قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية إستسلام غير معهود (مواجهة الأسد ج2) للكاتبة رحمة سيد الفصل السادس

رواية إستسلام غير معهود (مواجهة الأسد ج2) للكاتبة رحمة سيد الفصل السادس

رواية إستسلام غير معهود (مواجهة الأسد ج2) للكاتبة رحمة سيد الفصل السادس

كانت رضوى تقف امام مرآتها تهندم نفسها استعدادًا لخروجها مع تلك الحربائة التي تدعى رودينا ..
حتى الان خطتها تسير على ما يرام، تدعو الله أن تكتمل على نفس المنوال، لتكون - قرصة ودن - صغيرة جدًا نسبةً لأخطاء مهولة تُطبع بأسم رودينا !
وكان عبدالرحمن مستلقي على فراشه يضع يداه أسفل رأسه..
يكاد يُقسم بصعوبة فهم الأنثى، وخاصةً وهي تُخطط لشيئً ما هكذا!
قطع هالة الصمت المحيطة بهم بسؤاله الهادئ:.

-بردو مش هتقوليلي عايزة تعملي إيه؟
رفعت كتفيها دلالة على انها لا تفهم مقصده، ثم ردت:
-عايزة اعمل إيه ازاي؟! مش عايزة أعمل حاجة أكيد
حك ذقنه وهو ينظر لها متابعًا تساؤلاته:
-عايزة تفهميني إنك فجأة كدة عشقتي درة أختك وهتخرجي معاها؟
هزت رأسها نافية ببساطة:
-لا ابدًا، أنا هعمل شوبينج معاها بس عشان مها مش في حالة تسمح لها إنها تروح معايا وأنت هتقوم تروح شغلك.

إجابتها مقنعة، ولكنه لا يقتنع بأجابة آلية مُجهزة سابقًا بأمرًا من عقلها اللئيم احيانًا...
فنهض يردف بجدية:
-إديكِ اهو قولتي سبب كمان، أختك منهارة ووالدتك باتت معاها عشان تطمن، ف إنتِ عادي هتخرجي تعملي شوبينج في التوتر ده؟!
نهضت متجهة له بابتسامة هادئة ولكنها خبيثة مخيفة في آنٍ واحد، ثم همست بصوت عاديًا ؛
-حبيبي ده مجرد شوبينج بس، مش هتفسح يعني.

رفع يده يتلمس وجنتاها الحمراء قليلا، ليبادلها الهمس الحنون:
-أنا قلقان عليكِ يا رودي
أتسعت ابتسامتها، لترد عليه على الفور محتضناه بقوة:
-مش عايزاك تقلق خالص لإني بعمل الصح يا قلب رودي
اومأ موافقًا ثم أبتسم بهدوء أبتسامته التي تسحرها، وأكمل:
-لما تخلصي ابقي اتصلي بيا هاجي اخدك من هناك
اومأت موافقة، ثم قبلته بنعومة على وجنته وكأنها تختمه بصك ملكيتها ثم قالت مودعة:.

-ماشي يا حبيبي، الفطار برة أبقى افطر قبل ما تنزل، سلااام
ثم غادرت من أمامه بكل هدوء، لينهض هو متجهًا للمرحاض ليغتسل، ولا يدري أي شعور ذلك يرافقه منذ الصباح بالقلق، كظلاً لا يفارقه منذ أن استيقظ!؟
زفر بقوة وهو يستغفر الله بخفوت، ولكن ذاك الثقل لم يختلج من بين جنبات صدره مغادرًا، بل إرتكز أكثر مع مرور الدقائق!

كان سيف يقف كالقط المذعور في الشارع، يراقب بعيناه زينهم وأصدقاؤوه وهم يسرقوا بمهارة أكتسبوها من الممارسة، كان قلبه ينبض بعنف، لازالت الألام تدق جسده وكأن ذلك السوط مفعوله سحري لن يختفي!
لاتزال تلك اللحظات تتردد بعقله الطفولي الصغير كرعد مُعذب..
يشعر وكأن تلك الكرة تُعاد مجددًا، روحه تُسلخ من أسفل جلده بفضل ذاك السوط الحاد بلا رحمة!
سمع صوت زينهم الذي أصبح بالنسبة له الشبح المحذر من العذاب:.

-أنت ياض تعالى هنا
ركض نحوه مسرعًا مطرق الرأس، فيبدو أن ذاك السوط لم يترك أثرًا على جسده فقط بس على شخصيته ايضًا!
فتابع زينهم مشيرًا له على احدى الرجال:
-بص الراجل ده شنطته اللي فيها الفلوس الصغيرة دي معلقها على أيده، هتروح تاخدها وتطلع تجري، سامع؟
إبتلع سيف ريقه بصعوبة، وكاد يعترض وهو ينظر له متوسلاً:
-يا زينهم ه
ولكن نظرته، نظرته فقط كانت كفيلة بذبح أي اعتراض كاد يولد من بين شفتيه...!

فأومأ مطيعًا بكسرة لا تُوصف:
-حاضر، بس ممكن تبقى قريب عشان، عشان هيمسكني، وهيضربني زيكوا
ولم يعرف زينهم كيف تسللت الشفقة لقلبه الميت أصلًا!؟
كيف جمدت أطرافه بمهارة، كيف سمح لوتيرة الرحمة أن تأخذ مكانها بحياته!
منذ متى اساسًا والمشاعر تتخذ مساحة من روحه الملغمة بالأخطاء!
ولكن ربما الذنب لجملته تلك التي كانت كسهمًا يعرف صوابه إنطلق ينشر بخلاياه ذرة واحدة من أي شعورًا للأنسانية..

ولم يدري أيضًا كيف أوقف سيف عند أخر لحظة وهو يناديه:
-أستنى ياض هنا
إلتفت له سيف متلهفًا:
-مش هتخليني أروح صح يا زينهم؟
تنهد بقوة مستسلمًا لذاك المستنقع الذي سقط فيه رغمًا عنه قائلاً:
-أيوة، تعالى معايا أنت هتروح مع العيال اللي بيشحتوا، انت مش هتعرف تعمل غير كدة اصلاً.

ظهر بريقًا مبهوتًا، وإختنقت الكلمات بحلقه من رهبة من أمامه، بالرغم من مقاربة الأثنان، من سيئ لأسوء، ولكن الفارق نقطة، فقط نقطة تُحسب للأفضل!
فقال بصوت طفولي ممنون:
-مش مهم، المهم إني مش هتضرب تاني، شكرًا يا زينهم
أحمق ذلك القلب الذي يدق تعاطفًا مع شخص يسلك نفسه سبيله السابق!
أحمق بالفعل إن ظن أنه بأمكانه الأنقاذ، تلك المهمة لا تُعطى لعبد ضعيف مثله، ابدًا!

صرخ زينهم بتلك الكلمات في خلده، وداخله صراعًا يكاد يحطم عقله الأهوج، صراعًا قويًا كالأمواج والعاصفة كلاً منهم تستخدم مبرراتها...
سار مع زينهم عائدين لنفس الخرابة ليصدح صوته يرسل الرجفة في نفس سيف، صوت - المعلم- كما يلقبونه يقول:
-أنت ياض أنت وهو إيه اللي رجعكم بدري كدة؟!
سحب زينهم نفسًا عميقًا من الهواء ثم زفره ببطئ ليرد بحروفًا حاول إخراجها ثابتة لا تقبل الشك:.

-أنا جيت اجيب الواد ده للمجموعة التانية يا معلمي
سأله بخشونة:
-لية يا زينهم؟ ومن غير ماتقولي كمان!
هز رأسه نفيًا بسرعة، ليبرر:
-لأ طبعًا ماعاش ولا كان يا معلم، بس هو كان هيودينا ف داهية، ف أنا قولت أجي استأذنك اوديه يشحت مع العيال الصغيرة أهو حاجة سهلة يعرف يعملها
اومأ مفكرًا، ثم بدأ يحك ذقنه وبعد صمت دام قليلاً رد موافقًا بصوته الأجش:
-ماشي روح وديه، وتاني مرة ماتعملش حاجة من دماغك يا زينهم هه.

اومأ زينهم مسرعًا:
-طبعًا يا معلمي طبعًا، أنا تحت أمرك
وكان داخله يضحك بانتصار مُهلل، اخيرًا نجح في تحقيق شيئ اراده، شيئ واحد فقط يثبت له مقدرته التي شك بعدمها!
بينما كان سيف مدهوشًا من تعاطف زينهم، الصدمة ألجمت لسانه...
كان يشك إن كان ينتمي للأدمية من الأساس، ولكنه الان وبكل فخر أثبت له ان الانسان المدفون بداخله تحت طيات الدناءة لازال حيًا!

جالسًا هو في احدى الشوارع بملابسه المتسخة، يده مرفوعة بتلقائية نحو المارين، ولسانه يردد بآلية مرتعدة كما أمروه، بينما عيناه، رباه من عيناه همًا اخر لوحدها!
تشكو بصمت قاتل، تصرخ بألم طفولي من كرامة دُنست بعنف، وكبرياء قُتل قبل أن تكتمل ولادته...
ظل على هذا الحال مدة طويلة تحت الشمس الحارق التي أكملت دورة تعذيبه التي يبدو أنها لن تنتهي بسهولة...

حتى لم يعد يشعر بنفسه وهو يسقط مغشيًا عليه من تأثير الشمس التي لم يعترض لها هذه المدة القاسية من قبل!

كانت أسيل تجلس على الفراش متكورة بشكل الجنين، ذاك الفراش الذي شهد وبكل وضوح فقدانها الغالي لشيئ كانت تحاول الاحتفاظ به لحبيبها فقط، فقط هو من يستحق أن يناله!
ولكن ذاك الدخيل الذي يُدعى زوجها، نال ما لم يكن من حقه بكل جبروت...
مارس عليها سحره الرجولي ليخضعها بكل ذل ومهانة، أستقبل خجلها الفطري في ملامسة لأول مرة تحتك بجسدها على وتيرة الرغبة اللعينة!

أي ظلم هذا؟، تبًا له، تبًا لم يترك لها شيئ في حياتها تستقل فيه..
أستولى على كل شيئ، كل شيئ!
لم يترك سوى قلبها، قلبها فقط الذي يحيطه هالة قوية تمنعه من إقتحامه، هالة من العشق المهزوم!
إزداد نحيبها المكتوم بقهر، كلما تذكرت تلك الليلة الملعونة إزداد سخطها على نفسها...
لا تدري كيف روضها هكذا ليجعلها كالخاتم في إصبعه يحركها كيفما يشاء ويتحكم فيها بسهولة!

تشعر وكأنها غازية يملؤوها الخزي من وصمت العار التي لُصقت بروحها عمدًا..
بينما كان جاسر يقف موليها ظهرهه عاري الصدر..
عيناه مصوبة نحو الشرفة وأصابعه تقبض على السيجار يدخن بشراهه...
صوت بكاؤوها والذي هو اكبر دليل على ندمها المحتوم كان كسكين بارد يُقطع نياط قلبه العاشق...
من المفترض أن يكون أسعد الأناس على الأرض، ولكنه أتعس الناس، يلوم نفسه على حقه الشرعي!

مهلاً، اي حق ذلك؟ هي حتى لم تعترف به زوجًا حقيقيًا...
بالكاد يصدق انه نالها، نالها اخيرًا وبعد طول إنتظار كان يحترق فيه شوقًا إليها!
ولكن للأسف جزءًا اساسيًا من سعادته مفقودًا...
أهم شعورًا يكتمل به محيط السعادة، الرضا، مفقود وبألم!
والدوامة البكاء تبتلعها أكثر واكثر حتى باتت شهقاتها تكاد تسحب روحها معها..
لك يحتمل أكثر فصرخ بها دون ان يلتفت لها:
-بسسس كفاية أسكتِ بقاا كفاااااية.

ويصرخ بها؟! يصرخ بها بعد كل هذا!
بعدما دمرها والبرود يكتنفه، ياللعجب، أصبحت هي المتهمة في نهاية المطاف!
نظرت لظهره امامها ثم قالت بصوتها المبحوح:
-لأ مش بس، مش بس ملكش حق اصلاً تقولي بس، حرام عليك بقا والله
شعر بنظراتها تحرقه، كان صوتها كافيًا ليصله الألم الذي تُعانيه، ليشعره كم الغيظ الذي يتشبعها الان تجاهه...
فهمس وكأنه يحادث نفسه في محاولة لإقناعها:.

-حرام عليا عشان بقيتِ ملكي، مراتي قدام ربنا زي مانتِ قدام كل الناس، عشان خدت حقي بس!
قال كلمته الأخيرة وهو يصرخ بأنفعال، يكفيه تضحية حتى الان...
لو كان التاريخ يُسجل لنال جائزة اكثر رجل مضحي بالعالم!
بينما هي بادلته الصراخ الحاد رغم صوتها الذي يكاد يختفي:
-اه حرام عليك، وماتقولش حقي، ده مش حقك طالما أنا ماسمحتلكش بيه
فجأة وجدت يلتفت ليمسك بذراعها يهزها بقسوة واضحة وهو يقول:.

-ماسمحتيش؟ بجد ماسمحتيش، أمال اللي حصل امبارح ده كان إيه هه؟
زمجرت بوجهه بعصبية:
-زي الإغتصاب
ظل ينظر لها للحظات مبهوتًا، إغتصاب!
أي اغتصاب هذا وهي زوجته بحق الله؟!
ألهذه الدرجة وصلت أزدال حقدها، لإتهامه بالإغتصاب علانية لتسد فجوة ضعفها أمام إكتساحه الراغب!
تلك الفجوة فجوة الألم داخل روحه المعذبة تزداد وتزداد، لا قدرة لها على إيقافها او مداوتها حتى، الصدمة كانت كفيلة بهمهمة إسكاته القاسية..

ورغمًا عنه سألها مصدومًا ببلاهه:
-إغتصاب! أنا كأني اغتصبتك؟
لم ترد عليه وإنما ظلت تبكي، فجن جنونه وهو يتخلص من اشباح الصدمة المتمسكة به صارخًا:
-بعد كل الصبر عليكِ لليوم ده تقولي أغتصاب؟ يوم ما ألمسك وبأرادتك تقوليلي أغتصاب؟ إنتِ ايييية!
خرج صوتها كعاصفة عاتية إنتهت ببرود صقيعي:
-أنا بنت، أنثى أنت استغليتها
فغر شفاهه هامسًا:
-استغليتها!؟
اومأت وحنجرتها تختنق أكثر وأكثر:.

-أيوة، أنا بنت، وعمر ما حد قرب مني بالطريقة دي، يعني أنا مش خبرة عشان أقاوم رومانسيتك ورقتك بكل جبروت، أنا مش حجر مش حلووفة أنا بنت زي أي بنت بحس
لم يشعر أنه حقير بمثل تلك الدرجة التي وصفته فيها الان...
ولم يتخيل يومًا أن يصبح حقير في نظر، زوجته!
نهض ملتقطًا التيشرت الخاص به في لحظات، ليس له القدرة على الحديث أكثر، سيختنق حتمًا إن فعل...

فغادر دون كلمة اخرى، تاركًا اياها تنعي حظها الذي أوقعها بين براثن عاشق مثله!

كانت شهد تجلس على الأريكة بجوار محسن، لا لا مهلاً بل داخل حضنه الدافئ والذي افتقدته مؤخرًا، افتقدت ذلك الدفئ كثيرًا، كثيرًا جدًا!
منذ وصوله وتقريبًا لم تفعل سوى الاستسلام داخل حضنه الذي احتواها بصمت...
تلعن ذلك الوقت الذي يجبرها على الإنتظار حتى تتحرك تلك الشرطة الملعونة للبحث!
رفع محسن ذقنها بأصابعه ليقول محاولاً اختلاق المرح:
-لا ده إنتِ شكل حضني عاچبك جوي بجى؟!

أبتسمت شهد بلا روح، ولكن رددت خلفه بتأكيد:
-اوي، كنت محتاجاه أوي يا محسن
صمتت برهه تحاول إيقاف بحر الدموع الذي كاد يتخطى سد القوة الواهية لتتابع بعدها بنفس النبرة:
-كنت محتاجة أحس إن في سند ليا، إني مابقتش لوحدي من غيره، أطمن نفسي بوجود حد جمبي إنه هيرجعلي، هيرجعلي ومش هيوجع قلبي عليه أكتر من كدة.

غامت عيناه بسحابة عميقة من التألم على توأم روحه، يبدو انها تعاني من فجوات لن يستطع أي شخص سدها سوى زوجها الحبيب الغائب، أو المختطف!
أمسك وجهها بين يديه ليقول بحنان:
-أنا جمبك، في أي وجت جمبك، حتى لو مش جمبك بالمكان أنا جمبك في جلبك يا جلب أخوكِ
تنهدت بقوة وهي تحتضن يداه بيدها، لتسمعه يردف مشاكسًا:
-بس أنا جربت ازهج من الجعدة إكده، كنت روحت دورت عليه انا ياخيتي احسن لي
هزت رأسها نافية بجدية:.

-لا، احساسي بيقولي إن اللي خاطفينه مش ساهلين، والبوليس هو اللي هيرجعه بأذن الله، أنا مش ناوية اخاطر بخسارة تانية أنا مش حملها يا محسن الله يخليك
اومأ موافقًا ليحاول طمئنتها:
-ربك معانا ماتجلجيش، وبعدين هو أنا أي حد ولا إيه يابت
هزت رأسها نافية بابتسامة ميتة:
-لا طبعًا يا حبيبي
ثم سرعان ما سألته بلهفة مشتاقة:
-طمني بس الجماعة عاملين إيه في البلد، ومراتك إيه اخبارها؟
اومأ بهدوء قائلاً:.

-كلهم بأحسن حال بفضل الله، كانوا عايزين يسافروا معاي، بس أنا ماضامنش الظروف فجولت لهم خليكم وأنا هفضل معاكِ لحد ما نلاجي عمر ونطمن بأذن الله وبصعوبة وافجوا اخيرا
اومأت شهد مؤيدة:
-ايوة فعلاً، لو كانوا جم ماكنوش هيقدروا يعملوا حاجة اصلاً
وقطع حديثهم صوت هاتفها الذي صدح، فنهضت مسرعة تركض نحوه عله يكون خبرًا جديدًا ينعش قلبها الذي كاد ينسحب من تلك الحياة البائسة كلها...

وربآآه من الصدمة التي تلقتها وهي ترى المتصل وتحملق بالأسم غير مصدقة تلك الحقيقة التي تُكتب امامها كنقطة بيضاء وسط واقع من السواد المهلك!

شهقت والشهقة حفرت روحها، كما حفر ذلك الأسم الذي لطالما خفق له القلب الصدمة في عقلها..!
للحظات هُيئ لها أن عقلها الباطن يخترع بعض الكذبات - البيضة - ليهون عليها ثقل قلبها الملكوم..
أقترب منها محسن متعجبًا من تبلدها مكانها ليسألها بخفوت:
-في إيه يا شهد مين ده اللي بيتصل؟
جملته إلتقطتها من مستنقع صدمة يغلي من التعجب لواقع عفاريته تصرخ فيها بالإسراع للرد!

وبالطبع كانت الأولوية للواقع دومًا كما كان هو المتقدم في الألم قبل الأمل..
ردت ويداها ترتعش لتخرج حروفها بصعوبة:
-عمر!
كادت تُكذب أذنيها عندما سمعت صوته يرن بأذنيها كطرب يحلو لها دائمًا بغض النظر عن كونه مُرهق حد الوجع!
-شهدي..
تأوهت بداخلها لصوته، لم تعتقد أنها اشتاقت له لهذا الحد في يومان فقط..
آآهٍ من نبرته المذبوحة بصمت قاتل، ومن الحروف التي تقر بالموت خلف ستار الصمت!

أغمضت عينيها وهي تعاود الهمس له بلهفة شبه هيستيرية:
-وحشتني أوي يا حبيبي، أنت فين، قولي مكانك وأنا هقول للبوليس
سمعت صوته يقول بوهن:
-أنا مش عارف أنا فين، بس أنا كويس، ماتقلقيش عليا هرجعلك قريب إن شاء الله
ويوعدها بما لا طاقة له ايضًا!؟
بالأساس أخر قشة كُسرت وهو يتصل بها ليظهر ضعفه رغمًا عنه، فأي وعود تلك!
و راحت تهتف بلوع متألم:.

-وحشتني اوي يا عمر وغيابك كسرني، مش هستحمل تقعد أكتر من كدة بعيد عني وأنا مش عارفة أنت فيك إيه!؟
تنهيدته المشقوقة اهتز لها جسدها كله، كانت نامية عن وجع وصل ذروته، وكتمان كاد يصل للأنفجار!
رغمًا عنها أغرورقت عيناها بدموعها الحبيسة منذ غيابه، ثم اخبرته:
-عمر ارجوووك، حاول تعرف أي حاجة نقدر نوصل لك بيها، عشان خاطر ربنا يا عمر، أنا بموت من غيرك والله
أخترقت همسته المختنقة اذنها:
-غصب عني!

هي متيقنة من ذلك، ولكن كل شخص له قدرة على الأحتمال، قدرة تنفذ عاجلاً ام أجلاً، وهي قدرتها نفذت!
بل كادت تسحب معها روحها لتكمل دورة منتهية من الأساس...
فقالت مسرعة:
-عارفة يا حبيبي، عارفة والله، طب طمني عليك أنت كويس؟! بتاكل طيب وبيعملوا فيك إيه؟
ياللسخرية، ماذا يفعلون معه؟!
لا شيئ، فقط يسلخون شخصيته الصلبة ليدمجوا ذاك الجسد الذي هو على حافة الدمار بأخرى ما هي إلا تبعًا وعبودية لأفعالهم الشنيعة!

ماذا يفعلون معه!؟
سؤال يحوي الكثير والكثير بين حروفه المتهالكة تضامنًا مع معناه..
ينحتوا أثارًا جديدة على روحًا لا تُنحت إلا بسنون الموت، الموت روحانيًا والجسد على قيد الحياة!
ترددت داخل الكلمات في خلد عمر الذي نفضها سريعًا وهو يقول بإيجاز غامض:
-ولا حاجة يا شهد، دي أمور تبع الشغل وهتتصفى كلها وهرجع مفيش حاجة بأذن الله
رددت خلفه بآلية:
-بأذن الله يا حبيبي، بأذن الله.

حطم أمالها في البقاء اكثر وهو يغمغم خافتًا:
-أنا، اتطمنت عليكِ. لازم أقفل دلوقتي
لم ترد ولكن شهقاتها وصلته بوضوح، هو يعلم أن قلبها ذاك لن يقتنع بكذبته..
لن تُخفى عنه ذبذبات ألم تجعل من حروفه موسيقى مؤلمة مكروهه!
فاستطرد بصوت خشن متأوهًا:
-خلي بالك من نفسك، بحبك، بحبك ومُش هحب غيرك يا شهد حياتي، مهما كان وجعي منك بسبب خسارة ابننا!
ردت مسرعة وصوت بكاؤوها يعلو:.

-وأنا بحبك أوي والله، ارجعلي بسرعة بقا عشان خاطري!
شعرت بصوته يبتسم بحزم مكملاً:
-صدقيني هعمل كل اللي أقدر عليه عشان أرجعلك بسرعة يا عيوني
وفي اللحظة التالية كان الخط يُغلق، وأغلق معه اخر احتمالاً للتماسك..
فانهارت باكية في حضن اخيها الذي أستقبلها بصدر رحب...
لتشهق وهي تهمس بصوت يكاد يسمع:
-هموت من غيره والله
ظل محسن يربت على شعرها الهزيل مثلها تمامًا وكأنه يُطبق حسب حالتها المتغيرة، ثم قال:.

-وهو أكيد مش مبسوط، بس ده اختبار من الجدر، فترة وهتعدي والله زي أي فترة في حياتنا، بس احيانًا لازم بعض الاوجات تعدي بوجع، بس هتعدي والله هتعدي
اومأت موافقة على كلامه بصمت، ليسألها بهدوء مفكرًا:
-بس ازاي عمر بيكلمك من تليفونه واصلاً تليفونه معاكِ بعد ما اخدتيه من حارس الامن؟
حاولت التوقف عن النجاح لتخبره بحروف متقطعة:.

-عمر، ع عمر كان دايمًا محتفظ بخط تاني في جيبه عشان وقت ما يحتاجه، ف معنى كدة أنهم هما عطوه تليفون يتكلم منه!
تهللت وجه محسن قليلاً بأمل شبه معدوم وهو يهتف:
-ومعنى أكده بردو إن معاملتهم معاه مش وحشة جوي، وأنه حاچة تبع الشغل زي ما جالك
ضيقت ما بين عينيها وهي تسأله مفكرة:
-وأنت عرفت منين انه قالي كدة يا محسن بقا؟
ظهرت ابتسامة طفيفة وهو يشاكسها:
-العصفورة جالتلي.

وعندما وجدها تحدق به متجهمة بجدية صلبة تنهد ليتشدق ب:
-صوت تليفونك عالي سمعت المكالمة يا حبيبتي
رغمًا عنها ظهرت أبتسامة حانية على ثغرها، كشمس طلت بعد مغيب، مغيب طال وطال حتى كاد يزرع تأكيد بعدم الطلول مجددًا!
فاحتضنها محسن وهو يقول مقلدًا:
-ايوة كدة يا شيخة ابتسمي، لسة في امل، ده حتى الداعية احمد جمال بيجولك ياللي شمس الدنيا تطلع لما تطلع ضحكة منيكي!
ضحكت شهد برقة هامسة:
-احمد جمال بيقول منيكي ؟!

ضربها محسن على رأسها بخفة ليضحكا معًا وهو يعاود بث الأمان لها بذلك الحضن...
وإن كان كل هذا ما هو إلا وقتًا مسروقًا من السعادة الهاربة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة