قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الثاني والعشرون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الثاني والعشرون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الثاني والعشرون

أوقف السيارة أمام فيلا عمته، ليترجل منها ويتجه الى المقعد المجاور يفتح بابه فترجلت وهي تزم شفتيها ولم يفارقها غضبها منه بعد، بينما تعتريها حالة من الذهول الساخط وهي تتذكر صلفه وغروره وهو يقتحم فعليا سيارة زوج شقيقتها يأمرها بمنتهى العنجهية الذكورية أن تترجل فهو من سيقلها الى منزلها. فمكانها ليس هنا بل مع. زوجها!

بالله عليه أي زوج؟! لقد ثقلت فاتورة حسابك أيها المتحذلق المغرور الفظ! ألا يكفي أنها قد تم عقد قرأنها فجأة ولم تستعد له كأي عروس؟ بل أن ارتباطهما من البداية وحتى اللحظة كل ما يحدث فيه ما هو إلا فجأة وبغتة!

كتمت زفرة ضيق عميقة فهي لن تشمته فيها، وترجلت رافعة رأسها بكل شموخ وإباء، مشيحة بنظرها بعيدا، رافضة أن تدع عينيها تقعان عليه، ولم تكن خطت خطوة واحدة بعيدة عنه إلا وشعرت بقبضة قوية تعتقل مرفقها يتبعها همس ساخر يخفي غضبا بدأ يحتدم به صدر صاحبه:.

- أنا مش السواق بتاع جنابك عشان تمشي رافعة راسك زي الطاووس من غير ما تبصي ناحيتي ولا تتكلمي كلمة واحدة، لو كنت نسيتي أنا. – ونطق كلمته التالية مشددا على كل حرف فيها وكأنه يستهجى الكلمات – ج و ز ك، لسه امضتنا (توقيعنا) حبره ما نشفش (لم يجف). يا، عروسة!

لم يكن عليه نطق كلمته الاخيرة هذه بتلك السخرية والصفاقة، إذ سرعان ما برقت عينيها كحجري زمرد نفيس تطلقان شعاعا يسرق أنفاس من يواجهه، والتفتت بسرعة وقوة تسببت في انفلات بعضا من خصلاتها السوداء الناعمة من تسريحتها لتتطاير حول وجهها الذي اعتلته ملامح شرسة جعلتها أشبه بفرس جامحة تأبى الانصياع لمروّضها، لتهمس بعدها بشراسة دون أن تنتبه الى الصمت الذي ساد محدثها وقد وقف يطالعها بانبهار سلب أنفاسه:.

- أحسن لك ما تفكرنيش بالمهزلة اللي حصلت انهرده دي، والافضل أني ما أسمعش منك كلمة عروسة تاني، لأني من أول ارتباطنا الفاشل دا لغاية اللحظة دي ما حستش لحظة اني عروسة. – سكتت تطالعه متابعة بابتسامة ساخرة وهي تفتح يديها – والفضل طبعا لحضرتك يا، عريس!

زفرة طويلة مختنقة كاد لهيبها يلسع وجهها القشدي لتجفل للحظة مبتعدة برأسها الى الخلف قبل ان يرميها بسهام نارية من فحم عينيه المشتعل ثم يميل نايحتها هامسا بعنف شرس من بين أسنانه المطبقة:
- وانتي الصادقة. السبب الحقيقي هو غبائك وعناد اللي فاق الوصف!
شهقت بصدمة وعينيها تتسعان في ذهول هاتفة بغير تصديق مشيرة الى نفسها: - أنا. غبية!
عصام مكررا بشراسة: - وستين غبية كمان!

شهرت سبابتها في وجهها تهتف بحنق: - عصام. أنا ما أسمحلكش!
ليسارع بالقبض على سبابتها بقوة كادت تطحن ذلك الاصبع الطري بين أنامله القوية وجذبها ناحيته وهو يهمس بغضب مكبوت:.

- عصام تعب من غباوتك فعلا! مين اللي كان بيرفض مرة بعد مرة مجرد التفكير في جوازنا؟ مين اللي فعلا أجبرني أني أحطه قودام الامر الواقع لما لاقيت انه سبب الرفض مجرد تعنت وغباء وعناد أهوج؟، من لحظة ارتباطنا اللي مش – وشدد على كلمته الاخيرة – فاشل وانت اللي بتضغطي عليا أني أحطك قودام الامر الواقع، لأني وعلى عكسك مش مستعد أضيّع يوم واحد تاني في غرور وعناد وعنجهية فارغة، كفاية اللي ضاع مننا، وعشان تكوني عارفة أنا هنتهز كل الفرص في سبيل انك تكوني ليّا أنا. مراتي. – وانخفض صوته وهو يتابع بنظرات دغدغت داخلها بشدة – حبيبتي، اللي مش هتفارق حضني طول عمري. كفاية أوي الفراق اللي اتحكم علينا في الاول، مش ناوي أمر بنفس الألم اللي مريت بيه لما عرفت أنك – ولدهشتها وجدته يصمت ليتابع بعدها بصعوبة بالغة – اتخطبت لواحد تاني. ماكنش مجرد ألم يا ريما. لأ، كان موت بالبطيء. بالظبط كأنك دبحتيني بسكينة باردة وسيبتيني أنزف، لا أنا مُت. ولا النزيف وقف!

طالعته بعينين مذهولتين، ليفترسها هو بنظرات ملتهبة، تنتقل بين زمردتيها الاثيرتين لديه وشفتيها اللتين يتوق وبشدة لقطف كرزهما، لتضعف قبضته لاصبعها الغض وتتحول الى لمسة ناعمة. خشنة! ويردف بصوت أجش هامس يحمل بين طياته رغبة محرقة في زرع تلك الفرسة الابية بين ذراعيه فلا يفصلهما حتى الهواء ذاته:.

- يوم ما وافقتي على ارتباطنا. النزيف قل، وانهرده بس. وانتي بتحطي اسمك جنب اسمي في القسيمة. النزيف وقف. تماما. كأنك بالظبط حطيتي ايدك على الجرح وقفتي الدم ورجع وكأنه عمره ما اتخدش. أنتي سحر يا. ساحرتي الفاتنة!

ذهول مطبق كسى وجهها، وشى به اتساع زمردتيها لتظهر بؤبؤتيها بوضوح، وقد ارتفعت أهدابها الطويلة الى الاعلى، فيما حبست أنفاسها وهي تتساءل تراها تحلم؟ هل هو عصام من يقف أمامها يحدثها بتلك اللهفة المحمومة والشوق الذي تفضحه نظراته؟ هل هي فعلا من ضمدت جرحا كان هو من صنعه بنفسه وفيها قبله؟! ، ما ان استعادت قدرتها الى الكلام حتى قطبت وهي تتلفت حولها ففي خضم ذهولها كان عصام قد سار بها حول المنزل، وتحديدا الى ذلك الجزء من الحديقة المظلم جدا والبعيد عن الاعين جدا. جدا!

رفعت عينيها له وهمّت بالاعتراض سخطا حينما فاجئها للمرة التي لا تعلم عددها هذه الليلة وهو يمسك بخصرها بين يديه لتشعر بحرارته وهي تتغلغل قماش فستانها الرقيق فتلسع بشرتها، ثم يزرع عينيه بين زمردتيها ويميل عليها هامسا بشوق فضحته عيناه وعضلات جسده المشدود أمامها توترا:
- وما كنت ممن يدخل العشق قلبه. ولكن من يبصر جفونك يعشق
أغرّك منى ان حبك قاتلى. وانك مهما تأمرى القلب يفعل. (الطيب المتنبي).

فهمست بانشداه تام همسة رقيقة حملت معها أنفاسها العطرة التي لفحت رائحتها أنفه فكانت كالمخدّر الذي صعد فورا الى رأسه ليتغلغل داخل خلايا مخّه فيسري مع دمائه داخله أوردته الى القلب ليندفع هادرا كمضخة عملاقة يطرق جنبات صدره بشدة أوجعته وهو يسمع همسها الرقيق المذهول المتسائل باسمه:
- عصام؟!

ونفذت طاقته! لم يعد لديه القدرة على المقاومة، فها هي معشوقته بين يديه أخيرا بعد طول عذاب، يحمل في جيبه صك ملكيته لها، فلن يستطيع أيّا كان سلبها منه، كما أن هذا الصك يعطيه الحق في أخذ ما منع نفسه عنه بصعوبة وكاد يفنى في سبيل ذلك، ليجد نفسه وهو يميل عليها يجيبها فعلا لا قولا على سؤالها الهامس باسمه، والذي خرج بدون وعي منها وكأنها تستغيث به، بينما عينيها فتطالعانه بغير تصديق وفرحة مستترة أن ما وصلها من معنى هو حقا ما يعنيه! ليثبت لها بأنفاسه الساخنة ويديه اللتان طفقتا تغرسان لحم خصرها بقوة قبل أن تصعدان بلهفة محمومة تحتوي كل انش في جسدها وكأنه يدمغها به، بينما شفتاه فقصة أخرى. كانا يعترفان لكرزتيها بأسمى آيات العشق والغرام، ليتركهما حتى تستطيعا التنفس ولكن ليس ليتنفس هو الآخر بل ليطبع قبلات نارية على صدغيها فجبينها ووجنتيها فيما يديه ارتفعتا ليغرس أنامله في خصلاتها ينزع دبابيس الشعر ليطلقه حول وجهها أهوجا ثائرا تماما كصاحبته، وبينما هي تهمس باسمه بصوت متداعي مترجي خافت كان هو يلتقط اسمه من بين شفتيها بتوق كبير وكأنها تدعوه للمزيد من عناقها العذب بمذاق الشهد ولذوعة العسل، ويغيب فيها وبها، في حلاوة رائحتها وعذب أنفاسها، حتى أفاق على صوت حشرجتها الناعمة، ليفاجئ بطعم ملوحة دافئة بين شفتيه، ففتح عينيه واسعا، ورفع رأسه بعيدا عن وجهها المتورّم من قبلاته هاتفا بصوت منخفض يحمل قلقا ولهفة ظاهرة:.

- ريما. حبيبتي. انتي بتعيّطي؟!
وهو يتلمس بأنامله دموعها يحيط وجهها براحتيه العريضتين، فنظرت اليه بسهام عينيها التي أصابت قلبه مباشرة فيتساءل ترى. كم مرة سأسقط صريع زمردتيك يا ابنة عمتي؟ . بينما همست هي ودموعها تركض على وجنتيها في صمت مسيلة زينة عينيها اللتان تطالعانه بتأنيب ولوم:
- بعيّط لأنك. غبي!

هتفت بكلمتها الاخيرة من قلب محترق وتابعت أمام تقطيبته المتسائلة ال متألمة: - غبي يا عصام. من الأول خالص وأنت غبي. وللأسف اللي دفع تمن غباءك دا معنا ناس مالهاش ذنب غير انهم، حبّوا. حتى لو كان الحب دا مريض، لكن منهم اللي دفع حياته تمن الحب دا – مشيرة الى زوجته القتيلة – ومنهم اللي دفع. عقله!

كانت يداه قد بدأتا بالتهاون في مسكتها لوجهها ولكن. ما أن سمع بتتمة عبارتها حتى اشتدت قبضته حتى ظنت أنه سيخلع رأسها من فوق كتفيها، قبل أن يقربها منه ناظرا بقوة الى بركتيها الخضراء هامسا بشرّ:.

- آخر مرة أسمح لك أنك تفكري مجرد تفكير في اللي فات، ولو على اللي حصل ومرينا بيه فمحدش دفع تمنه قدّي أنا! أنا اللي اتحرمت من حبيبتي واتكويت بالنار وهي بتوافق انه غيري يحط ايده في ايدها، وأنا اللي اتقتلت مراته وابنه في بطنها بدم بارد، وأنا اللي اتجلدت وأنا باخد بتارهم، ولما رجعت. اتجلدت بسياط عينيك كل مرة كنت بشوفك فيها، واتعذبت وانا بشوفك وانت بتهربي مني زي الفريسة اللي بتهرب من الصيّاد. مع كل خطوة كنت بتبعدي عني فيها كنت بتضغطي على الجرح أكتر يا بنت عمتي، وعشان كدا كان لازم أجبرك. أفاجئك. أعمل أي حاجة عشان أنقذ قلبي وأقفل جرحه اللي بينزف من سنين. ارتباطنا بالنسبة لي كان حياة أو موت. ولأن الانسان مش بيعيش الا مرة واحدة بس فاخترت أني أحاربك أنت شخصيا لو لزم الأمر في سبيل أني أفوز بالحياة. وأنتي يا ريما. حياتي اللي لا يمكن هفرّط فيها مهما كان. وهقف في وش أي حد يعرَّض الحياة دي للخطر حتى لو كان ال حد دا. انتِ شخصيا! َ.

لثوان وقفت ذاهلة قبل ان تجبه بصوت فيه لمحة مرارة امتزجت بالسخرية اوجعت قلبه: - مش متأخر احساسك دا يا ابن خالي؟

ولأنه لم يكن ليظهر تعاطفا معها حتى لا تتمادى في عنادها الاحمق وهي تغمض عينيها عن عمد على ما هو واضح كوضوح الشمس في كبد السماء، فالشرارات التي تنطلق من كل واحد منهما ما ان يتواجدا في مكان واحد كفيلة بجعل الأعمى يرى الحب المسطور على وجهيهما والذي يرسل اشعاعاته حوله بقوة ليضحى كالضوء المبهر يكاد يعمي من حوله من شدته، ولهذا فقد افتعل ابتسامة صغيرة وقال بهدوء وبرود ينافي الحمم البركانية التي تهدد بالانفجار في أي حظة:.

- أن تصل متأخرا خيرا من أن لا تصل يا بنة عمتي!
فتحت فمها وقد نوت أن تجلده بسياط لسانها اللاذع ولكن لم تتح لها الفرصة فقد ابتلع كلماتها الساخرة المسمومة بكل عنفوان وقوة، وهو يضمها اليه بحنان وحرص وكأنه يضم أثمن ما لديه في الوجود، بينما شفتاه فتعزفان لحن الخلود لثغرها الشهدي!

بعد وقت لا تعلم طال أم قصر ابتعد عنها، بينما أبت أن تفتح عينيها تشعر بالخزي من نفسها، ىفبالرغم من مقاومتها أول الأمر ولكنه استطاع التغلب عليها بسهولة، أو هي من منحته تلك الفرصة فسرعان ما غلبها قلبها الذي بدا وكأنه يهفو لحنانه الذي تاق اليه طويلا حتى كاد يجف من فرط شوقه لقطرة منه!

همس عصام بحب تجلى واضحا من بين مقلتيه: - ريما. افتحي عينيكِ.
ولكنها هزت رأسها بدون وعي منها في رفض قاطع، لترتسم ابتسامة رجولية زادت من وسامته المهلكة على وجهه الاسمر قبل ان يميل عليها هامسا في أذنها بعبث:
- فتحي عينيك أنا ماسك نفسي بالعافية، ما تخلنيش أتهوّر!
وكأنه نطق بكلمة سر فتح مغارة علي بابا إذ سرعان ما ارتفعت أهدابها الى الاعلى تطالعه حدقتيها المتسعتان في ذهول وهي تتساءل بدهشة:.

- تتهوّر! أكتر من كدا؟
لم تمنحه الفرصة للجواب إذ سرعان ما دفعته ليتركها بمنتهى السهولة فابتعادها حاليا أسلم لها وله فهو يشك في قدرته على الصمود حاليا أمامها، بينما لم تنتبه هي الى الصراع الدائر بداخله لتقف أمامه تردف بغير استيعاب:
- انت ما فيش آخر لتهوّرك دا؟
عصام وبكل واحدة خرجت قوية. صارمة. جادة. ترفقها نظرات مصممة. عازمة. حازمة: - أنتِ!

قطبت فواصل بجدية تامة: - أنت آخر تهوّري يا ريما، وعشان كدا كل ما نسرّع في جوازنا كل ما التهوّر دا. قل!

ريما بضحكة خفيفة غير مصدقة: - قلّ! يعني ما وقفش كمان؟!
عصام بحزم: - عمره ما هيوقف الا لما قلبي يوقف دقاته، لأنك خط أحمر بالنسبة لي، منطقة محظورة ممنوع لأي حد أنه يقرب منها أو يفكر مجرد تفكير فيها، لأنه وقتها التهوّر دا هيبقى انفجار. مش هيقدر يقف قصاده!

لم تعد تستطيع الاحتمال أكثر من هذا، فذلك اليوم بأحداثه كان كأنه سنة من عمر الزمان، ناهيك عن اعترافات عصام التي خرجت كالقذائف تدك حصون مقاومتها وبلا هوادة، ليستسلم قلبها الغبي الخائن لعينيه المشاغبتين. العابثتين. العاشقتين كما حلمت مرارا وتكرارا بهما في مراهقتها، ولكنها الآن لم تعد ريما ابنة السادسة عشر عاما، من اعترفت لنفسها بعشقها له، ليخرج هذا الاعتراف الى اسماعه هو ليلة سفره بعدها بسنتين. فيرفضه و. يلفظها! ويبتعد تاركا جرحا لا يندمل، ويعود بعدها، وبكل غرور يطالب باستعادتها. لترفض ويصر. وما بين محاولات فر وكر كانت الغلبة له. ولكنه مخطئ أن ظن أنه هو من فاز بل قلبها هي من أعطاه فرصة الفوز. فلدهشتها استطاع عصام برغبته بما فعله كي يرتبط بها - وان كان رغما عنها كما يظن هو – أن يشفي جرح قلبها، فكان اصراره عليها بمثابة تربيتة على ذلك الفؤاد الذي أضناه عشقا كان بمثابة لعنة أبدية لها، فهي لم تستطع النسيان يوما أو الهروب! ولكنها لن تشفى تماما قبل أن تذيقه لوعة ذلك العشق وعذابه، وأن كان قبلا قد ظن أن خبر ارتباطها بآخر كان عذابا بالنسبة له، فليتحضر لما هو آت. فلا يوجد أقسى على قلب عاشق من أن يقسو عليه معشوقه. مقابلا لهفته وشوقه بكل برود وهدوء! ووقتها فقط. ستكون قد شفت غليلها كاملا من معشوقها الغبي، لتغرقه بعدها في بحور عشقها حتى يقسم أن ما فات من عمره لم يكن سوى حياة زائفة، بينما أيامه الحقيقية قد بدأت بين ذراعيها هي. وهو يتنشق أنفاسها التي تحييه!

همست ريما بتعب لم تدعيه وهي تمسّد صدغيها: - عصام أرجوك، أنا فعلا تعبانة. ممكن نأجل أي كلام دلوقتي؟ انهارده كان طويل لدرجة انه جِه عليا وقت قلت أنه مش هيخلص!

عصام بتنهيدة عميقة: - حاضر يا ريما. أنا هسيبك بس عشان فعلا شكلك تعبان، مع أنه لو عليّا آخدك في ايدي وأنا خارج وما أسيبكيش لحظة واحدة بعيد عني!

نظرت اليه باستنكار وقالت بحنق: - تاخدني في ايدك؟ ليه كنت شنطة ولا حاجة من حاجاتك؟!
عصام ببساطة: - عندك حق. أنت فعلا حاجة من حاجاتي. لا. انتي أغلى حاجة. أنتي مراتي، ملكي. وأنا ما اتعودتش أني أسيب حاجتي عند حد مهما كان. شوفتي بقه أنا بضغط على نفسي عشانك ازاي؟

للحظة شعرت أن رأسها سينفجر غيظا من عنجهية هذا المغرور لتشد على أسنانها وتهمس من بين شفتيها بحدة مكبوتة:
- لو سمحت. ممكن تخفف شوية من غرورك الفظيع دا لأني حاسة أني ضغطي وصل لأعلى درجاته حاليا. دا غير أني لازم أدخل دلوقتي أكيد بابا وماما مستغربين أني أتأخرت خصوصا واحنا خارجين معهم بعد ما شدتني من عربية مراد بالطريقة الهمجية دي!

قطب عصام ونظر اليها عنف استغربته لتنجلي حيرتها عن سببه ما ان نطق بعنف مكبوت قائلا:
- صحيح فكرتيني. انتي ازاي تسمحي لنفسك يا هانم انك تاخدي في وشّك وتمشي وأنا بكلمك، ومش بس كدا لا. انت ركبتي مع اختك ولا كأني استأذنت من عمي نزار قودامك أني أروّحك، وبعدين. من امتى مراد بقه (أصبح). ميرو؟!

كتمت ريما ابتسامة كادت تفضحها وتذكرت وجهه وقت أن أخبرته بكل غرور أنثوي وهو يقف فاتحا بابها يأمرها بالترجل بأنها ستذهب مع. ميرو. لتعتلي الدهشة وجهه ليس وحده بل و. ميرو أيضا، فشقيقة زوجته لا تدعوه إلا بلقب أبيه. احتراما له، ليكون مراد أول من أفاق من ذهوله وقد فهم المغزى من قولها ليسايرها قائلا بابتسامة عابثة:
- وماله يا عصام. روما تركب مع اللي تشاور عليه، وطالما قالت ميرو. يبقى ميرو!

أقسم مراد وقتها أنه لو لم يكن ابن عمه وبمثابة شقيق له لكان عصام أرداه قتيلا في التو واللحظة وهو يكرر تدليلها له بل ويقابلها بمثله وهو يدللها ب روما! لتنتفخ أوداج هصام غيظا ويقول بشراسة مكتومة:
- وهي من امتى وهي روما ان شاء الله؟
مراد ببساطة: - من زمان يا عصام انت اللي فاتك حاجات كتير!

فقد فهم مراد. وأعطاها المبرر. وقرر مساندتها، فتلك الصغيرة تستحق أن يتعذب ابن عمه لأجلها ولو قليلا! وكانت همس من كسرت تحدّ النظرات بينهما عندما تدخلت برقتها قائلة بابتسامة:
- معلهش يا عصام ما تضايقش، انت عارف مراد بيعتبر ريما أخته الصغيرة، عموما حقك طالما بابا وافق انها تروّح معاك.

ابتسم عصام ابتسامة شريرة وقال بينما ترجلت ريما وقد أسقط في يدها ليسارع بالقبض على مرفقها وكأنها ستهرب منه:
- عشان خاطرك مش هزعل منه يا. هموس!
وانصرف تاركا مراد وهو يهتف يناديه بسخط: - هموس! خُد هنا!
التفت اليه عصام وأجابه برفعة حاجب وبغرور من فوق كتفه: - انت نسيت ولا إيه يا ميرو؟ أنا وهموس طول عمرنا أصحاب وأقرب اتنين لبعض. تحب أفكرك؟!

ليستدير بعدها متابعا طريقه تاركا مراد خلفه يرغي ويزبد بينما همس انطلقت ضحكاتها رقيقة ناعمة لينظر اليها قائلا بحنق وغيظ:
- ايه؟ عجبك أوي هموس؟!
همس وهي ترفع كتفها بغرور: - اممم بصراحة آه. أحلى من ميرو على الاقل!
عادت ريما من شرودها على مناداة عصام لها لتنظر اليه ببراءة مزيفة قائلة ببساطة: - مش ذنبي أنه حاجات كتير فاتتك زي ما مراد قال.
قاطعها قائلا بتحد: - وأنا ناوي أعوّض كل اللي فاتني. كلّه!

قطبت بريبة بينما ابتسم هو في زهو قبل ان يميل عليها يلثم ثغرها في قبلة سريعة قال بعدها بأمر:
- اطلعي دلوقتي نامي وارتاحي. لأنه بكرة عندنا يوم طويل!
تساءلت بحيرة: - يوم طويل! ليه؟ بكرة يوم شغل عادي!

فرمى براسه الى الخلف مطلقا ضحكة رجولية عميقة رسمت ابتسامة شاردة على شفتيها النديتين وهي ترى وسامته الملحوظة والتي زادتها ضحكته بهاءا، ليقبض على نظرتها تلك بعينيه، فتهدأ ضحكاته قليلا وتلمع دخانيتيه برغبة محرقة ليمد يده وينهل من براءتها وسحرها المفتون بهما، قال بعدها بصوت منخفض متحشرج:.

- هتعرفي بكرة ان شاء الله هو طويل ليه، أما بالنسبة أنه هيبقى يوم عادي. فهو بالتأكيد مش هيكون عادي. أبدا، وبكرة تتأكدي من كلامي!

همّت بمجادلته ليقاطعها واضعا أنامله على شفتيها الطريتين مردفا بهمس خشن: - من مصلحتك أنك تمشي حالا. لأنك لو اتأخرت كمان دقيقة واحدة أنا ما أضمنش نفسي وقتها، لأني احتمال كبير جدا ساعتها أغير كلامي وأخدك في ايدي فعلا وأنا خارج!

فارتبكت ريما قليلا من قوة نظراته المظلمة، لتهمس وهي تحاول الابتعاد: - مالوش لزوم التهديد. أنا كنت ماشية لأني تعبانه فعلا!
ليفاجئها بالقبض على يدها وقبل ان تخرج شهقتها حيز شفتيها كان قد ابتلعها في جوفه وكا أنقض عليها سريعا أطلق سراحها بذات السرعة ليهمس لها بتوق قاتل وأنفاس لاهثة:
- مش ممكن تكوني تعبانة أكتر مني!

لتضطرب وتبتعد عنه ووجهها قد تخضب احمرارا خجلا و. سخطا من تماديه، وهمست بنزق قبل ان تختفي من أمامه:
- وقح!
وركضت بعيدا عنه في حين وقف هو يلاحقها بنظرات متلهفة مطلقا تنهيدة حارة همس بعدها بابتسامة شيطانية:
- لسه ما شوفتيش وقاحة يا بنت عمتي. وبحلم باللحظة اللي همارس فيها وقاحتي معاكي وبكل. قلة أدب!

فتحت الباب ليطالعها بوقفته المعتادة وهو يميل على أطار الباب الخشبي، ليقول بابتسامة هادئة:
- ازيك يا تسنيم؟ أخيرا شوفتك!
دلفت ليلج خلفها مغلقا الباب ورائه وهو مقطبا في حين أجابته بهدوء: - الحمد لله، ثواني أنادي ستّي.
ومرت بجواره ليقبض على رسغها يطالعها بتقطيبة حائرة وهو يتساءل: - فيه ايه يا تسنيم؟ أنتي بئالك أكتر من أسبوع وأنت متغيرة معايا؟!
ليردف بتصميم آمرا: - أقدر أعرف السبب؟!

نظرت اليه تسنيم في سكون للحظات قالت بعدها بدون تعبير: - يهمّك أوي صحيح أني أكون متغيرة أو لأ؟!
قطب وأجاب بغير فهم ونفاذ صبر: - نعم؟ كلامك دلوقتي فيه حد ذاته فيه استفهام مش مريحني؟ انتي عارفة أني بهتم بأي حاجة تخصك لأن.

قاطعته وهي تسحب معصمها من يده بقوة قائلة ببرود بينما ترسلان عينيها اليه نظرات عتاب ولوم لا يدري لما شعر حينها بنغزة عميقة في صدره:
- لأني مسئوليتك، واجبك، وانت ما اتعودتش تهرب من الواجب دا. صح؟
هدر فيها بغضب وهو يطالعها بجنون فصبره عادة ضئيل جدا وهي قد استفذت هذا النذر اليسير منه:.

- انتي فيكي ايه عاوز أفهم أنا؟ هو ايه اللي صح؟! انك مسئولة مني! أظن أنه مش من انهرده يا تسنيم، من يوم ما رجلك خطت مصر وعشتي معنا وانت مسؤوليتي أنا. كل حاجة ليكي أنا اللي ليا الكلمة الاولى والاخيرة فيها، مش لحد تاني!
تسنيم بجمود: - ولا حتى أنا؟!
فواز بانفعال قوي: - ولا حتى أنتي!

لتهتف تسنيم بحدة مشيحة بيدها في وجهه: - يبقى حضرتك غلطان يا فواز بيه! مش معنى أني بشورك في كل حاجة تبقى أنت الآمر الناهي فيها. لأ! حياتي أنا ما تخصش حد غيري أنا، وأي قرار يخصها أنا بس اللي ليا الحق فيه. مش أي حد تاني مهما كان صفته!

طالعها بنظرات حائرة مجنونة، ما الذي تسبب في انفجار تلك الصغيرة الحمقاء بهذا الشكل؟ لقد أتى اليوم مبكرا خصيصا ليراها لأنه وللغرابة شعر. بالشوق لها! منذ وعكته الصحية التي داهمته وبعد أن اهتمت به كما الأم التي ترعى أطفالها وحتى استقرار حالته وبدء انحسار اعراض الانفلونزا التي أصابته وهو لم يرها. ليفاجأ بافتقاده لها، فقد كانت تدور من حوله. تطعمه رغما عنه، تصر على تناوله الدواء في موعده وبينما كان هو يرفض كالاطفال فدواء السعال لاذعا كالعلقم كانت هي تنهره تماما كمن يوبّخ طفلا مشاغبا كي يتناول الدواء!

لا ينكر أنه كان يتعمد كثيرا معاندتها، ليكتشف أنه يحب رؤية حنقها الواضح منه وسماع همهماتها الغاضبة التي تدمدم بها سخطا وحنقا من أفعاله البعيدة كل البعد عمّن هم في مثل سنّه!

لا يزال يذكر ذلك الصباح الذي استيقظ فيه ليفاجأ بجدته وهي تجلس الى جواره لتخبره بأن تسنيم قد أحضرت الطبيب الذي وصف له العلاج فتركتها برفقته بينما ذهبت هي لشرائه، وقتها لا يدري لما شعر بأن هناك أنفاس ناعمة قد خالطت أنفاسه، يذكر أن هناك طعما حلوا كالسكر قد استيقظ وهو يستشعر مذاقه بين شفتيه، وبعد برهة وما أن أتت تلك العنيدة حتى داهمه شعور لا يعلم صحته بأنها هي كانت مصدر ذلك. السكر! لينفض أفكاره بعدها وقد غزا ذلك الى الحمى التي أصابته فأكيد أن ذلك لم يكن سوى. خزعبلاتها!

واليوم وتحديدا بعد أسبوع من تمام شفائه، وبعد أن شعر أنها تتهرب منه عمدا، أراد مفاجئتها قبل ذهابها الى جامعتها حيث بدأت السنة الدراسية الجديدة، وليكن صادقا لم يكن ذلك هو السبب الوحيد بل هناك آخر جعله لم يذق للنوم طعما وما أن أشرقت الشمش حتى أسرع بالصعود اليها علّه برؤيتها ينسى ما كان من أمر الأمس فرؤية عينيها اللتان تتألقان بالنظر اليه تُشعره بأن هناك من يهمه أمره حقا. ترى ماذا ستقول أن علمت أنه يتمنى المرض ثانية ليرى لهفتها وقلقها عليه والذي ضنّت بهما بعد أن زال البأس عنه؟!

زفر بضيق لا يعلم أين الخطأ؟ فصغيرته ومنذ أن طالعته أمام الباب ترميه بسهام من نار من عسليتيها، ليحاول التحكم بأعصابه ويقول بهدوء هو أبعد ما يكون عنه في تلك اللحظة:.

- تسنيم. أنا مش هكرر كلامي كتير، أنت الاول كنت مسئولة مني، ودلوقتي وبعد ما أصبحتِ مراتي شرعا مسئوليتك مابقاش (لم يعد) فيها نقاش! فياريت موضوع حرية المرأة والكلام دا تسيبك منه، لأنه برضاكي، أو غصب عنك اللي أنا شايفه بس هو اللي هيتنفذ!

تسنيم بذهول غاضب: - بس دي حياتي أنا. ملكي أنا!
ليهدر بقوة أعنف مستعيرا كلمتها: - وأنت نفسك ملكي أنا!
تسنيم بصدمة: - يعني ايه؟ أنا ماليش رأي؟
زفر فواز بضيق قبل ان يقول ببرود: - لا. للأسف مالكيش!

فغامت عيناها بدموع محبوسة أبت اراقتها أمامه لتفلت منه شتيمة نابية بصوت هامس غاضب، يكاد يجن؟ ما الذي أصابها؟ يشعر أنها تريد الشجار معه ومعاندته بدون مبرر؟! ترى ما الذي حدث وجعلها غاضبة على هذا النحو القوي؟!

نطق سؤاله الصامت قائلا بأمر: - فيه إيه يا تسنيم؟ ايه اللي حصل بالظبط؟!

لترمش بأهدابها متفاجئة من سرعة تغيره، فمنذ لحظة أو أقل كان كبركان هائج يقذف حممه المحرقة في كل مكان، بينما الآن يتحدث ببرود صقيعي، يأمرها بمنتهى الصلف والغرور يريد معرفة ما بها؟! تراه سيذهل أن علم أنها قد اكتفت؟! نعم اكتفت بل وفاض بها أيضا! منذ ذلك اليوم الذي اقتحم فيه عذرية شفتيها في قبلة ذهبت بالبقية الباقية من عقلها وملّكته المتبقي من قلبها بل وجميع حواسها وهي قد عاهدت نفسها أنها لن تكل أو تمل حتى تفوز بقلبه، لتحتل عليه جميع حواسه، وبدأت في صبيحة اليوم التالي، تهتم به وتراعيه ولكن دون أن تنفر به، فهي لا تنفك تتذكر تلك القبلة وكأنها قبلة الحياة بالنسبة لها، فيما نساها هو فلم تكن أكثر من هلوسات حرارته العالية!

لن يستطيع تخيّل كم ضغطت على نفسها حتى لا تفضح عيناها وهي تنظر اليه، ألم يقولوا قديما أن. الصبُّ تفضحه عيونه؟ فحاولت تمالك نفسها، وهي تمنيها بأنه قريب جدا سينظر اليها وكأنها أثمن ما لديه في الوجود، ولكن. بالامس فقط علمت أن أمنيتها تلك لم تكن إلا أضغاث أحلام، فقلبه لم ولن يدخله سواها. تلك الافعى الرقطاء، حتى بعد سجنها لا تزال تشغل باله، والدليل أنها ما أن أرسلت اليه حتى هرع من فوره لرؤيتها، تماما كالحبيب الذي يركض لهفة وشوقا لحبيبه!

لن تنسى تلك الدقائق أبدا، وكانت تهمّ بالدخول الى جدتها عندما سمعت اسم تلك الحقيرة عرضا. بصوت حبيبها هو! يخبر جدته بكل هدوء أنه قد ذهب لرؤيتها بناءا على طلبها! حينها كادت ساقاها تتهاويان أسفلها ولكنها تماسكت بصعوبة ثم ابتعدت سريعا في خطوات مترنحة قبل أن يكتشفا وقوفها، فعندها هي أكيدة أنه سيلقي عليها درسا في الأخلاق الحميدة لتصنتها اللا ارادي. ومهما قالت لن يصدقها، فهي كما سبق وقالها بل ويكررها كلما سنحت الفرصة. أنها مسئوليته التي ألقيت على عاتقه وليس هو من يتهرب من تحمل المسئولية!

عادت من شرودها على ندائه الخشن لها لتطالعه بنظرات غامضة أربكته، قالت بعدها ببرود:
- ما فيش حاجة، أنا بس مش عاوزاك تشيل همي أكتر من كدا، عاوزاك تطمن أني أقدر أشيل مسئولية نفسي كويس أوي!

قطب وقال بريبة وهو يدنو منها حتى وقف أمامها ومال عليها: - معنى ايه الكلام دا؟
تسنيم وهي تهرب بعينيها من نظراته الثاقبة: - أبدا. بطمنك بس عشان ضميرك يرتاح، ووقت ما تحب ترفع ايدك عني ما تقلقش. أنا يمكن سني صغير لكن اليُتم واللي أنا مريت بيه حاط لي عمر فوق عمري!

لم يستطع وقتها فواز سوى النظر اليها وهو يشعر بنوع من تأنيب الضمير بالنسبة لها! فتلك الصغيرة يتيمة. تناقلتها بيوت الاقارب حتى استقر بها المقام مع جدتها والتي فارقت الحياة فجأة، ولكن. لتنتقل الى عهدة جدته هو بعد أن استأمنتها جدتها على ذلك، لتنتقل الى حياة أخرى ببلد آخر وأناس آخرون، تتقاذفها الهواجس والظنون هل سيحسنون معاملتها؟ هي لم يسبق لها رؤية جدته إلا مرة أو اثنتان أثناء ذهابها لتأدية واجب عزاء أو مباركة عرس في بلدتهم.

لن ينسى لقائهما الاول، عندما عرّفته الجدة عليها قائلة بابتسامتها الطيبة أن تلك هي تسنيم التي ستكون النسمة الرقيقة في ذلك البيت الفارغ، وصدق حدسها! يومهالا رفعت عينيها العسليتان تطالعانه ببراءة طفلة بينما وجهها فيشي بفاتنة قادمة لا محالة!

ومع تعاقب الايام كانت تسنيم تغرس قدميها في حياة جدته، ولكن. ليست جدته وحدها بل وحياته أيضا وهذا ما اكتشفه مع أول اهانة متعمدة من سماح لها، يومها تصدى لها مدافعا عن تلك النسمة الرقيقة، لتخبره سماح بعدها بعيدا عن أسماع تلك الصغيرة بأنها تغار منها!

يومها ضحك ساخرا ينعتها بالنفاق، فهي قد اختارت منذ زمن، فما لها ولحياته، ثم أن هذه التي تغار منها ليست سوى طفلة، بل أنها قد تكون أكبر من ابنته بقليل! لتقف أمامه سماح تقول بسخرية أن نظراته لتلك ال طفلة. ليست أبدا بنظرات أب لابنته، بل هي نظرات رجل لشيء أعجبه!

يومها ثار وهاج وماج ينعتها بالفسق والمجون وأنها ترى الناس بعين طبعها القذر، وهو يعلم جيدا أن سبب غيرة سماح من تسنيم أن تلك الاخيرة تبعث في أي رجل روح النخوة. يكفي نظراتها البريئة وهشاشتها الظاهرة لتثير نزعة الحماية لديه بل ويراهن ولدى أي غرٍّ صغير أيضا!

وتمر الايام وتكبر الصغيرة وتضحى شابة فاتنة تدير العقول بسحرها وهي غافلة عن ذلك، ويزداد تعنته بالنسبة لها، ويضيق عليها الخناق ليس تحكما فيها أو شكّا ولكن حماية لها، فيكفي ما حدث لسماح، فهو لا يستطيع اعفاء نفسه من اللوم فهو كان ضعيف معها، لم يكن يستطع رفض أي طلب لها، وكان يفضل أن يتلظى بنيران غيرته على أن يفرض حمايته المبالغ فيها بنظرها عليها! ولكن. يوم أن علم بنزول تسنيم الى العمل. بل وذلك الخاطب الذي أتى من اللا مكان يرغب في الارتباط بها، يومها ولأول مرة في حياته يشعر بالرغبة في القتل! نعم. شعر وكأن هناك من يريد سلبه صغيرته! تسنيم صغيرته هو، هو من دفع فيها حب الحياة ثانية، هو من أعطاها دفعة الحماس لاكمال تعليمها حتى وصلت الآن للمرحلة الجامعية، هو من صقل ثقتها في نفسها، هو من صنع تسنيم أخرى أكثر قوة وثقة بالنفس. ليصارح نفسه بأنها تسنيمه هو. وأنها لا تزال صغيرة على معرفة صالحها، فيقرر الزواج بها حتى يحميها من شر من حولها، وقد عاهد نفسه أنه لن ينتهز كونه زوجا لها في فرض ذلك الزواج عليها، ليخبرها أنه محض زواج صوري. حتى تتمكن من اكمال حياتها التي رسمتها لنفسها دون أي عائق أو خوف من مستقبل مجهول يضمر في غياهبه ما لا تعلم!

قرر فواز تغيير طريقته معها، فهناك أمر قد طرأ على صغيرته فهو يعرفها تماما كخطوط راحته، وسيعلمه ولكن ليس الآن وهي على هذه الحالة من التأهب له، ليرسم ابتسامة صغيرة ويقول:
- ولو اني مش عارف ايه سبب الخناقة دي على الصبح، انا كل اللي قلته اني عاوز أعرف انتي متغيرة معايا ليه، ودا لأني مش بحب أشوفك زعلانه. مش متعود عليكي مبوزة بصراحة، دايما بتضحكي.

قاطعته بفظاظة: - آه. انت اللي ضارب بوز على طول، لا معلهش. البوز دا مش حِكر عليك لوحدك!
فواز بذهول: - بوز!
تسنيم بتأكيد: - آه، على طول مصدّر لنا الوش الخشب! خف شوية على أعصابك مش كدا انت مش صغير لكل دا!

هتف فواز بصدمة أشد: - مش صغير! تسنيم. انت بعقلك؟!
تسنيم بابتسامة تشف نجحت في اخفائها فها هي قد نالت منه فهي تعلم جيدا مدى حساسية تلك النقطة بالنسبة له فعو يكاد يكون في ضعف عمرها:
- أيوة الحمد لله لسّه بعقلي، هو اللي يقول الحق في الزمان دا يبقى مجنون؟!
فواز مكررا بغير تصديق: - حق!
ليقاطعه صوت جدته وهي قادمة من الداخل والتي انبسطت أساريرها ما أن رأته: - ازيك يا فواز يا حبيبي.

نظر اليها فواز وقال راسما ابتسامة خفيفة بينما يتجه اليها ليقبل يدها: - الحمد لله يا جدتي، ازيك انت وازي صحتك انهرده؟
الجدة وهي تربت على رأسه المنحني أمامها: - الحمد لله يا ابني. نشكره على كل حاجة.
أسندها فواز حتى جلست في مكانها المعتاد قبل ان تنظر ناحية تسنيم قائلة بابتسامتها الحنون:
- ها يا نسمتي. كله تمام؟

نسمتي! منذ متى وجدته تدللها بهذا اللقب؟ لم يسبق له وأن سمعه منها، لتخونه شفتاه مكررا اسم التدليل فنظرت اليه الجدة قائلة بحبور:
- آه نسمتي عندك مانع؟ هي النسمة الطرية اللي بتحلي أيامي كلها، ما تتصورش فرحة فتحية ازاي لما قلت لها أنها هتطلع معهم رحلة اسكندرية، الجيران كلهم فرحوا أنها رايحه معهم، أصلهم بيحبوها أوي!

وسكتت الجدة بعد أن ألقت بقنبلتها ببراءة، مزيفة! محاولة اخفاء ابتسامة المكر التي اعتلت شفتيها، في حين نظرت اليها تسنيم هاتفة بسعادة:
- صحيح يا ستّو؟ يعني خلاص؟ هيطلعوا اسكندرية فعلا مش زي كل مرة بعد ما يقرروا يحصل حاجة تخليهم يغيروا رأيهم؟!

الجدة بهزة تأكيد من رأسها: - ان شاء الله يا قلب جدتك، دا حتى الاستاذ فاروق بنفسه هو اللي حدد المعاد، وما رضيش ياخد الفلوس الا بعد ما ترجعوا، قال بعد ما نرجع عشان نطمن انه تسنيمنا انبسطت في الرحلة فعلا!

فضحكت تسنيم بسعادة قائلة بعينين تلمعان حماسا ولهفة: - ربنا يخليه يارب، الاستاذ فاروق بجد ما فيش لا في جدعنته ولا حنيّته ولا.
ايه ايه ايه. حيلك حيلك، ايه قصيدة الشعر دي في الاستاذ فاروق؟ .
سكتت تسنيم لتقول بعدها وهي تحرك كتفيها بلا مبالاة: - هو يستحق مُعلّقة بصراحة مش قصيدة شعر وبس، راجل كله زوق وبيعرف يتعامل ازاي مش. بيحدف طوب ودبش!
هدر فواز في ذهول مطبق وغضب عاصف: - ايه؟!

الجدة وهي ترى دلائل فقدانه لأعصابه واضحة: - يا بني هدِّي نفسك شوية، انت زعلان ليه؟ أستاذ فاروق دا في مقام والدها بردو يعني و.

قاطعتها تسنيم ببراءة زائفة وقد قررت حرق أعصاب ذلك الفظ غليظ القلب بكل ما أوتيت من قوة علّه يذوق بعضها من نيران غيرتها ولو أنها لا تأمل ذلك كثيرا، فمن يحب فقط هو من يغار:
- تؤ تؤ تؤ يا ستّي. أستاذ فاروق مش كبير أوي كدا، دا حتى اللي يشوفه يقول عليه أد فواز ويمكن أصغر!

فواز بصوت عاصف: - أصغر!
ليطالعها بعدها في ذهول تام وغضب يعصف بجوانحه وهو يتذكر شكل الاستاذ فاروق جارهم ذلك الرجل الاربعيني العمر والذي يهتم بصحته جيدا حتى أنه بالفعل من يره يظن أنه لم يتخط الثلاثين من عمره، كما أنه لم يتزوج بعد وفاة زوجته، ومن حديثها فهي معجبة به وبشخصه بل والحمقاء تسهب في تعداد محاسنه أمامه وكأنه كيلو من الجوافة أمامها!

قال فواز بصرامة بينما عيناه تتوعدانها: - ممكن أعرف ايه حكاية رحلة اسكندرية دي؟ وأخدت الاذن من مين يا مدام؟
مدام! اختلاجة قوية شعرت بها بين جنباتها ولذة غريبة تذوقتها وهي تكرر في همس بينها وبين نفسها قائلة. مدام فواز! ليقاطع شرودها صوت جدتها وهي تقول ببساطة:.

- أنا يا حبيبي لما عرفت من الست فتحية انهم مرتبين رحلة يوم واحد لاسكندرية اللي طلبت منها تحط اسمها معهم، انت عارف انها لا بتروح ولا بتيجي، فرصة تغير جو!

فواز بفظاظة: - وكيس الجوافة اللي متجوزاه مش المفروض تاخد رأيه بردو؟ تكونيش فاكراني نوال يا هانم؟ أنا ج و ز ك. افهميها بقه!

تسنيم وهي تتخصر أمامه هاتفة بذهول وحنق: - انت مش سمعت بنفسك انه ستي هي اللي شارت ب كدا؟ وبعدين ايه اللي مزعلك عاوزة أفهم أنا؟ اني هروح من غير ما أقولك؟ لازم تحط ختم ايدك يعني؟ عموما أديك عرفت خلاص. ارتحت كدا؟

فواز بسخرية باردة: - ومين قال انك هتروحي؟
هتفت تسنيم بصدمة: - ايه؟
فواز بصلابة: - يعني مش هتتحركي خطوة واحدة الا بإذني أنا. عشان بعد كدا تعرفي أنه شورك مش من دماغك أنا بس اللي أقرر وأقول آه أو لأ!

الجدة بجمود: - وأنا مُت يا فواز يا بني؟
شهقت تسنيم واسرعت اليها تجلس بجوارها وهي تحيط كتفيها الممتلئين بذراعها البض قائلة بينما ترمي فواز ينظرات لائمة:
- لا يا ستي ألف بعد الشر عنك ما تقوليش كدا!
فواز بتلعثم: - بعد الشر عليكي يا حاجة، أنا ما أقصدش بس.

قاطعته الجدة بحزم: - أومال تقصد ايه يا ابن الغالي؟ انا قلت لك ان انا اللي اقترحت دا، الغلبانة مش في السجن عشان لا دخول ولا خروج، يدوب على قد مشوار الكلية، دا انت يا ريتك حتى بتفسحها زي كل العرايس. لكن لأ. مش بتشوف وشّك غير يا تأمر يا تشخط وتنطر!

فواز باستنكار: - أنا!
لتحين منه نظرة الى تسنيم فيفاجأ بنظراتها المتشفية ليقابلها بأخرى متوعدة ولدهشته لم تخفض عينيها بل جابهته بتحد. صارخ! قالت الجدة مؤكدة مقاطعة حرب النظرات بينهما:
- أيوة أنت! فيها ايه لما تخرجها أو حتى تطلع معها الفسحة دي؟ ايه حرام؟!

تسنيم وهي تلقي اليه بنظرة لوم قبل ان تعيد انتباهها الى جدتها: - ما تزعليش يا ستي. أنا أصلا كنت مترددة أسافر ازاي يوم بطوله وأسيبك لوحدك، صدقيني مش فارقة معايا.

قاطعتها الجدة بصرامة: - وأنا اللي هيجرى لي يعني؟ هتاكلني القطة ولا هنحرف على كبر!
ليفتح فواز عينيه على وسعهما مذهولا من كلمات جدته التي جلست تطالعه بغضب وحسرة، فقطب يطالعها بتوجس. تنحرف!، أنا عارف آخرة المسلسلات الهندي دي مش هتبقى خير أبدا!

الجدة بحزم أكبر: - قلت ايه يا ابن الغالي؟ هتسافر مع البنية ولا تسافر هي؟ وأهو يوم صد رد مش هتبات ولا حاجة!

فواز بسخرية وغضب بارد: - لا دا إلى ناقص. تبات بره البيت كمان!
الجدة بصرامة: - ها. قلت ايه؟ هتروح!

تسنيم وقد استفزها الحاح جدتها عليه لتهتف بحنق: - جرى ايه يا ستي. انت هتتحايلي عليه؟ من الاخر بقه يا أروح لوحدي يا مش رايحه، هيبقى هناك واقف لي زي اللقمة في الزور وروحي وتعالي لكن وانا لوحدي هبقى براحتي. أصله بصراحة مالوش لا في الخروج ولا الفسح. دا كبيره يروح يقرى فاتحة في الأرافة (المقابر) وساعتها يقول انا اتفسحت!

الى هنا وكفى! تلك الصغيرة الوقحة قد طال لسانها كثيرا ولن يكون هو أن لم يجعله يلتف حول عنقها يخنقها به، أو لعله يقضمه بين أسنانه فيقطعه من منبته تماما! بينما كتمت الجدة ضحكتها فهي أعلم الناس بتسنيم وطبعها، فعلى قدر رقتها المفرطة وكيف أنها بالفعل تشبه النسيم العليل ولكنها ما ان تغضب حتى تتحول الى رياح عاتية مليئة بالغبار والاتربة تستطيع اقتلاع شجرة كبيرة من مكانها من شدة هبوبها!

تدخلت الجدة تهدأ الاجواء التي احتدمت بقوة: - يا فواز يا بني أنا بقولك لآخر مرة. أنا اللي صممت انها تروح الفسحة دي، عاوز تسافر معها خير وبركة مش عاوز أهي بردو اسمها مش هتروح لوحدها معها حبايبنا كلهم وأنا موصية عليها الاستاذ فاروق!

تسنيم بابتسامة تحد: - والاستاذ فاروق بصراحه الواحد يمشي معه وعينيه الاتنين مغمضة!
أيقتلها الآن؟ صدقا أيفعلها؟ . ما بالها تلك العنيدة الوقحة وكأنها تدفعه دفعا الى ذلك؟ ليسيطر على غضبه الوحشي بصعوبة وهو يتوعدها في سره أن يرد لها الكيل كيلين ويقول بصوت مكتوم:
- خلاص يا حاجة. هسافر معها. بلغي الحاجة فتحية بكدا.
ليبتر عبارته رافعا سبابته أمام تسنيم متابعا بشراسة: - واللي أقول عليه يتنفذ، مفهوم!

ولكنها لم تجبه وأمام عينيه المذهولتين قبلت رأس جدتها ونهضت قائلة بابتسامة واسعة:
- عن اذنك يا جدتي، هقوم أحضر حاجتي، الحمد لله أني جبت المايوه من فترة في التنزيلات، زي ما يكون قلبي كان حاسس!

وانصرفت وتركته يطالعها بعينين جاحظتين مرددا بصدمة وصوت عال كالصاعقة: - مايوه!
لتمد الجدة يده تشده ناحيتها وهي تقول بابتسامة متزلفة: - شرعي يا بني شرعي!
ليفكر فواز في ذهول تام. شرعك! ، بينما لسان حال الجدة يكاد يصرخ هاتفا: - دا باينه مرار وطافح!

تناولت صينية القهوة من يد الخادمة وصرفتها بهزة من رأسها، قبل ان تدلف الى غرفة مكتبه تتقدم منه وابتسامة ناعمة تظلل شفتيها النديتين، تلك البسمة التي لم تغب عن وجهها أبدا وتحديدا منذ زيارة ابن زوجها الاولى لهما، لتكون كضوء انبعث فجأة لينير ظلام حياتهما، وتتوالى الزيارات وتتعدد اللقاءات وتترسخ الابتسامة عمقا، وتضيء حياتها أملا بأن يأتي اليوم الذي يبادلها فيه زوجها حبها اللا محدود له!

لن تنكر أن شريف قد تغير منذ دخول أحمد صغيره حياتهما، بل وكي تتوخى الصدق منذ أن اكتشف خديعة والديه لابعاد ابنه عنه، ليرمي عنه قناع اللامبالاة الزائف، ويضرب بأعراف عائلته البالية عرض الحائط معلنا أنه سيعيش حياته كما يريد هو وليس كما هو مفروض منه! ومنذ تلك الليلة بينهما بعد انصراف ابنه وهما يعيشان حياتهما كأية زوجين طبيعيين، لا يفصلهما جدار بارد كما كان سابقا، صحيح أن علاقتهما لم تتعمق كما من المفترض لاثنان مر على زواجهما ما يقرب الثمان سنوات، ولكنها تعتبر أنهما لايزالان متزوجان حديثا، يتلمسان الطريق لبعضهما البعض أو بالأصح شريف هو من يتلمس خطاه ناحيتها بينما هو قد ضرب جذوره عميقا في داخلها وانتهى الأمر!

لا تعلم متى بدأ قلبها تماما في فقد احدى دقاته ما أن يراه، قد يكون منذ مرضها في بداية زواجهما حيث كانا في الشرق الاقصى لقضاء شهر العسل، يوم أن ارتفعت درجة حرارتها بشدة ليقضي بجوارها يوما بليلة يعطيها الدواء ويهتم بتخفيض حرارتها، تشعر في لمساته لها بالحنان وبصوته وهو يسألها أن كانت بخير بالاهتمام، ذلك الاهتمام والحنان اللذان افتقدتهما طوال عمرها، فحياتها في المدرسة الداخلية في انجلترا كانت تفتقد لأبسط قواعد الحنان والرعاية!

أم لعله بعد اكتشافهما صعوبة حملها والذي يكاد يكون مستحيل، يومها لن تنسى أبدا وقوف شريف في وجه والده يهتف بصوت عال وللمرة الاولى أمامه ألا يؤلمها بكلمة واحدة، فهي زوجته وكرامتها من كرامته، ولن يسمح لمخلوق بالمساس بها!

ليأتي الى غرفتها الخاصة في جناحهما يومها ليلا يحتضنها ويهمس اليها بحنان أن كل شيء سيكون على ما يرام وألا تشغل بالها كثيرا بهذا الأمر، فهما لا يزالان شبابا والطب كل يوم في تقدم مستمر، والمضحك المبكي أنها في الوقت الذي صرخ قلبها بحبه كان ذاته الوقت الذي اكتشفت فيه خيانته لها!

رسالة من مجهول على هاتفها الشخصي مرفقة ببعض صور في أوضاع قذرة له ولأخرى، وتتكرر الرسالة وتتكرر الصور مع اختلاف تلك ال أخرى! في البداية قررت مواجهته، لتجبن بعدها! ماذا لو قرر خلعها من حياته تماما؟ منصب والدها لا يضمن لها أن تستمر زيجتهما، ما الذي منحته له لتجعله يفكر بدلا من المرة ألف قبل الانفصال عنها؟ لتكتشف أن تربيتها المتزمتة وسط الراهبات جعلتها كدمية جميلة باردة بلا روح، فهي لم تلمح أبدا بأي مشاعر خاصة من ناحيتها تجاهه، بل اكتفت بالقيام بدور المتلقي فقط!

كثيرا ما حاولت التغيير من طريقتها ولكنها في كل مرة كانت تتراجع مخافة الصدّ الذي سيتبعه الهجر فالفراق، فوقتها سيكون الأمر قد انتقل من التلميح الى التصريح. وحينها يجب عليها انقاذ كرامتها. فاختارت أن تدفن رأسها كالنعامة على أمل أن يأتي اليوم الذي يرى فيه حبها أو تستطيع هي الخروج من دائرة الخرس الذي فرضته عليها بروتوكولات زائفة وتربية صارمة جعلتها أضعف من ريشة في مهب الريح ما أن واجهت مشاعر حقيقية!

ولكن. تغير كل شيء بانكشاف المستور، ومنذ دخول أحمد الى عالمهم الخاوي قبله، لتبدأ في تذوق حلاوة أن تكون مرغوبا من نصفك الآخر، هي تعلم أنه لا يزال الطريق أمامها طويلا حتى تكسب قلب شريف كاملا، ولكنها لن تيأس. فيكفيها أنه قد اكتفى بها وترك صولاته وجولاته في عالم النساء وأبسط دليل على ذلك نومه كل ليلة بين ذراعيها بعد ليلة حب طويلة حافلة وكأنه يعوّض ما فاته من ليال بين أحضانها الدافئة!

انتبهت من شرودها على ضحكته المرحة، لتتسع ابتسامتها بدورها، ومالت على سطح مكتبه تضع الصينية حينما سمعت ما جعل ابتسامتها تموت وتذوي ويضرب الشحوب وجهها:
- يا حبيبتي اللي انت عاوزاه كله مجاب. سمعا وطاعة يا روح قلبي!
قرقعة عالية صدرت عنها لفتت انتباهه، لتعتذر هي بجمود، وتبتعد بخطوات متعثرة، فنهض واقفا يقول منهيا اتصاله الهاتفي:
- اوكي حبيبتي زي ما اتفقنا، سلامي لبابي كتير.

ليغلق الاتصال في الوقت الذي وصلت هي فيه الى الباب فناداها لتقف مكانها، تطالعه من فوق كتفها، حيث قال وهو يقترب منها مقطبا:
- ماشية ليه بسرعة كدا؟
حانت منها نظرة الى هاتفه الذي لا يزال بيده قبل ان ترفع عينيها تطالعه بنظرة باردة وهي تقول ببرودها الانجليزي الذي كثيرا ما يثير حنقه:
- أبدا. عشان تاخد راحتك في الكلام. عن اذنك.

وتركته منصرفة في خطوات سريعة، غير آبهة بالرد على ندائه لها، وصعدت الدرجات التي تفصلها عن الطابق العلوي حيث جناحهما فدلفت صافقة الباب خلفها ثم رأسا الى غرفتها وهي تشعر بالاحتراق كمدا وغيظا هامسة بذهول وغضب:.

- تاني يا شهرت؟ هتستحملي تاني خيانته؟ طيب في الاول ادتيه (أعطتيه) عذره في كدا، وحطيتي اللوم على نفسك بمنتهى الغباء أنك مش قادرة توصّلي له اللي جواك تماما زي المانيكان وش حلو لكن برود من جوة، لكن دلوقتي. بعد ما ابتديت أحس فعلا أني زوجة جوزها بيراعيها ويهتم بيها، هرجع تاني للدايرة المفرغة دي؟ لغاية امتى هتفضلي ضعيفة؟ ايه الحب الغبي اللي يضعفك بالشكل دا؟ هيحصل ايه يعني لما تسيبيه انتي قبل ما هو يسيبك؟ ولّا لازم هو اللي يرميكي عشان تفوقي لنفسك؟ لو شريف مقدرش حبك أكيد فيه اللي يقدره، امشي من هنا. اقطعي الصفحة دي من حياتك نهائيا، ابتدي حياتك في مكان تاني خالص، وما تقفليش قلبك لأنه أكيد فيه اللي يستاهله ويستاهلك هو كمان. اتعلمي من ضعفك يا شهرت، اوعي تقعي في نفس الغلطة وتدي (تعطي) قلبك للي ما يستحقوش!

لتقف مكانها لبرهة، اتجهت بعدها الى غرفة الثياب الملحقة بغرفتها حيث أخرجت حقيبة سفر جلدية كبيرة، قامت بوضع بعض الثياب بها مقررة أن ترسل من يحزم باقي أمتعتها لاحقا، ثم أغلقت السحاب ورفعت يدها لتسحبها خارجا على على عجلاتها الصغيرة حيث وقفت فجأة وهي تطالع شريف وقد وقف أمامها يغلق الباب خلفه، ينقل نظراته بين حقيبتها المستقرة بجانبها وبين وجهها الذي كساه البرود والشحوب، بتقطيبة ريبة وتساؤل!

دنا شريف منها وهو يقول بغير فهم: - انت رايحة في حتة يا شهرت ولا ايه؟
شهرت ودون أن تنظر اليه: - ماشية!
قطب وقد وقف على بعد انشات منها متسائلا: - ماشية؟ ويا ترى أقدر أعرف رايحه فين؟
ليلتفت رأسها اليه كالصاروخ تطالعه بنظرات نارية جعلت تقطيبته تزداد عمقا قبل ان تتمالك نفسها مجيبة ببرود ساخر:
- وانت يهمك في ايه؟ طالما عايش حياتك خلاص!
كرر شريف بعدم استيعاب: - عايش حياتي! يعني ايه مش فاهم؟

شهرت وهي تقف أمامه تطالعه بحقد تعجب له: - غريبة! لحقت تنسى حبيبتك بسهولة كدا؟
انفرجت تقطيبة شريف وارتفع حاجباه الى الاعلى مكررا بحيرة: - حبيبتي!
ليشرق وجهه بالفهم فيبتسم ابتسامة مكر قائلا: - آه. حبيبتي. انت قصدك على التليفون؟ طيب ما تسأليني هي مين على طول بدل التلقيح بالكلام دا؟ .

شهرت باستنكار: - نعم! تلقيح بإيه؟ مش أنا اللي بعمل الحاجات دي، اظاهر نسيت أنا مين؟
شريف بغموض: - لا ودي حاجة تتنسي. انتي شهرت هانم الرازي!
شهرت بأنفة: - يا ريت ما تنساش تاني وتحطني في كفة واحدة مع حد تاني!
شريف بابتسامة صغيرة ساخرة: - حد زي مين؟
شهرت باضطراب خفيف فلم تكن لتدعه يشعر بغيرتها التي تكويها بنيرانها: - حد زي أي حد. عموما أنا ماشية عشان تكون براحتك خالص.

همت بالتقدم عندما وقف أمامها يعيق طريقها فرفعت عينيها اليه ولكنها سرعان ما أشاحت بهما فنظراته وعلى غير العادة تشعرها بارتباك غريب، لتهتف بنفاذ صبر واضح:
- أرجوك يا شريف. بليز ابعد عاوزة أمشي.
شريف بجدية بينما لم يتزحزح من مكانه: - اسأليني يا شهرت هي مين؟
طالعته ليرى انفعالاتها الصاخبة بوضوح بين فيروزيتيها، لتهتف بعدها وقد بدت كمن يصارع نفسه:.

- أوكي يا شريف. يا ترى هي مين؟ مين اللي حبيبتك؟ مين اللي تخليك تقولها سمعا وطاعة؟ ها. أديني سألت أهو. اتفضل جاوب بقه!

شريف دون أن يرمش له جفن: - طيب ممكن أعرف انت بتسألي من باب الفضول ولا. زي أي زوجة لما بتسمع جوزها وهو بيتكلم مع واحدة غيرها في التيلفون. ف - سكت قليلا أردف بعدها ببرود – بتغير وتحس، وتبقى زي النمرة اللي عاوز تقتل أي حد يقرب من حبيبها هي. وجوزها هي!

لم تدرك الصورة التي أصبحت عليها ما ان انتهى من كلماته الصادمة لها، اذ توسعت حدقتيها ووقفت تطالعه بانشداه تام فاغرة فمها في حين عبر اعجاب صارخ عينيه سرعان ما أخفاه فيما شعر بلهفة غريبة لسماع جوابها والذي أتاه صادما وغير متوقّع أذ همست بجمود وخواء:.

- الزوجة اللي انت بتقول عليها دي بيكون المشاعر مشتركة بينهم، يعني مش معقول هي هتكون بتغير عليه وبتحبه وهو لأ. الحب أخد وعطا يا شريف، ولو حد من الطرفين أخد بس هييجي وقت يلاقي رصيده عند التاني صفر، وقتها بالظبط مش هيفرق معها تماما. لأنه الرصيد صفر والسحب بقه على المكشوف!

وشرعت بالتحرك حينما قبض شريف على معصمها يقول بقوة: - ويا ترى الرصيد عندك صفر دلوقتي؟ ولّا ما كانش فيه رصيد من الاساس!
ايه؟! .

شهقتها كانت أبلغ الرد على مفاجأتها بسؤاله، تبًّا هو يعلم بما تضمره له من مشاعر جامحة، يعلم وبكل غرور يأبى أن يتركها ترحل قبل أن يشاهد اذلالها كاملا بعد أن تقر وتعترف بحبها له، فلو كان يبادلها ولو قدرا يسيرا من هذا الحب كان لمّح به، لم يكن ليقف أمامها بهذا البرود والصلف والغرور يطالبها باعتراف هي على يقين من أنه قد وصله دون كلام. فيكفي تلميحاته الآن لتعلم أنه لا يبغى سوى أن يثبت لها أنه قد هزم برودها الانجليزي هذا. ولكنها لم تكن لتمكنّه مما يريد، لتقف أمامه تضع عينيها في عينيه تقول بكل برودها وطبعها الانجليزي المكتسب:.

- سؤالك جه متأخر أوي يا شريف بيه، لأنه سواء فيه أو مافيش. مالكش رصيد عندي. خلاص يا شريف. سيفينيه (انتهى بالفرنسي)!

سكت شريف لثانيتين قبل ان يرمي برأسه الى الخلف في ضحكة عالية قطبت لها حيرة وريبة، قبل أن ينظر اليها مرددا بابتسامة ساخرة:
- اممممم. سيفينيه!
ليفاجئها بسحب مقبض الحقيبة من يدها حيث رفعها ويلقيها بقوة الى البعيد وهو يقول بكل هدوء منذر بالشر:
- وريني بقه هيبقى سيفينيه ازاي!

لتشهق عاليا وهي تشعر بالخوف لأول مرة من نظراته القوية النارية، وما أن بدأت بالتحرك بعيدا عنه حتى سارع باعتقال خصرها بين ذراعيه ورفعها الى الاعلى لتركل بساقيها الهواء وهي تصرخ فيه تطالبه بتركها، ولكنه لم يأبه لها، بل تحرك حيث الفراش الذي يتوسط الغرفة ليلقيها فوقه بكل قوته، وما أن اعتدلت حتى فوجئت به وهو يلقي بنفسه فوقها يثبتها تحته، يقبض على يديها بجوار رأسها يميل عليها زارعا عينيه بين حدقتيها الفيروزيتين وهو يهمس بابتسامة شريرة:.

- احنا مش ممكن نبقى سيفينيه أبدا يا حرمنا المصون!
صرخت شهرت وهي تحاول افلات معصميها من قبضته القوية: - أنا مش جارية عندك، تحت أمرك تبعدها وقت ما انت عاوز وتقربها وقت ما انت عاوز، لو كنت بسكت في الاول دلوقتي خلاص مش هسكت تاني، كفاية خيانة وقرف بقه أنا تعبت!

صمت تام أعقب انفجارها، ليطالعها شريف وهو لا يزال منبطحا فوقها يقول ببرود صقيعي:
- محدش كان طلب منك تسكتي أولاني! انت اللي اخترت. يا جبانة!
حدجته بنظرة حاقدة ليردف ببساطة: - أيوة جبانة، اخترتي السكوت بدل ما تقفي وتحاربي!
شهرت بسخرية امتزجت بالمرارة: - أحارب عشان مين؟ تفتكر انى كنت هقدر أمنعك؟!
شريف بلا مبالاة: - على الاقل كان هيبقى اسمك حاولتي!

شهرت وقد ضاقت ذرعا بغروره اللا متناهي: - يمكن فعلا. بس دلوقتي أنا مش عاوزة أمنعك عارف ليه؟
نظر اليها بتساؤل فأجابت بحقد: - لأني خلاص. ما عدتش (لم أعد) عاوزاك!
كثيرا ما سمعت عبارة نظرات وحشية، ولكنها أول مرة تختبرها! إذ مال أكثر عليها يطالعها بها قبل أن يقول بجمود تام مشددا على أحرف كلماته:
- مش. بكيفك.!

وما أن شرعت في الصياح حتى انقض على فمها يسكته بقبلة ضارية بدت وكأنه ينتقم من ذلك الفم لما نطق به، ليدفن أنامله بين طيات شعرها القمحي وكلما ازدادت محاولاتها في الافلات منه ومقاومته زاد هو من شراسته، حتى اضطرت للاستسلام أخيرا ليس عن خوف منه أو لأنه قد غلبها بقوته، ولكن لأن قلبها الخائن هو من سلّمها اليه. لتغرق في عناقه لها والذي انقلب من عقاب قوي لآخر جامح يكتسحها، فيما احتوى بداخله على رقة مست شغاف قلبها، وضاعت معه وبه. وقد قررت أن غدٍ يوم آخر. ولكنها اليوم مع حبيبها الذي يطارحها الغرام بشوق ملتهب ورغبة ضارية لأول مرة تستشعرها منه طوال فترة زواجهما!

لاحقا وبعد فترة طويلة من الشغف القوي نظر اليها وقال ببرود ينافي ما تبادلاه من أشواق ملتهبة:
- على فكرة. حبيبتي دي تبقى بسملة بنت مدحت ابن عمتي، كنت برتب معه نزورهم وبسألها عاوزة أجيب لها ايه معايا!

نظرت اليه شهرت هامسة بذهول وصدمة: - ايه؟!
شريف بابتسامة تحمل مرارة وخزت قلبها وهو يطالعها بخيبة أمل: - كنت أتمنى انك تقفي وتصرخي في وشي وتطلبي انك تعرفي مين اللي بكلمها، بدل ما تحكمي من غير ما تسألي وتقرري تهربي بمنتهى السهولة وكأن اللي بيننا دا ما يستحقش انك تحاربي عشانه!

شهرت وبدأ بصيص من الأمل يغزو قلبها: - اللي بيننا! وهو ايه اللي بيننا يا شريف؟
فتح فمه ليجيبها حينما قاطعهما رنين هاتفها فنظرت الى الرقم لتهمس في دهشة وهي تتناوله من فورها:
- ماما!
وما أن فتحت الخط حتى صدح صوت أمها عاليا يصرخ بقوة: - شهرت. فين شريف؟ لازم ييجي حالا، فضل المجلس سحب منه الثقة واترفعت الحصانة عنه و، صدر أمر بالقبض عليه وهو دلوقتي بيتحقق معه!

شهرت وقد اعتدلت تهتف بذهول: - ايه؟ بيتحقق معه؟ ليه؟!
أمها وهي تكاد تنهار: - كل اللي أعرفه أنه الامن الوطني بيتحقق معه في قضية تخص أمن الدولة. المحامي بيقول أنها ممكن توصل للاعدام لو ثبتت عليه التهمة...

شهرت بصياح حاد في حين قطب شريف في عدم تصديق تام: - ايه؟ اعدام! معقولة!
أمها قبل ان تنخرط في نوبة بكاء عنيف: - أيوة، لأنها ممكن توصل لتهمة خيانة عظمى!
لتسقط يد شهرت الممسكة بهاتفها وهي تطالع شريف بنظرات زائغة قبل أن تهمس بضعف بينما كسى الشحوب وجهها:
- با. بابا يا شريف. مش. مش ممكن...

وبترت عبارتها لتستسلم لذلك البئر المظلم الذي سحبها في غياباته ولم تسمع صراخ شريف الملتاع مناديا لها يرفق اسمها كلمة، حبيبتي!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة