قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية إستسلام غير معهود (مواجهة الأسد ج2) للكاتبة رحمة سيد الفصل الرابع

رواية إستسلام غير معهود (مواجهة الأسد ج2) للكاتبة رحمة سيد الفصل الرابع

رواية إستسلام غير معهود (مواجهة الأسد ج2) للكاتبة رحمة سيد الفصل الرابع

بمجرد أن دلفت أسيل إلى المنزل وفتحت الأنوار، شعرت وكأنها اضاءت أنوار جهنم حول روحها هي!.
نظرت امامها مبهوتة وهي ترى زوجها المصون جاسر يجلس على الأريكة يضع قدم فوق الاخرى...
وقد تكلفت ملامحه بأرسال رعشة قلقة من مظهره الغاضب، عيناه السوداء التي تتدفق حنانًا دومًا وهي في أسوء حالاتها!
تقدمت منه ببطئ تبتلع ريقها بمرارة خالصة، وفي الحقيقة هي لا طاقة لها بجدال الان...

تلك المواجهة التي ستجريها مع عبدالرحمن قريبًا تستهلك كل طاقاتها في التفكير بحنق من نفسها قبله!
ترددت كثيرًا قبل أن تهتف بهدوء مصطنع بينما داخلها يرتعد خوفًا:
-إيه ده أنت صاحي
إلتوى فاهه بابتسامة ساخرة قاسية كنبرته وهو يرد:
-اه، اصلي رجعت من الشغل لقيت مراتي الحلوة مستنيااني مش عارفة تقعد لحظة من غيري
حاولت استجماع اتزانها وهي تخبره:
-كنت في مشوار ضروري.

كانت تلك كالقشة على البعير تحركه بقوة، فانهض مسرعًا وبلحظة كان يقبض على ذراعها بقسوة يهدر فيها حانقًا:
-والمشوار ده ماكنش ينفع تكلميني تقوليلي عليه، على الاقل ابقى عارف
حاولت الإنفلات منه متأففة بضجر بات ينفذه قواه المسيطرة على نفسه:
-يووه يا جاسر، هو احنا اللي هنعيده هنزيده، قولتلك مابحبش التحكمات دي خالص، من فضلك خليك في حياتك وخليني أنا في حياتي
هز رأسه نفيًا ثم أخبرها بصلابة لاذعة تليق به:.

-لا، ابدًا، احنا حياتنا واحدة، من يوم ما أبوكِ سلمك ليا واحنا حياتنا واحدة ومش هتبقى غير كدة
هزت رأسها نفيًا، غل ذاك ما يغلي بين أوردتها، لهيب التمرد أشتعل حول روحها المستعرة، وحقد الشهور الذي كُتم بداخلها لشهور، تدفق وسط حروفها المسمومة وهي تصرخ فيه:
-مابحبكككككش، بكرهك افهم انا بكرهك مش عايزاااك، مش بطيقك.

كلامها كان كسيف مسموم مميت إنغرز بقلبه المشقق، الحقد الذي يشتد في عينيها كان سهامًا تنطلق لتكسر اي رابط للأمل تكون داخله!
قلبه كان يرتجف داخليًا من الألم، يرجوها أن تتوقف عن تحطيمه، تعذر دقاته الضعيفة التي لا تنبض إلا لها..
ولكنها لم تعيره اهتمام وهي تكمل سيلها القاتل دون رحمة:.

-اتجوزتك غصب عني، حياتنا مش واحدة ولا عمرها هتكون واحدة، انا مابحبكش، ولا عمري هحبك ولا عايزاك، حياتنا طول عمرها مرفوضة بالنسبالي، ياريتك ماشوفتني ولا اتقدمتلي يا شييييخ
ثم اصبحت تضربه بقبضتها على صدره الذي كان يهتز تضامنًا مع قلبه المرتعش بألم وهي تتابع بهيستيريا:.

-دمرتني، دمرت حياتي، كل ده عشان عجبتك، يا شيخ ملعون ابو الجواز اللي غصب ده، أنت اكتر انسان بكرهه في حياتي، وماظنش إني هكره حد اده ابدا، ابدًا!
تخازلت قبضتها لتتركها وهي تكاد تسقط ارضًا بهذيان، حالة غريبة من الثوران للسكون التام كنقطة في عرض البحر!
واخر شيئ همسته:
-أنا موجوعة، أوي.

هنا أمسك بها ويده تقيد خصرها بقوة متملكة وهالكة، يشدها نحوه حتى ألصقها به، ينظر لعيناه التي اشتدت بالقهر الممزوج بالكره، ليحتضنها اكثر مشددًا على حروفه وهو يخبرها بصوت متألم:
-وانا موجووع، أوي أوي، اكتر مما تتخيلي
رفعت رأسها تنظر لها مستفهمة، ليقابل تساؤلها بقبلة عاصفة، كريحًا هبت على شفتاها الباردة ترطبها، يلتهمها فيها بنهم وجوع لطالما كبته داخله...

حاولت التملص من بين ذراعيه، ولكنه قيدها بقوة ليلصقها به اكثر حتى باتت تستشعر سخونة جسده الحارق من اقترابها هكذا ولأول مرة...
ابتعد بعد دقيقة يلتقط انفاسه التي كادت تهرب بين شفتاها، بينما عيناه لم تنحدر عن شفتاها المتورمة قليلاً!
تنهد بصوت عالي، بينما هي حاولت إبعاده وهي تهمس لاهثه بحنق:
-أبعد أنت آآ...

وايضًا إبتلع باقي حروفها بين شفتاه، يحاول أن يروي ظمأه الذي يبدو انه لن ينتهي منها، يتذوق رحيق شفتاها الذي لطالما حلم به...
وفقد سيطرته على نفسه بالكامل!
نسى نفورها ورفضها، تغاضى عن تشنج جسدها تحت لمساته، زال سهم عيناها السام..

وشفتاه تقرع طلبًا للمزيد، وجسده يستعر بنار الشوق للأكثر، رغبته الحارقة فيها تزداد أكثر فأكثر، وهو بات أكثر من ملبيًا للنداء، فاصبحت شفتاه تختم ختمها الثمين على رقبتها البيضاء، وكتفها الذي ظهر ما إن أبعد قميصها عنه، يلتهم كل جزء منها وهو يلصقها به اكثر، بينما هي متبلدة بقهر، يأست من ابعاده فلم تجد سوى الاستسلام المميت لها!
وصلها غمغمته الخشنة بوضوح وهو يكمل التهامها:.

-أنا موجوع، من رفضك، من النار اللي بتقيد جوايا عايزاكي، من ايدي اللي بتموت كل يوم وهي مش قادرة تضمك ليها، من جسمك اللي بيقشعر كل ما ألمسك، موجوع منك أكتر من اي حاجة
أغمضت عيناها لتهبط دمعة يتيمة على وجنتاها فتسقط على شفتاه التي كانت تأكلها اكلاً، ثم زجته برفق وهي تهمهم بصوت مبحوح:
-أبعد عني، مش مستحملة لمستك، مش مستحملة ايدك على جسمي، نار بتاكلني لما بتقرب مني، هموت!

وكان ذلك كفيل أن يجمد شفتاه على أسفل رقبتها، تصلب جسده كله بقسوة، رفع نفسه بصعوبة ينظر لها، ويا ليته لم ينظر فيقابل نظرتها تلك التي ذبحته بكل برود وقسوة!
ابتعد عنها ببطئ شديد رافضًا أي نداء لقلبه، لتغادر هي، بكل بساطة غادرت دون كلمة، وكأنها شعرت بكفايته مما قالت!

حاولت طرد تلك الأفكار السوداء عن عقلها حول هوية الطارق، علها تكون تكملة لباقي الكابوس الذي ستستيقظ منه حتمًا على أصابع حبيبها وهي تملس بنعومة وجنتها المرمرية التي يعشقها..
ولكن ذلك الكابوس أنتهى بصفعة مؤلم من الواقع تؤكد لها انه ليس كابوسًا!
بل واقعًا مريرًا عليها أن تتعايش معه شاءت ام أبت...
نظرت لرضوى التي اتجهت معها لتقول بحزم قاطع:.

-خليكِ مكانك يا رضوى، ده أكيد صاحب السوبر ماركت اللي أحنا متفقين معاه
لا مانع من أضافة كذبة اخرى لعالم القوة الذي تخلقه من شظايا روحها!
بينما هزت رضوى رأسها نافية والطرق يزداد قوة:
-لأ، روحي افتحي وانا وقفالك هنا
اومأت شهد وهي تجبر قدماها على الحركة نحو الباب، وفجأة هدأت الطرقات تمامًا!
سكون قاطع يأتي في اذيال الضجيج المرعب، هكذا ودون مقدمات؟!
فتحت شهد الباب ليلفح الهواء فقط وجهها، فقط الهواء ليس إلا!

نظرت هنا وهناك وهي تنادي متوجسة لأي هجوم:
-مين؟ مين هناك!
ولكن ما من مجيب، دب الرعب في قلبها وأنهى مهمته، ثم غادر هكذا وببساطة دون أن يعلمها بشخصه حتى!
كادت تستدير وتدلف مرة اخرى إلا أنها إنتبهت لورقة أسفل قدماها...
وبالطبع توقعت بسهولة المرسل، فارتجفت أصابعها وهي تلتقطه بهدوء تام، وكأنه هدوء ما قبل العاصفة!
سمعت سؤال رضوى المتعجب:
-ده مين السخيف اللي باعت جواب ده.

هزت رأسها نفيًا وشعرت بصوتها يختفي من كثرة الخوف:
-مع معرفش، هنشوف اهو
داهمتها كلماته بقسوة، كلماته تنحر قلبها المُشقق، والتهديد يتقافز كشبحًا امام بلا حياء!
جوزك معانا، وأنا افضل ماتبلغيش البوليس، لإنك لو بلغتيه هتقرأي على روحه الفاتحة، بس بعد ما يشوف العذاب أشكال وألوان طبعًا !
وماذا تريد أكثر من ذلك لتحترق حية؟!
لتموت في لحظتها وهي تتخيله يتعذب!

حقد ذاك المجهول كرياح عاصفة أبادت حياتهم التي كانت كزهرة في مهب الريح...
تأوهت بصمت قاتل وهي ترى الصمود يخر صريعًا قبلها!
بينما إلتقطت منها رضوى الورقة تقرأ، لتضغط على الورقة بيدها، ثم إشتدت نبرتها وهي تتأفف:
-الله يحرقه مطرح ما كان، حسبي الله وكفى، ده حيوووان عايز إيه ده!
بينما داخل شهد كان عزاءًا في راحة لن تذقها إلا بعد مرارة قاسية...

عيناها تنبض بالأصرار الذي يغطيه غلافًا من الدموع التي احكمتها شهد!
ألف صرخة ودت لو تخرج فتكسر قشرة الجمود تلك، ولكنها كانت أقوى منها فاشتدت قبضتها عليها بقسوة عذبتها هي قبل أي شيئ...
إنتبهت لسؤال رضوى المحتار:
-هتعملي إيه يا شهد؟
ظلت تنظر امامها دون تعبير واضح، إلى أن هتفت دون تردد:
-مش هبلغ البوليس..!
صرخت فيها رضوى منفعلة من ذاك الاستسلام الذي بدأ ينافس الصمود لتوه:.

-لأ طبعا إنتِ مجنونة! هتستسلمي من مجرد تهديد تافه؟
وعندما لم تجد رد منها، أكملت بحنق:
-محدش غير البوليس هيقدر يرجعلك جوزك، إلا لو إنتِ ناوية تقري الفاتحة على روحه فعلاً
تعلم أنها تزيد من رش الملح على جرحها المفتوح، ولكن مهلاً، ليس هناك مانع لعلاج مرير إن كان أخذه اضطراري!
قد تصل الى حافة الانتصار متألمة، متوجعة، مكسورة وهشة، ولكنها في النهاية ستصل!
ستنتهي المركب بمرسى النجاح وإن كانت هالكة، جدًا...!

تغاضت شهد عن قسوة حروف رضوى بصعوبة وهي ترد بجدية:
-ماقدرش اخاطر بحياة عمر يا رضوى، وخصوصا انه شكله مراقبنا وقدر بكل بساطة يدخل الورقة دي
صرخت فيها مزمجرة:
-يبقى استني لما يبعتهولك جثة مفيهاش روح
كلامها صحيح، لا بل أكيد، جعلها تطفو للواقع قليلاً، الواقع الذي بعدت عنه كل البعد على سبيل القوة الواجبة!
لكن، ماذا عساها تفعل، بداخلها صراع قوي من طرفان لا يعرفان معنى الهزيمة، وتشعر أنها ستُمزق بينهم حتمًا..

مهلاً مهلاً، عن أي مستقبل تتحدث؟!
هي مُزقت بالفعل وانتهى الامر، والمعروف أن الماضي دائمًا هو المنتصر في تحقيق الوجع الاكبر!
لم تجد سوى أن تهمس بمرارة العالم كله:
-أنا تعبانة، تعبانة أوي
ثم لم تمهلها فرصة التهوين عليها، فأسرعت تركض بكل ذرة تحيى فيها نحو عالم اللاوعي، والذي أستقبلها بكل ترحاب!

وقف سيف امام الصبيان يراقبهما كيفما اومر، يرتجف داخليًا بقهر...
ويتعلم منهم كيفية السرقة دون ان يدري!
عيناه متسعتين بانبهار طفولي مصدوم، ويراقب حركاتهم، يهتم بتلك اللعبة التي اجبروه عليها، إبتلع ريقه بصعوبة وهو يسمع زينهم يناديه بضجر:
-يلا ياض دورك، ماتقفش تتنح مكانك كدة كتير
هز رأسه نفيًا ثم اخبره:
-لأ أنا مش هعرف أعمل كدة يا زينهم
أقترب منه زينهم يزجره بعنف مرددًا بصوت عالي:.

-نعم يا روح أمك، أحنا اصلًا بنوريك مراعاة لسنك الصغير مش أكتر، مش عشان تقول مش هعرف
ثم صفعه بقوة، فعل ما لم يفعله والداه، نظر لأثر صفعته على وجنتا سيف البيضاء، ثم أكمل ساخرًا:
-احنا مش بنلعب بنك الحظ ياض، ده أكل عيشك من هنا ورايح
ظل سيف ينظر له مبهوتًا، تلك الصفعه كانت بمثابة وصمة عار على روحه التي لم تتعدى مرحلة الطفولة بعظ!

وفجأة إنفجر في البكاء، يبكِ بحرارة وحرقة، الان فقط أستشعر مرارة فقدان والديه، شعر بروحه المهشمة تنزلق بعيدًا عن جسده لتتركه ميتًا...
سحبه زينهم معه حتى كاد سيف يسقط بسبب البنطال الطويل والواسع الذي يرتديه، فصاح فيه منفعلاً:
-أبعد عني، أنا هرجع البيت ابعد سيبني
سمع قهقهات كثيرة من باقي الصبيا، وهمهمات ساخرة صدرت عنهم:
-هو دخول الحمام زي خروجه ولا إيه!؟

وكأن سخريتهم تلك أكتسبونها من المعرفة بخط سير العذاب الذي سيسلكه سيف ..
او ربما يقينهم أنه بعدما اقحموه في ذاك العالم لن يهرب منه، لانه ليس إلا سراااب يتسلل لك أينما هربت!
ظل سيف يبكي بحدة، ثم صرخ فيهم بهيستيرية:
-بس اسكتوووا، ملكوش دعوة بيا سيبووووووووووني
ولكن أي رجاء هذا!؟، كل رجاء صدر منه إنقطع موازيًا مع الصمت الذي حل المكان من قدوم سيدهم...

فعم الصمت لا يقطعه سوى صوت نشيج سيف المتألم، شهقاته تلك التي خرجت مذبوحة بمرارة!
وما إن رآه سيف حتى سارع يتمسك بقدماه وهو يرجوه متوسلاً بحزن أدمى قلبه الصغير:
-عمو خليني أمشي عن العيال دي، و زينهم، زينهم بيضربني
بينما كان وجه الاخر جامدًا متخشبًا، لم يلين برجاء سيف المذيب، بل قال بصلابة قاسية:
-يبقى أكيد أنت ماسمعتش الكلام عشان كدة بيضربك
سارع سيف مبررًا بدهشة نافيًا:.

-لا، ده هو اللي عايزني أسرق من الناس
نظر له باستهانة ثم أبعده عنه بقوة يسأله ساخرًا:
-ماهو ده شغلك من هنا ورايح، امال أنت هتقعد هنا ببلاش
هز سيف رأسه نافيًا، وبشفتاه التي ترتجف خوفًا نطق بصعوبة:
-لأ أنا مش عايز أقعد اصلا، انت قولتلي هتدور على ماما وبابا، أنا عايز أمشي
تأفف ثم زمجر بعصبية خفيفة يأمره:
-روح يا سيف أعمل زي ما بقولك عقبال ما نلاقي امك وابوك
اعترض بقوة واهية:.

-لا انا مش هسرق، ماما قالت لي حرام وعيب دي حاجة مش بتاعتي
وسرعان ما عادت تلك الضحكات الساخرة تصدح مرة اخرى على حديثه الاخلاقي والذي لا يتناسب مع بقعة الفساد التي يقطن بها!
بينما أشار لهم بيده يصيح فيهم حادًا:
-اخرسوا انتوا بتضحكوا على إيه؟! اوعوا تنسوا انكم كنتوا زيه اول ما جيتوا هنا، وهو هياخد وقته ويتأقلم معاكم
لاحظ أعتراض سيف الذي استشعره من تشنج جسده الضئيل...

وإن كان التصميم أسلوبك، فاتخذ العقاب سبيلا!
نظر ل زينهم يخبره بخشونة:
-زينهم، خده على اوضة العقاب، عشان يعرف انه لازم يسمع الكلام بعد كدة
ثم استدار وغادر بكل بساطة!
لم يرتجف قلبه شفقةً على هذا الطفل الذي اقحمه في دائرة مغلقة من العذاب، لم يهتز له رمش، بل غادر بكل برود لا يليق سوى بفاسد متحجر القلب والمشاعر مثله!
بينما شده زينهم وهو يزجره بملل:
-يلا امشي وبلاش مقاومة عشان عقابك مايزدش.

وكان سيف يبكي، يصرخ وينوح، كعصفورًا حبيسًا يختلع ريشه رويدًا رويدًا، اسيرًا تحت رحمة أناس لم تعرف الرحمة يومًا!
إلى أن دلف الى حجرة العقاب تلك، تمثلت له في صورة - جهنم على الأرض - وعيناه تتسع أكثر فأكثر وهو يدرك بصعوبة ان ذاك العقاب لم يكن سوى - ضربًا للأطفال ( بالخرطوم ) -!
يضربوا هكذا أطفالاً لم تتعدى العاشرة من عمرها!
يعذبونهم عذابًا جسديًا يتناسب وبشدة مع ذاك العذاب النفسي؟!

إرتعش جسده ارتعادًا من مظهر طفلان كادا ينزفان متأوهين بألم مكتوم، بينما صرخت عيناه بالنفور، ودموعه اللامعة كزجاجًا يحفر بذاكرته صورة لن ينساها يومًا...
ظل يهذي برعب حقيقي لزينهم الجامد جواره يلاحظ تعبيراته:
-لا والنبي يا زينهم، أنا اسف عشان خاطر ربنا ماتخليهمش يضربوني
هز زينهم رأسه نافيًا، ثم رد بقسوة:
-امر المعلم خرج خلاص، لازم تتحمل نتيجة عصيانك لأمره
ثم بدأ زينهم يخلع عنه التيشرت بقوة...

واللحظات التالية كانت أصعب ما مر به سيف في حياته القصيرة، عذابًا لم يذقه يومًا، مرارة لاذعة الطعم تسيطر على حلقه الذي جف من كثرة الصراخ...
بات لا يشعر بظهره الملون بلون الدماء، عيناه تتشارك نفس اللون من كثرة إنفعاله وصراخه...
لو كان العذاب له قلب ينبض لكان توقف عن اللحاق به، شفقةً منه على هذا الدخيل لذاك العالم الميؤس منه قصرًا!

انتهوا من الدورة التي يتلقاها كل دخيل جديد، ثم فك زينهم الحبال عن يد وقدم سيف، ليرميه على الأرض هزيلاً شاحبًا كالموتى...
مراعيًا في قوانين عذابه، أن يرى الموت ولكن لا يمسه !

كانت رضوى تجلس أمام شهد الصامتة تمام نفذت حروف المواساة فلم تعد تدري ماذا تقول لها!
ورغمًا عنها تذكرت محاولة حماتها الفاشلة لموت جنينها، ###
بعد أن نهضت لتعد العصير، نهضت رضوى بخفة لتجلب - السلة - التي تكمن بجوار المطبخ، امسكت بالسلة وكادت تسير ولكن فجأة لمحتها وهي تضع شيئً ما بالعصير!
لم يكن شيئ بل كان دواءًا!
وترى ماذا ستضع لها دون علمها سوى شيئ ضار لها او لطفلها؟!

شهقت مصدومة وهي تحاول كتم شهقتها ثم ركضت لتعود لمكانها مرة اخرى...
التعامل مع شيطانة كتلك لا يجب أن ينحدر سوى لتعامل خبيث يماثله...
وهذا ما فعلته تماما، ما إن جلبت لها العصير وجلست ثم شردت تتذكر ما فعلته حتى سكبت رضوى العصير في السلة بجوار الاريكة بحذر...
ومرت الدقائق فأطلقت صرختها العالية وكأنها تتألم، وما أكد لها شكها هو برود تلك السيدة وهي تراها تصرخ وتأن بألم...

عادت من شرودها لتتأفف على حالها، وكأنعا تعيش في - فيلم هندي -!

بينما على الطرف الاخر...
وصل عبدالرحمن إلى منزله، مُنهك حرفيًا، منهك جسديًا ونفسيًا، بالكاد يسير على قدميه!
رمى كل شيئ قبل أن يتسطح بهمدان على الفراش، لايزال يتردد صدى بكاؤوها في اذنيه، كرعدًا يزلزل المكان طلبًا للأمطار...
امطار العشق التي جفت للأبد من حياتها البائسة بدونه!
لا يدري لمَ تُعانده ذاكرته فتحتفظ بتلك المقابلة محفورة بعقله...
كل ما يشعر الضيق، الضيق المسيطر على كل خلاياه بلا منافس..!

ترى ماذا فعلت الان؟! وما هي مشكلتها التي كانت تحتاجه لحلها؟!
مهلاً مهلاً، ولماذا يهتم من الأساس!
ألم تكن هي من أغلقت حياتها بسلاسل المصلحة بعدما ألقته خارجها بكل مهانة، ألم يكن يُعاني وحشة الظُلمات حتى ظهرت رضواه فأنارتها بصفائها!
الان يفكر في تلك التي ظهرت في حياته فجأة قاصدة تدميرها؟
لا وألف لا، لن يسمح، لن يعيد كرة الدمار مرة بعد مرة، المؤمن لا يُلدغ من عقرب مرتان!
وهو مؤمن بالقدر، وبشدة،.

نهض جالسًا وهو يمسح على شعره عدة مرات...
الأمر ليس بيده، بات يشعر أنه ليس المتحكم الوحيد في حياته!
وهذا يُعد خطرًا يجب الحظر منه، أو مرضًا مثلاً يجب الخضوع لعلاجه قبل تخطيه لحياته حتى!
ضرب الفراش بقبضته وهو يصرخ:
-كان لازم تفضلي مع شهد!
تأفف متابعًا والألم تشتد قبضته على روحه التي باتت هشة:
-أنا محتاجك أكتر من شهد
ومن دون تفكير كان يمسك هاتفه ليتصل بها، وبعد دقيقة كان يأتيه صوتها المرهق:
-السلام عليكم.

-وعليكم السلام، مالك؟
-مفيش حاسه اني مرهقة شوية بس
-ما إنتِ لازم ترتاحي
-شهد لوحدها ماينفعش أسيبها، والحمدلله ان ماما مع مها، واهم بيدوروا على سيف يارب يلاقوه
-امييين، طب آآ
-قول يا عبدالرحمن من امتى وانت متردد معايا
-انا محتاجك، محتاجك جمبي
-شهد، محسن هيجي بس مش عارفة أمتى بالظبط
-ويعني؟
-هشوف لانه ممكن يوصل بعد شوية وهاجي
-اييييية! لا طبعًا، الساعة داخلة على 10 بليل يا مدام، أنا هاجيلك
-ماشي.

-ماشي، خلي بالك من نفسك، في رعاية الله
-وأنت كمان، مع السلامة
أغلق وهو يتنهد بقوة، وجودها لجواره هو أفضل ترياق لسمًا كاد يسيطر على عروقه كاملة!
ظل هكذا حوالي عشرون دقيقة حتى سمع هاتفه يعلن وصول رسالة تخبره فيها أن يأتي لأصطحابها...
وهو كان اسرع من ملبي للنداء فنهض مسرعًا يحمد الله انه لم يبدل ملابسه..
وصل إليها بعد دقائق، هندم نفسه سريعًا ثم تقدم ليدلف إلى الداخل...

فتحت له رضوى ودلف ببطئ، وما إن رأى شهد حتى هتف بأسف:
-ازمة وتعدي إن شاء الله يا مدام شهد، وإنتِ ادها وادود أنا متأكد
وكان أصعب شيئ حاليًا هو الابتسام وقد تشققت شفاهها تمامًا كروحها المُعذبة، فردت بشحوب:
-إن شاء الله، ومعلش اخرت رضوى عندي
هز رأسه نافيًا بسرعة:
-لا لا، لو عايزاها هتبات معاكِ تمام
هزت رأسها نافية لتخبره بهدوء:
-مانعوزكوش في حاجة وحشة بأذن الله، أخويا في المواصلات زمانه على وصول.

نظرت لها رضوى بطرف عينيها وكأنها تسألها مرة اخرى، فأومأت شهد بابتسامة لم تتعدى شفتيها...
ومر الوقت يحاولوا فيه مواساتها، ولكن بالطبع فشلوا...
وفي الدقائق التالية كانوا يغادروا، لتبقى هي وحيدة، بين براثن تلك الحياة السالبة، الساحقة، والمميتة وحدها!

بدأ عمر يستعيد وعية، لا يدري كم مر عليه وهو نائم هكذا، ولا من فعل ذلك، ولكن ما يفهمه جيدًا أن تلك الدوامة لم تتركه إلا بمقاتلة مميتة!
وبالطبع كما توقع وجد يداه مكبلة كما قدماه وهو يجلس على احدى الكراسي الخشبية...
اخر ما يتردد صداه داخل ذاكرته هو التخدير الذي أثقل قدماه فسقط مغشيًا عليه بين يديهم!
اخذ يزمجر بغضب وهو يبحث بعيناه المشتعلة عن الذي سيُقتل بين يديه حتمًا ما إن يراه:.

-انا فيييين، أنتوا يا كلاااااب
ولكن ما من مجيب، صامت قاتل متوحش من يفرد ستائره على تلك الغرفة اللعينة!
ذهب كل ذلك ادراج الرياح وهو يرتكز بسؤاله المتوجس..
كيف حالها؟ ماذا ستفعل، كيف ستتصرف
هو يدرك جيدًا دوره القوي في حياتها، بل يُيقن وبفخر أنه نقطة وسط كيان، إن زالت يزول الكيان معها!
لتبقى مجرد جسد هش، وهذا ما لن يسمح به، ابدًا!..

ظل ينظر حوله عله يعرف أين هو، ولكن خانته عيناه عندما عادت لمظهره دون أي معرفة...
قلبه ينبض بعنف، بل يثور ويتمرد داخله، يود النجاة من ذاك الوحل الذي غمسوه به! ولكن رغمًا عنه، يجذبه اكثر...
وقد تصل نهايته إلى مطاف مُهلك، لا يصح إلا لنفوس معينة من البشر!
واخيرًا وجد ذلك الباب يُفتح ببطئ، ببطئ شديد وكأنه يتولى مهمة تشويقه، إلى أن رأى الرجل، ويا ليته لم يراه فتكن الطعنة من نصيبه الممتلئ من الألم!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة