة، فيما كتفيها فهما عاريتان، وما ان وضعت المئزر فوقها حتى وجدته لا يكاد يغطي شيئا فهو يماثل الثوب ذاته، لتزفر بتعب ثم ترتدي اسدال الصلاة وهي تقرر أنها ستخبره بتعبها وأنها تريد النوم وفي الغد لن يراها الا وهي مرتدية كامل ثيابها استعداد للسفر!

أنهت نجوان ارتداء ثيابها لتسمع صوت حمزة وهو يناديها يكلب منها موافاته ليصليا ركعتي سنة الزفاف.

وقفت خلفه نجوان تستمع الى صوته العذب الذي يتلو آيات الله بكل خشوع، لتشعر بدموعها وهي تسيل في صمت على وجنتيها بينما راحة نفسية تغمرها، وما أن سلم حتى وضع يده على جبهتها يقرأ دعاء الزفاف اللهم أني أسألك خيرها وخير ما جبلت عليه وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه، وأنهى الدعاء بالصلاة والسلام على رسول الله عليه الصلاة والسلام.

نظر الى وجهها حيث بقايا دموعها وقال بتقطيبة: - انت بتعيطي يا نجوان؟
نجوان بابتسامة رقيقة: - لا أبدا يا حمزة، انت بس صوتك ماشاء الله عليه اللي خلاني أحس براحة وجسمي قشعر لدرجة اني لاقيت دموعي مرة واحدة بتنزل.

مد يده يمسح براحتها دموعها وهو يقول: - دي دموع الخشوع يا نوجتي، أوعدك أني عمري ما هكون السبب في دموع حزن تنزل من عينيك أبدا!

ابتسامة لونت ثغرها جعلته يكتم آهة عميقة، بينما نهضت هي قائلة: - طيب عاوز حاجة قبل ما أنام؟
نهض حمزة بدوره وهو يقول بينما شعور بخيبة الامل يكتنفه: - هتنامي؟!
أومأت نجوان برأسها وهي تتهرب من عينيه: - آه. اليوم انهرده كان طويل وأنا تعبانة.
حمزة بلهفة لم يداريها: - مش هتاكلي؟
هزة نفي بسيطة من رأسها قالت بعدها بابتسامة خفيفة: - ماليش نفس. عن اذنك.

ليوقفها ندائه باسمها، فوقفت في مكانها ليقترب منها ويقف بجوارها ويميل عليها هامسا:
- نجوان اوعي تحسي ولو بثانية بالخوف مني، أنا حمزة يا نوجة. صاحبك وأستاذك، اوعي تنسي دا!

ليشرق وجهها وكأنه بكلماته البسيطة تلك قد أخمد مخاوفها لتلتفت اليه بابتسامة مشرقة قائلة:
- وأنا عمري ما أخاف منك أبدا يا. زومة!
فعلم أنه قد أصاب بكلامه هذا، لتفاجئه بعدها ولعلها فاجئت نفسها قبله بأن ارتفعت على رؤوس أصابعها تطبع قبلة رقيقة خاطفة على وجنته المكسوة بلحية مشذبة كانت كرفرفة جناح فراشة وقالت بعدها وهي تسدل عينيها في خفر:
- ميرسي أوي يا حمزة، تصبح على خير!

واختفت في لحظات ليقف هو مراقبا طيفها الغارب وهو يهمس بيأس يكاد يعض أنامله غيظا وحسرة:
- ميرسي وزومة!، قابل بقه يا زومة باشا، وريني هيجي لك نوم ازاي بعد الليلة دي؟، صبرني يااااااارب!

نظر أدهم الى هشام مقطبا ليقول وهو يحاول استيعاب ما سمعه: - انت قصدك أني أسهله الشغل معنا؟

أومأ هشام بالايجاب قائلا: - تمام. هو هيستغل اسم المجموعة عندك وسمعتها أنه يدخل شحنة السلاح دي، المفروض أنه ورق الصفقة كلها باسمك، وهو هينفذ عن طريق شركة الشحن التابعة ليه واللي هتستورد المنتج ليك، وهو اللي هيخلص ورق المينا والافراج عن البضاعة، البضاعة باسمك أنت او باسم الشركة، ودا اللي هو عاوزه، حد اسمه ثقة في حد ذاته، التفتيش طبعا مش هيكون زي ما يكون هو مستوردها لنفسه، وكلنا عارفين سمعته شكلها ايه في السوق.

أدهم بغير فهم: - بس فيه حاجة غريبة؟ هو على علاقة وطيدة بفضل الرازي، ليه ما يستغلش الاسم دا في الصفقة دي؟ بيتهيالي أنها مش هتبقى أول مرة؟

هشام بابتسامة: - طبعا مش أول مرة، اللي زي رياض ذهني دا بيهمه أوي يجمع حواليه رجال الاعمال والسياسة لانهم الاتنين مهمين جدا لشغله، فضل له دور وانت كمان ليك دور في لعبته دي، فضل دوره هيبتدي بعد ما انت تنهي دورك اللي انت طبعا المفروض انك متعرفش عنه حاجة!
أدهم ببرود: - امممم. يعني هو هيدخل السلاح عن طريقي ويصرفه عن طريق فضل الرازي!

هشام بهزة نفي بسيطة من رأسه: - فيه تعديل بسيط، هو فيه فعلا اللي هيشتري منه السلاح دا، فضل هيأمن وصول السلاح للي عاوزه...

أدهم بتقطيبة: - قصدك.
وسكت ليردف هشام ما جعل أدهم يشعر بالاشمئزاز والتقزز من ذاك ال رياض وال فضل: - داعش، سينا!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة