قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية إستسلام غير معهود (مواجهة الأسد ج2) للكاتبة رحمة سيد الفصل السادس عشر

رواية إستسلام غير معهود (مواجهة الأسد ج2) للكاتبة رحمة سيد الفصل السادس عشر

رواية إستسلام غير معهود (مواجهة الأسد ج2) للكاتبة رحمة سيد الفصل السادس عشر

القلب يصرخ، والعقل يسخر، والواقع يضم كلاهما في قوقعة لا تحتملهم سويًا!
قوقعة تُحتم عليهم فوز ايًا منهم، والجسد بين ذلك وذاك يُخشب كالصنم منتظرًا حكمًا حاسمًا في أمر يذوب الحسم فيه!
كانت شهد تنظر للهاتف وضحكات قصيرة رنانة تصدر منها تلقائيًا بسخرية، ولا تدري إن كانت سخرية من تلك المعتوهة أم سخرية من صدمات قدر لا ينتظر!؟
وضعت الهاتف مكانه مرة اخرى دون ان ترد على تلك المغفلة...

كانت نبضاتها تعتصرها سلاسل ساخنة، بل ملتهبة تُهدد بالتوقف!
كانت تُعافر للتنفس، ضيق، وخنقة فوق المحتمل لطاقة بشر!
أنتفضت على لمسة عمر الذي أدارها نحوه يسألها بخشونة:
-في إيه مالك متمسمرة في الارض كدة لية؟!
ألف صرخة كادت تشق الحاجز الفارق بين دقات عاجزة وواقع قاتل...
دفعته بعيدا عنها وهي تصرخ فيه بعنف:
-ابعد عني ماتقربلييييش.

ذُهل مما أصابها فجأة، وتردد ألف سؤال وسؤال بعقله، ولكنه لم يُعطى إجابة مقنعة حين سألها بجدية:
-مالك يا شهد إيه اللي حصلك أتجننتِ ولا إيه؟!
أغمضت عينيها، تحاول النصر في المعركة الناشبة بين جفنيها حول بريق التماسك وشلالات حارقة تهدد بالنزول، بدأت تضحك بهيسترية، حتى أصبحت ضحكات متتالية دون سبب واضح!
أمسكها عمر مزمجرًا فيها بحدة:
-شهههد، فوقي كدة وكلميني زي ما بكلمك مااااالك فيكِ إيه؟!

عادت للخلف خطوة والثانية، كضربات القلب تلك التي غلفها الضعف القهري، إلى أن اصطدمت بالمنضدة فبدأت تدفعها بعنف وهي تصرخ:
-فيااا كل حاجة ممكن تتخيلها، أبعد من وشي مش عايزة أشوووفك أنا بكرهك يا عمر بكررررهك، بكرهك اوووي على قد ما وجعتني وبتوجعني!
وسؤالاً منطقي يطرحه جو موقف كهذا، هل يُعدي الألم كالمرض!؟
لمَ يشعر بألمها كالسقم في اعصاؤوه لا شفاء له!
ولكنه أقترب منها يصرخ بصوت قوي ومرتعش رغمًا عنه:.

-في دااااهية، إكرهيني ع اساس إني مهتم بحُبك اوي يعني، بس أفهم إيه اللي حصل وفي ثواني يلا
صارت ترمي كل ما تطوله يداها، تصرخ بجنون...
وبالطبع هكذا هو الحب، عندما تتناثر أشعة وجع فيه ينقلب لحالة تمرد غالبًا تنتهي بفراق كاسر!
إستطاع عمر إمساكها اخيرًا وهو يهتف فيها بغيظ:
-اهدي بقااا وفهميني
طار المتبقي من عقلها لتنتفض مبتعدة عنه وقد بدأت في مرحلة جديدة من أعاصير الألم فانفجرت دموعها وهي تخبره بصوت مبحوح:.

-ابعد عني يا خااااين، أنت واحد خاين مريض وضعيف، حرام عليك أنا عملت لك إيه عشان تكسرني كدة؟! قصرت معاك في إيه عشان تتجوز عليا!
زاغ الإتزان، وشُحن الهواء بنسمات تُعد بمقدار السرعة، هربت الحروف، وسقطت الأوشحة عن الأسباب الفارغة!
ظل ينظر لها مبهوتًا من معرفتها التي تمنى تأخرها، إلى أن نطق:
-إنتِ عرفتي منين؟
إزدادت في تكسير الأشياء التي تُخزن طاقتها السلبية وهي تكمل صراخها:.

-يعني كلامها صح؟ أنت إتجوزت، اااه ياااااربي
هز رأسه نافيًا وهو يقترب منها:
-لأ إنتِ مش فاهمة حاجة
أمسكت بسكين الفاكهة خلفها لتضعها عند يدها وتهتف بصوت مُطلق شرارات حمراء لاهبة حقيقية:
-اقسم بالله لو مابعدت عني لهموت نفسي، أخرررررج بررررة بررررررة
إبتلع ريقه مغمغمًا بصوت ضعيف وهو يعود للخلف:
-شهد إنتِ لازم تسمعيني الأول عشان خاطري؟
ظلت تهز رأسها بهيسترية تزداد مع إكتمال صورة - الخيانة - بين جنبات عقلها!

بينما هو يحدق فيها كالصنم، لا يصدق إلى أي مستوى جعلها تنحدر...
تقريبا إلى ما تحت الصفر بمراحل!
وهي تقوس فاهها بابتسامة ساخرة شبه ميتة قبل أن تستطرد بحرقة:
-أنا مش عايزة أعرف حاجة، كفاية أوي اللي عرفته، ومش عايزة منك حاجة، كل اللي عايزاه منك إنك تمشي من قدامي قبل ما اموتك واموت نفسي
أقترب منها فجأةً ليصبح امامها تمامًا فأمسك يدها الممسكة بالسكين ليضعها بالقرب منه، ليهمس بفتور:.

-يلا مستنية إيه!؟ موتيني يلا أنا اهو قدامك
صرخت فيه بنفاذ صبر:
-قولتلك أبعد عني مش طايقة لمستك
إلتصق بها أكثر، وكأن الأمور إختلطت امامه، وتشابكت الأحداث فلم يعد يستوعب أيهما الاصح!
لصقها به بقوة ثم هز يدها الممسكة بالسكين لتسقط من يدها، وسرعان ما كان يمسك وجهها بين يديه يقربه منه وهو يقول بحروف مُهتزة:
-فعلاً؟ مش طايقة لمستي!؟ لا أنتِ كدابة، بس مسألتيش نفسك أنا إتجوزت لية!؟ أكيد في سبب.

حاولت دفعه وهي ترد من بين أسنانها:
-عشان أنت واحد ضعيف ماشي ورا رغباته مش أكتر
هجم على شفتيها في قبله طويلة مغموسة بجنون مشاعر هوجاء كُسر طرف بدايتها..
وهي تحاول إبعاده عنها ولكن بدت وكأنها تحاول زحزحت صخرة صلبة خُلقت لتبقي ملتصقة بها!
ظل يقبلها بقوة قد تكون عنيفة إلى حد ما بقدر ما هي تخفي تمازج راغب متواري خلفها...
إلى أن إبتعد عنها بعدما دفعته هذه المرة ليلتقط أنفاسه اللاهثة..

ليتابع بأعين زائغة وكأنه على وشك فقدان وعيه:
-أكيد واحد هاجر مراته أكتر من شهر هيبص بره، بس أنا بصيت بالحلال..!
بينما قالت هي بصوت يكاد يسمع على حافة البكاء:
-طب روووح، روح لها أنا مش عايزاك أصلاً، أنا كرهتك بقدر كل لحظة كنت بحبك فيها!
كاد يرد ولكن قاطعه صوت هاتفه الذي صدح معلنًا إتصال من حسين شتم بصوت خفيض قبل أن يرد:
-ايوة يا حسين؟
-عمر أنت لازم تيجي وحالا
-في إيه يابني خير؟

-في مصيبة في الشغل، أحنا هنروح في داهية
-براحة بس فهمني
-تعالى ع الشركة حالاااا
-حاضر، حاضر مسافة السكة
أغلق الهاتف لينظر لشهد التي لم تسمح لتعبيرًا واحدًا من تعبيرات بحرًا احمر متلاطم الصدمات أن تتناثر أشعتها على أفق ملامحها، فقال بجدية صارمة:
-أنا رايح ضروري، بس يا ويلك يا سواد ليلك يا شهد لو رجعت لقيتك عملتي حاجة كدة ولا كدة، سامعاني؟

لم ترد عليه فاستدار ليغادر مسرعا، بينما تحركت هي وببطئ شديد، بطئ تستغرقه أول خطوة نحو الطريق المعاكس للسراب فقط
لتهمس بهيسترية:
-مستحيل اقعد معاه، قلبي هيقف مش قادرة!

كان يدور يمينًا ويسارًا في كل أنحاء المنزل، ينظر هنا وهناك وكأنه يُطالب بالتأكيد..
هربت من بين يديه ك حُلم سلبه الواقع المرير!
مسح على شعره عدة مرات قبل أن يصرخ بصوت عالي شق السكون المخيم على أرجاء المنزل:
-شههد!
ولكن لا من مجيب، صمت قاتل من تردد صداه في ارجاء المكان..
قطعه حسين الذي تدخل يقول ببرود:
-خلاص يا عمر فكك واهدى بقا اهي راحت لحال سبيلها
ظل يهز رأسه بهيسترية هامسًا:.

-لاااا، لااا يا شهد إنتِ ملكي وهتفضلي طول عمرك ملكي أنا بس!
وقعت عيناه على ورقة موضوعة اعلى المنضدة، ليركض متلهف نحوها يفتحها، ليشعر وكأنما تلقى صفعة قوية على وجهه وجهتها كلماتها القاسية:.

-مبروك عليك يا عمر، ماتحاولش تدور عليا، أنا كنت حلم وأنت فوقتنا منه على الحقيقة المُرة، مش هارجعلك يا عمر، مش هارجعلك ومش هاتشوفني، بس أنا هاشوفك وأنت بتتوجع زي ما وجعتني!، واه ماتنساش ورقة طلاقي، مع السلامة يا، يا طليقي العزيز!
-لااااااا
صرخ بها وهو يدور في المكان يُكسر كل ما تطوله يداه بعصبية شديدة..
يشعر بشيئ ما ينصهر داخله، شيئ لن يطفئه إلا عودة، مستحيلة!

بينما نظر له حسين بنظرة ذات مغزى، ليصدح صوته بتساؤل خبيثًا:
-في إيه يا عمر؟ هي البت عجبتك للدرجة في الشهر ده!؟
إلتفت له يحدق به بنظرة تخترق جسده بحثًا عن نقطة الموت النهائية في حياته!
ثم استطرد بحدة تناسب علو صوته وهو يخبره:
-حسييين، عجبتني او ماعجبتنش ده شيئ مايخصكش، وياريت تتفضل دلوقتي لأن انا عفاريت الدنيا بتتنطط ادامي!
مط حسين شفتيه مغمغمًا بضيق طفيف:.

-خلي بالك أنا كدة هبتدي أشك إن البت دي بتعمل سحر
كور عمر قبضته، يحاول كبت الدماء التي تفور ألا تنفجر في وجهه ويُكمل هو لوحة صرعه الحمراء أكيد!
ثم قال بخشونة:
-اولاً ماسمهاش بت يا حسين، مهما حصل او عملت دي مراتي، ثانيا روح شوف مصيبتك لحد ما احل المصيبة دي واجيلك، وماتنساش إن في حاجات أنا ماضي عليها معاها
اومأ حسين موافقًا بتردد:
-ماشي يا عمر، هكلمك.

لم يعيره إنتباه وهو ينظر لتلك الورقة، وكأن الزمن توقف عن تلك النقطة بالفعل!
لا دقائق تُحسب بعدها، ولا تصرفات تضم حسبانها، ولا حتى تنفس يفترض أن يُحسب حياة!
ضم تلك الورقة بقوة، الان فقط لفحه هواء الفقدان، الفقدان مرة اخرى وإن كان طويل المدى، طويل بدرجة تجعله يود البكاء!

بينما على الطرف الاخر..
إنتهى الفلاش باك، وعودة لوقتنا الحالي، الوقت الذي نال أقسى شعورًا كميت لم يتم اسبوعه!
ذاك الوقت الذي هربت فيه، انتهت موجة ذكرياتها التي تمثلت على هيئة أسباب ونوايا كانت تُزرع ببطئ...
لنعود لصرامة الحدث الذي وقع لتوه!
كانت شهد تقف في الشرفة، تنظر امامها بشرود، لم تصدق ما حدث للان!
هي بعيدة عنه، لم تصبح تحت - طوعه - كما كانت دومًا!
تفككت شباكه عن مرمى السيطرة في حياتها!

طارت خصلات وجهها أمام عينيها البنية التي غامت فيها سحابة سوداء وعميقة تكاد تتآكلها كليًا..
لن تبكيه، ولن تنوح البُعد عنه، يبدو أنها كُتب عليها خسارة كل من يدق لهم القلب!؟
أمسكت بهاتفها لتتصل برقمٍ ما، جاءها الصوت بعد ثواني:
-الووو
-الووو أنا في الشقة خلاص
-تمام، خلي بالك من نفسك
-أكيد، شكرا اوووي، شكرا لانك جزء اساسي دايما من حياتي
-بطلي هبل يابت، دي حاجة أساسية
ابتسمت بضعف هامسة:
-طيب، أنا هقفل دلوقتي.

-ماشي حبيبتي، مع السلامة
-سلام
أغلقت الأتصال، كادت تُغلق الهاتف ولكن صدح صوت إتصال اخر، أتصال بالطبع من عمر ترددت كثيرا في الأجابة ولكنها أجابت بعد دقيقة تقريبا ولكنها صامتة، فيما سمعت صوته المتلهف يصدح:
-شهد، شهدي إنتِ فين، روحتي فين وبعدتي عني جالك قلب؟!
لم ترد عليه فأكمل هو بصوت واهن يحاول أن يبدو ثابتًا بصعوبة:
-شهد، إرجعي، أنا مش هقدر من غيرك، أنا ولا حاجة اصلا من غيرك، إرجعيلي!

أبتسمت بسخرية دون أن تنطق بتت كلمة، فقد جفت الصحف وماتت الحروف مستنزفة كل قواها!
فيما أكمل هو بانفعال خفيف:
-ردي عليا، سمعيني صوتك حتى، ماتعمليش فيا كدة أنا هتجنن من ساعتها
سمع تنهيدتها الحارة قبل أن تقول:
-مستنية تطلقني غيابي!
صرخ فيها بعصبية:
-لااا، مستحيل، مش هتبقي حلال حد غيري طول ما انا عايش يا شهد، إنسي موضوع الطلاق ده خالص، مش قولتلك ماتنطقيش الكلمة دي تاني اصلا؟

-أنا مضطرة أنطقها، مش هقدر اشوف حد بيشاركني في جوزي، مش هقدر كل يوم أحس إن أنت إتجوزت من ورايا عشان أنا مش مالية حياتك، مش هقدر أتخيل إنك في الوقت اللي أنت بعيد عني فيه هتبقى في حضنها! وفي نفس الوقت مش قادرة أتخيل إني هونت عليك تكسرني؟!
تقهقر ثباتها في الكلمة الاخيرة وبدت نبرتها على مشارف البكاء، ثم سمع صوت نشيجها يخترق مسام الروح المغللة بالعذاب...
فهتف مسرعا:.

-ارجوكِ قوليلي إنتِ فين وأنا هجيلك، هموت وأخدك في حضني، ارجوكِ!
حاولت إستعادة نفسها سريعا:
-أنا لازم أقفل
-شهد، وحياتك عندي ما لمست غيرك، عمري ما اقدر اعملها
-عمر أنت كذاب، أنا مقدرش أثق فيك تاني، أنت كسرت حاجة كبيرة جوايا ليك!
صمت لم يستطع التفوه بحرف، ثم سمع السخرية التي غُمست بها حروفها وهي تخبره:
-أنت مش فاقد الذاكرة يا عمر، ولا عمرك نسيت، أنت بس بقيت شخص جاحد بيحاول يلاقي أسباب لجحوده وقسوته!

إبتلع ريقه بصعوبة هامسًا:
-الكلام ده ماينفعش على التليفون يا شهد، قوليلي إنتِ فين وهاجيلك نتكلم بالعقل
-هأ! لا عقل ولا قلب، أنا مش عايزاك اصلاً، والحمدلله إن مفيش حاجة بتربطني بيك، لا عيل ولا غيره!
كم ألمته تلك الكلمة، هي تُهلل لتفكك تلك الحياة؟!
هل وصل بها لمفترق الطرق!، ولكن لا، لا يوجد في حياتهم مفترق اصلاً، كلها طرق تؤدي لنهاية واحدة، لها هي فقط، وحدها دون غيرها!
فتابع بتردد:.

-حتى بعد ما عرفتِ إني مش ناسيكِ ولا أقدر أنساكِ.

-ياريتني عرفت منك أنت، لكن للأسف تصرفاتك هي اللي عرفتني، احيانًا تعاملني عادي، واحيانًا كتير زفت، حتى ادام صاحبك ماراعيتش حاجة، احيانًا تقرب لي من غير مقدمات، وبعدها تيجي تقولي مكنش ينفع يحصل بيننا حاجة!؟ احيانًا تحسسني انك بتغيير عليا، واحيانا ألاقيك بتقولي إنتِ سلعة هستغلها إني اجيب عيل من صلبي بدل ما اشتري واحدة تانية! أنت وجعتني كتير اوي يا عمر، وأنتهى صبري معاك لحد الخيانة، كله إلا الخيانة يا عمر، دي اللي مقدرش أصبر او استحملها!

سارع يردد بهمس حازم وحار:
-أنا مش ندمان إني لمستك ولا عمري اتراجعت، ولو رجع بيا الزمن وإنت ادامي هقرب لك كل ما اشتاقلك، بس احيانًا مش كل تصرفاتنا بتبقى بمزاجنا
كتمت شهقتها بصعوبة وهي تردف:
-أنا لازم اقفل
-شهد لا، عشان خاطري بلاش
-سلام
ثم أغلقت الهاتف من دون مقدمات لتنخرط في دوامة بكاء حاد..!
هي ايضًا تتعذب تمامًا مثله بل قد يكون أكثر منه، ولكن ألم الشعور يغلب نبضات الشوق بجدارة!

لم تكن مها أفضل حالاً من شهد او عبدالرحمن او والدتها، جميعهم كُسر تماسكهم في هذه الحياة - المأساوية -
مع إزدياد إختناقها إزدادت مشاكلها مع تلك الثعبانة رودينا
يكاد يصبح الخبث المتنافر يتقافز بين كلاهما!
كانت تجلس بجوار طفلها سيف يُشاهد التلفاز وهي تشرد في الأحداث الماضية حتى باتت تكره ذاك الماضي بكل معانيه!
حتى أحمد لم يسلم من القهر فغلب الحزن العميق على حاله تأثرًا بموت رضوى.

واسفًا هي متأكدة من أن والدة عبدالرحمن ستأخذ منهم الطفلة - إبنة رضوى - عاجلاً ام آجلاً!
إنتبهت للضجة التي تُحدثها تلك في المطبخ، فنهضت متأففة تهمس ل سيف:
-خليك مكانك يا حبيبي هروح اشوف في إيه وجاية ع طول
اومأ سيف موافقًا بوداعة:
-حاضر يا مامي
دلفت إلى المطبخ لتجد رودينا تقلب في المطبخ بعشوائية..
اقتربت منها تسألها بحدة:
-إنتِ بتعملي إيه يا رودينا؟!
رفعت كتفيها بلامبالاة مجيبة:.

-زي ما إنتِ شايفه، بدور على حلة حلوة أعمل فيها أكل فملقتش الحلة اللي جبتها ساعة جوازي ف قلبت المطبخ كله!
إحتدت عينا مها من تلك البجاحة التي كانت ك كورات سوداء ترتكز في جانبي عينيها الباردة بلفحة خبث!
سحبتها معها للخارج صارخة فيها:
-لا بقا ده إنتِ الواحد بيسكت لك بتركبيه! مش ناوية تلمي الدور ولا عشان أنا بسكت لك كتير؟!

إبتعدت عنها رودينا ببرود، لتغادر المطبخ متجهة للخارج، رأت سيف يجلس على الأريكة يشاهد التلفاز ويضع قدمه امامه سارت بجواره لتزج قدمه هاتفه بحنق:
-ما تنزل رجلك كدة مش شايفتي بعدي؟
دفعها سيف قليلاً بيداه لتبتعد مرددًا:
-ابعدي بقا عايز اتفرج انتِ باردة
ولم تدري مها كيف رفعت رودينا يدها وبأقل من الثانية كانت تصفع سيف بكل قواها!

شهقت مها لتركض تجاهها بينما ابتعدت الاخرى تفتح باب المنزل وهي تبتسم بصر على صوت بكاء سيف الذي كان كنقطة نصر تُحسب لها وسط بقعة من الغل...
امسكت بها مها تهزها فجأة صارخة فيهت بعنف:
-إنتِ مجنونة إزاي تمدي إيدك على ابني؟! حيوووانة
كانت رودينا تود دفعها وهي تزمجر فيها:
-ابنك قليل الادب
ولكن فجأة إختل توازن رودينا فترنجت للخلف وبلحظة كانت تسقط على السلم صارخة وهي تتدحرج حتى إرتكزت في الأسفل فاقدة الوعي!

بينما في بني سويف عند أسيل وجاسر، كانت أسيل تعاني من شوائب بدأت تحتل جزءًا ملحوظًا من حياتها...
منذ أن وصلوا و حماتها تبث كلمات عن الانجاب أمامها وامام جاسر...
لم تتذكر يومًا أنها شعرت بالضيق يتجانس مع دقات القلب ومركز العقل المذبذب هكذا!

كانوا جميعهم ( اخوته الصغار ووالده ووالدته) يجلسون على منضدة الطعام في منزل والد جاسر الكبير، هبطت هي من الأعلى بعدهم بفترة صغيرة لتجد الجميع بدأ في الطعام، إقتربت منهك متنحنحة بخفوت:
-سلام عليكم
رد الجميع في نفس واحد:
-وعليكم السلام ورحمة الله
جلست لجوار جاسر بهدوء، نظر لها جاسر هامسًا بصوت خفيض:
-إتأخرتِ كدة لية يا أسيل؟
صدح صوت والدته التي قالت بخبث شابه الضيق:
-اكيد ماكنتش فاضية تنزل تقعد معانا.

هز جاسر رأسه نافيًا:
-لا أكيد مش كدة يا امي بس هي طبيعة أكلها قليل
نظرت أسيل للطبق امامها، تشعر أن تلك السيدة تكن لها ضيق يكاد يخنقها سالبًا منها كل ما يلون حياتها الكئيبة!
وفجأة شعرت بيد جاسر التي وضعت على يدها المرتكزة أسفل المنضدة، تخلل أصابعها بحنان استشعرته في لمسته الناعمة، ليتحسس كفها بأصبعه وابتسامة حانية ترتسم على وجهه...

وهي دقات قلبها تثور من لمسته الصغيرة، يُحيي داخلها مشاعرت حجرتها هي على عبدالرحمن فقط...
ولكن بدأت تشعر بها تخرج عن أسر سيطرتها، بل وتتكاثر داخلها مُشققة ثباتها الواهي امامه!
سمعت صوت والدته تهلل بابتسامة:
-اهلا اهلا يا عنود، نورتي البيت يا حبيبتي
تقدمت المدعوة ب عنود شابة تُقارب عمر أسيل وجاسر، لم تكن جميلة بمقدار يفوق أسيل، ولكن شيئ ما متواري خلف قدومها أقلق أسيل!
أشارت لها والدته أن تجلس قائلة:.

-دي عنود بنت خالت جاسر يا أسيل، هي أرملة ربنا هيعوضها ان شاء الله
اومأت أسيل بصمت، تشعر أن نفسها الخبيثة تُزهقها رياح تلك السيدة في ثوانٍ معدودة!
بدأت تتحدث والدته تتحدث مع عنود كثيرًا حتى قالت موجهة حديثها لأسيل الصامتة:
-دي بقا مطلقة يا أسيل، لكن ماشاء الله مخلفة 4 إتنين توأم كبار وإتنين صغيرين قبل ما جوزها يعطيكِ عمره
إبتلعت أسيل ريقها بصمت، وكأنها رأت من مكانها مغزى تلك الزيارة المشؤمه!

تلك السيدة تُمحي سطور حياتها التي لم تبدأ بعد بممسحة الاسباب...
بينما أكملت بحروف تقدمها الخبث الضائق:
-مش ناوية تفرحينا بعيل من صلب جاسر ولا إيه يا اسيل؟
إشتدت قبضة جاسر عليها وكأنه يحاول ترميم ثباتها الذي فر أدراج الرياح، ليردف بهدوء:
-ربنا اللي بيفرح ب عيل يا أمي، مفيش حاجة بأيدينا
هنا تدخلت عنود متابعة والابتسامة الخبيثة تتلاعب على ملامحها المرسومة:.

-ايوة بس الست مننا بتكون مشتاقة أوي لعيل وخصوصا لو من الراجل اللي بتحبه يابن خالتي
لمح جاسر تقلص ملامح أسيل التي غامها ضيقًا طفى من الأعماق ف بدت لها الدنيا سوداء كحلكة ليل يخاصمه القمر!
فأكملت والدته بجدية:
-لو أسيل فيها حاجة وأنتم مخبينها قولوا ندور له على واحدة تجيب له عيل من صلبه زي ما كلنا بنتمنى
هنا صدح صوته والده يستطرد بحزم:
-ام جاسر، الكلام ده مايصحش دلوقتي، ادعيلهم ربنا يرزقهم.

تأففت هي وهي تشيح بيدها متابعة بغيظ:
-يعني وهو اللي يصح إننا نقعد سنتين من غير عيل يفرحنا كدة يابو جاسر، هو العمر بيزيد ولا بيقل؟
نهضت أسيل مسرعة لتغادر دون كلمة راكضة للأعلى..
بينما نهض جاسر هو الاخر يتشدق بضيق:
-عجبك كدة يا أمي
ثم سار مسرعًا نحوها، لينهض الجميع خلفه متأففين بضيق على تصرفات والدته الغير مراعية..
فتبقى هي و عنود التي مطت لها شفتاها وكأنها آسفة على حظ ولدها الأسود!

فيما في الاعلى طرق جاسر باب الغرفة التي اغلقته أسيل عليها، وهو يقول بجدية:
-أسيل إفتحي الباب يلااا
لم يجد منها رد، وبعد حوالي دقيقتان وجدها تفتح الباب بعينيها الحمراء من كثرة البكاء، إحمرار حاد يجذب عطف من امامه من عمق حزنه وكسرته!
وبتلقائية كان يمسك وجهها بين يديه ليمسح دموعها هامسًا:
-إنتِ بتعيطي، أمي ماتقصدش حاجة على فكرة بس هي مش بتفكر في كلامها بس.

هزت رأسها نافية وهي تبعد يده عن وجهها قائلة بصوت واهن:
-لأ تقصد، خليها تدورلك على واحدة يا جاسر تجيبلك العيل اللي نفسكم فيه، ولا تدور لية ما بنت خالتك موجودة
سحبها للداخل وهو يغلق الباب في لحظة، ليضع يده على شفتاها مردفًا بصلابة حازمة:
-هششش إياكِ اسمعك بتقولي كدة تاني، مفيش واحدة هتكون مراتي غيرك، ولا العيل اللي نفسي فيه هيكون من واحدة غيرك، عيالي كلهم هيكونوا منك إنتِ بس!

إحتضنته بتلقائية وهي تشهق باكية، في كل مرة ومع كل مرة يثبت لها أنه الأفضل، أنه من ذهب وهي من حديدٍ أكله الصدئ!
أن كفة الميزان تميل له دومًا وهي لازالت لا تقر بدوره الراسخ في حياتها...
بينما إحتضنها هو يربت على شعرها بحنو، يمنع نفسه من الأقتراب منها وإغداقها في مشاعره التي ثارت في هذا القرب بصعوبة!..

في نهاية اليوم...
كان عمر يجلس على الأريكة في منزله، يشعر كما لو أن حياته سوداء مبهمة ومتشابكة كالسراب تمامًا حتى ود لو قطعها وأنهاها...
هي حُسبت بالخطأ حياة، لا حياة يغيب الأكسجين عنها كهذه!
منذ أن رحلت وهو لم يجلس للحظة، يشعر أن الأرض إنشقت وابتلعتها كما يقولون، او هذا قدرًا يخبأها في جيوبه عنه فينال عقابه على أكمل وجه!
يُسطر حياته عنوان يا ليتني
يا ليته لم يفعل فكانت بين يداه..!

ولكن ذاك الماضي لا يسترد او يستبدل، ابدًا!؟
أستفاق من شروده على صوت الباب يدق بقوة، للحظة أنار الامل حلكة عيناه البائسة ولكن انطفأت على الفور بمعرفته ل شهد، شهد التي هربت من أهلها عندما ارغموها على حياة سوداء، فمن هو حتى تنتظر معه شاربة جميع انواع الذل والمهانة؟!
فتح الباب ليجد چودي تتقدم ببرود، ذُهل قليلاً من وجودها ولكنه سألها سريعا:
-إنتِ إيه اللي جابك هنا؟! وجيتي ازاي اصلاً.

مطت شفتاها ببرود وهي تحدق في عيناه هامسة:
-أنا جاية ف شغل يا عموري!
ضيق عينيه مرددًا بتعجب:
-شغل! شغل ازاي يعني؟
رفعت كتفيها تشرح له وهي تقترب منه رويدًا رويدًا:
-اصل انا بشتغل السكرتارية بتاعتك من هنا ورايح!
ظلت تنظر في عيناه التي تبلدت، لتقترب وببطئ منه تلامس صدره مرددة بمنغمات متلاعبة:
-إيه مش هتعملي حاجة اشربها ولا إيه.

قطع حديثها صوت رنين هاتف عمر الذي صدح، ليبتعد عنها كالملسوع إنتفض يخرج هاتفه مجيبًا بضيق مكبوت:
-ايوة
سمع صوت تلك حنان الذي إخترق أذنه مرددة:
-عمر، أنت لازم تيجي أنت مابتردش عليا لية!
-مش فاضي
-لا لازم تفضى، لازم تيجي وبسرعة، أنا حامل يا عمر!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة