قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الثالث والأربعون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الثالث والأربعون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الثالث والأربعون

لا تصدق ما تعيشه معه، لقد اختلف مائة وثمانين درجة، وكأنه لم يكن هو ذات الشخص المتجهم دوما، والذي كان يخرج كلماته اليها بصعوبة شديدة، فمن يراه وهما في حفل الزفاف لا يكاد يفارق جانبها دقيقة واحدة يؤكد أنه مدلهٌ في هواها! ولكم تتمنى أن يصدق اعتقادها، ولكنها تعلم جيدا أنه لا يزال أمامها كثير من المطبّات والتعريجات حتى تصل الى قلبه، ويوم أن يصرخ بحبها ستعلم حينها أنها قد نجحت في الوصول اليه، وقامت باحتلال تلك المضخة التي تشعر بها في اوقاتهما الحميمية وكأنها تهمس لقلبها بسر الأسرار، فكأنها قد تضامنت معها ضد صاحبها، وما هذا السر الا هدفها المنشود الذي تسعى ورائه، وهو اعتراف صريح منه بالعشق، ولكن يظل أمامها أن يخرج هذا السرّ من مرحلة همسات القلوب الى. اعترافات الألسنة!

نظر اليها مبتسما بزاوية فمه بينما يده الكبيرة تحتوي في راحتها الضخمة كفها الصغير الهش الذي يبدو كالعصفور الصغير، فيما ابهامه فيلمس ظاهره بحركة دائرية، جعلتها طوال الوقت تعض على باطن شفتها السفلى كعادتها حينما يغمرها الخجل، وتجعله هو يتوق لفك أسر تلك الشفاه من بين اسنانها اللؤلؤية وسجنها وسط شفتيه هو، ليرتشف رحيقها المسكر والذي اكتشف أنه لا يشبع منه أبدان فقد غدا كالادمان بالنسبة له!..

لا يعلم متى أضحت تلك الصغيرة بمثل هذه الاهمية بالنسبة له؟ أو تحديدا. كيف نجحت في أن تستولي على قلبه كلّه حتى غدت نبضاته لا تنطق الا باسمها؟ وليس قلبه وحده، بل عقله أيضا! فالوقت الذي يقضيه بعيدا عنها تكون هي شغله الشاغل، محتلة عقله بل وتفكيره أجمع!

ولكن، هناك شيء يعوقه أن يعترف لها بها صريحة، لا يدري ماهو، ولكن ما يعلمه جيدا أن اعترافه هذا لن يظل طي الكتمان طويلا، فهو يشعر بأن قلبه سيجبر لسانه على النطق به، ووقتها فليعنها الله، فستكون كمن فتحت السد أمام طوفان مشاعره العارمة، وعندها ستغرق تغرق. لا محالة!..

وصلا الى بنايتهما ولم يكونا قد تبادلا الا قليل من الكلمات، فمشاعرهما تنذر بالانفجار، ليصف سيارته ويترجل فتبعته بدورها، وبعد أن أغلق سيارته لحق بها يحيط خصرها الدقيق بذراعه يدفعها برفق أمامه، وهو يميل عليها يهمس لها بكلمات تجعل وجنتيها تزدادان احمرارا، وابتسامتها تتسع، تستفزه كي يبتلعها مرتشفا شهدها!

صعدا الى شقتهما، وفواز لا يكاد يصبر حتى وصولهما، فكان يلثم وجهها بقبلات صغيرة دافئة، لتهمس هي بحياء وقلق من أن يراهما أحد:
- فواز، مش كدا. حد يشوفنا!
فواز وهو يصعد بتباطئ رهيب بينما شفتاه وكأنهما قد التصقتا بغراء فوق حرير بشرتها:
- ما تقلقيش، احنا وش الفجر، وبعدين حتى لو حد شافنا، احنا عرسان والكل عارف، ومحدش له عندنا حاجة!

زفرت بقلة حيلة وقالت وهي تحاول الابتعاد عن مرمى شفتيه: - طيب عشان خاطري استنى لما نطلع...
ابتعد فواز بوجهه عنها ونفخ بغيظ قائلا: - حاضر!
ابتسمت تسنيم وشرعت باكمال سيرها فقد تبقى طابقين للوصول الى شقتهما، حينما فوجئت بنفسها وهي تطير في الهواء فشهقت بدهشة، لتحط بعدها بين ذراعيه، فنظرت اليه لتطالعها ابتسامته العابثة حيث غمز لها قائلا بمكر:.

- عشان نوصل أسرع، في ثوان هتلاقي نفسك فوق، ولا تقولي اوبر ولا كريم. مش هتطلبي الا فواز بعد كدا!

ضحكت بنعومة، ليسارع هو بالصعود وهو يحملها بين ذراعيه وكأنها في وزن الريشة، وبالفعل في خلال ثوان قد تتعدى الدقيقتين على أقصى تقدير، كانت قد دلفت الى شقتهما، ليرفض وضعها أرضا ويتجه بها من فوره الى غرفتهما، ليحطّها على قدميها، فأحاطت عنقه بذراعيها ونظرت الى عينيه بينما لف ذراعيه حول خصرها الدقيق، همست بحب تجلى بصدق بين بندقيتيها:.

- معرفش أنا عملت ايه عشان ربنا يرزقني بيك، لكن اللي أنا متأكدة أنك دعوة ستّي الله يرحمها ليا، لما كانت بتقولي ربنا يرزقك بابن الحلال اللي يكون سندك وعزوتك، ويملا حياتك دفا!

فواز بهمس مماثل وعيناه تغرقان في بركتيْ العسل خاصتها: - وأنا فعلا كدا يا تسنيم؟
تسنيم بلمعة صدق في مقلتيها: - تصدقني لو اقولك انى معاك بحس اني وسط اهلي كلهم؟ ولما بتكون بعيد عني حتى لو وسط 100، بحس اني لوحدي، وبكون عاملة زي العيّل التايه، البعيد ان ابوه وأمه!

عقد الذهول لسان فواز، ربّاه. كيف لم يعي لكم المشاعر الزاخرة التي تحملها له هذه الصغيرة، بل كيف أغرق نفسه وسط شفقة بائسة عليها وعلى مشاعر زائفة لا ترقى أبدا لذلك العشق الخام الصادق الذي يراه في عينيها، ليهمس وقد تدفقت مشاعره بقوة:
- تسنيم أنا.

ولأول مرة تخونه الكلمات، ولا يعرف كيف يجيبها، ليجد أن الفعل أبلغ وسيلة للرد عليها، فقرّبها منه، يعتصرها بين ذراعيه، حتى ضربت عضلات صدره القوية صدرها الغض، وأخفض رأسه، يقطف كرز شفتيها، يحملها معه في عناق كان من النعومة أن جعلها تريد البكاء، ومن القوة أن جعلتها تريد الاحتماء به أكثر فأكثر، لتدفن نفسها اليه، فهاجت مشاعره، ورفعها متجها الى فراشهما ليلبي رغبة القلب قبل الجسد، في الغرق بين تلك الامواج الثائرة، في بحر عشق عاصف، لا شاطئ ولا مرفأ له إلا، ذراعيه وقلبها!

رنين تصاعد وهما غارقان في لجّة مشاعرهما العاصفة، لتهمس تسنيم وهي تبعد شفتيها بالقوة عن فمه اللحوح:
- فواز الموبايل بتاعك.
فواز رافضا الابتعاد عنها: - سيبيه، ركزي معايا انا...
تسنيم وقد بدأت تضعف للمساته الحميمة التي ازدادت جرأتها: - يا حبيبي اكيد حاجة مهمة، محدش هيتصل الساعة دي الا لو أمر ضروري، لا تكون ستّي تعبت ولا حاجة!

قطب فواز وابتعد عنها يرفع هاتفه الشخصي الموضوع فوق الجارور بجانب الفراش، ليقطب في حيرة وقلق وهو يرى اسم جدته يلمع على الشاشة الصغيرة أمامه، وكان قد حفظ رقم هاتفه في هاتف جدته برقم معين، فإذا ما احتاجته ليس عليها الا الضغط مطولا على هذا الرقم لتقوم الاتصال به، ومعنى أن تهاتفه في مثل هذا الوقت أن هناك حدث جلل. قد تكون. مريضة؟!

عند هذا الخاطر أسرع فواز باستقبال المكالمة وهو يجيبها بلهفة وقلق: - أيوة يا حاجة.
الجدة بصوت مضطرب خجل بعض الشيء: - معلهش يا فواز يا بني عشان بتصل في وقت زي دا.
قاطعها فواز بجدية بينما نظرت اليه تسنيم بتقطيبة قلق وتساؤل: - ولا يهمك يا حاجة، انت تتصلي في اي وقت، خير. انت تعبانة ولا حاجة؟
سكت فواز ينصت لجواب جدته والتي ما ان انتهت حتى صاح فواز بذهول عارم وهو يقفز واقفا:
- ايه؟!..

حاولت تسنيم الحديث فأشار لها بالصمت ليقول بعجالة: - طيب. طيب. أنا هتصرّف!
أنهى الاتصال، لينظر الى تنسيم قائلا ولا تزال الصدمة لم تفارقه: - ممدوح جه كان عند الحاجة انهرده!
تسنيم قاطبة وقد بدأ الشك يغزوها: - و؟..
فواز وهو ينظر اليها بعينين يكسوها الذهول: - سألها عليا قالت له أننا في فرح...
شهقت تسنيم بغير تصديق قائلة: - ريما!
فواز بزفرة قلة حيلة وأسى: - للأسف ايوة، أنا مش عارف أعمل ايه؟

تسنيم بعدم فهم: - بس يا فواز، هي مش ستي عارفة انه ريما هي اللي كانت خطيبة ممدوح؟ على كلامك ليا عن ريما انكم اصدقاء من زمان، انت وهي وممدوح، وممدوح صاحب عمرك يبقى.

قاطعها فواز شارحا بتنهيدة طويلة: - ما كانتش رابطة بين الاتنين، كل اللي كانت تعرفه انه ممدوح خطب ريما زميلتنا ومحصلش نصيب، ولما ابتدت ريما تزورنا معرفتهاش بيها، كل اللي قلته انها زميلتي، ولعلمك جدتي متعرفش الحكايات والروايات بتاعت ممدوح دي، انا ما قلتهلهاش اي حاجة، فما جاش في بالها انه ريما اللي شافتها وبئيت (اصبحت) صاحبتك هي نفسها ريما اللي كانت خطيبة ممدوح، خصوصا واني بطّلت (توقفت) اجيب سيرتها من وقت ما سابته، لكن انهرده وهي بتقوله فهمت انه الاتنين واحد، خصوصا لما قالها انه عارف انها هتتجوز عصام قريبها، وانه بيتمنى لها كل خير.

تسنيم بحيرة وهي لا تزال لم تفهم أين مكمن الخطأ الذي يجعل فواز على هذه الحالة من القلق والتوتر:
- بردو مش فاهمه، فين الغلط هنا؟ انها قالت اننا روحنا فرح ريما؟
فواز بزفرة حارقة: - لا. لانها قالت مكان الفرح!
شهقت تسنيم بصدمة: - ايه؟!
تنهد فواز بتعب وقال: - للأسف آه.
تسنيم بقلق وحيرة: - طيب وانت هتعمل ايه دلوقتي؟
فواز وهو يرفع هاتفه محاولا الاتصال بممدوح: - هكلم ممدوح.

لحظات وكان صوت آلة التسجيل يعلو معلنا أن الهاتف المراد الاتصال به مغلق، ليزفر فواز ويقول بعزم:
- ما بدهاش بقه!
وضغط زر الاتصال ب خالها. أدهم شمس الدين!

نظر الى زوجته التي تقدمت ترفع طرف الغطاء لتندس بجواره وقال: - اطمنتي على الولاد؟
ضحكت بنعومة وقالت: - نايمين زي الملايكة، دادة بتقولي كنتي تعالي شوفيهم وهما صاحيين، ومعهم ولاد مهدي وشمس، مولد وصاحبه غايب.

مراد بابتسامة: - كويس اننا قلنا لهم يسيبوا الولاد نايمين، مع ان لبنى كانت افضة تسيب نهاوند خالص، لكن اخوكي مسيطر! قدر يقنعها أنه دادة بتحب الاطفال وطالما ما ضايقتهاش طول الفرح يبقى خلاص.

همس وهي تقترب منه لتدس نفسها في أحضانه حيث فتح لها ذراعيه على وسعهما: - مهدي دا نمرة، لا وبكل براءة، هي نايمة دلوقتي مش معقول نصحيها في الوقت دا عشان ناخدها دا غير احمد اللي هيقلقوه هو كمان.

مراد بضحك: - واسلام اللي ما صدّق وقالي خلوا نادرين شهر العسل كله عندكم!
همس وهي لا تكاد تلتقط أنفاسها من الضحك: - وشمس الل بصّت له زي ما يكون حاجة غريبة وقالت له وانت مالك انت ومال شهر العسل، انت فاكر انهم هيعزمونا نحضره؟!

مراد وهو ينظر اليها بحب: - اخوكي وجوز اختي شكلهم كدا عاوزين يرجعوا عرسان من اول وجديد!
همس بابتسامة: - فكرتني. أسامة ويارا محضروش الفرح عشان مسافرين.
وكالعادة عند ذكر أسامة لا يستطيع مراد منع نفسه من أن يظهر عليه بعض من التحفظ والترقب، بينما تساءل:
- شغل؟
همس ببساطة: - لا، عيد جوازهم وأسامة عمل مفاجأة ليارا وسافروا فيينا يحتفلوا بيه، كلمتني عشان تبارك لريما وقالت لي.

مراد بابتسامة طفيفة: - امممم. كويس، طارق كمان كلم عصام امبارح يبارك له واعتذر له انه معرفش ياخد أجازة عشان ينزل هو وهنا وشهد بنتهم.

همس بأسف: - هنا كان صوتها معيّط (باكي) لما كلمتنا، بتقول مش متصورة انها مش هتحضر فرح عصام وريما، وطارق رفض انها تنزل هي وشهد.

مراد بتفهّم: - طارق خايف يا همس، مش عاوز يجازف ولو ل 1%، المرة اللي فاتت هنا نزلت عشان موضوع بابا وما رضيتش ترجع وطارق جِه وراها على ملا وشّه، دا اللي خلّاه يرفض نزولها تاني، خصوصا على كلامه ليا أنه الجو هادي بينهم الى حد ما، لكن مش هيرتاح الا لما يرجعوا مع بعض زي الاول وأحسن.

همس بتنهيدة: - الزمن كفيل يا مراد أنه يداوي الجرح، المهم أنه طارق يثبت لهنا انه اتغير، انا اتفاجئت انه حكيلك.

مراد بهدوء: - ما انتي عارفة اننا أصحاب، ومقدرش كان لازم يحكي، يمكن اسلام اللي معندوش التفاصيل، كل اللي يعرفه انه فيه سوء تفاهم بينهم وخلاص.

همس بصدق: - ربنا يهدي الحال بينهم.
مال عليها مراد ناظرا في عسليتيها وهو يهمس متسائلا: - ويا ترى الزمن قدر يداوي جرحي ليكي؟
همس بدهشة صادقة: - انت لسه فاكر يا مراد؟
مراد بأسف حقيقي: - وعمري ما هنسى.
همس وهي تحيط وجهه بكفيها: - لا، لازم تنسى، لاني أنا كمان نسيت، واللي داوى جرحي انت يا مراد! حبك ليا هو اللي شافاني.

لتردف بعد هنيهة بهمس ناعم: - بحبك يا مراد.
مراد بهمس خشن ونظرات عشق ملتهبة: - بعشقك يا همسي.
وببطء كان يحملها معه على أجنحة عشقهما السرمدي، مسافران الى عالمهما الخاص، حيث لا وجود سوى لهمس ومراد فقط...

كانا قد سقطا نائمان بعد عودتهما من رحلتهما الخاصة جدا، ينعمان بأحضان بعضهما البعض، عندما صدح رنين هاتف مراد والذي استيقظ بصعوبة، وما ان طالع اسم المتصل حتى قطب مستقبلا المكالمة، ما هي الا لحظات حتى كان النوم قد طار فعليا من عينيه ليهتف وهو يقفز واقفا:
- حاضر يا بوب، هكلم اسلام وانبه عليه ما يجيبش سيرة لعمي محمود ولا شمس، مسافة السكة هكون عندك.

همس وهي بين اليقظة والنوم: - ايه يا حبيبي. دا خالو أدهم؟
مراد وهو يتناول ثيابه متجها الى الحمام الملحق بغرفتهما للاغتسال وتبديل ثيابه: - آه، عاوزني في حاجة كدا، متقلقيش انتي يا حبيبتي وكملي نومك.
ودلف الى الحمام لتقطب همس متمتمة بصوت ناعس: - عاوزة في حاجة الساعة 5 الفجر؟!
وأزمعت أن تستفسر منه بعد خروجه من دورة المياه ولكن. غلبها النوم لتسقط بين غياهبه مستسلمة لمداعبة الكرى لجفونها...

أغمضت ريما عينيها وقد هربت الدماء من وجهها، وهي ترى مصيرها أمام عينيها وهو يدنو منها بسرعة الصاروخ، ليلهج لسانها بالدعاء لله، وتتمتم الشهادة، وتغلق عينيها تنتظر اللحظة التي ستودع فيها هذا العالم، ولكنها لن تستطيع توديع، حبيبها. عصام!

نعم، في تلك اللحظة شعرت بالندم بأنها أضاعت لحظات بل وأيام من عمرهما في عناد أحمق، وكبرياء غبية، كانت من الممكن أن تعيشها معه، لينهلا سوية من نبع حبهما، سعيدة بين أمان ذراعيه، ولكنها حرمت نفسها من نعيم عشقه، وحرمته منها، لتأتي النهاية أسرع مما تصور، ولا يمهلها القدر كما كانت تخطط كي تربيه وتقتص منه ثأرا لكرامتها، بل يبتسم قدرها ساخرا من غبائها، فمن يضمن الدقيقة القادمة من عمره! كانت تظن أن حياتهما لا تزال أمامهما، وها هي، تجلس بين مجنون، بينما زوجها في مكان لا يعلمه الا الله، وبينها وبين الموت ذلك الجرف الذي يقترب منهما بسرعة الضوء، ولكن. هذا هو الانسان، يمضي في حياته وكأنه مخلّد في دنياه، وكأن الموت سيعلمه بموعده قبل مجيئه، ليفاجأ بأنه قد أضاع أثمن أيام حياته دون التمتع بحضن أحبائه، بل في السعي وراء كبرياء غبية، مستسلما لعناد أحمق أهوج...

فتحت عينيها قليلا فرأت الجرف وهما قاب قوسين أو أدنى منه، لتحبس أنفاسها، وتتلو الشهادة، وهي تشعر بأن قلبها سيتوقف من شدة الرعب، وتغمض عينيها بقوة وهي تصرخ عاليا رغما عنها، وفجأة، لا شيء! لم يحدث شيء!، سكون تام أحاط بها! ففتحت عينيها تطالع حولها، لترى السيارة وهي تتأرجح بهما على قمة الجرف، فرفعت عينيها لتقعا على وجه ممدوح المبتسم ابتسامة مزهوة غير طبيعية، قال بعدها منتشيا: - خفتي صح؟ لكن أنا بردو قلت لازم أسألك قبل ما نموت سوا، وأنت اللي هتختاري!

ريما مقطبة وبصوت بالكاد يظهر: - أختار؟! أختار ايه؟
فغابت الابتسامة من على وجهه، وبرقت عيناه ببريق مجنون وقال بلهجة مخيفة: - أنا أو الموت!
توسعت عينيها للحظات رعبا وذهولا، قبل أن تتنفس بعمق، وتجيب بجمود تام: - أنت والموت واحد!
ارتفعت طرف شفته العليا في ابتسامة أسف زائف، وقال وصوته يحمل رنة خيبة امل واضحة: - كنت اتمنى اسمع حاجة تانية، عامة انا مش هزعل، انت اخترتي الموت، صح؟

ازدرت ريقها بصعوبة لتحاول الثابت مجيبة: - صح!
ممدوح وهو يحرك كتفيه بقلة حيلة: - امممم، طيب.
ثم اردف بأسف مصطنع: - بس أنا اخترتك انتِ!
وقبل ان يتثنى لها الاستفهام ولم يكن قد أبطل المحرك بعد، اذ به يقوم بتحريك السيارة فتشهق ظنا منها انها تتقدم الى الامام، ولكنها فوجئت به يحركها بضعة خطوات الى الخلف، قبل ان يبطل المحرك وينظر اليها آمرا بصلابة مخيفة وقد انقلب الى النقيض في لحظة:
- اقلعي الطرحة!

همست بصدمة وهي تمسك بطرف وشاح فستان الابيض الشفاف: - نعم؟!
صرخ ممدوح عاليا: - ياللا!
لترتبك ريما، وتقوم بفك دبابيس الشعر التي تثبتها في خصلاتها السمراء، وبعد ان انتهت نزعها من بين يديها ليتحسس نعومتها بين يديه قائلا بحسرة مصطنعة: - كان نفسي أنا اللي أقلعهالك بايدي، لكن أعمل ايه بقه، انتي السبب انتي اللي اخترت جوازنا يبقى بالشكل دا!
ريما بذهول تام: - انت مجنون! جواز مين؟ انا أساسا متجوزة من عصا...

هدر فيها بعنف: - اوعي اسمعك تجيبي اسمه على لسانك، انا لولا اني كنت عاوز أخلص بسرعة ما كنتش هاخدك وامشي الا بعد ما اخلص عليه، لكن مكتوب له عمر، انما مسير عمره دا يخلص!
هربت كل قدرة دم من وجهها، لتتركه أبيضا يضاهي لون الموتى، قال بعدها بلهجة باترة: - انزلي!
ريما بدهشة وعدم فهم: - انزل فين؟

ممدوح ببساطة: - ما تخافيش انا رجعت بالعربية عشان تقدري تنزلي من غير ما تخافي، وانا هحصلك بس بعد ما أحط كلمة النهاية!
قطبت ريما بحيرة وتوجس ليردف موضحا ببساطة: - احلى حاجة في ولاد الذوات دول النظام! البيه قلع جاكيته، واكيد محفظته فيها صح؟
أومأت ريما بالايجاب ليتابع: - وانتي طرحة فستانك في العربية، يعني اللي هيلاقيها مش هيسال نفسه فين باقية الفستان، المصيبة هتنسيه.
ريما بحيرة وقلق: - مصيبة ايه؟!

ممدوح بأمر: - انزلي وانتي تعرفي!

لتترجل بخوف وكادت تسقط، وما ان أصبحت خارجا حتى ضغط بقوة على دواسة البنزين، لتنطلق السيارة المترات التي تفصلها عن الهاوية، وقبل ان تسقط بينما تتابع ريما ما يحدث بخوف كاتمة شهقتها، كان ممدوح يقفز من السيارة التي هوت تتقلب عدة مرات في الهواء قبل ان تستقر على سقفها بينما عجلاتها تدور وتدور وما هي الا دقائق حتى انفجر خزان الوقود، فتقدمت ريما تشاهد من اعلى الدخان الاسود المتصاعد، لتسمع صوته من خلفها يقول بنصر: - قلت لك انه مصيرك معايا في الاخر!

ليعلو صوتا جامدا من خلفهما، يقول بهدوء مخيف: - عُمر الملايكة مصيرهم ما بيتربط بمصير الشياطين!
ليلتفت ممدوح سريعا وهو يهدر بجنون: - مين.
ولم يكد ينطق حتى انهالت صاعقة من اللكمات القوية على وجهه بينما استدارت ريما ببطء وهي غير مصدقة للصوت الذي سمعته لتهمس بذهول تام: - عصام!

ولكن عصام كان في خضم معركة مع شخص فقد كل ذرة عقل لديه، ليلتحما فوق الرمل والحصى، واعتلاه عصام يجلس فوق بطنه ويقول وهو يهم بلكمه في وجهه الذي تغيرت معالمه من قبضة عصام الحديدية: - لو انت مجنون، أنا بقه هوريك الجنون اللي على أصله!

وهوى بعدها بكلمة أطاحت أسنان ممدوح الامامية، فمسح دمائه، التي نظر اليها لتبرق بعدها عيناه ببريق شيطاني مخيف، ويقبض على مقدمة قميص عصام الممزق، فلمعت عينا عصام بالمثل، وبدأت الحرب بينهما، وقد اتفقا كلاهما أن نهايتها لن تكون الا بموت أحدهما، وفُتحت أبواب الجحيم على مصراعيها!

تصبح على خير.
ألقت عليه تحية المساء بصوتها الهادئ وهي في طريقها الى غرفة ابنها للاطمئنان عليه، فأجابها سريعا:
- أنتى هتنامي؟
وقفت منال واستدارت اليه تطالعه بتساؤل وهي تنظر الى ساعة معصمها: - الساعة 2 بعد نص الليل، وبعدين مش انت اللي صممت اننا نقوم قبل الفرح ما يخلص وقلت انك تعبان وعاوز تنام؟!

نظر هشام اليها متمتما بسخط بداخله: - اومال كنت عاوزاني اقولك ايه؟ اني من اول لحظة لينا في الفرح وانا عاوز أقوم؟ أساسا من ساعة ما شوفتك بالفستان وأنا ماكنتش عاوز نروح، سبحان مين صبرني لدلوقتي وما رجعناش بعد نص ساعة من الفرح!

نادته عدة مرات قبل ان ينتبه اليها، لتقول بصوت حائر: - مالك يا هشام؟ عاوز حاجة؟ أعملك حاجة قبل ما أنام؟
قطب وهو يطالعها مفكرا أنها لو علمت ما يريده تماما فهو على يقين من أنها ستصرخ متهمة اياه بالتحرّش الفكري بها!

سعل هشام وقال: - لا ابدا، مش مهم.
منال باهتمام: - لا صحيح، يمكن جعان؟ أنا لاحظت انك ما اكلتش كويس مع انه الاكل كان جميل بصراحة والبوفيه ما شاء الله كان تحفة.

ليفكر أنه من الواضح أنه قد حُرّم عليه طعام الافراح طالما كانت هي رفيقته الى تلك الافراح! قاطع أفكاره صوت والدته وهي تقول بحنان:
- انتو رجعتوا؟ حمد لله على السلامة يا ولاد.
منال بابتسامة رقيقة: - الله يسلمك يا ماما، ايه اللي مصحّي حضرتك لغاية دلوقتي؟
انعام بابتسامة حنون: - أبدا يا بنتي قلقت قمت اطمنت على فريد، ما جاليش نوم، صليت ركعتين وقريت شوية في المصحف، المهم اتبسطوا؟ الفرح كان حلو؟

منال وعيناها تبرقان بسعادة وابتسامة ناعمة يراها هشام للمرة الأولى على وجهها ما جعله يقف مشدوها وبقوة:
- كان روعة يا ماما، أحلى حاجة فيه فرحة العريس والعروسة، عينيهم كانت بتنطق.
أنعام وهي تشير اليها: - طيب تعالي اقعدي واحكي لي على الفرح.
انصاعت منال لطلب انعام ما جعل هشام ذهوله يتفاقم ويتساءل بداخله هي مش كانت عاوزة تنام من دقايق؟ يا ترى النوم هرب ولا كان هروب بشياكة مني؟ ...

انتبه هشام ليلحق بهما الى غرفة الجلوس حيث جلس يستمع الى وصف منال لحفل الزفاف، فعلّقت والدته بما جعل حاجبيه يترفعان الى الاعلى بصدمة، وهو يسمعها تقول:
- ياما كان نفسي أشوفك عروسة في الكوشة، معلهش يا بنتي، سامحينا، معملناش فرح ليكي، زيك زي اي عروسة...

هشام بتقطيبة: - بس انا فاكر لما رجعت من المأمورية إلى كنت فيها وشوفت صور الفرح كانت.
أنعام بابتسامة صغيرة: - اتصوروا ف الاستوديو وبعدها اصحاب فريد الله يرحمه خدوهم وطلعوا لى النيل، هيّصُوا لهم هناك شوية، ورجعوا.

هشام متسائلا: - بس انا فاكر انه منال – ونظر اليها – كانت لابسة فستان الفرح؟
أنعام بتنهيدة: - لا يا حبيبي. دا فستان سهرة بسيط لونه أبيض، ولبست تاج صغير فوق طرحتها السواريه، حتى اللي زوقها صاحبتها في الشغل...

منال باعتراض رقيق: - ما حضرتك عارفة اللي فيها يا ماما، يعني كنت هعزم مين؟ أنا مقطوعة من شجرة زي ما بيقولوا، وبعدين احنا كنا لسه في أول جوازنا واحنا أولى بالفلوس، وانا اللي صممت منعملش فرح، وفريد الله يرحمه اضطر يوافق في الاخر.

قطب هشام وقد تذكر أن أخيه بالفعل لم يقم بعمل حفل زفاف، بل اكتفى كما تقول والدته بالاحتفال مع أصدقائه على كورنيش النيل، ولم يكن هو موجودا لسفره في مأمورية خاصة بالعمل، وقد حضرت ليلى عقد القرآن وانصرفت بعده مباشرة...

أنعام بصوت رقيق مربتة على يد منال: - ربنا يسعدك دايما يا بنتي.
نهض هشام وتوجه الى أنعام الجالسة بجوار منال ليجلس على ذراع المقعد بجانبها ويقول مازحا:
- منال بس اللي ربنا يسعدها!
أنعام بلهفة الأم: - وانت يا حبيبي، ربنا يسعدكم دايما وتفضل الفرحة جوة قلوبكم، ويفرّح قلبكم بفريد ابنكم!

قصف جبهة، ذلك التعبير كان ما طرأ على ذهن هشام وهو يرى ذبول الابتسامة على وجه منال ليحتل مكانها نظرة حيرة وتساؤل، بينما طالعته أمه بابتسامة متواطئة، قبل ان تنظر الى كنّتها بابتسامة بريئة!

أنعام بحنان: - قوموا ياللا عشان تلحقوا تناموا لكم شوية، انتم بتصحوا من النجمة عشان شغلكم.
منال بابتسامة وهي تنهض: - صحيح، وأنا ورايا حاجات كتير بكرة ان شاء الله، واتفقت مع المهندس اننا نتقابل على 8ونص 9 بالكتير عشان تفنيش (انهاء) الشغل، عاوزين نفتتح الدار بقه، – وبابتسامة ناعمة اردفت – تصبحي على خير يا ماما.

أجابت انعام تحيتها: - وانت من اهله يا حبيبتي.
أوقفها هشام ولم تكن ابتعدت خطوتين قائلا: - بس انتي بكرة اجازة يا منال!
قطبت منال والتفتت اليه مكررة بعدم فهم: - نعم؟ أجازة! – وبابتسامة متسائلة صغيرة – وليه ان شاء الله ومين اللي اداني الاجازة؟

هشام ببساطة: - أنا اللي ادتهالك، وليه. عشان انا كمان واخد أجازة، قررت انه بكرة يبقى يوم الاسرة!

منال باستنكار: - قررت! لوحدك؟ وايه يوم الاسرة دا؟..
هشام ببراءة مصطنعة: - بما أني رب الاسرة فأنا اقدر واحد يحدد اللي احتياجاتها، واعتقد اننا من مدة طويلة ما اجتمعناش كعيلة واحدة، تقدري تقوليلي آخر مرة أخدتي فيها اجازة وقضيتيها كلها مع فريد كانت امتى؟

قطبت تفكر بينما هتفت أنعام مرحبة ومشيدة بالفكرة: - عفارم عليك يا بني، فعلا. فريد محتاج تغيير، الولد يا عين ستّه بئالوا فترة طويلة اوي لا بيتفسح ولا بيروح ولا بييجي، احلى مفاجأة تعملوها له انكم تخرجوه، بس اعفوني أنا، أنا ست كبيرة ومش هقدر على الخروج.

هشام معترضا: - لا يا ماما، احنا كلنا هنخرج، أنا فضيت نفسي بكرة مخصوص عشان كدا.
أنعام برجاء بينما وقفت منال تنقل نظراتها المندهشة بينهما فقد تناساه الاثنان وكأن موافقتها أمر محسوم:
- يا بني هتعب وانتو عاوزين تفسحوا فريد، هتحتاروا بيا، خلوني أنا براحتي، وأنا هكلم جارتي تيجي تقعد معايا على ما انتم تيجوا.

نهض هشام قائلا باستسلام: - زي ما تحبي يا امي.
ثم نظر الى منال مردفا: - ياللا احنا يا منال ننام عشان هصحّيكم من النجمة!

وأرفق عبارته بأن لمس مرفقها بخفة يدعوها للسير، ما جعل تقطيبتها تتعمق، وتفكر في ذهول وصدمة أن من يسمعه يعتقد أنهما زوجان بالفعل، فهو يتكلم ويتعامل معها بأريحية تامة، الامر الذي أشعرها بالاضطراب والقلق، فسحبت مرفقها مقررة الانسحاب فليلة من النوم الجيد كفيلة بجعلها تستعيد توازنها في الصباح، لتقول بعدها بهدوء مشيحة بعينيها بعيدا عنه:
- تصبحوا على خير...

كانت قد وصلت غرفتها وتدير مقبض الباب عندما امتدت يد من خلفها تقبض على يدها برفق فشهقت متفاجئة، لتلتفت برأسها فرأت هشام وهو يقف بجوارها ليهمس لعينيها المتسائلتين:
- ما مسّيتش عليكي (لم ألقي بتحية المساء)، أصل تصبحوا على خير دي متنفعش بين الراجل ومراته!

منال بدهشة: - نعم؟
ولكن هشام لم يمهلها وقتا أطول للتساؤل إذ مال عليها يلثم ثغرها بقبلة خفيفة ناعمة، أراد تعميقها ولكنه حارب رغبته بصعوبة فهو لا يريد اخافتها، ليرفع رأسه بعدها هامسا بعينين تتفرسان فيها بنظرات جعلت قلبها تتسارع دقاته بينما زينت وجنتيها حمرة قانية جعلتها أشهى لعينيه:
- دي بقه. تصبحي على خير!

ليفتح لها الباب بعدها ضاغطا المقبض الى الاسفل، ويدفعها برفق الى غرفتها بينما تطالعه هي في ذهول واضح، وكأنها منومة مغناطيسيا، ليغلق هو الباب خلفها ويستند بجبهته اليه هامسا في داخله:
- لو كان حد قالي من كم شهر بس اني هبقى زي المراهقين كدا كنت قلت عليه مجنون، لكن حبك هو السبب، عمري ما عشت المشاعر دي، وعشان كدا مش ممكن أتنازل عنها أو عنك أبدا، أنتي حياتي اللي معشتهاش، وناوي وبكل اصرار أني أعيشها!

ليتراجع عدة خطوات الى الخلف ثم يستدير منصرفا، ولم يعلم أنه على الجانب الآخر من الباب وقفت منال عدة دقائق في ذهول تام تطالع نفسها في مرآة الزينة بينما أصابعها تلمس شفتيها، وهي أكيدة أن هناك شيئا قد تغيّر فيها، ولكن ما بالها هذه المرآة لا تظهره؟ غافلة عن أن التغيير، داخلي وليس، ظاهري!

فلاش باك. فرح ريما وعصام
وقف اسلام ومراد ومهدي مع يوسف وأنور حيث سأل الأخير بمرح: - والعريس ناوي يقضي شهر العسل فين على كدا؟ أعرف ناس راحوا أسوان في عز الصيف!

وقد رمق يوسف بنظرة جانبية، ليبتسم الأخير بسخريته المعهودة، بينما قال اسلام خافضا صوته:
- ما كانش عاوز يقول، لكن على مين، أنا عرفت بطريقتي، تخيلوا فين؟
مراد بتقطيبة مبتسما: - فين؟ باريس وروما زي حالاتنا، ولا جزر المالديف؟
اسلام نافيا: - لا يا باشا، دا طلع أنصح واحد فينا كلنا، أخد من عمي أدهم مفتاح الشاليه بتاعه اللي في الساحل، واللي خلاني أتأكد أنه قالي بنفسه انهم هيسافروا من مطار برج العرب.

مهدي مصدرا صفارة عالية: - لا ناصح بصحيح، وانت عرفت ازاي يا مخبر أفندي؟
اسلام بزهو: - سمعتهم وهما بيتكلموا من يومين وما اخدوش بالهم مني، ولما سألته امبارح هيقضوا ليلة الفرح فين، ما رضيش يقوللي، قال ايه مفاجأة وهو عارفني مش بعرف أخبي حاجة عن شمس واكيد ساعتها هتقول لريما. .

أنور بمزاح: - حد يعرف يخبي حاجة على الحكومة؟ دول حكومة يا بني، كفاية يبصوا لك بصّة (نظرة) أبلة الناظرة اياها وانت تقر وتعترف بكل اللي عندك!

لتتعالى ضحكات الرجال غافلن عن أذني متربص مجنون، تسلل الى الفرح في غفلة عن الجميع، لترتسم ابتسامة نصر ساخرة ويرفع هاتفه يضغط بعض الارقام وهو يقول متمتما:
- المفروض الناس بتهادي العرسان بورد، لكن لانك مقامك عندي غالي اوي، ههاديك بشجرة بحالها!

لحظات وكان يتحدث الى الطرف الآخر من الهاتف يأمره بسرعة التنفيذ بعد أن أملاه العنوان والذي ذكره اسلام تفصيلياًّ!..

باك، عند الجرف المطل على البحر.

وقفت ريما تضم يديها تشاهد تلك المعركة الطاحنة بين حبيبها والمجنون، وكانت الغلبة لعصام والذي كان أقوى وأضخم جسدا، ولكن ممدوح لم يكن بالخصم الهيّن، فقد منحه جنونه الهائل قوة فائقة، وبعد أن كاد عصام يجهز عليه هتفت ريما به أن يتركه فهو لا يستحق أن ينتهي به الامر في السجن بسببه، ولكن عصام هدر فيها أنه يدافع عن شرفه، حتى لو قُتل في سبيل الدفاع عنها فهو لن يتراجع الى أن يجهز عليه بيديه العاريتين، ليتراءى لريما أن عصام لا يقتل ممدوح فقط، بل هو يقتل فيه أيضا تلك العصابة التي قتلت زوجته وابنه، ليشحب وجهها وقد أدركت أن عصام لن يتركه إلا جثة هامدة!..

لا تدري كيف تغير الحال وبعد أن كانت الغلبة لعصام فوجئت بممدوح وهو يعتلي عصام قابضا بيديه الاثنتين على عنق الأخير بينما يحاول عصام جهده ازاحة يديه ولكن وكأن يديه قد أصبحتا كالوتد، فيما جحظت عينا عصام وتفصدت عروقه، أما ممدوح فكان مطبقا على عنقه يضغط بعنف وقوة وقد ارتسمت أسمى علامات الاجرام على وجهه.

وقفت ريما تصيح عاليا ودموعها تغرق وجهها، لتقترب منه محاولة ازاحته من فوق عصام ولكن دون طائل، لتتلفت حولها فتقع عيناها على قطعة حديد ودون أن تردد لحظة واحدة كانت قد قبضت عليها بيديها الاثنتين ورفعتها لتهوى وبكل قوتها على رأس ممدوحن مرة. فاثنتان، وثلاث، بكل الكره والحقد الذي يعتمل في قلبها تجاهه، وكأنها تثأر لنفسها مما فعله معها منذ البداية، حتى ارتمى فوق عصام الذي دفعه جانبا، ليرقد فوق ظهره فاتحا عيناه يطالع ريما التي أدركت الآن فقط هول ما فعلت، ليقفز عصام واقفا يتجه اليها يحيطها بذراعيه بينما همس ممدوح بصوت متداعي والدماء تتدفق غزيرة من رأسه نزولا على وجهه وابتسامة هزيلة ترتسم على وجهه:.

- ما. ما كنتش أعرف اني. لما. اخترت ك. يعني. اخترت ال. الموت! لكن. طالما ه هموت بإيدك. تبقى. أحلى، موتة!

وسكت لتسقط رأسه جانبا فاغرا فاه جاحظا عينيه، والدماء تلون وجهه كاملا، فتركها عصام ببطء وتقدم منه يفحصه، واضعا اصبعيه على شريان الحياة برقبته، لينهض واقفا ويتجه اليها، فهمست ريما بذهول ورعب:
- ما. مات؟!
اكتفى عصام باحتوائه بين أحضانه يديرها حتى لا ترى جثة ممدوح، فيما صرخت هي عاليا:
- أنا قتلته يا عصام قتلته، أنا قاتلة، قاتلة يا عصام، قاااااتلة!

وانخرطت في نحيب عال دافنة وجهها في صدر عصام، الذي احتواها بقوة وحنان، لتقع عيناه على وجه ممدوح الغارق في دمائه، جاحظ العينان، محاولا السيطرة على صدمته، فأمامه قتيل، مات بيد حبيبته، ليدرك أن ممدوح لم يتركها حتى بموته، فقد ارتبط اسمه باسمها تماما كما أراد، حتى وأن كان هذا الارتباط في جريمة قتل، وكانت هي الجاني. ومجنونها الضحية!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة