قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية إستسلام غير معهود (مواجهة الأسد ج2) للكاتبة رحمة سيد الفصل التاسع

رواية إستسلام غير معهود (مواجهة الأسد ج2) للكاتبة رحمة سيد الفصل التاسع

رواية إستسلام غير معهود (مواجهة الأسد ج2) للكاتبة رحمة سيد الفصل التاسع

مسبقًا استيقظت مها صارخة صرخة شقت السكون الذي أنتشر حولها مسيطرًا على الجو...
نظرت حولها لترى أحمد و ووالدتها واخيرًا تلك العقربة التي جعلت الدماء المغلية تضخ اوردتها بقوة..
ولكنها إنتبهت لتوها على تلك الحقيقة التي اقتحمت حياتها فجأة فصرخت:
-ابني، أنا عرفت
تنهد احمد بقوة ليسألها خافتًا:
-عرفتِ إيه يا مها؟ إنتِ عمالة تقولي عرفت عرفت!

لأول مرة تشرق شمس الأمل على هيئة ابتسامة على أرض وجهها الباهت الذي بار، فينظروا لها جميعهم بعدم تصديق!
بينما هتفت هي بابتهاج:
-هنعرف مكان سيف، أنا تقريبا عرفت
إتسعت أعين كلاً منهم ومن ضمنهم رودينا التي أخترقها وسواس الشك حول قدراتها العقلية فهمست:
-نعم! وده عرفتيه ازاي ده؟

وكأن صوتها قد أعاده لموضع الصدمة لفعلتها الشنيعة، فاستدار لها يشملها بنظرة سوداء كغابةٍ لا تحوي سوى وحوشًا مستعرة تحترق لأكلها حية!
فحاولت تصحيح جملتها:
-أنا قصدي، قصدي يعني إن آآ
ولكنه قاطعها مزمجرًا في وجهها بغضب جم حارق:
-اخرررررسي، مش طايق أسمع صوتك
أطرقت رأسها خزيًا، وتلقائيًا خرجت الكلمة من فاهها بحنق:
-حاضر
إشتد لهيب عيناه الذي وصلتها حرارته وهو يسألها مستنكرًا:.

-إنتِ إيه اللي مقعدك هنا لحد دلوقتي أصلاً؟ لية لسة في بيتي!
إتسعت عيناها والصدمة تتآكل نصفها، إلا أن نطقت بصعوبة وكأنها تتعلم الأبجدية من جديد:
-أنت، أزاي!، أنا آآ...
لم يٌفسر ماذا تقول تمامًا، ولكنه متيقن أنها ستبدأ بالدفاع عن نفسها، وغالبًا سترفض هذا القرار!
فقال بحدة:
-إنتِ ملكيش مكان هنا تاني ابداً، دي كانت غلطة عمري ومش هكررها
سألتها مبهوتة وكأنها لم تستوعب بعد:
-أنت بتطردني من بيتك يا أحمد؟

هز رأسه نافيًا، ثم صحح لها بسماجة:
-لأ، أنا بطردك من حياتي كلها
كادت تعترض مرة اخرى، ولكن صياح مها الحاد فيهم جعلها تبتلع اعتراضها السخيف:
-بسسس ارجوكم مش وقته، خلونا نشوف سيف
تأفف أحمد وهو يستدير لها متساءلاً:
-ها يا مها، هنعرف مكانه منين فهميني بسرعة
اومأت مؤكدة لتحاول تجميع جملة صحيحة من فرط إرتباكها السعيد:
-ايوة، السلسلة، ال GPS، في رقبته
ضربت رأسها برفق مرددة:.

-معرفش ازاي نسيت انه اصلاً قبل ما يمشي بكام يوم كنت جبت له سلسلة فيها Gps عشان مواقف زي دي
عقد أحمد ما بين حاجبيه مفكرًا بتعجب، أي صدفة من القدر تلك جعلتها تُعاقب ثلاث ليالٍ ثم يُفك الحصار عن قلب الأم الذي احترق داخلها؟!
فاستطرد هادئًا:
-ازاي يعني؟! وإنتِ من امتى اصلاً بتتعاملي بال GPS..؟
أغمضت عيناها لتشكر تلك المرأة في سرها، قبل أن تهتف مسرعة:.

-واحدة ابنها كان هيتخطف فقالتلي بالصدفة واقترحت عليا وانا عملتها، ارجوك مفيش وقت هات موبايلي
اومأ موافقًا ثم ركض مسرعًا يبحث عن هاتفها كطفل صغير يلبي نداء والدته المريضة...
وبالفعل خلال دقائق كان يجلب لها الهاتف ووالدتها تحاول مساعدته...
وفي الدقائق التالية كانت بداية جديدة لسطر جديد في هذه الحياة، كانت نورًا خافتًا بدأ يتوهج رويدًا رويدًا إلى أن اصبح منيرًا بقوة عامية عندما صرخت أنها وجدت المكان:.

-اهوو لقيته يا احمد السلسلة في...
ثم صمتت برهه وقد عاد عقلها يعمل لتوه، فهمست متوجسة:
-بس دي منطقة شعبية وبيئة اوي، وبعيدة عننا كتير، إيه اللي هيخلي سيف يروحها إلا اذا...
وعجز لسانها عن نطق تلك الكلمة التي قد تُدمر بريق الأمل في مراحلها القادمة!
وعلى لسان حالها كان يتردد
عندما يتوجب عليك وضع نقطة للنهاية، كف عن المحاولة لوضع فاصل!
أكمل أحمد باختناق:
-إلا إذا اتخطف.

وفي اللحظة التالية كان يركض نحو الباب، فصرخت مها فيه مستنجدة:
-احمد بالله عليك أستنى خدني معاك
وبالفعل ركضت هي ووالدتها، ولحسن الحظ انهم يرتدوا ملابس خارجية محتشمة...
فيما ظلت رودينا على حالها كصنم اُصيب بالصمم عندما سمع الحكم المميت على حياته
لأ، أنا بطردك من حياتي كلها !

حين تُصبح الأمنية حقيقة، حين يتجمد الرجاء بصلابة حبال الواقع فيضمه له، حين يتلاشى التخيل ليصبح الواقع امامك شكلاً وشاكلاً..
تقف أنت مبهوتًا مصدومًا متبلدًا من قدرة فائقة للقدر على التغير، فقط ليخالف توقعاتك وإن كنت راغبًا فيها!
وقفت شهد تنظر ل عمر الساكن امامها يبادلها النظرة الهادئة..
رآن الصمت المُكهرب بينهم حتى قطعه صوت محسن الذي همس وكأنه يؤكد لباقي حواسه أن عيناه لم تكن على خطأ ابدًا:.

-عمر! أنت رچعت
وكأن جملة محسن أعادت شهد للواقع الذي يناديها بالتحقيق..
فركضت نحو عمر تحتضنه بكل قوتها لتشهق بالبكاء المكتوم منذ مغادرته، تلك الكومة التي فجرها بعودته المفاجأة!
كانت متشبثة به بكل قوتها وكأنها تخشى من نفس الواقع أن ينتشل منها حلمًا جميلاً، وهو ساكن تمامًا...
بعد دقائق تقريبًا مرت عليهم وشهد متشبثه بحضنه الذي مازال يحتفظ بدفئه، رفع يده ليحيط ظهرها برفق وتلقائية!

ويقرب وجهه من رقبتها البيضاء مغمض العينين، ليسمعها تتأوه باكية:
-آه يا عمر وحشتني أوي، وحشتني أكتر من أي حاجة وكل حاجة، وحشتني لدرجة إني كنت هموت من غيرك
إلتزم ذلك الصمت الموحش، ثم أبتعد عنها ببطئ لتحتضنه مرة اخرى بكل قوتها مرددة:
-ماتبعدش عني عشان خاطري
زفر هامسًا بحزم:
-شههد
كم أشتاقت لتلك الكلمة، كم تاقت أذنيها لأختراقها الحنون، وتبخترت هي بكل دلال حتى وصلت لها...

ولكن لم تصل كالمعتاد، بل كانت نبرة مختلفة غريبة، حازمة بقسوة رغم الحنان الفطري الذي يتدفق منها!
ولكنها تغاضت عنها وهي تراه ينظر لمحسن بتدقيق، لتسارع القول:
-ده محسن اخويا مش غريب يعني
على الأقل حالفه الحظ هذه المرة لتخبره هي!
تجلى صوت محسن وهو يبتسم ليخبره:
-يااااه، طالت غيبتك جوي يا ولد العم
معلومة اخرى يدسها القدر له وسط معمعة عقله المشتتة..
حاول الأبتسام وهو يخبره بهدوء:
-غصب عني.

سارعت شهد تسأله وهي تتلمس وجهه بحنان أمومي:
-إيه اللي حصل يا عمر، وأخدوك لية؟
أبعد يدها عنه ليجيب بامتعاض:
-مشكلة بس
اومأت موافقة مؤقتًا، الان الساحة خالية للأستمتاع برؤيته فقط وبعدها لن تتركه إلا حين يتفرغ بكل ما يجيش بصدره...
جلسوا جميعهم بهدوء تام، هدوء ولكنه مخيف غير مرح غير مُهلل فطري...
حتى قطعه سؤال محسن الجاد:
-إيه اللي حُصل لك يا عمر، إحنا جلبنا عليك الدنيا كُلياتها ومكناش لاجيينك.

كان عمر ينظر أمامه بشرود، شرود يحبسه داخل قوقعة التفكير، وبعد الصمت حان موعد الأجابة الصادمة وهو يلقيها بوجههم:
-أنا مش فاكر حاجة
صرخت شهد مصدومة:
-نعمممم!
اومأ مؤكدًا باتزان:
-مش فاكر أي حاجة من اللي حصل لي
صمت، ذهول، مصيبة اخرى يتثاقل حجرها على مجوار حياتهم البائسة مؤخرًا!
نهضت شهد منتصبة بجزع:
-يعني أنت مش فاكرنا يا عمر!؟ مش فاكر أي حاجة؟

هز رأسه نافيًا، وقال بصوت متحشرج كشعوره تمامًا نحو كومة مشاعر متفقمة:
-مش بالظبط، أنا فاكر كل حياتي، قبل ما أعرفك
شعرت بكلماته تصفعها مرات متتالية، المعنى المتواري خلف حروفه المنغمسة بالسموم أنه لا يذكرها على وجه الخصوص!
وهي زهرة، لا تصدر رحيقها سوى ل عشقًا يُحيهم معًا..
هي شهد زهرة كانت على قيد الحُب، وأصبحت في تعداد متوفين الفراق!
ونهضت تسأله مرة اخرى ببهوت:
-يعني إيه؟

رفع كتفيه بمعنى لا يعلم بينما داخله يعلم، ويعلم جيدًا جدًا!
فصدح صوت محسن الأجش يسأله:
-وأنت عرفت كيف يا عمر؟
تردد كثيرًا قبل أن ينطق بحزم:
-حسين صاحبي روحت معاه للدكتور وهو أكد لي بما إني مش فاكر إنه فقدان جزئي
عاد يسأله مستفسرًا:
-اداك دواء او اي حاجة عشان تسترجع ذاكرتك في اقرب وقت؟
رد بهدوء ب:
-أيوة، اداني متقلقش
اومأ محسن موافقًا لينهض مستعدًا للمغادرة، فسارع عمر يهتف فيه:
-إيه ده؟ رايح فين!

اجابه ممتعضًا:
-رايح الشجة اللي أجرتها لحد ما اسافر
تنهد كلاً منهم بصمت، إلا أن شهد قالت مغمغمة بضيق:
-يعني بيت أختك مفتوح لك وأنت هتروح تقعد في شقة مأجرها دي اخرتها!
هز رأسه نافيًا يشرح لها بخفوت:
-حبيبتي أنا هأعمل كام زيارة كدة بمناسبة إن عمر رجع بالسلامة وهعاود البلد طوالي يعني مش هطول
اومأت متنهدة بعد أن تيقنت أصراره:
-ماشي يا محسن
وغادر محسن وفي قرارة نفسه يُيقن من ضرورة المواجهة..

مواجهة اللقاء الأول والغريب، ذاك اللقاء الذي يُمثل أول حرفًا والذي ستتشكل عليه حياتهم القادمة معًا!
وحتمًا ولابد من الإنفراد، الإنفراد بنفسهم داخل قوقعة الإحكام بالواقع دون إلتزامات كاذبة...
أقتربت شهد منه ببطئ إلى أن أصبحت امامه تمامًا، ترى إنعكاس صورتها والتي بدت لها غريبة جدًا عن صورتها المطبوعة بقلب عاشق لا يخضع لقانون النسيان!
فهمست متأوهه باختناق:
-يعني أنت نسيتني يا عمر؟!

اومأ مؤكدًا دون أن ينظر لها:
-أيوة، دي حاجة لا إرادية
وضعت يدها على موضع قلبه تمامًا، وكأنها تود التأكد بنفسها إن كانت دقات ذاك القلب تضخ بأسمها وتأثرًا لها ام لا!
ثم تابعت بشجن:
-بس ده أكيد مانسانيش
كان مغمض العينين، لا ينكر تأثره بها، بل تأثره القوي بها، شعور غريب ومتفاقم تغدقه به!
قلب الذي يدق بقوة، والشعور بالأحتواء الذي يحيطهم كهالة قوية ومتينة لا يستطيع إنكارها...
أبعد يدها عنه ببطئ وهو يهمس:.

-ده بيخضع للعقل دايمًا، والعقل مش فاكرك فابالتالي ده مش فاكرك بردو
لم تدري لمَ شعرت أن كلماته التي تجعل قلبها يرتجف بعنف لم تكن فطرية تلقائية، بل إستخلصت جهد كبير لتصبح هكذا؟!
وتقريبًا كانت هذه نقطة في صالحها فتخطت عتبة الوجع بقدم التفاوت وقالت:
-طيب، أنت أكيد تعبان تحب أحضر لك أكل عقبال ما تاكل؟!
اومأ موافقًا بأرهاق حقيقي:
-ياريت
اومأت متنهدة بعمق لتوليه ظهرها وكادت تغادر..

إلا أنها فجأة ومن دون أن تدري وجدت نفسها بين أحضانه، يحتضنها بكل قوته بعدما جذبها فجأة...
لا يعلم تحديدًا ما الذي دفعه لأحتضانها ولكن مغناطيسًا سحريًا يكمن داخله تحكم به للحظة ظفر!
يداه تُقيد خصرها ووجهه بين خصلاتها المتمردة كحالة قلبها تمامًا...
بينما هي أحتضنته وهي تتشبث به وتقبل كل جزء من وجه، وعاد لواقعه الذي يُحتم عليه بالأبتعاد فأبعدها عنه لتشهق متأوهه بأسمه:
-عمر...

همستها تلك جعلت قلبه يرفرف لا اراديًا ونسيم عشقها الذي إختلط بحروفها يُنعشه بشكل مُقلق..
إلا أنه استجمع رباطة جأشة وهو يخبرها بحدة قاسية جدًا صلبت قلبها معه:
-أتفضلي زي ما كنتِ ماتبقيش زي العيل الصغير تشبطي في أي حد حتى لو مش عايزك!
حتى لو مش عايزك ، حتى لو مش عايزك ، حتى لو مش عايزك !
ترددت الكلمة وأنحسر الشعور والسؤال!
أطبق صمت ثقيل على أنفاسهم المختنقة وتحشرجت الحروف في جوف ازدادت ظلمته سوءًا...!

هو لم يعد يريدها! لم يرتبط القلب بها كما توقعت، بل كانت ذكريات!
ذكريات هبت عليها عاصفة القدر الصادف فمحتها تمامًا من عُرف لم يُخلق إلا له...
وإستدار وغادر...
هكذا ودون كلمة اخرى أعلن نهاية النقاش بوصول حياتهم لحافة الثوران!
ثوران ما قبل الإنفجار، والبادي أسوء..

بعد فترة...
واخيرًا كان أحمد يتقدم مع الشرطة نحو ذلك المكان متسللين دون صوت، لا يزال يذكر تنبيهات الضابط التي زرعها بعقله مشددًا على كل حرف
إياك تنفعل أو تعمل صوت أو أي حركة مش متفقين عليها، مهما تشوف أو تسمع يا احمد ..
ده لو عايز أبنك يرجعلك كويس طبعًا
كان المكان كالمعتاد، الأطفال يتناولوا طعامهم والذي كان ربع رغيف خبز وقطعة جبن صغيرة!

منهم الراضي، ومنهم المتذمر الذي يخضع لجرعة العلاج من ذاك الاعتراض، للأبد!
ومنهم الذي ألجمته الصدمة، فلم يعد يشعر بأي تأثير اخر للطبيعة على روحه، الايام تمر، والدقائق تمر، اطفال ترضخ واطفال تُعذب من جديد، وهو يقف كما هو عند تلك النقطة تعذيبه
لا يسحبه طوفان الطبيعة للأمام ابدًا!
كان كذلك سيف الذي منذ قدومه تقريبًا كان يأكل لقمة او او اثنين ويشرب المياة، مرغمًا على البقاء على قيد العذاب...

نعم العذاب، فهذه ليست بحياة ابدًا!
وفجأة هجمت الشرطة وصدح صوت الضابط مهددًا بسلاحه:
-كله زي ماهو، أي حركة هيبقى جنى على روحه
وبالفعل تجمد المعظم مكانه، لا مزاح في تلك النقطة، عند ذكر الشرطة تُذكر الرهبة الفطرية سواء لأطفال او كبار!
هنا تدخل المعلم امام الضابط ليسأله بحنق:
-في إيه يا حضرت الظابط إيه الدخله دي؟
تقوس فمه بابتسامة ساخرة وقاسية وهو يرد مستنكرًا:
-لا والله، يعني أنت مش عارف يا، يا معلم ؟

ابتلع الاخر ريقه بازدراء، وبمهارة ممثل حصل على أوسكار في الكذب قال:
-لا طبعًا، حضرتك دخلت علينا وبتهددنا ولا كأننا في شقة مفروشة
هدر أحمد بأنفعال دون تردد:
-دي أوسخ من الشقة المفروشة يا كلاب
زجره الضابط بعيناه ليصمت، بينما سأله الاخر مفكرًا بخبث:
-الله! ده الموضوع في إن بقا، إيه الحكاية يا باشوات؟
ود أحمد لو أجابه بلكمة قوية تكسر فكه فتصله أفضل جواب على سؤاله الخبيث!

ولكنه تماسك قليلاً وهو يسمع الضابط يخبره بحزم:
-تُهمك كتير يا معلم، يلا تعالى معانا من غير شوشرة
كاد الاخر يقاطعه إلا أنه اكمل بحدة مخيفة:
-بس الاول تقولنا فين الطفل اللي اسمه سيف احمد؟
نعم، ذلك الطفل اللعين الذي لم يجلب له سوى الأزعاج في طيات قدومه!
ولكن مهلاً، لن يتركه بهذه السهولة، هذا الطفل تحديدًا خوفه يأسره بأسر تمثل في حلقة مفتوحة فيستطع فعل ماشاء به دون ادنى اعتراض...

نظر ل أحمد ثم رد بجدية خبيثة:
-أنا معنديش طفل اسمه كدة، ثم اني بأربي الاطفال اليتامى يا باشا مش بخطفهم يعني
لو كان الجحيم شيئ ملموسًا لكانت الحمم البركانية في نظرات أحمد أحرقت ذاك الرجل في مكانه دون رحمة!
جذبه الضابط من قميصه صارخًا بوجهه:
-انا هعرف بطريقتي في القسم ياروح امك، خدوووه
نظر حوله لينادي بصوت عالي:
-في حد هنا اسمه سيف احمد، سيييييييييييف.

لم يصدق اذناه، لم يخضع لحقيقة الواقع، وكأنه في دائرة واسعة من الكذب و الصدمة فلم تستطع الحقيقة اختراقها!
ولكنه يستشعره وكأن النور يسطع فجأة، يسمعه على بُعد مسافات خلقتها الصدمة ليس إلا...
سيف، طفله المفقود، يرد بصوت ضعيف مبهوت:
-بابا! أنا هنا يا بابا
لم ينتظر اكثر وهو يأكل تلك المسافات ركضًا له يحتضنه بطاقات مهولة من الشوق كادت تتحول لسلبيات!
يقبل كل جزء بوجهه وصوته لا يسمعه الا سيف الذي كان يبكي:.

-وحشتني اوي يا حبيب بابا
لم يصدق أنه بين ذراعيه، معه، يحمله ويقبله ويحتضنه، يتيقن من وجوده، ينمي شعوره الأبوي الذي كان يحتضر في غيابه..!
يعود ليثبت جذور ثبات على أرض الحياة البور بعد غياب جعلها بلا قيمة بالنسبة له...

كان كلاً من عمر و شهد يجلسا على مائدة الطعام، والصمت يطبق على كلامًا كثيرًا وواهيًا يكمن داخل أرواحهم الملتاعة في الخفى!..
وعمر لا يرفع عيناه عن الطبق الذي يأكل فيه، بينما شهد بدت وكأنها تُشبع جوعها من التطلع لوجهه المبهر..
وتلك القسمات التي اشتاقتها وإن كان خط سيرها تغير أو حاطته ضبابية سوداء قاسية!
إنتبهت لصوته الذي صدح يسألها بجدية هادئة:
-مابتاكليش لية؟
نظرت أمامها لتجيبه متلعثمة:
-ب باكل اهو.

رفع حاجبه الأيسر مشدوهًا، ليتابع متهكمًا:
-أيوة منا شايف إنك بتاكلي عشان كدة الطبق اللي ادامك زي ما جبتيه اهو
-هاكل حاضر، أي اوامر تانية؟
قالتها وهي تغرس الملعقة في الطبق أمامها وبالطبع لم يخفى عنه الغيظ الذي كان يتدفق من جملتها القصيرة..
فقال بخشونة خرجت رغمًا عنه حانية بعض الشيئ:
-دي مش أوامر، ده لمصلحتك إنتِ مش أكتر على فكرة!
لمعت عيناها ببريق توهج من إعتراف طفيف سلبته اياه عنوة...

وجهر قلبها مهللاً بنصر لم يحرزه منذ فترة، لقد أعترف، وإن لم يعترف بالعشق، قد اعترف بما يلازم العشق دومًا..
اعترف بتلك الرابطة الفطرية بينهما، وهذه نقطة تُحسب لها بالطبع!
لاحظ أبتسامتها التي اشرقت على غيوم حسرتها قبل أن تقول بلهفة:
-بجد يعني أنت خايف عليا فعلاً؟
قلب عينيه بملل يحاول إخفاء ذاك التوتر المضني بينهما..
لا يرغب في الإنحدار، بل لا يرغب في إستسلام غير معهود منه، ابدًا!

تجلى صوته وهو يسألها بحدة مناسبة:
-حد قالك إنك رغايه قبل كدة؟
رمقته بنظرات ذاهلة وهي تهمس متأففة:
-أنا كدة رغاية عشان سألتك سؤال واحد؟ ده أنا كدة كيوووت، الله يرحم اما كنت هاتموت عشان تقعد تتكلم معايا بس، عامل زي القطط تاكل وتنكر
كادت الأبتسامة تشقق عبوسه على ثرثرتها المضحكة، ولكنه أحكمها وهو يزمجر بصرامة:
-شهههد
عادت لطبيعتها تتنحنح بحرج:
-نعم
أمرها وهو يعود لتناول طعامه بجدية:
-كُلي وإنتِ ساكتة، تعرفي؟

اومأت مؤكدة لجوار همسها بصوت يكاد يسمع كقطة وديعة:
-أيوة أعرف، حاضر
ولكن ما إن وضعت الملعقة في فاهها وبدأت تمضغ الطعام حتى شعرت بمعدتها تتقلص وفجأة نهضت راكضة نحو المرحاض وتضع يدها على فاهها، فيما هب هو الاخر منتصبًا يلحق بها وهو يتساءل:
-في إيه مالك؟!
كانت تفرغ ما في معدتها في المرحاض وتأن بألم..
إلى أن انتهت وبدأت تغتسل لتلاحظ وقوفه بالخارج جامدًا يحدق بها منتظرها..

سارت ببطئ شديد تمسك بطنها التي كلنت تؤلمها تمامًا كروحها المُعذبة!
بينما هو سألها بخفوت:
-فيكِ إيه؟!
تأوهت بصوت مسموع قبل أن تخرج حروفها واهنة:
-مش عارفة معدتي اتقلبت فجأة ووجعتني
اومأ بلا تعبير واضح يهمس:
-اكيد اخدتي برد ف معدتك
كانت تقترب هي منه حتى كادت تسقط فأسرع هو يمسك بها ومن دون قصد كانت بين أحضانه..
وجهها امام وجهه تمامًا وجسدها ملتصق به تستشعر سخونة ذلك القرب الضاري بينهما!

وبتلقائية كانت أصابعهم تتشابك وكأنها تحفظ موضعها دون تدخل آمر من العقل الباغض، عينا كلاً منهم تحدق بالأخر والصمت أكبر خلفية شفافه للعشق الذي كان يموج سطور عيناهم..
عشق امتنع عنه اللسان فتجرأت به العيون، تُعبر به بلغتها البسيطة التي تسري كالرحيق بين اوردتهم...
لم يشعر عمر بنفسه سوى وهو يقترب بشفاهه منها ببطئ، بينما هي مغمضة عينيها تحاول طرد ذاك الدوار عن حراب عشقهم مؤقتًا حتى!

أخذ يقبل ثغرها الناعم بنهم بينما يداه الاخرى تسند خصرها النحيل مؤخرًا، وتطرفت قبلته الجائعة لتنتقل لوجهها كله رويدًا رويدًا..
دفعها ببطئ نحو الحائط حتى اصبحت محاصرة بين ذراعيه وهو يُشبعها تقبيلاً واللهيب يشتعل في جسد كلاهما اكثر..
امتدت يده ترفع طرف ثوبها الخفيف لتسير قشعريرة بطول عمودها، قبل أن تهمس بصوت مبحوح:
-بحبك أوي.

أبتعد قليلاً ينظر في عيناها التي سحرته بالمعنى الحرفي فأفقدته السيطرة على نفسه تمامًا..
وكاد يبادلها همسها المجنون:
-وأنا آآ...
قاطعهم صوت جرس الباب الذي كان كجرسٍ للواقع ينفضهم عن عالم اخر إنغمسوا به لدقائق تحت رحمة شوقهم الذي لا يموت، ولا يتقهقر!
إنتفض عمر كالملسوع يبتعد عنها بينما بقيت هي كما هي للحظات وكأنها تستوعب ما حدث سريعًا..

لتجده غادر مسرعًا نحو الباب الذي لعنته ألالاف المرات في سرها وهي تعدل ملابسها متأففة...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة