قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الثالث والخمسون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الثالث والخمسون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الثالث والخمسون

ادار المفتاح بقفل الباب وهو يتساءل ترى ماذا سيرى خلف ذلك الباب؟ يعلم جيدا أن صغيرته عنيدة، وأنها لن تستسلم بسهولة، ولكنه يملك من العناد ما يجعله أستاذ ورئيس قسم في تلك الصفة!

دلف مغلقا الباب خلفه، بينما قابله الصمت التام، ليتقدم الى الداخل، حتى وصل الى غرفتها فوضع أذنه على الباب علّه يسمع أي شيء، ولكن كان السكون هو الجواب، فأدار المفتاح بالقفل ودلف، لتتيبس قدماه أمام الباب، ففي أعظم أحلامه جموحا لم يخطر بباله اطلاقا أن يراها على تلك الهيئة. فالصغيرة المجنونة تلف حول نفسها ملاءة السرير على هيئة. ساري هندي!

دنا منها بينما كانت هي ترقد فوق المقعد العريض، فمن الواضح أن النوم قد غلبها وهي تقبع بانتظاره هناك، تقدم حتى دنا منها، لينحني عليها واضعا كل يد من يديه على جانبي المقعد يحبسها بينهما، ولم يستطع منع نفسه من الاقتراب منها، ليدفن أنفه في تجويف عنقها يستنشق رائحتها التي طال اشتياقه لها، مغمضا عينيه وهو يتلذذ بذلك اشعور الذي حرمته تلك القاسية منه، ألا وهو التمتع بنعيم قربها.

وكأنه منوّم مغناطيسيا اقترب بفمه من وجنتها يلثمها برقة، تلتها ثانية فثالثة، لتتحول ما بدأت كقبلات رقيقة صغيرة الى أخرى أعمق، وتمتد يداه يحتويها بحرص بين ذراعيه، بينما تصعد أنامله يده اليمنى لتنغرز عميقا بين خصلاتها الابنوسية، فيستشعر نعومته الحريرية، وبينما هو تائه في رحيقها المُسكر، تنبهت هي لأنفاسه الساخنة، لتعلم أن ما ظنته حلما ما هو الا واقعا، وذلك عندما بدأت قبلاته بالتعمق، لتصحو على أنفاسها المحبوسة، بينما يصفع وجهها هواء زفيره الساخن.

حاولت دفعه بعيدا بيديها عدة مرات، قبل أن يسمح لمحاولاتها في الاخير بالنجاح، فرفع رأسه يطالعها بعينين تلمعان برغبة واضحة وشوق سافر، بينما يداه تحيطان بها لا تسمحان لها بالابتعاد بأكثر مما سمح به.

قالت بشفاه متورمة وبنبرة حانقة: - انت ايه اللي انت عملته دا؟ ممكن تبعد عشان عاوزة أقوم؟
فواز وهو يقرّب وجهه ناحيتها وبابتسامة عابثة: - والله بيتهيألي دي حاجة متوقعة لما أرجع البيت وألاقي مراتي مستنياني بالشكل دا!

مشيرا بيده الى ما تغطي به نفسها، وتابع: - وبعدين عاوزة تقومي ليه؟ احنا كويسين كدا!
تسنيم وهي تحاول دفعه براحتها الصغيرة فوق صدره العريض وبتكشيرة لم تعلم أنها جعلتها أشهى في عينيه:
- لا مش كويسين، واتفضل ابعد بقه!
ليقول فواز مستسلما ببراءة زائفة وهو ينهض واقفا على قدميه: - أمرك يا ستي. وأدي قومة!

نهضت تسنيم لتتفاجأ بأنه يكاد يلتصق بها حتى أنها أوشكت على السقوط فوق المقعد خلفها فقالت باعتراض حانق:
- يعني هو خلاص؟ مش بتتحرك إلا بالطلب؟ ما تفسّح (ابتعد) شوية اللاه!
فواز مقلدا بتقطيبة: - أفسّح؟!
ليحرك رأسه يمنة ويسرى قبل أن يتابع بأسف مصطنع: - أنت بتتعاملي بقسوة أوي يا قلبي.
ليغمز متابعا مبتسما بخبث: - ولو على الفُسح (النّزهات) أنا مستعد أفسّحك لغاية ما أقطع نفسك، بس تستحملي؟

قطبت تسنيم في شكّ لتقول بغلظة: - أستحمل ايه؟
غمز عابثا وهو يقول بمعنى مبطّن: - ال فُسَحْ!
زادت عقدة جبينها وهتفت بخشونة فقد سئمت تفسير معاني كلماته المبهمة: - أنا لا عاوزة فُسح ولا غيره، أنا عاوزة أخرج من هنا وحالا!

فواز بهزة كتف صغيرة وبأسف مصطنع: - للأسف، انت مش هتتحركي خطوة واحدة من هنا، دا مكانك الطبيعي، بيتك. جنب جوزك. – سلط عينيه عليها متابعا وهو يشدد على كل كلمة – اللي بيحبك وميقدرش يبعد عنك لحظة واحدة.

قاطعته تسنيم بقوة: - متأخر أوي الكلام دا يا زوجي العزيز!
قطب فواز وقد غاب مزاجه الساخر وقال بتوجس: - يعني ايه؟
تسنيم بمرارة وأسف: - يعني أنا كنت هطير من الفرحة لو كنت سمعت الكلام دا من شهر واحد بس، لكن خلاص، دلوقتي مالوش اي معنى عندي!

فواز بقوة: - ليه؟ مش عاوزة تفهمي ليه؟ أنا غلطت! انا انسان مش ملاك معصوم من الغلط، واعترفت لك، ما آوحتش (لم أجادل)، لو فعلا بتحبيني زي ما بتقولي كنت سامحتي وغفرتي وادتيني (منحتني) فرصة تانية.

قاطعته صائحة والدموع تملأ عينيها: - اديت (أعطيت)! اديتك بدل الفرصة 100، اديتك حبي وقلبي كله مافيهوش غيرك انت، واذا كان القدر خلاني نمرة 2 في حياتك فأنا مش هتنازل عن أني أكون نمرة 1 في قلبك!

وقفت أمامه ترفع رأسها بعنفوان متابعة بشموخ أنثى مجروحة: - لكن للأسف اكتشفت اني مش ممكن أكون أبدا نمرة 1 في قلبك، وعشان كدا أنا سلّمت. انا مش هقدر أحارب شبح واحدة ميتة العمر كله، أو أفضل قلقانة على كل تصرف يحصل مني انك تفسره بمحمل تاني، مينفعش اني أحاسب على كل كلمة أقولها أو كل حاجة أعملها. هبقى زي اللي ماشي في ارض مليانة ألغام، مستني في أي لحظة يدوس على لغم يفرقع في وشّه. ودا اللي حصل! في لحظة نسيت اني تسنيم وحاكمتني وأدنتني أني هي، وأنا مش ممكن أقبل أنى أكون تكفير لذنب حد. وعشان كدا بقولك انه جوازنا غط، وانا ما اتعودتش أني أستمر في الغلط، ولما بكون غطانة بعترف!

تراجع فواز خطوتين الى الخلف يطالعها بعينين نافذتين قبل ان يتساءل بهدوء ينذر بالشرّ:
- يعني ايه؟

تسنيم بجمود: - يعني أنا بعترف أني غلطت لما حبيتك، وغلطت أكتر لما وافقت على جوازنا وأنا واخداها تحدي اني هقدر أوصل لقلبك، ما كنتش أعرف أنه قلبك دا مش ملكك، ملك ماضي حتى لو عقلك رافضه فأنت مش قادر تنساه، وطالما مش قادر تنساه يبقى حبك ليها كان حقيقي، بصرف النظر بقه ان كانت تستاهل أو لأ، لأنه للأسف – تابعت بمرارة وابتسامة ساخرة خفيفة – الحب ميعرفش المنطق، هو كدا. ازاي. متعرفش!

فواز بجمود: - وانت فاكرة اني مش قادر أنسى الماضي عشان هي كانت حبي الوحيد؟
قطبت تسنيم بينما لم يمهلها فرصة الرد لينفجر في ضحكة عالية، تماما كرنين أجوف، قبل أن يطالعها قائلا بابتسامة تحمل مرارة وأسى:
- الراجل مش ممكن أبدا ينسى واحدة، طعنته في رجولته!
شهقت تسنيم وهي تغطي فمها بيدها في حين تابع وهو يفرد ذراعيه على وسعهما: - آه. اللي انتي متعرفهوش ان عروستي يوم الفرح.

قست عيناه فيما تابع: - بمعنى تاني. طِفْشِت!
تسنيم بتلعثم وصدمة بالغة: - مش. مش ممكن!
فواز بدون تعبير: - لا ممكن، المأذون جِه، ولما راحوا ينادوا العروسة لاقوها. هربت!
تابع بينما ذهوله يتعاظم: - سابت ورقة بتقول سامحوني!
تسنيم بذهول تام: - طيب ليه؟ انتم كنتم بتح.

صاح فواز عاليا: - أنا اللي كنت! اكتشفت اني أنا اللي كنت، لكن هي؟ – ابتسم بسخرية وتابع – كانت مبسوطة جدا وواحد بيلبي لها كل اللي عاوزاه مجرد ما تشاور، لكن لما كبرت. طلباتها ما عادتش فستان أو خروجة، بئيت (أصبحت) أكتر وأكبر.

قطبت فواصل: - موبايل أحدث موديل، عربية بسواق، فلوس من غير حساب، ولما ظهر اللي يقدر يدفع أكتر باعتني من غير ما يطرف لها جفن!

تسنيم بغير تصديق: - أنا. أنا مش مصدقة! أنا أول مرة أسمع منك الكلام دا، ستي عمرها ما حكيت لي حاجة زي دي؟!

فواز بهدوء: - ومش هتقولك، مش عشان خاطر حفيدتها، لا. عشان خاطري أنا، مفكرتيش أبدا ليه جدتي سكتت انها عاشت بعيد عنها؟ ليه لما كانت بتزورها ما مسكتش فيها ترجع عندها تاني؟ لأنها عمرها ما هتنسى جريمتها في حقي، ودا هي بنفسها اللي قالته ليا، ما انكرش انها كانت بتحن لها لكن وجعها منها كان أكبر. خصوصا لما اكتشفنا أنها هربت مش عشان رافضة الجواز لا. عشان ما تتفضحش!

قطبت تسنيم فقال شارحا: - كانت متجوزة عرفي من واحد اسمه ضيا البساتيني، وطبعا لو كنا اتجوزنا كانت هتنكشف، دا غير أنه طلع له صيدة جديدة، وهي. صيّادة. أنا بالنسبة لها ماكنتش أكتر من حاجة تأدي الغرض، لكن الأساس على ناس تانية. أو بمعنى أصح رجالة تانية، محافظهم عمرانة، أنما أنا بقه ما كانش مهم عندها أنه قلبي مليان بحبها، الحب مش بيأكل عيش زي ما كانت بتقول.

سكت متنهدا بعمق قبل أن يتابع وعيناه مسلطتان على وجه تسنيم المصدوم من تلك الحقائق التي تنكشف لها الواحدة تلو الاخرى:.

- الغريبة اني كنت حاسس، بس كنت بكدّب نفسي، ولما كنت بضغط عليها أو أحاصرها تتهمني بالغيرة والشك، وانه كل دا تهيؤات، ولما حصل اللي حصل واتسجنت ما انكرش انى حملت نفسي اللوم، أنا كان ليا يد انها بئيت أنانية وعاوزة توصل لي هي عاوزاه وبأي طريقة، من صغرها كنت بلبي لها كل طلباتها وعمري ما قلت لها على حاجة. لأ!

هتفت تسنيم تقاطعه بقوة: - لا طبعا، انت مالكش ذنب، هي اللي استغلت حبك ليها وضعفك قودامها وانك متقدرش ترفض لها طلب واستغلت دا أبشع استغلال!

فواز بهزة من كتفيه: - يمكن!
ليدقق اليها النظر مردفا بقوة وصدق: - لكن أنا عمري ما قارنتك بيها، ولا حتى في خيالي!
ليغيب تعاطفها معه أدراج الرياح وتعتلي وجهها تكشيرة رفض قالت بعدها بخشونة: - أفعالك هي اللي بتوضح اللي جواك، مش بالكلام يا فواز!

فواز ضاغطا على مخارج كلماته بينما عيناه ترسلان اليها نظرات قوية: - أنا عمري ما كدبت، اللي أنا بحسّه دلوقتي معاكي عمري ما مريت بيه قبل كدا، سماح لما سابتني ما كانش هاممني غير كرامتي اللي اتهدرت، رجولتي اللي طعنتها نظرات الشفقة والعطف في عيون الناس على العريس اللي عروسته هربت منه يوم الفرح، لكن انتي لما بعدتي عني.

صمت لثوان تابع بعدها وهو يخطو ناحيتها بخطوات مدروسة: - كنت بموت! ما همِّنيش (لم يهمني) انهم يقولوا مراته سابته، لا همني كرامة ولا كلام الناس. اللي كان شاغلني فعلا. ازاي أقنعك اني فعلا بحبك، واني عاوزك انتي مش اي حد تاني.

وصل اليها لتتسلل يديه في غفلة منها تطوق خصرها ويشدها ناحيته مردفا بصوت أجش: - عاوزك أنتي مراتي، عاوز أكمل حياتي وعمري اللي جاي معاكي أنتِ، عاوز ولادي انتى تكوني أمهم، عاوزك حبيبتي ومراتي وبنتي وصاحبتي وكل حاجة ليا.

طالعته بنظرات حائرة. متسائلة. مترقبة ليواصل وهو يميل عليها يهمس في أذنها وقد لمست شفتاه شحمة أذنها الصغيرة:
- ولو خيّروني بين ستات الدنيا كلها وبينك، هختارك انتي! ولو حطوكي كفة والعالم كله في كافة، كفتك انت اللي هتطب. عارفة ليه؟

اكتفت بالنظر اليه بعينين متسائلتين فأجاب بابتسامة حانية: - لانه قلبي معاكي انتي، أنا مستعد أخسر اي حاجة وأي حد. إلا أنتِ يا تسنيم. إلا. أنتِ!

وسلط عيناه على بندقيتيها، اللتان تطالعانه باستفهام حائر، بينما هناك في أعماقهما لمح رجاء صامت. ليستجيب له من فوره وقد أخذ على نفسه عهدا أن يثبت لها فعلا لا قولا فقط أنها أهم لديه من حياته ذاتها:
- اطلبي أي حاجة يا تسنيم عشان تصدقيني، أي حاجة هنفذها. إلا أنك تسيبيني!
تسنيم وقد بدأت تشعر بالتعب فما عرفته كان فوق تصوراتها، لتهمس بزفرة طويلة: - مش عارفة!

فواز وهو يشعر بأنه قد أوشك على اقناعها بصدق مشاعره، فحالة الحيرة تلك أبلغ دليل على ذلك:
- بحبك. والله بحبك!
طالعته تسنيم بصمت للحظات قبل ان تقول: - مستعد تعمل أي حاجة عشان أصدقك؟
فواز بلمعة الفوز وهي تتألق في دخانيتيه: - أي حاجة. انت تؤمري وانا أنفذ!
تسنيم بتحذير: - بس خاللي بالك. الطريق قودامك طويل ومش سهل!

فواز بحزم: - لكن في آخره هفوز بحبك من تاني، ودا أكبر هدف ليا وعشانه أستحمل وأعمل أي شيء عشان أوصل للحب اللي ضيعته بمنتهى الغباء!

لتلمع عينيها ببريق مشاغب قبل أن تدفعه بخفة وتبتعد عن نطاق ذراعيه قائلة: - امممم. والله تعمل ايه دي مشكلتك انت، أنا مش هغششك!
فواز مقطبا بعدم فهم: - يعني ايه؟

تسنيم ببساطة: - يعني انت عاوزني أصدق حبك ليّا، وعاوزني أرجع أحبك من تاني – بينما بداخلها همس صوت ساخر أنها متى نسيته حتى تعود لتحبه ثانية؟! لتتجاهله مردفة بجدية – يبقى دي مشكلتك وانت اللي تحلها، ودلوقتي لو سمحت، عاوزة أكلم خالتي حسنات عشان أطمنها، ولو ممكن أجيب حاجتي من عندها لأنه الشيء الأكيد اللي أنا مش هسمح بيه، أني أخسر الشيء الوحيد اللي هيعملي كيان فعلا. شهادتي!

فواز بغير رضا: - أروح أجيب لك حاجتك أنا، ولو انه الست سيئات دي مش بتنزل لي من زور، لكن تكلميها ليه؟ هتاخدي الاذن منها هي والغضنفر؟

تسنيم بزفرة حانقة: - اولا يا ريت تتكلم عليهم بطريقة أحسن من كدا، الناس دول حسسوني انهم أهلي فعلا، وعشان تبقى عارف كلامنا دا لو عمي فاروق ما وافقش عليه تقدر تعتبره كأن لم يكن!

فواز باستنكار: - نعم! يعني ايه ان شاء الله؟
تسنيم بعناد: - اللي سمعته، ودلوقتي اتفضل اتصرف لي في هدوم عشان أعرف أخرج، أومال هنروح عند الست حسنات ازاي؟ .

فواز بتهديد: - تسنيم ما تجنينيش! من امتى والي اسمه فاروق دا له دعوى بيكي؟
تسنيم بتحد: - من أول ما فتح لي بيته وأخته خدتني في حضنها، وأنا بقولك أهو. عاوزني أرجع يبقى تتكلم معه ولو وافق أفكر أنا. بس يكون في معلومك أنه حتى لو رجعت دا مش معناه أنه جوازنا مستمر، لازم تثبت لي انك عوزني ومتمسك بيا وبتحبني فعلا. بالقول والفعل!

كاد فواز يطحن ضروسه غيظا من حبيبته العنيدة تلك، ليزفر بقوة وهو يومأ بالايجاب: - ماشي يا تسنيم.
ثم اقترب منها ليعتقلها بين ذراعيه في لمح البصر هامسا وعيناه تلتهمان ملامحها الفتية:
- ممكن نمضي على كدا بقه؟
قطبت ولم يمهلها الاستفسار عما يعنيه، إذ سرعان ما غيبها في عناق. قوي ولكن بحنان، عميق ولكن بعذوبة!

تركها بعد فترة طويلة حتى تتنفس الهواء وهمس بصوت خشن بينما اصبعه يتلمس الملاءة التي تغطي بها جسمها:
- اعملي حسابك الملاية دي هتتلبس كتير لما ترجعي!
ليحمر وجهها خجلا ولم يكن منها إلا أن ضربته بقبضتها الصغيرة وهي تهتف بسخط: - سافل!

لتصدح ضحكاته عاليا ولأول مرة منذ مدة طويلة يستطيع التنفس براحة، فحبيبته أوشكت على مسامحته ولن يتوقف قبل أن يفوز بغفرانها كاملا. وأعادة قلبها لمالكه الاصلي (هو). عودة من دون رجعة!

ايه رأيك في المكان هنا؟ .
نظر معتز حوله قبل ان يقول باستحسان: - ممتاز، بصراحة أنا مصدقتش اني هلاقي شغل وسكن في وقت قياسي كدا؟

شادية بمرح: - عيب عليك، يعني انت وخفيت الحمد لله، والدكتور شبه طردك من المستشفى، هتفضل قاعد ليه؟ ثم أني قلت لك أني أعرف صحاب المؤسسة هنا أو بمعنى أصح مرات صاحب المؤسسة، وأول ما عرفت أنهم عاوزين مشرفين عشان الاولاد هنا في الدار، كلمتها عنك وما تتصورش فرحتي وأنا بكلمها انك تكون مشرف هنا وبالصدفة عرفت انهم عاوزين مدير حسابات، فكلمتها على دي كمان!

معتز بابتسامة: - انا مش عارف بصراحة من غيرك كنت هعمل ايه؟
شادية ببساطة: - اعمل شاي بلبن! مغذي ومش بيسهر!
طالعها معتز بدهشة أول الأمر قبل ان يضحك بقوة قال بعدها: - انت كل حاجة واخداها هزار كدا؟ مش بتعرفي تتكلمي جد ابدا!
شادية بتلقائية: - قصدك نكد مش جد! ايه المشكلة اني أتكلم بجد وأنا مبتسمة؟ ولا لازم أكشّر عشان يبقى بجد؟!

ثم تابعت بلهجة الناصح: - شوف يا معتز احنا اللي بنصعبها على نفسنا، يعني لو اخدنا الامور ببساطة، ومن غير تعقيد، صدقني هنقدر نحل أي مشكلة، لكن لو اتعصبنا، واتنرفزنا، اتخانقنا. مافيش حاجة هتتحل دا غير اننا اكيد هنخسر، عصبيتنا هتخسرنا حقنا، لكن لو كنت هادي هتعرف تفكر صح، وتاخد القرار المناسب من غير لحظة ندم واحدة.

معتز بشرود حزين: - بس للأسف فيه حاجات بتجبرك على المواجهة وبقوة، ومهما حاولت عمرك ما تقدري تتعاملي معها بهدوء.

شادية بترقب: - حاجات؟ زي ايه؟
معتز بكلمة واحدة خاوية: - الخيانة!
ها هي قد اقتربت كثيرا من غايتها، لتقول باحتراس وكأنها تسير على وتر مشدود: - خيانة حبيبة ولا. صديق!
معتز وكأنه يحدث نفسه: - أُم!
استطاعت شادية التحكم في رد فعلها فقالت بابتسامة: - ايه يا عمي انت هتقلبها دراما؟ شكلك بتتفرج على أفلام هندي كتير.
معتز بزفرة يائسة: - يا ريته كان فيلم، لكن للأسف دا واقع ومر جدا!

وكأنه اكتشف أنه قد أفصح أكثر مما يرغب إذ سرعان ما بدّل الحديث قائلا: - المهم، انا عازمك بمناسبة الوظيفة الجديدة، لا ومش بس مدير حسابات ومشرف في الدار دا كمان في سكن في نفس الدار، انت تستاهلي عزومة غدا وتحلّي كمان.

شادية بابتسامة وقد تفهمت رغبته في تغيير الحديث: - فول أوبشن، حضرتك. عِد الجمايل بقه! بس العزومة دي مش هتنفع انهرده. عندنا ضيوف ولو اتأخرت مش هخلص من أُم شادية!

معتز بابتسامة: - أنا مش فاهم انت ملخبطة نفسك ليه؟ يعني في البيت شادية وفي الشغل شيرويت؟ والمهم انهم مالهومش علاقة ببعض!

تشرح شادية بصبر: - يا بني شادية دا مُجبر أخاك لا بطل. حاجة كدا زي القضاء والقدر، لكن شيرويت دا اختياري أنا. كل أصحابي وزمايلي عارفيني بشيرويت.

معتز بتساؤل: - ايش معنى أنا اللي قلتيلي شادية؟!
شادية ببساطة شديدة: - عشان أقدر ألفت نظرك، وأظن مافيش أكتر من شادية محمد منير يقدر يعمل دا، وفعلا. نجحت اني أخرجك من طوق الصمت الرهيب اللي كنت محاوط نفسك بيه.

لم يرغب معتز في الحديث ثانية عن نفسه ليقوم بسؤالها: - انتي بتيجي الدار هنا كتير صحيح؟
شادية بحرص: - لا بصراحة، هو أنا بروح دار المسنين أكتر!
معتز بعقدة جبين: - ليه يعني؟
شادية وهي تراقب ملامحه: - بيصعب عليا أوي الأمهات والابهات اللي بيكبروا في السن وبعد ما ربوا وكبروا ولادهم يرموهم في دار المسنين، وكتير منهم مش بيعبروهم ولو بنص ساعة بس، لغاية ما يموتوا ويروحوا يستلموهم عشان يدفنوهم!

معتز بجمود: - مش كل الابهات والامهات يستحقوا انه ولادهم يراعوهم، فيه منهم ما يستحقش انه ابنه يبص في وشّه حتى!

شادية بغير رضا: - مهما عملوا دول أسمهم أب وأم، إذا كان ربنا قال لو أب وأم كافرة ما نقطعهومش، ونبرهم ونصل رحمهم، لكن ما نطعهمش في معصية ربنا، يبقى مهما عملوا المفروض الولاد ما تبئاش قاضي وجلاد، الأب والأم مينفعش نعاقبهم يا معتز!

معتز ببود ورغبة في انهاء الحديث: - دا رأيك.
شادية وقد ارتأت أن تؤجل النقاش في هذا الأمر حاليا: - المهم، انت سحبت عزومتك ولا ايه؟ أنا عصافير بطني زقزقت من الجوع!
معتز بابتسامة وهو يشير اليها لتتقدمه: - لا يا ستي ما سحبتش، اتفضلي عشان نروح نسكّت العصافير!
شادية باستفهام: - أنا أعرف هما سموها عصافير ليه؟ ليه مش حمام مثلا؟ أو بلابل؟ أي طير بيعمل صوت!

معتز وهو يسير بجانبها: - أهي دي اللي مقدرش أفيدك فيها. بس هتلاقيها موروثات لينا زي الامثلة الشعبية تمام.

ليستقلوا بعدها سيارته، متجهان لتناول طعام الغداء، وكان معتز قد التزم الصمت حينما سألته شادية عن سبب رفضه للعودة الى منزله، فكان أن رتبت مع ريتاج وسهام أمر عمله في مؤسسة تاج الرحمة، فهو قد ترك العمل في شركات العايدي أيضا، لتقترح ريتاج أن يسكن في السكن الداخلي بالمؤسسة، وهو عبارة عن جناح يتكون من غرفة معيشة وغرفة نوم وحمام صغير، وزاوية صغيرة بها موقد غاز وبراد والاشياء الاساسية للمطبخ.

وتمر الايام، وتتوطد علاقة شادية ومعتز، الذي أصبح يشعر بأن يومه لا يكتمل الا بها، وبدأ القلب في النبض بصورة مغايرة لما كان عليه وقت أن ظن أنه يحب ريما، ولكن كيف يفاتحها برغبته في الارتباط بها؟ ماذا أن سألته عن والدته؟ هي تعلم بأن والده متوفي، فقد ذكر لها ذلك، ولكنه أحجم عن الحديث عن والدته، وهي فهمت وتفهمت رغبته تلك، ولكن. هذا لا يعني أن مصارحته لها بأمر والدته قد ألغي، بل تم تأجيلها فقط، حتى حدث ما جعله يقرر الاعتراف لها بحبه، وذلك عندما علم بالصدفة أثناء محادثة هاتفية لهما أن هناك عريس ميسور الحال قد تقدم لها وأمها تشن حربا حامية الوطيس عليها تلك المرة كي توافق، وأكثر ما أفزعه أنه ولأول مرة يلمس نبرة اليأس والاستسلام في صوتها، ليطلب منها أن مقابلته في اليوم التالي، فوافقت، وهناك على ضفاف نهر النيل، اعترف لها بمكنونات صدره، وأنه يريد الزواج منها، فانتهزت الفرصة وسألته عن والدته قائلة:.

- معتز. أنا مقدرش أنكر انه ليك معزة خاصة عندي، بس قبل ما أوافق أو أرفض، انت كلمتني عن والدك الله يرحمه، وفهمت من كلامك انه والدتك عايشة بس الصلة شبه مقطوعة، ممكن أعرف السبب؟

معتز برفض: - مش مهم، إلى بتقولي عنها أمي دي متفرقش معاكي في حاجة، لأنها بعيد وهتفضل بعيد عن حياتنا نهائي!

قطبت شادية وقالت باستهجان: - يعني ايه يا معتز؟ دي مامتك! يعني اذا حصل نصيب أن شاء الله هتبقى حماتي وجدة أولادنا! وبعدين ايه الطريقة اللي انت بتتكلم بيها عنها دي؟

معتز بجمود: - لو سمحتي يا شادية دا مش موضوعنا.
قاطعته بقوة: - لا موضوعنا! لو انت كدا مع مامتك يبقى معايا أنا هتكون ازاي؟
معتز بحدة: - انتي غيرها!
شادية بعناد: - اللي مالوش خير في أهله مالوش خير في حد! و دي تبقى مامتك مش أي حد.
معتز بدون تعبير: - عاوزة تعرفي ايه يا شادية؟
شادية بجدية تامة: - مامتك فين؟ وليه مش بتتكلم عنها خالص؟

معتز بتعبير منغلق: - معرفش هي فين، اما عن كلامي عنها من عدمه فأعتقد دا شيء يخصني أنا.
شادية وقد قررت طرق الحديد وهو ساخن: - بس لما يكون سبب الحالة اللي كانت عندك واضطراب الكلام متعلق بمامتك وقتها يبقى ليا حق أتدخل، دا باعتبار انك متقدم لي!

معتز بدهشة: - انتي بتقولي ايه؟
شادية مؤكدة: - بقول أنه حالة التأتأة في الكلام كانت حالة نفسية مش عضوية أبدا، وانها بعد الفترة اللي انت خضعت فيها للعلاج في المستشفى اتضح انها ليها علاقة بوالدتك. عشان كدا مهم عندي اوي أعرف طبيعة العلاقة اللي بينكم.

قاطعها معتز قائلا: - كانت! علاقة كانت بيننا زي أي ابن وأمه، انما دلوقتي أنا معرفش فعلا هي فين.
شادية وهي تزم عينيها: - ولو عرفت؟
معتز بريبة: - يعني ايه؟
شادية بهدوء: - لو عرفت مامتك فين، هتجاوبني على أسئلتي؟
معتز بتملص: - لما أبقى أعرف!
شادية وهي تتناول حقيبتها وتنهض مشيرة له بالقيام: - طيب تعالى معايا.
معتز وهو يقف:
- على فين؟
شادية بهدوء: - لما تيجي هتعرف!

وقفا على مسافة منها، حيث تجلس في مكانها المعتاد، لتراقب شادية تعبيرات وجه معتز التي تراوحت بين الصدمة، فالبرود ثم. الجمود! قبل ان يتجه ناحية والدته تتبعه شادية التي وقفت على مقربة منهما.

رفعت سهام رأسها ما أن شعرت بظل يسقط عليها، لتنفرج أساريرها ما ان وقعت عينيها على صاحب الظل، وتنهض من مكانها تهتف وعينيها مغرورقتان بالدموع:
- معتز، ابني حبيبي!
لتعتصره بين ذراعيها بقوة، في حين وقف هو دون أن يبادلها الاحضان، ودون أي رد فعل منه، لتبتعد عنه تحيط وجهه براحتيها وهي تهتف بقلب الأم الموجوع:
- معتز حبيبي، وحشتني. وحشتني أوي، أوي يا ابني.

أمسك معتز بيديها يبعدهما عن وجهه، ليقول ببرود: - ازيك يا. سهام هانم؟
قطبت سهام قائلة بدهشة وحزن: - ايه؟ سهام هانم؟ من امتى وانت بتقوللي كدا؟ انا ماما يا معتز، ماما.
رفع يده يسكتها وهو يقول بصلابة: - لو سمحتِ! أنا اللي اعرفه هو بابا الله يرحمه بس، لكن أمي – وضغط على أحرف الكلمة الاخيرة باستهزاء متابعا – معرفهاش وما يشرفنيش اني أعرفها!

شهقت سهام وتراجعت الى الخلف هاتفة في صدمة: - ايه؟ انت بتقول ايه يا معتز؟ أنا والدتك.
قاطعها معتز وقد انفجر ما بداخله دفعةواحدة: - ما يشرفنيش. سمعتي؟ ما يشرفنيش أنك أمي! الأم الخاينة مافيش ابن يتشرف بيها!

سهام بشحوب تام: - هي حصلت يا معتز؟

معتز باستهزاء: - اومال كنتي متوقعة ايه؟ أخدك بالحضن واقولك وحشتيني وسامحيني؟ والراجل اللي عشتي عمرك معاه وانت بتفكري في غيره؟ ابنك اللي هو أنا اللي حرمتيه من حنانك وحبك، اللي كنت السبب فيه عقدة لسانه ببرودك معاه، عشان في الاخر يكتشف انه أمه عاشت السنين اللي فاتت دي كلها مع ابوه وعقلها كله مع واحد تاني غيره، واحد اكتشف حقيقتها وسابها عشان يقع فيها راجل ماتستحقش ضفره، لأنها. خاينة. خاينة. خاينة!

اخرس!
صرخة من قلب أم يحترق وصفعة من يدها شعرت وكأنها هوت على وجنتها هي، ولكنها تحاملت على نفسها، وقست على قلبها، علّها تستطيع انقاذ وحيدها من تلك الحفرة السوداء التي تهدد بابتلاع كل ما هو جميل فيه، فكان لا بد لها أن تقسو حتى تنقذه من نفسه فلعل الاوان لم يفت بعد!

وقفت سهام تلهث بقوة بينما طالعها معتز بذهول فيما أشارت اليه سهام بصرامة: - انت متعرفش حاجة عن اللي كان بيني وبين باباك عشان تدّي لنفسك الحق انك تحاسب وتحاكم وتدين، مش من حقك تبقى القاضي والجلاد. من امتى والاولاد بيحاسبوا أهاليهم؟

صرخ معتز قائلا: - أيوة يحاسبوهم، لما الصورة المثالية تظهر انها مزيفة، ولما المثل الاعلى يبقى فالصو، لما الالماس يتضح انه ازاز لازم نحاسبهم!

سهام بقوة بينما شادية تقترب منهما وقد شعرت بصفعة سهام وكأنها سقطت على قلبها هي وهي تلاحظ علامات أصابعها فوق وجنته اليسرى:.

- لا مش من حقك! لكن انا من حقي. من حقي أحاسب وأحاكم وأجلد كمان! أنا عمري ما كنت خاينة لباباك، وربنا وحده يعلم انى عشت عمري كله معاه بما يرضي الله، انما اللي في القلب دا ما كانش حب. لا! دا كان طار (ثأر)! طاري من اللي دبحوا قلبي وحرقوا أحلامي، من ناس أنا ما أذتهومش في حاجة غير اني زي كل بنت حبيت العريس اللي متقدم لها، عشان يسيبها ويروح لتلميذته، اللي خطفته منها! احساس بالمرارة عمره ما راح من حلقي!

معتز بمرارة: - لو كنتي حابيتي بابا كنتي حاسيتي انه تعويض من ربنا ليكي.
صرخت سهام: - أنا مش ملاك. أنا انسانة. انسانة بإيديهم شوهوها وأصبحت مريضة، عمر قلبي ما عرف طريق الحقد والكره، وأحلف لك بالله اني نسيت كل دا، لكن كله رجع مرة واحدة لما اشتغلت معهم وحبيت بنتهم.

لتنظر في عينيه بقوة وهي تهتف بتحد: - انت كمان يا معتز. انت عملت نفس اللي انت واقف تحاسبني عليه دلوقتي، انت حبيت ريما وانت عارف انها مخطوبة لغيرك، لا ومش بس كدا دا مكتوب كتابها كمان، تفتكر دي مش خيانة منك للراجل دا؟

معتز بذهول غاضب وتلعثم واضح أقلق شادية: - خ خي خيانة إي إيه؟ أنا عمري ما لمّحت لريما بحاجة ولا.
قاطعته سهام بقوة: - كفاية انك سمحت لنفسك انك تبص لمرات واحد تاني، دي في حد ذاتها أكبر خيانة! لو عاوز تعرف مين السبب في اللي حصل يبقى انت!

هتف معتز معترضا: - كدب!
سهام باصرار: - لا يا معتز دي الحقيقة! مقدرتش أشوف حكايتي بتتكرر تاني، حاسيت وكأنها لعنة صابتني أنا وأنت، للحظة شيطاني قالي وايه المانع، جِه وقت سداد الدين، عشان ابنك قلبه ما يتحرقش زيّك! كنت عاوزة أحقق لك حلم حياتك، خصوصا بعد ما شوفت ضحكتك لأول مرة من سنين، أول مرة أحس انك بتحب الدنيا فعلا، لدرجة انه الكلام عندك بعد طبيعي جدا. بتلومني وتحاسبني على ايه؟ أني أم!

سكتت للحظات تابعت بعدها بخيبة أمل: - للأسف يا معتز. دا الشيء اللي مش ممكن تحاسبني عليه. أمومتي هي اللي خليتني أعمل كدا، أفتح دفاتر قديمة عشان أصفي الحسابات اللي فيها، على أمل اني أقدر أساعدك تكسب حب حياتك، لو الطريقة غلط فالغاية تبرر الوسيلة، لكن أنا ما اسمحلكش تقول عليا خاينة. أبوك الله يرحمه مات هنا.

ورفعت ذراعيها الى الاعلى متابعة: - بين ايديا دول، تقدر تنكر؟ مات وآخر حاجة شوفتها منه ابتسامته، مات وهو بيقولي أنا عارف ومسامح. لأنه مش بإيدك! مين اللي قالك انى متعذبتش طول السنين اللي فاتت وخصوصا بعد ما مات؟ مين قالك انه الندم ما قتلنيش في اليوم 100 مرة لما لاقيت اني ضيعت ذكريات حلوة كنت ممكن أجمعها مع راجل عمري ما هقدر أعوضه!

تهدج صوتها بالبكاء وهي تردف بحسرة تقطع نياط القلب: - مين قالك اني مش ببكي كل يوم وأنا بطلب من ربنا أنه يسامحني ويغفر لي، مع أنه قالها لي قبل ما يغمض عينيه للأبد. قالي مسامحك، لكن أنا مش قادرة أسامح نفسي. بعد دا كله جاي تحاكم وتعاقب؟ مش من حقك...

سكتت تراقبه قبل ان يعلو صوتها ثانية بقوة: - سامعني؟ مش من حقك! واذا كنت الاول بدعي ربنا اني اشوفك واطمن عليك فأنا دلوقتي اللي بقولك مش عاوزة أشوفك تاني. اعتبرني مُت يا معتز، سمعتني، مُت!

تقدمت شادية من سهام تقول بقلق وهي تسترق النظر لمعتز الواجم أمامهما: - طنط سهام ارتاحي حضرتك، الانفعال خطر عشانك!
سهام بتعب: - ساعديني عشان أرجع أوضتي يا شادية!
لتقوم باسنادها شادية وهما في طريقهما لغرفة سهام، حيث علا صوت معتز يقول بصدمة: - انتم تعرفوا بعض؟

وقفتا لتلتفت اليه شادية تقول بوجوم: - أنا عرفت طنط سهام من وأنا بتابع حالتك في المستشفى، طبعا انت دلوقتي هتقول اننا اتفقنا عليك، وأنا بؤكد لك المعلومة دي!

هتف معتز بذهول: - ايه؟!
شادية ببرود: - اتفاقنا كان عشان تخف وترجع لحياتك من تاني، توقعت المواجهة بينك وبينها، لكن عمري أبدا ما توقعت الاهانة! يمكن أكون معرفش تفاصيل كتير، لكن بالنسبة لي كفاية اوي اللي عرفته لغاية كدا!

معتز بريبة: - يعني ايه؟
شادية وهي تحاول تمالك أعصابها كي لا تفلت دمعاتها: - يعني طلبك مرفوض يا استاذ معتز، مامتك مهما غلطت فهي أولا وأخيرا مامتك، لما معها وبتعاملها كدا، أومال مع مراتك بقه هتعمل ايه؟ أنا عاوزة اللي يتجوزني يكون بار بأمه حتى لو كانت عاصية! لأنه حسابها عند ربها (ونعم بالله) مش. ابنها!

معتز بالحاح: - شادية ما تسعتجليش، فيه حاجات كتير انتي متعرفيهاش!
شادية ببرود: - ومش عاوزة أعرفها! عن إذنك يا. أستاذ معتز!

وأمسكت بمرفق سهام تعاونها على السير بينما وقف معتز يتابع ابتعادهما عنه بعيون زائغة وشحوب يكسو وجهه، بينما كسى وجهه الذهول وعدم التصديق، ليفيق من حالة التبلد التي أصابته إثر صرخة عالية من شادية وهي ترى سهام وهي تسقط بغتة مغشيا عليها، لينتبه معتز ويهرع اليها يحملها بين ذراعيه، ويتجه سريعا الى غرفتها، دقائق وكان طبيب الدار يفحصها، ليخرج اليهم يخبرهم بضرورة نقلها الى المشفى، فحالتها الصحية في خطر.

يروح ويجيء في الرواق أمام تلك الغرفة المخيفة، المسماة ب العناية المركزة. فبعد أن تم ادخالها وقام فريق من الاطباء بعمل اللازم، دلف هو اليها، ولم تمر خمس عشرة دقيقة حتى كان يخرج بأمر من الاطباء، وها هم بالداخل منذ ما يقرب من الساعة، لا يعلم ما يجري هناك، بينما وقفت شادية تراقبهم من خلال الزجاج الفاصل بينها وبينهم ودموعها تجري فوق وجنتيها، وما هو الا قليل حتى كان الاطباء يدلفون تباعا من الداخل، ليهرول معتز ناحيتهم تلحق به شادية ووقف أمام أكبرهم يحاول تمالك نفسه وهو يسأله:.

- ايه الاخبار يا دكتور؟
الطبيب بمهنية وان كانت الشفقة على ذلك الشاب قد ظهرت في نبراته: - شِد حيلك يا بني. البقاء لله!
شهقت شادية عاليا لتسارع بكتم فمها بيديهان بينما نظر اليها معتز في ذهول وقال وهو يحرك رأسه نفيا من اليسار الى اليمين:
- لا لا لا. انت سم سمعتي هو بيقول ايه؟ ماما – وأشار الى نفسه متابعا – ماما ما، ماتت! آآآآآآآآآآآه!

وصرخ صرخة عالية، قبل أن يتهاوى الى الارض فهرعت شادية اليه تسنده، بينما انهمرت دموعه وتعالى صياحه، دون خجل، ف هي أمه!، بهذه البساطة! لا أكثر ولا أقل! تلك هي أمّه التي لا يستحي أن يذرف من أجلها الدموع. فمهما عزّت دموع الرجال. تظل الأم هي الأعز والأغلى. مهما صار وكان!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة